أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدي عدنان البلداوي - دور الشباب في صناعة الوعي















المزيد.....



دور الشباب في صناعة الوعي


عدي عدنان البلداوي

الحوار المتمدن-العدد: 6396 - 2019 / 11 / 1 - 22:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جاءت الشريعة الإسلامية لتنظم حياة الإنسان بشكل يشعر معه بهويته الشخصية ، ويحثّه على اكتشاف ذاته، وليس ما يجعله يرى نفسه مجرد رقم في هذا الوجود ، يشعره بصغر حجمه ، فتصغر في عينه الدنيا ويتسلل الضعف الى نفسه ، وينهار أمام ظروف معيشته وكثرة احباطاته وعجزه عن تحقيق أي نجاح يزوده بطاقة إيجابية ..
لقد أدّى التدين السياسي لأنظمة الحكم في عالمنا العربي الى هذه النتائج التي لا يشكّل فيها المواطن إلا رقماً في سجلات النفوس وصناديق الإقتراع ، وآلة تعمل لديمومة البقاء البشري في مجالي التغذية والتكاثر ، بلا مضمون روحي يعطيها جمالاً وأهمية ، فما بين حجم البطالة الكبير في صفوف الشباب الى نسب الطلاق المرتفعة ، الى كثرة أعداد الأرامل والأيتام بسبب سياسات الأنظمة وتعثرها وانحسار فرص العمل .. كل هذه السلبيات ضيّعت الطريق الطبيعي الصحيح على بعض الشباب فتاهوا في دروب الإلحاد والفوضى والإنتحار والعبث ، ما أبعدهم عن التدبّر والتفكير في انفسهم واكتشاف هوياتهم الشخصية وبناء الذات بناءً إيجابياً تزدهر معه الدنيا وتحلو ، فهي (حلوة خضرة) في قول رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اورده اليعقوبي في تاريخه ( الدنيا حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون) ، وهي مهبط أولياء الله ومسجد ملائكته وهي الطريق الى الآخرة كما اخبرنا الإمام علي عليه السلام ولطالما دعا الناس ليتفقهوا ويتدبروا ويعقلوا دنياهم ليصحّحوا مساراتهم فيها كي يضمنوا سلامة الوصول في نهاية الطريق ..
ان شبابنا اليوم مدعوون الى إعادة النظر في واقعهم من حيث انهم يشكلون نبض حياة هذا الواقع وحكمة المستقبل ..
ان غياب وعي السلطة وافتقار العاملين فيها الى المسؤولية مكّن أدوات الفكر الهدّام من العمل بكثافة عبر القنوات الفضائية ووسائل التواصل الإجتماعي والأعمال الدرامية الهابطة والبرامج الترفيهية المبتذلة ، على إستهداف الشخصية العراقية خصوصاً والعربية بشكل عام ، تارة عن طريق استدرار عواطف الناس للتغرير بهم أو ابتزازهم أو الضحك عليهم أو إضحاكهم وتسليتهم ، تحت مسميات – كاميرا خفية ، برامج تسلية ، مسابقات وجوائز ينالها من يأكل اكثر عدد من حبات البرتقال أمام منافس له ، أو من يستطيع مدّ لسانه ليصل الى قطعة حلوى معلقة بالقرب منه ، أو .. أو ..
ان ثنائية الدين والدولة تؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات ، وما حالات التردّي والتدهور والإنهيار فيها إلاّ جرّاء اتساع الفجوة بين الدين والدولة ، فقد كانا - الدين والدولة - كياناً واحداً يمثلّه النبي القائد ، وما ان انقطع الوحي برحيل النبي عن الدنيا، وحصل ما حصل بعده ، واجه المجتمع ثنائية الدين والدولة واتساع الهوّة بينهما..
عاملان قادا كثيرين الى الإحباط ، هما قلّة وعي الجماهير وتلبّس الدولة بلباس الدين ، وهو ما جعل الشاب يقف مذهولاً ، متحيراً امام التناقض بين لسان الدولة وسياستها .. بين ظاهرها الإسلامي وباطنها المادّي ..
استخدمت السلطة في كثير من ممارساتها قوانين تخويفية أكثر منها تثقيفية ، انْ على مستوى فقه السلطة او سياسة النظام ، فحين اتسعت الفجوة بين الدين والدولة لجأ بعض المشتغلين في مجال الدين الى القبول بسلطة الحاكم الجائر المبسوطة يده النافذة قوّته ، مادام يسمح للمسلمين بممارسة طقوسهم وعباداتهم ، وهو ما جعل الهدف من الإسلام ينحرف تدريجياً عن الإنسان ، ليذهب باتجاه المحافظة على الوجود الشكلي للدين عبر أعداد المسلمين ، وليس عبر هوياتهم ، وهي حين تقوم بهذا ، فهي لاتظهر انها تدعو الى عزل الدين عن الدولة أو الى تهميش الدين وإحلال القانون الحديث مكانه ، بل هي تخترق كل ذلك باسم الدين وباسم التجديد في الدين والدعوة الى اعادة قراءة التراث بشكل معاصر .. وهي ليست دعوة صادقة في مضمونها بقدر ماهي لتمكين السلطة من توجيه الدين في المجتمع بما يخدم استمرارية وجودها في الإدارة وصناعة القرار ، وربما استخدمت هذه العناوين الكبيرة الجذاية لدّس افكارٍ ملوثة سيئة تُطرح ضمن سياقات الحرية الفكرية وتبادل الآراء والأفكار ليبدو الطرح مقبولاً لدى عموم الناس ، أو هو في موضع صمتهم لقلة وعيهم ومعرفتهم ، واذا مرّ وقت على هذا الصمت ، فإنه سيصبح نوعاً من الرضا عندما تطالعه الاجيال القادمة ، وقد بيّن عدي بن حاتم الطائي هذه الفكرة حين اقسم عليه معاوية ان يبدي رأيه بزمانه فقال له : عدل زمانكم هذا جور زمانٍ قد مضى وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي ... وهي إشارة واعية الى خطورة تغييب وعي الجماهير واطالة امد الظلم في حياة المجتمع دون موقف آني مضاد له ..
الناس في كثير من الأحيان يجاهدون أنفسهم ، فهم يرون واقعاً سيئاً ويعيشون أيّاماً غادرتها الرحمة والبركة وحلّت محلّها المادّية والأنانية ، ومع ذلك لا يزال المجتمع العربي المسلم يمتلك طاقة روحية تدفعه للمواجهة والتدخل بشكل متحضر ، إذ لا يزال الدين ينبض في وجدان الناس على الرغم من الهجمات المكثفة للفكر الهدّام ، سواء من أنظمة حكم أو من قوى أخرى مستفيدة من طمس معالم الهوية الشخصية للعربي المسلم والتي بدأت ملامحها تتشكل مع أول أسرة استحوذت على السلطة في العالم الإسلامي في عهد الأمويين، فقد ظهر تنظيم جديد لأمور القضاء وصار الخليفة يتدخل ، بل هو السلطة العليا في نفس القاضي.. واذا كان عليٌ عليه السلام قد عاب على القاضي مناداته له بأبي الحسن أمام خصمه اليهودي في قضية الدرع المشهورة ، فإن سطوة الحاكم فيما بعد جعلت القاضي ، وفي كثير من الأحيان ، يغازل في حكمه هوى الخليفة لينال رضاه ويتمتع بعطاياه .. وحاول العباسيون اول عهدهم جعل الشريعة الإسلامية مصدر القانون في الدولة ، لكنهم لم يحققوا تطابقاً بين القول والفعل ، ما جعل الفجوة تكبر بين الدين والدولة، وصار القضاء بيد السلطة تتصرف به وفق ما يضمن بقاءها ، فقد فرض أبو جعفر المنصور الإقامة الجبرية على أبي حنيفة النعمان لنشاطاته في دعم ثورة زيد بن علي بن الحسين ، ورفضه تولي منصب قاضي القضاة الذي عرضه عليه ، وكذا موقفه من احمد بن حنبل ، ومع كل هذا الإستهداف السياسي للدين من قبل السلطة يبدو انها تمكنت فقط في الجانب المرتبط بتسييس الناس لصالح بقائها وطاعتها بأي شكل يخدم ديمومة احتفاظها بالسلطة، فقد كتب المنصور الى الإمام جعفر الصادق يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ ، فأجابه الإمام: ليس لنا ما نخافك من اجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا انت في نعمة فنهنئك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك ..
فكتب اليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا..
فكان ردّ الإمام : من اراد الدنيا لا ينصحك ، ومن اراد الآخرة لا يصحبك..
حافظ الدين على حيويته في الجانب الإجتماعي الشخصي ، حاضراً في عقول ونفوس وتصرفات الناس ، يشغل مساحات واسعة في نطاق توافقه مع أعراف اجتماعية أخلاقية ، حتى عندما اخترق الإستعمار والإحتلال نسيج المجتمع وتطورت وسائل الاحتلال من العسكري الى السياسي الى الاقتصادي الى الثقافي ، الى احتلال العقول ، واحتلال الإرادة ، ومصادرة الهوية ، وتفريغ الشخصية من حتواها وإعادة تعبئتها بمحتوى صناعي بديل .. تارة باسم الإنفتاح واخرى باسم التطور والحداثة ، وأخرى باسم العالم الافتراضي والتقنيات الرقمية ، واخرى باسم القطب الواحد في العالم، وهو ما دفع انظمة السلطة في العالم العربي الإسلامي الى الإعتراف بتأثير الغرب وعملت على مجاراته لضمان الإحتفاظ بالمناصب والمكاسب ، مؤطرين هذا التناقض بأطر دبلوماسية يظهر فيها الرئيس الغربي مع نظيره الشرقي أمام الكاميرات ووسائل الإعلام على انهما نظيران يتبادلان سبل التعاون المشترك بين البلدين واقامة علاقات ثقافية وتجارية ومال الى ذلك ..
يظهر تأثير استهداف الشخصية في المجتمع واضحاً في طبقة الشباب من خلال توسيع فجوة فاعليتهم وتفاعلهم مع المجتمع بصناعة أزمات البطالة والإنحراف والإنحلال، أو الإسهام ولو يشكل غير مباشر في تفعيلها من خلال الإهمال وغياب بعد النظر ، ما أدّى الى تفشي بعض الظواهر السلبية وتصديرها على انها تقليعات حديثة للتفكير والأزياء ، حتى تدنت قيمة الذات وتغيرت معها السلوكيات والطباع والأذواق الى حدّ ما ، ففي احدى السنوات التي تلت سقوط داعش ، طرحت احدى دور عرض الأزياء ، ملابس وديكورات لداعش كزي يستخدمه الطلبة في حفلات التخرج الجامعية ، وأقدمت بعض المطاعم على عرض مأكولات بمسميات مثل (همبرغر لغم) ، و(سندويج رعب) ، وأخذ بعض الشباب يتقبل الأمر دون ان يترك ذلك أثراً سيئاً في شخصية الشاب ، ربما لأنه لم يعد يشعر بها في ظل ديمومة الظلم والفوضى وفقدان الأمل في وجود حل لهذه المشاكل ، فصار يطلب سندويج الرعب في المطعم مكتفياً بتبرير قبوله بالطعم اللذيذ للسندويج متجاوزاً الأثر اللفظي والمعنوي للكلمة في نفسه .. وفي احد الفديوهات على اليوتيوب ، يقدم احد المطاعم وجباته في أواني يشبه تصميمها مقاعد الحمامات.. وفي مقطع آخر كيكة معمولة على شكل طفل صغير ، ويأخذ احدهم السكينة ليبدأ بتقطيع -الطفل الكيكة- وتقديمها للضيوف وهم يشاهدون عملية التقطيع محتفلين فرحين بمناسبتهم .. ومقطع آخر يقدم تصميماً للكيك على شكل حذاء !!!
وأخذت حالات عنف غريبة تظهر داخل الأسرة وصلت في بعضها حدّ القتل مقابل أمر تافه لا يتجاوز القليل من المال أو لمجرد انفعال ، مثلما كنّا نستغرب ونحن نسمع الإرهابي في جلسات التحقيق عبر وسائل الإعلام حين يقول انه تقاضى اجراً في حدود 50 الف دينار او 50 دولاراً مقابل كل عملية قتل أو ذبح يرتكبها بحق مخطوف أو طفل أو امرأة أو أسير ، وبعضها يندرج ضمن السلوكيات البشرية الشاذة..
واسهم الدور الخطير للإعلام المضاد في إظهار هذه السلبيات والعمليات الإجرامية ، وربّما تضخيم احداثها ، لتبدو مرعبة في عيون واسماع الناس بحيث تترك فيهم احساساً بعدم الأمان يوثقه الدور البارد لإدارات البلاد في التعاطي مع هذه الأزمات والحالات الإجتماعية المستحدثة بفعل ما تعيشه البلاد في عهد الإحتلال الأمريكي ..
وكان للعالم الإفتراضي دوره وهو يفتح نوافذه عبر شاشات الآيباد والآيفون والحواسيب والموبايلات ، دون رقابة مسؤولة واعية من قبل الجهات الرسمية وكثير من الناس ، للأخذ بنظر الإعتبار اختلاف مستويات المتلقين حيث الطفل ، والمراهق ، والمرأة ، ومحدود المعرفة .. الى الحد الذي باتت فيه الحياة الجديدة مصدر قلق كبير لكثير من الآباء والأمهات الذين كانوا يتوقون لرؤية وجه جديد للبلاد ينعم فيه ابناؤهم بالحرية والتطور والإستقرار بعد ان انهكتهم سنوات الإنقلابات والمؤامرات والدكتاتورية ، فهم اليوم يعيشون عهد صناديق الإقتراع وحرية الكلام والتعبير لكن أدوات هذا العهد الجديد مخيفة مرعبة هددت سكينة الأسرة ، وصار الخطر قاب قوسين او ادنى منها ، ولعله دخل البيت على علم اهله به وجهلهم بمخاطره ، كونها تفرض نفسها من ضرورات الحياة اليوم ، فإن شكلاً من أشكال الأزمة ظهرت بين الآباء والأبناء ، وهو ما الجأ الأبناء الى الإغتراب المعنوي ، فالشاب يعيش مع اسرته في جوّ يظهرون فيه كأشخاص يجمعهم مكان واحد ، بعد ان كانت الأسرة ، ولا يزال كثير منها لحد الآن ، تعيش كأنها كيان واحد موزع في عدة أشخاص ، فالجميع يعيش حالة فرح ومرض وحزن احدهم ، والواحد منهم يعيش احساسه بالمسؤولية تجاه الجميع ..
واذا كانت هذه الأزمات قد جعلت الأهل في حالة قلق مزمن ، فإنها جعلت الشباب في حالة من الضعف واللاتوازن ، يقابلها الحاجة الداخلية الملحة عليه في اثبات ذاته وصناعة شخصيته .. أفرز هذا الصراع أشخاصاً انفعاليين ، سريعي التأثر ، لا يعطون لنصيحة الآخرين حضوراً في واقعهم ، يحملون في ذواتهم شيئاً من التمرد على الواقع الأسري والإجتماعي والديني والاخلاقي ، ما دفع البعض الى القيام بسلوكيات غريبة يحاول من خلالها اثبات ذاته ، والإيحاء لنفسه بأنها موضع انظار الآخرين دون الأخذ بنظر الإعتبار إيجابية أو سلبية تلك الأنظار ، فأصبح الشاب مقحماً في تفاصيل حياته بوضعيات معينة يفرضها واقع الحال من خلال مسميات عليه تقبلها ، فظهرت امواج من الملابس والأكلات وقصات الشعر والأفكار ، في بعضها خروج فاضح واضح على الذوق العام والحدود المألوفة للتعبير عن الأفكار والنوازع الداخلية والرغبات ، فصار الشاب يرتدي ثياباً ضيقة ويحمل أفكاراً ضيقة ويأكل ساندويجاً ملغوماً ويشترك في مجاميع الكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي يتبادل الأحاديث مع آخرين عن العنف والإلحاد والهروب من الواقع والعيش في فضاء الأحلام والخيالات والامنيات الوردية، تاركين واقعهم تعبث به جهات وأشخاص لا يشغلهم سوى المصلحة الخاصة فردية كانت او جهوية ، ما أسفر عن سبعة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر و70% بطالة في صفوف الشباب واكثر من 160 الف حالة طلاق في السنة وارتفاع معدلات الأمية حتى 35% وكثرة الأمراض المفاجئة وتقلص حجم الحكومة الى الحد الذي دفع مرضى السرطان الى الخروج بتظاهرة يطالبون فيها بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، وامتد الإنحراف ليصل الى الأسرة في سلوكياتها ، فصرنا نسمع عن (حفلات الطلاق) و (الطلاق العاطفي) و (الغش الجماعي في الإمتحانات العامة ) ، وتغييب الإنسانية في المهن الطبية واستحواذ الأنانية والمادية على طريقة التعامل مع المريض من قبل بعض الأطباء والصيادلة ومختبرات التحليلات المرضية ..
هددت هذه الإشياء ركناً مهماً في الحياة وهو الثقة .. ثقة الشخص بنفسه وبمحيطه وبدينه وتاريخه ، ولعله تصدّع لدى البعض مما ادّى الى ظهور شخصية الشاب المنفعل ، قليل الحكمة ، سريع الاندفاع ، قليل الصبر ، قليل الخبرة ، غير جاد في حياته ، متحير ، غير مستقر ، تحتل المادية أجواء تفكيره ، فصرنا نسمع عن حيل وأساليب خطيرة تقوم بها الأسرة كي تضمن تفوق ابنها في الإمتحانات العامة من اجل الظفر بكلية من كليات التعيين المركزي ، وحيث فشل ادارات البلاد في احتواء الأزمات ومنع تحولها الى اوبئة وامراض مزمنة يعانيها المجتمع ويصارعها أو يألفها كما هو الحال مع البعض ..
مع كل هذا التهديد الخطير المحيط بالشباب ، لايزال في كثير من المشاهدات والتجارب متماسكاً صابراً يتلوى ويعاني حدّ الاختناق لكن دون ان يموت ..
ان الحديث عن مسؤولية وصول الحال الى هذه الدرجة من التدهور لا يكاد يخفى ، ولسنا نريد الوقوف عنده قدر ما نريد ان نعالج وندرك ما بين ايدينا خشية فوات الأوان ، ولأن التصحيح والإصلاح في خضم الفوضى التي نعيشها في البلاد يحتاج الى قوى كبرى وامكانات تفوق حدود الأمل والرغبة في العيش الآمن والسليم ، فإن الوعي هو السبيل الى النهضة التي يراد بها بناء البلاد ، فحين يصبح المجتمع على درجة عالية من الوعي سيتمكن من احتواء الأزمات ، والحيلولة دون ان تصبح اشكاليات تهدّد سلامته..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان الدين يبحث عن الإنسان من حيث هو كيان وهوية ، ومن حيث هو وعي له بصمته الخاصة بكل شخص كما لبصمة ابهامه ، أكثر منه شخص يراد منه ممارسة طقوس وعبادات ، لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان السياسة تنظر اليه كياناً فاعلاً مشاركاً حقيقياً في بناء الدولة ، وليس موضع استغفال اصحاب الأجندات الخاصة والمصالح العابرة للإنسانية والكرامة والحقوق.. لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ، تأخذه بعيداً عن وساوس الاستغلال ، أو اليأس من تحقيق التغيير الإيجابي على مستوى الذات الشخصية وعلى مستوى المسؤولية الجماعية ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان العلم يصنع الحياة السعيدة ، ويذلل العقبات ، وليس وسيلة للحصول على الشهادة الجامعية الموقوفة على التعيين والوظيفة المجزية من حيث المرتب واعتبارات المظهر فقط ، بل هو للإرتقاء من مرحلة البشرية الى مرحلة الانسانية ، حيث التفكير والتأمل وصناعة الوعي .. حيث العقل مصدر التغيير الإيجابي في المجتمع والذي يحتاج الى التأمل الذي يوفر له اجواء التحكم بالأفكار والهواجس والخواطر التي تمر على الإنسان وتلح عليه حسب ظرفها الزماني والمكاني وطبيعة الحدث ..
ربما يخبرك التأمل انك سبب من أسباب المشاكل التي تعيشها ، واذا قبلت من عقلك بهذه النتيجة وفكّرت بها جيداً ستبدأ مرحلة التغيير الإيجابي معك خطواتها الأولى..
ان نوع التفكير يؤدي دوراً مهمّاً في صناعة الشخصية ، فالقبول بفكرة (الحظ والنصيب) والإستسلام لها ينتج شخصية غير قادرة على التغيير ، أو هي لا تبحث عنه ولا تفكر به ، أو تتحاشاه مع المتغيرات والظروف التي يتقبلها العقل كونها اكبر من قدرة مواجهتها أو التحكم بها ، لذا فالإستسلام لها مع بعض الحرص والحيطة من الوقوع في الأسوء سيكون هو حال تلك الشخصية ، أما العقل الذي يخبر صاحبه ان تجربته خاضعة لإرادته ، وانه يملك الإختيار ويملك تفعيل اختياره ، وانه لا يخوض تجربة ما ، لأنها مفروضة عليه ، أو وجد نفسه داخلها ، بل يخوضها لأنه يعرف ماذا يريد ان يستنتج من تلك التجربة ، مثل هكذا شخصية تفكّر بالتغيير الإيجابي كونه التجربة التي عليه خوضها للخروج من الإشكاليات والمشاكل التي يتعرض لها..
أن تكون رقيباً على أفكارك ، وان تكون انت من يصنعها ، فلن تكون كمن يبرر افعالاً سيئة صدرت عنه، بانّها جاءته من هنا وهناك ودارت في خلده فوجد نفسه منصاعاً لها ..
نعم قد يحدث هذا ، وهنا يأتي دور القلب ليسهم الى جانب العقل في معرفة قيمة ما نفكر به أو نتأمله من أفكار..
في حالات الغضب تجد افكارك وقراراتك لا تتفق مع افكارك وقراراتك في حالات الرضى ، مع ان العقل نفسه ، والقلب نفسه في الحالين ، فربّما اوكلت قرارك الى مشاعرك في لحضة غضب ، وربما اوكلتها الى عقلك في لحضة تأمل وراحة .. ولعل من مخاطر العيش فترة طويلة مع وجود الخطأ ، مع وجود الظلم ، مع وجود الباطل ، مع وجود الإنحراف ، يقسّم الانسان في داخله الى قسمين لا يتفقان مع بعضهما ، وهو ما يسمونه (انفصام الشخصية) أو (إزدواجية الشخصية) أو (إضطراب الشخصية) أو الشخصية غير السوية.. فقد ظهر هتلر على الرغم من قساوته ووحشيته بالقرب من الأطفال يقدم لهم اللعب ، وفعلها كثير من الحكّام في عالمنا العربي الإسلامي ممن وصفوا بالدكتاتورية والظلم ، وظنها البعض انسانية القائد التي لم يتخل عنها على الرغم من مسؤولياته وقساوة الظروف التي يواجهها وهو يزج بعشرات الآلاف من المقاتلين الى الموت المحقق في سوح قتال انتجتها عنجهيته ، أو تزمته ، أو محدودية تفكيره ، أو ولاءاته ، أو أفكار سيئة صاغها ذهنه في أجواء ملوثة .. وهنا يأتي دور العقل في نهي النفس عن الهوى ، وقد اعطى الإمام علي عليه السلام انموذجاً حيّاً لهذا النوع من الإنسان ، فقد كان يعيش اجواء الحرب بما تحتمله من تشنجات وانفعالات وشدّة واندفاع دون ان يخلع قلبه وعقله قبل نزول الميدان ، بل حملهما معه ليكونا معه وهو يخطو خطواته حتى اذا ما بصق عمر بن ود حال سقوطه ، انصرف عنه الإمام ولم يعاجله بضربة ، ثم عاد اليه بعد حين فقتله ..
لقد كان العقل والقلب في حالة اتخاذ قرار خلال هذه الخطوات التي مشى بها الإمام بعيداً عن ابن ودّ ، ولمّا سألوه كان جوابه يفصح عن قوة الشخصية وتوازنها في اجواء مشحونة بالإضطراب والشدّة ، فقال خشيت ان قتلته حينها ان اكون انتقمت لنفسي بينما انا خارج في سبيل الله ..
يعرف كلّ شخص نوع المشاعر التي يعيشها إزاء حدث ما أو فكرة ما ، ان كانت جيدة أو سيئة ، فالذي يرتضي النجاح بواسطة الغش هو يعلم انه يرتكب خطأً لكنّه يبرر فعله الخطأ هذا على انه سلوك مشاع في المجتمع ، مثلما نشمئز اليوم ونلعن ذلك السيئ الذي انتزع الأقراط من أذن طفلة في حدود السابعة من العمر في معسكر الحسين حتى اذا ما عوتب على قبح عمله برره بأن غيره كان سيفعل ذلك ان لم يكن فعلها هو .. هذه هي الخطورة التي نتحدث عنها والتي نواجهها اليوم ، فنحن نشكو من تعثر الحكومة في ادارة البلاد ، ونشهد احداثاً سيئة وافعالاً غريبة وسلوكيات مرفوضة لكن كثيرين يبررون لأنفسهم عجزهم عن تغيير الواقع أو استسلامهم للأمر المفروض ..
ان الإحباط واليأس والغضب والكره والأنانية تفقد الشخص شعوره بالسيطرة على تصرفاته ، فالأب الذي ضرب ابنته، وهي في عامها الدراسي الأول، ضرباً مبرّحاً لأنها لم تتعلم الكتابة كما يعلمها ، وماتت قبل وصولها المستشفى، انه يعيش الخطورة التي نتحدث عنها ، فهو يبدو سوياً الى ان حرّك بطء استجابة الطفلة ، القسم الثاني السيء في شخصيته والذي لا يتفق مع القسم الأول فيه ، فانهال عليها بالضرب دون وعي منه الى الحد الذي لم يعد يقوى على نهي نفسه عن الإستسلام لهذه الأفكار السلبية وبالتالي اصبح جسمه وحواسّه أدواتاً تنفذ إملاءات تلك المشاعر الخشنة والقسوة المفرطة والتي لا تستجيب لنداءات القسم الثاني بالدعوة الى المصالحة وتمالك النفس والسيطرة على الأعصاب ..
يغلب على كثير من هذه الأحداث غياب الحكمة بحيث تضطرب علاقة التناسب الطردي بين العقل والقلب ، فالفكرة الجيدة لا يصدر معها سلوك سيء ، والجمال لا يتوافق مع القبح ..
يحتاج بناء الذات الى الإيجابية في الأفكار والمشاعر ، الذات المنتجة الجذابة ، وليس الذات الباردة ، أو الذات الرقمية التي هي موضع تحرك وتحكم من قبل قوة خارجية.. ويحتاج قراراً داخلياً يصنعه الشخص في نفسه سواء كان إيجابياً أو سلبياً .. يتدخل في صناعة مثل هذا القرار مستوى الوعي الذي يصل اليه الشخص ومستوى الإدراك ..
أدت ظروف البلاد السياسية والاقتصادية الى فرض أو تهيئة أجواء التفكير السيء لدى كثيرين بسبب النتائج السلبية التي افرزتها مرحلة التغيير والفوضى التي جاء بها الإحتلال ومارستها أحزاب السلطة المنتخبة ، وبدا ذلك واضحاً في كلام بعض طلبة المراحل الدراسية المنتهية في تقرير تلفزيوني سئلوا فيه عن أسباب صعوبة الأسئلة الوزارية ، حين قالوا: انها عملية مدبّرة ومؤامرة تشترك فيها وزارة التربية ووزارة التعليم بتمويل من رؤوس اموال هدفها توسيع منافذ الكسب والربح بغض النظر عن الوسيلة ، فتقام مشاريع التعليم الأهلي والكليات الأهلية على خلفية شيوع فكرة انحسار فرص التعيين واقتصارها على بعض المهن ، ما يجعل الأهل ينفقون اموالاً طائلة لتعليم ابنائهم في مدارس وكليات اهلية ضماناً لحصولهم على احدى المؤهلات المضمونة التعيين حال تخرجهم ، ان تفكيراً سيئاً كهذا، وان كان واقعاً يعيشه المواطن اليوم ، من شأنه ان يؤسس مستقبلاً لأفكار مادية وانتهازية وانانية ، الأمر الذي يستدعي استحضار مناهج سيئة لتحقيق تلك الأفكار السيئة بعيداً عن المكاشفة .. في المستقبل لن تتوقف الجامعات عن تخريج الطلبة ، لكن نوعيات خطيرة من الإزدواجية ستنتشر في المجتمع ، تهدد سلامته وتضرب البراءة والعفوية والجمال الفطري للأخلاق في الصميم بشكل غير مباشر وربّما بشكل مباشر حتى ..
واليوم نشهد ظهور مثل هذه الأشباه البشرية ، فالطبيب الانتهازي لا يخبر مريضه بأنه يستغفله حين يطلب منه تحليلات لا علاقة لها بحالته المرضة ، كما انه لا يخبره انه على اتفاق تجاري مع الصيدلية حين يكتب له شامبو للشعر وهو مصاب بالتهابات جلدية ، لأن المذخر يحتفظ بكميات كبيرة من ذلك النوع من الشامبو واوشك تاريخ نفاذ الصلاحية على الاقتراب ، ولتفادي الضرر المالي ، استغفل المريض..
طبيب آخر لا يطلب اجوراً عالية ، لكنه يعمد الى التكرار الإلزامي للمراجعة ، وان كانت لا توجب ذلك ، لكن المريض لا يملك تقرير وجوب المراجعة من عدمها وان تحسنت حالته، وسيبدو الطبيب مثالاً رائعاً لو أخبر مريضه ان عليه ان يدفع اجرة المعاينة بين زيارة واخرى وليس في كل مرّة ... وهكذا ... ومع الأسف تجذب هذه الأفكار السيئة مثيلاتها ، وتضطر الآخرين في حقل العمل الى تقبلها على مضض مبررين افعالهم بأنها لا تدخل في إطار إيذاء المريض صحياً ، والأجور العالية واقع حال معمول به لدى كثير من العيادات والصيدليات والمذاخر والمستشفيات ما جعل هذا الوباء ينتقل الى اصحاب الأملاك فصار ايجار العيادة مكلفاً وايجار الصيدلية ملكفاً قياساً بمثيلاتها من الاماكن المشغولة لمهن اخرى مختلفة.. وشيئاً فشيئاً يجد المواطن نفسه أمام طبيب متعاطف مع حالته دون ان يقدم له العون وصيدلي متعاطف مع حالته دون ان يعطيه العلاج بكلفة أقل مما هو مطلوب ، سيصبح الكل محكوم ببعض ..
ومع كل هذه الأفكار السيئة والممارسات السلبية تشخص حالات على النقيض تماماً مما ذكرنا .. لكن المساحة التي يشغلها السوء اكبر من تلك التي يشغلها الخير ، لذا تشيع الاخبار السيئة على حساب الاخبار الجيدة ، إلا ان واقعنا يحفل بكثيرمن اصحاب الوعي الذين يتصدون من مواقع اعمالهم لهذا المدّ الخطير الذي يهدد الشخصية ..
الوعي هو البصمة التي لا يمكن تزييفها او استنساخها ، وبوجوده تتوفر سبل متعددة تخفف عن الانسان وطأة الضعف الذي يتعرض له ، إذ يسعفه بأفكار جيدة من قبيل الالتجاء الى شخص موثوق برجاحة عقله وسلامة تفكيره للإستئناس برأيه ، او من قبيل استذكار مواقف ايجابية مرّت تركت اثراً عميقاً في الذاكرة يستشف من اجوائها روح الصبر والتفاؤل .. أو من قبيل استحضار قول مأثور وحكمة بالغة من رصيد الذاكرة تسهم في اضافة لمسة مهمة على واقع الحال قد تخفف من وطأته أو ترشد الى تجاوز الأزمة .. أو من قبيل استحضار لحظات النجاح والفرح التي مرّت سابقاً وتقمصها من جديد لدفع النفس وتحفيزها لتجاوز حالة الوهن أو الأجواء السيئة التي تمر بها ..
ان افضل بيئة ينشأ فيها الوعي هي السلام ، وفكرة السلام تندرج ضمنها أفكار جيدة كالمحبة والتعاون والانسانية والخير والكرامة والإيثار والعفة والأخلاق الحميدة ..
يمرّ الانسان خلال حياته بمراحل متنوعة تحكمها ظروف صعبة تارة ومرنة اخرى ، وهذه بمجموعها تكوّن عنده افكاراً يتدخل الوعي لاستخلاص الجيد منها وصياغتها على شكل تجربة ونصيحة تكون عند حاجة الآخرين ان حاضراً أو مستقبلاً..
يختلف الشخص الواعي عن غيره في انه لا يحتاج المرور بتجربة جديدة كي يستخلص نفعها من ضررها ، فوعيه يؤهله للسير في احوال واخبار الماضين ما يجعله متمكناً من قراءة واقعه وفق ذلك الرصيد من خبرة الأقدمين فنسمع عن فلان انه توقع ان عاقبة هذا الأمر هي كذا ثم يصادق الواقع على توقعاته ، وهو ما يسمونه الحدس او قراءة ما بين السطور وبلسان العوام هو من (اهل البركة والكرامة) ، لأنه (يعرف صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره) وهي النتيجة التي استفادها الإمام علي عليه السلام من اطلاعه على اخبار السلف اطلاعاً وجد معه انه كأحدهم ، وهذا النمط المعرفي يمنح الحاضر امتداداً يتخطى به الأمس فلا يكون نسخة عنه كما هو حاله عند كثيرين ممن لا يتعلمون من تجربة حتى يقعوا فيها وان كان هناك من سبقهم الى مثلها وهؤلاء من يتساوى عندهم الامس واليوم ..
كثير من الناس لديهم الرغبة في التغيير ويبحثون عن الطريق التي يغيرون بها واقعهم الى الأفضل ولكن هذا الدافع وحده لا يصنع تغييراً ، انه بحاجة الى فكر التغيير ، فالطريقة الملائمة للتغيير تأتي بعد القناعة والإيمان بضرورة التغيير ..
في لقاء مع أكاديمي يعمل في مجال النقد الفني أشار الى واحدة من أفكار الإدارات السلبية حين انتقد نشاطاً إدارياً في إقامة جزرات وسطية مصممة لتكون مزهرة بالأوراد مسوّرة بسور سميك من الإسمنت يحول دون الوصول الى تلك الأوراد ، فكان تعليقه على ذلك ان من حق المواطن على الدولة ان يشعر بانجازاتها بلا حواجز ، وانه على الحكومة ان تتوقع من المواطن ان يعبث بتلك الأوراد وهذا مهم كي يتعرف عليها خارج بيته ، وعلى الجهات المعنية ان تعيد تأهيلها اكثر من مرّة حتى ينمو عند المواطن شعوره بضرورة محافظته عليها بنفس القدر الذي يحافظ به على اوراد حديقة بيته..

اذا امتلك الحالمون من الشباب وعياً كافياً ، فإنهم سيسهمون بشكل مميز في تغيير واقعهم وتحديثه ، وتنمية ثقافة مجتمعهم ، فالشخص الحالم هو بشكل او بآخر يريد أجواءً أو يبحث عن أجواءٍ أجمل من تلك التي يقدمها الواقع ، فهو يمتلك مشاعر جيدة وافكاراً جيدة لكنه يصطدم بالواقع السيء فيلجأ الى التخيل ليضع نفسه في أجواء جيدة ومواقف مفرحة ، فإذا تمتع بالوعي الإيجابي سيجد نفسه مندفعاً يمتلك الحافز لتحديث الواقع وتغيير السيء فيه الى خير يتناغم مع الأحلام الوردية والرومانسية التي يتخيلها ..

في كتاب امالي الطوسي ، يقول نبي الرحمة لأبي ذر (يا أبا ذر حاسب نفسك قبل ان تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل ان توزن ..)
والحساب يأتي من طرح الإستفهامات ، كيف فعلت هذا ولماذا لم افعل كذا ولم لم اقل كذا وماذا سيكون لو انني فعلت كذا ..؟
وتأتي مرحلة اعطاء النفس قدرها بقوله زن نفسك ، ووزن النفس باعطائها قدرها الذي يتأتى من وعي الانسان بنفسه ، ولكي يجد طريقاً صحيحاً الى ذلك قال الإمام الكاظم عليه السلام:
(ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه ، وان عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب اليه..) ، فأهل البيت هم القدوة في معايرة الافعال والسلوكيات ومدى اقترابها من افعال وسلوكياتهم عليهم السلام ، وتعتمد الدراسات النفسية على قاعدة محاسبة النفس في بناء الشخصية والنجاح ، اذ تفيد الدراسات بأن من عوامل واسرار النجاح ان تراجع ما حدث لك في يومك قبل ان تنام وتفكر بتلك الأحداث وتبحث عن التصرف الأفضل الذي كان ينبغي ولم يسعفك الوقت او التفكير للقيام به فاستبدله في ذاكرتك بالأفضل وفكّر بأنك ستقدم الأفضل اذا مرّ بك موقف كهذا ، ثم نم متوكلاً على الله سبحانه وتعالى وكلمة (منّا) في قول الإمام الكاظم عليه السلام هي من مفاتيح الارتقاء بالشخصية والوصول بها الى مواصفات ما كان يتمتع به اهل البيت عليهم السلام ، ثم تأتي مرحلة (الاستغفار) من الاهمية بمكان في اعادة ترتيب وتنظيم التفكير والاعمال والسلوكيات فقد يفكر البعض في عمل الخير ويستعد لذلك لكنه وبحكم محدودية معرفته واطلاعه وخبرته ووعيه قد لا يعرف ان ما يعتقده صحيحاً ، هو فعلاً كذلك .. ولعله سيستغرق وقتاً حتى يرى مصدراً موثوقاً يعتمده في اكتساب معرفته واطلاعه وتنمية خبرته ورسم ملامح ثقافته ..
يروى ان رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام : ادعو فلا يستجاب لي ؟ فقال له الإمام لعلك لا تستغفر ..
استغفر الله كل يوم في اخره مئة مرّة مدّة سنة .. ويقال ان رسول الله صلى الله عليه واله ، كان يستغفر الله كل يوم سبعين او مئة مرّة .. ويقول المولى جل شأنه في سورة نوح : ( وقل استغفروا ربكم انه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين ويجعلك لكم انهارا) ..
الاستغفار في اللغة هو طلب المغفرة والعفو من الله سبحانه ، وهو كلمة السر التي تفتح للمرء نافذة الى تصليح اموره ، وقد لا يلق ذلك اهتماماً كبيراً لدى كثيرين ، لأنه مرتبط بأمور معنوية وروحية وايمانية ، بينما غلب على الانسان تيقنه بالأمور العينية والحسية والمادية ، لكن سياق الآية الكريمة يفصح عن كثير من المكافآت التي تنتظر المستفغر ..
ارتبط المال بأفكار سيئة عند كثير من الناس فهو مصدر الفتنة والمتعة والشر ، فبالمال باع عبيد الله بن العباس قيادته لجيش الإمام الحسن وتسبب في كسر همم المقاتلين ..
وبالمال ساهم عدد من العراقيين في دعم وجود القوات الامريكية ..
وبالمال غدرت زوجة الإمام الحسن ودسّت له السمّ ..
يقابل هذا ، تخلي زهير بن القين عن امواله واملاكه ليلتحق بركب الحسين مع علمه بأنه لن يرجع بعد انتهاء المعركة ..
قصص كثيرة ، منها المثير للدهشة ومنها المحزن .. منها الغريب والسيء والقبيح ، وفيها الإفراط والتجاوز و.. و..
استخدم المال كما في السابق ليكون سلاحاً فعالاً في تحطيم بنية المجتمع وسلامته ، فمثلما اشترى عبيد الله بن زياد سيوف فرسان قبيلة هاني بن عروة بالمال بعد ان كانوا مصدر تهديد له ولمن معه ، فتفرقوا على الرغم من مكانة هانئ في قومه ..
كذلك استخدم الاحتلال المال لشراء ذمم وارواح كثيرين بعد ان صدّرت لهم فكرة الدولة الإسلامية عبر أشخاص برمجت عقولهم على التكبير عند ذبح الأسرى والاطفال واغتصاب النساء وإقامة الحد الشرعي الذي اعتقدوه كما حدث بالأمس مع الخوارج ، وكما سوّق ابن زياد لجيش الشام ليلوث الجو العام في الكوفة فيستنشقه الضعفاء من اهلها فيحدثون ضوضاء تربك الخط العام وهو ما حصل..
كذلك حصل بعد اكثر من الف عام على ذلك التاريخ الدامي المظلم ، فقد كان خليفة دولة الخرافة يصلي بجنده ثم يمضون لقتل الناس وتهديم قبور الأنبياء والآثار وتغيير أخلاق الناس وإرغامهم على تقبل المنهج الجديد وتعليمهم القرآن بلغة السياط وجرّهم الى المساجد للصلاة ورجم المتأخرين عن حضورها ..
الحياة حلوة خضرة كما ذكرنا في حديث لنبي الرحمة ، وان يريد الشعب الحياة ، فهو بداية طرق الوعي في جو نقي وفطرة سليمة توجه هذه الإرادة باستحضار الأفكار الجيدة عن الحياة ، عندها ستكون مطالب الجماهير موضع استجابة القدر كما في قصيدة ابي تمام :.
اذا الشعب يوماً ارادد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
برزت الدوافع الانفعالية في كثير من تظاهرات الشارع العراقي وكانت آنية أو تراكمية اندفاعية ، وعلى الرغم من التقصير الواضح لادارات الحكومة إلا انها تمكنت من احتواء التظاهرات او الالتفاف عليها ، عن طريق الوعود او ارسال ممثلين عنها الى ساحات التظاهر والتعرف على مطالب المتظاهرين ورفعها في مذكرات رسمية الى الجهات المسؤولة للنظر فيها وتحقيقها ، هكذا ضاعت كثير من مطالب الجماهير وسجلت في دفاتر النسيان ، او وجدت في سلات المهملات في مكاتب كثير من المسؤولين كما صرح بعضهم ، فبقي الحال على ما هو عليه ، وربما يزيد الأمر سوءً ، فلعلنا نغفل فاعلية الزمن في ذلك ، فكلما مرّ الوقت على حالة سيئة في المجتمع غدت وضعاً اعتيادياً ، وهو غاية الخطورة ، ولعل رد فعل بعض المسؤولين البارد إزاء معاناة الناس هو اولى علامات تلك الخطورة ، فعندما تمر تظاهرة مرضى السرطان المطالبين بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، مروراً عاطفياً على مسمع ومرأى المعنيين واصحاب القرار بحيث تبقى الجهود متلكئة بطيئة في تجاوز هذا التقصير ، على وعي الناس ان يبدأ مفعوله ..
ان الفكرة الجيدة تجلب افكاراً جيدة اخرى داعمة لها ، وحضورها مطلوب من كلا الطرفين ، الجماهير والحكومة ، لكن المشهد العراقي لا يشير الى هذا الحضور ، فالعملية آخذة في اتجاه الفعل ورد الفعل ، كلما تجاهلت الحكومة تظاهرة واغفلت مطالب جماهيرها أو اهملتها أو تماهلت عنها ، او ارجأتها الى وقت بأعذار وتبريرات ، فإن التظاهرة اللاحقة شهدت مواقف عنف ابداها متظاهر هنا ومتظاهر هناك تجاه الحكومة ، الفاظ قاسية تنم عن غيظ كبير وبركان يكاد ينفجر بالناس ويفجر الوضع ، ظهرت بعض علائمه في التجاوز على ابنية تشغلها بعض دوائر الحكومة واحراقها ، قابلها استهجان مسؤول وتلفظه بالفاظ سيئة بحق متظاهرين هتفوا ضده ، ما يجعل الهوة تكبر بين المواطن والمسؤول ، لكن المهم في كل هذا الوضع السيء ان الجماهير لم تفقد فكرة الخير في داخل النفوس تجاه بعضهم وان ابدوا غيره تجاه الحكومة ، فقد سجلت الأحداث كثيراً من المواقف المشرفة الإنسانية قام بها مواطن تجاه آخر تناولت بعضها وسائل الإعلام ، على ان غير المعلن عنه كثير ، وهو ما يشجعنا على الخوض في موضوعة صناعة الوعي ، لإعتماده كثيراً على وجود مثل هذه الخصلة الجيدة.. لكي لا يتساوى يومنا بالأمس ، فنصبح مغبونين وفق قول الإمام علي عليه السلام ) من تساوى يوماه فهو مغبون)..
مغبون تعني مظلوم ، ولطالما كانت هذه الحالة موضع رفض الانسان في مختلف العصور والازمنة والعهود ، فقد كان الشعور بالظلم حافزاً قوياً دفع العبيد والفقراء للإلتفاف حول نبي الرحمة مع علمهم بضآلة قوتهم العددية والعضلية أمام قوة أسياد مكة ، لكنهم تحسسوا ذواتهم قرب النبي ، وشعروا انهم معه يكتشفون شخصياتهم التي كانت موضع ابتذال وإذلال اسيادهم ، فوقفوا الى جانب الدعوة ، فانقلبت الأمور وتغيرت الأحوال وسادت الكرامة ومكانة الإنسان على قوة المال وظلم المجتمع وغلبة الانا ..
ان وصف تساوي الأمس واليوم بالغبن فيه دعوة قوية للتفكير في الحاضر بوعي ، من اجل تحديثه ..



#عدي_عدنان_البلداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائفية بين الحقد والنقد


المزيد.....




- -بأول خطاب متلفز منذ 6 أسابيع-.. هذا ما قاله -أبو عبيدة- عن ...
- قرار تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا يقلق مخالفي قوانين ا ...
- سوناك يعلن عزم بريطانيا نشر مقاتلاتها في بولندا عام 2025
- بعد حديثه عن -لقاءات بين الحين والآخر- مع الولايات المتحدة.. ...
- قمة تونس والجزائر وليبيا.. تعاون جديد يواجه الهجرة غير الشر ...
- مواجهة حزب البديل قانونيا.. مهام وصلاحيات مكتب حماية الدستور ...
- ستولتنبرغ: ليس لدى -الناتو- أي خطط لنشر أسلحة نووية إضافية ف ...
- رويترز: أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار لأو ...
- سوناك: لا يمكننا أن نغفل عن الوضع في أوكرانيا بسبب ما يجري ف ...
- -بلومبرغ-: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على 10 شركات تت ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدي عدنان البلداوي - دور الشباب في صناعة الوعي