أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - ليل هبة البارد والطويل















المزيد.....

ليل هبة البارد والطويل


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 6376 - 2019 / 10 / 11 - 03:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



لم أحمل لها بشارةً، لكنني وعدتها بزيّارتها قريبًا في سجنها ؛ ووعد المحامي للأسير الأمني أمانة يجب أن توفى مهما كانت الظروف.

وصلت بوابة معتقل الجلمة في ساعات الظهيرة ؛ كانت شمس الجليل قريبة من رأس جبل الكرمل وكان الحَرّ على الأرض شديدًا. عرّفت عن نفسي فأدخلتني السجّانة إلى غرفة الاستقبال، وطلبَت، بأدب، أن أنتظر لأنها أخبرت المسؤولين بوجودي وهم يفحصون مع الجهات المسؤولة اذا كانت لدي موافقة لزيارة الأسيرة هبة اللبدي.

غرفة الانتظار ضيقة. يوجد فيها كنبتان وجهاز كهربائي يضخ الماء البارد والساخن؛ لكنني لم أتشجع على استعماله رغم شعوري بالعطش. كنت لوحدي. لم أشعر بالضجر، فشاشة هاتفي الذكي كانت جليستي الظريفة، بينما ابقاني ضجيج أبواب الحديد، وهي تفتح وتغلق بغضب وبوتيرة لافتة، في حالة تأهب مستمر وقلق.

توجهت، بعد نصف ساعة من الانتظار، الى السجانة مستوضحًا عن أي جديد، فأخبرتني بوجود موافقة على زيارتي، ولكنها تنتظر وصول السجان الذي سيرافقني الى داخل المعتقل لأنه يتناول وجبة غذائه.

أعرف غرفة الزيارة في معتقل الجلمة جيّدًا؛ فهي تشبه كشك هاتف عمومي قديم يتسع لشخص واحد. يجلس فيها المحامي على كرسي وأمامه فاصل زجاجي سميك متعب للنظر ، ثم يتلوه فراغ ينتهي بشباك مقطع بمربعات حديدية صغيرة ستجلس من ورائها الأسيرة. على يميني هاتف سأتواصل بواسطته مع موكلتي، وورائي باب حديدي يذكرني بأبواب خزنات البنوك القديمة أو بقصص الأقبية التي قرأنا عنها في روايات الاثارة الشهيرة.

حاولت أن استغل وقت انتظاري بترتيب ما سأقول لهبة وكيف سأعيد إليها الثقة والأمل، خاصة بعد شعوري عندما قابلتها قبل أيام في قاعة محكمة عوفر، انها تائهة ولا تعرف ماذا يحصل معها وكيف ستخرج من هذا النفق المظلم.

لم يكن معي سوى بضع أوراق نشرنا فيها شهادتها حول ظروف اعتقالها؛ كنت أقرأ التفاصيل وأشعر بما عانته بعد أن جاءت تحمل أملًا، فعاشت كابوسًا بشعًا لم ينته بعد.

لقد كانت هبة اللبدي في طريقها من عمان الى فلسطين، برفقة امها وخالتها، لحضور زفاف قريبتها عندما اعتقلتها قوات الأمن الاسرائيلية، في العشرين من آب الماضي، على نقطة الحدود مع الأردن، حين وصلت جسر الملك حسين في الساعة التاسعة صباحًا ، وكانت تحلم بقضاء خمسة أيام من الفرح في أحضان عائلتها.

فصلوها عن أمها وأدخلوها الى غرفة جانبية وقاموا بتفتيشها وهي شبه عارية، بعد أن رفضت انزال ملابسها الداخلية. عصبوا عينيها وقيّدوا رجليها ويديها ونقلوها الى معسكر جيش قريب. أبقوها في الشمس لمدة نصف ساعه ثم أدخلوها الى غرفة فيها مجندتان. فتشوها مرّة أخرى وسألوها عن صحتها. كانت هبة مضطرّة لقضاء حاجة خصوصية، لكن الجندية رفضت ابقاءها وحدها، واصرّت أن ترافقها، فدخلت معها غرفة المرحاض الضيقة. شعرت هبة بحرج شديد وعانت، وهي تمر بظرف صحي طاريء، من انتهاك بشع لخصوصيتها.

نقلوها الى معتقل المسكوبية ثم الى معتقل بيتح - تكفا الذي وصلته بحدود الساعة الثامنة مساءً. كانت منهكة جدًا وتعاني من تبعات حالتها الصحية. لم تسترح في زنزانتها سوى نصف ساعه، جاءوا بعدها وأخذوها لجولة التحقيق الأولى، التي استمرت حتى ساعات فجر اليوم التالي. قضت على هذه الحالة مدة ستة عشر يوما من دون أن تقابل محاميها.

كانت معظم جلسات التحقيق معها تمتدّ الى ساعات طويلة وتتمّ وهي مقيّدة ومربوطة الى كرسي مثبّت في الارض. كادت تفقد وعيها أكثر من مرة لولا نوبات الآلام في ظهرها وصراخ المحققين الذين كانوا يحيطونها بكراسيهم القريبة ويتعمدون ملامسة ارجلها. كانوا يستفزونها بالشتائم ويتفّون عليها ويصفونها بنعوت مهينة ويهددونها باعتقال اختها وامها وبابقائها في الزنازين حتى تتعفن.

لقد مارسوا ضدها كل ضروب التحقيق، فحتى لعبة المحقق الجيد والمحقق السيء جربوها، وتركوها، أكثر من مرة ، في زنزانة صغيرة قذرة ومليئة بالحشرات، حيث كانت تصحو أحيانًا والصراصير والنمل على ملابسها. كانت حيطان الزنزانة اسمنتية وخشنة والفرشة رقيقة وبدون غطاء ووسادة، والضوء مشتعل طيلة الاربع والعشرين ساعة، والتهوئة معدومة والرطوبة غير محتملة. كان الحمّام كالقبر والأكل ليس كأكل البشر وكل وسائل التعذيب والقهر كانت مجازة في سبيل إكراهها على التوقيع على الاعتراف والإدانة.

لم تعترف رغم قساوة التحقيق؛ فنقلت من هناك إلى سجن مجدّو وبعده الى معتقل الجلمة؛ ثم اعادوها الى زنازين بيتح - تكفا، حيث أكملت فيها مدة خمسة وثلاثين يومًا من دون أن يحصل محققوها على أي أثبات يورطها في أي جرم كان أو مخالفة أمنية.

أصدروا ضدها ، في الرابع والعشرين من شهر ايلول/سبتمبر الماضي، أمر اعتقال اداري لمدة خمسة شهور ، بذريعة انها تشكل خطرًا على امن المنطقة وعلى سلامة الجمهور. فوجئت هبة بهذا القرار، فأعلنت بعد يومين منه اضرابًا كاملًا عن الطعام محتجة على استمرار اعتقالها ومطالبة بالافراج عنها وبإعادتها الى موطنها الاردن.

لم أشعر بأن سجانًا كان يقف ورائي حين كنت أراجع التفاصيل وانتظر قدومها. فجأة سألني، فتوقفت عن متابعة باقي فصول قصة العذاب: هل تتذكرني ؟ .. وأردف، قبل أن يسمع ردي السلبي، بأنه يعرفني منذ أكثر من ربع قرن حين كان يرافق الأسرى الفلسطينيين من وإلى المحاكم العسكرية.

أأشفق عليك؟ قلت له بما يشبه الدعابة، فأنت، على ما يبدو، محكوم أكثر من أسراك بالمؤبد لأنك تنام في بيتك وتحلم بالسجن وبطرطقة أبوابه الحديدية ووقع المفاتيح على الأقفال، بينما ينام الأسرى الفلسطينيون ويحلمون بالحرية ويشعرون بدفء فراش امهاتهم وبحنان زوجاتهم. رأيت في عينيه وميضًا يشبه نوبة الغضب أو ربما اشارة النعم. لم يجبني فلقد تراجع واغلق علي الباب لأبدأ زيارتي لهبة.

أدخلتها سجّانة شقراء، بدت غير ودودة، وأقعدتها على الكرسي وراء ذلك الشباك الحديدي المقطّع. كانت يداها مقيدتين وفي يمناها زجاجة ماء بلاستيكية. طلبتُ فك قيدها قبل بداية اللقاء، فعادت السجانة وأفهمتني بلهجة عاتبة انها تعرف وظيفتها.. وفكت القيد.

باشرتني هبة بابتسامة بعثت في نفسي طمأنينة، واخبرتني انها ما زالت مضربة عن الطعام وترفض أن يفحصها أي طبيب. صار صوتها أخفض وفيه مسحة حزن وغصة، فهي قلقة وتريد أن تعود الى احضان عائلتها والوطن. كانت رغم الوجع في صوتها صلبةً وسخرت من معذبيها ؛ فحتى عندما أخبرتني انها لم تستحم منذ حوالي الاسبوعين ضحكت كما تضحك الفراشات.

أخبرتها أننا ما زلنا ننتظر قرار قاضي محكمة عوفر العسكرية في طلب النيابة بتثبيت امر اعتقالها اداريًا لمدة خمسة شهور بحجة انها تشكل خطرًا على امن المنطقة.

لقد حضرت هبة الجلسة التي انعقدت في الاسبوع الماضي وسمعت كيف أحرج محامي الدفاع ممثلَ النيابة حين ساءله اذا كان السبب في استمرار سجنها هو خطورتها على امن المنطقة، فلماذا لا يطلق سراحها لتعود إلى وطنها الاردن حيث لن تشكل خطرًا عليكم ؟

لم يتلقّ القاضي اجابة واضحة، فأمر بضرورة حضور من ينوب عن جهاز المخابرات العامة عساه يزوّد المحكمة بردّ شاف على هذه المسألة.

سمعتني بهدوء .حاولت أن أطمئنها فأعلمتها بأن تفاصيل قصتها نشرت بشكل واسع، وبأن الاخبار أفادت أن الاردن يطالب ، بشكل رسمي وحازم ، بالافراج عنها، ونحن نتوقع أن يحصل ذلك قريبًا.

وعدتني أن ترجع الى زنزانتها لتحلم بالزنابق؛ ووعدتها أن نبقى معها وبأنني سأطالب الآن ادارة المعتقل بنقلها كي تستحم في حمام لا يوجد فيه رقابة كاميرات كما يوجد لديها.

طبعتُ كفي على الزجاج مودّعًا ففعلت مثلي وتواعدنا ان نلتقي قريبًا.

قابلت مدير المعتقل وشكوته سوء حالتها ، فأمر، دون تردد، ان تنقل الى "حمّام آمن" .. وملائم. شعرت بحمامة تحط على كتفي .

عدت مسرعًا الى القدس كي أصل الى بيتي قبل البدء بإغلاق الطرقات كما يفعلون في كل يوم غفران فيُذيقون أهل القدس الشرقية طعم العيش في الجيتوات..

وهذه قصة أخرى



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خوف ورياء وقتل
- العرب في اسرائيل بين نارين
- خلاصات أولية من معركة لم تحسم
- الانتخابات في اسرائيل، يوم الحسم، نداء الواجب
- انتخابات الكنيست، خطاب العقل
- القائمة المشتركة، خطاب التفاؤل
- تقول الحياة: يبقى الغناء أدوم وأنبل
- حين وقف مرسيل ومحمود على مسرح جرش
- غصّات، غصة الموت، غصة أطفال العيساوية
- غصّات:وعد صائب وغصة وادي الحمص
- غصّات، ربحي الأسير ونصّار الشهيد
- غصّات، القائمة المشتركة وذكرى توفيق زياد
- حاج يرأس البنك القومي الإسرائيلي
- في موديعين والعفولة وكرم السلام، العنصرية واحدة والفاشية لا ...
- المشتركة في غرفة الانعاش من جديد
- عقارات باب الخليل ومسرح العبث
- لوحدنا لا نستطيع التغيير ولكن بدوننا لا يمكن أن يحدث التغيير
- أمير مخول أسير محرر أم أسير سابق؟
- النكبة وما أدراك ما النكبة
- -منتدى الحقوق المدنية- أفكار خارج المألوف


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - ليل هبة البارد والطويل