أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا آنسته - -الحمرة والنهر-















المزيد.....

-الحمرة والنهر-


رضا آنسته

الحوار المتمدن-العدد: 6334 - 2019 / 8 / 28 - 17:15
المحور: الادب والفن
    


"الحمرة والنهر"


عدت إليك متأخراً بعد الحرب، لا لأني نسيتك، بل من أجل أنّي أتذكرك جيداً؛ مثقلاً، بحقائب الذاكرة، فكيف تغيبين عن عيني وأنت بؤبؤها. كنت خائفاً، من أن لا نتعرّف على بعضنا بعد غربة كل هذه السنين... ففيما مضى، كنت أرى الدنيا من مرايا نهر جسدك الشفاف، أتفيأ واحة حنانك، تظلّلني نظراتك، وغرَّرت بي حينما أوهمتني أنَّ العالم مكان جميل يستحق أن يُعاش. كنت خائفاً مرعوباً، أرتعش كعصفور مطارد من صقر القدر، تحت المطر، أبحث عن عش حضنك ألتجئ اليه، لكنّي وجدت جثة نخلة البرحي، التي كانت تتوسط حوشنا مُسجاةً على التراب، مقطوعة الرأس، مثقوبة القلب. سحبتها بعناد صخرة إلى وسط الدار، ودفنتها، بعد ما صلَّت عليها العصافير. إحتفنت حفنة من التراب، أتتبع خطواتك في رائحتها... داهمتني رائحة البارود والموت، وقفت محنياً كعمود خيمة، وثقل الكون على يافوخي... شعرتُني أترسَّخ في الأرض كمسمار. حاولت أن أزيح عن ظهري عبء الماضي... اقتلعت نفسي بإصرار نورس، وحوَّمت فوق الدار قليلاً، أتقصَّى ملامحك؛ مازالت البيبان الخشبية العتيقة مشرعة وحواجب الشبابيك قد نسجت عليها العناكب بيوتها والدور مفروشة ببساطة الحُصران، والحيطان دافئة بحميميّة شمس الضحى، وأضلاع السقف المحنية من ثقل الزمن صامدة... قد عشّشت بين حناياها الزرازير. أتذكرين يوم صعدتُ البِرحية وتصفّحت عش شحرور في رأسها، فسقطت مني بيضة فيروزية، فقست عن شحرور صغير، لفظ أنفاسه الأخيرة، كمن به ربو. كم بكيت يومها! فرشت راحتي ألملم نثار اللؤلؤ المتساقط من ينابيع قلبك، سقطت سهواً قطرة... فخضَّرت مكانها صفصافة!
دفناه عند قدميها وعامدنا عوداً، كشاهد ضريح.
قلت لي:
_ ألم أقل لك يا قاسم، دعها بسلام.
_ مجرد نظرة؛ غَمضة عين.
ياليت أنَّ الغمضة لم تُفتح أبدا... أحسّ أنّني دفعتك ثمناً باهظاً، من أجل حلم الشحرور الذي انكسر!
صعدت السلّم الخشبي بظاهر الدار، وفوق السطح، تسلَّلت تحت الفراش الذي كنا نفرشه في ليالي الصيف، واستمعت إلى قصص جدّتي، عن الجن والغيلان، التي كانت تُسلمنا إلى النوم بسلام...
طوَّفت حول الدار أستجلي ملامحك العالقة، ببقايا الأشياء المنسية في ذاكرة الغياب، رأيت تحت غابة كثيفة من القصب، النُهير الذي كنّا نسبح فيه، حين تعلو المَدَّة، فتلتصق ثيابك بغصن جسدك، وتتكرمَش و تشِّف عن موعد قطاف رمانتين صغيرتين، وتحمَّر الخوختان في وجهك خجلاً، وتهرعين إلى الخروج، فأرمیك بعجينة طينة، تلتصق بربوتيك المترجرجتين، فتزعقين كبطّة! ثم لا نعرف كيف تسحبنا يد خفيّة خلف البستان، نلعب الغُمَّيضة، وتتعمدين أن أعثر عليك مختبئة في التّنور، فأخرجك حارة كرغيف مسمَّر للتو، بعينين خافرتين وعصفورين يخفقان من الخوف تحت نَفنوفك المُنَمنم بالورد، فيلتجآن إلى عشّ صدري، والمسكينان لا يدريان أنّهما يتجهان إلى المصيدة... تتعانق نظراتنا ونشعر بظمأ شديد... لا نعرف مصدره، مع أنّنا ما زلنا مبللَّين بالنهر والفرح:
_ مطر!
_مطر!
وتدفعنا اليد الخفية نحو الآخر، وننجذب مُكهربين، نحو بعضنا، ثملي الأعين، تَفغَمُنا رائحة ريحان حرّيفة، فأقطف من فمك أحلى رُطبَة ذقتها يوماً، تموع في فمي كقِنطارة، ترشِفُني العطش إلى الأبد... فعرفت فيما بعد أنّ المبلّل بأمطار الحب، ظمئ دوماً.. لم أحتلب بعدها دِبسَاً بتلك الحلاوة أبداً... كنا مجرمَين بريئين، نقترف آثاماً نقية!
_ أنظري

-هناك...عند مصبِّ النهر في الشط...
_ آآآه ما أكثر سمك أبو شلمبو!
_ تعالي نصطاده...
وتغوص أقدامنا في لزوجة الطين وتتسرب برودة لذيذة إلى أرواحنا، تعيدنا إلى بدائية الخلق والأشياء... نتمرَّغ فيه، وتصبحين أجمل سمكة طين رأيتها في حياتي...
فيما بعد، حين تغرَّبتُ وترحَّلتُ في الكتب والدروب... عرفت أنّ اسمه نطَّاط الطين، وكان حقاً ينطُّ اللعين، بعينيه المتورّمتين كبالونين، وجناحيه القصيرين، بخفّة وسرعة ويندسُّ في ثقوب الطين ورواسب الشط... ياليتنا لم نكبر وبقينا سمكتي طين واندسسنا في ثناياه، لعلَّ الحرب لم تكن ستعرفنا وتفصلنا، لو أننا توحَّلنا، ولم تحوِّلك إلى آلاف الشظايا... لو قضيت عمري كله، أجمعها، لما كفى، وبقيتي ناقصة، ولم أكتمل... الحرب شظَّتك وشرَّدتني...بعثرتنا جميعاً، أنا وأنت وهو وهي ومحمود وهناء و... شلَّة نهر المِحرزي"5" كلها أصبحت أشلاء... محمود وأهله تفتَّتوا، وصاروا رماداً في قصف اليوم الأول، لم تُبقي لنا الطائرات التي كانت تتكلم لغتنا، حتى شِلواً، ولو إصبعاً أو خصلة ندفنها، دفنَّا ذكرياتهم إلى جانب ضريح الشحرور... كانت أمي كلّما جلسنا فيما بعد في الحوش تقول :
- تشمّون رائحة ياسمين؟!
أتضوع حقا ذكرى الأحباب بعد ضياع السنين...؟!
لهذا عدت إليك، باحثاً، في ركامك وأنقاضك عن ذاتي، ولكن كيف نرمِّم بعضنا ونحن كلانا محطَّمان؟ لعلّ لا شخص، يلعق جراح المصاب، أحسن من جريحٍ آخر، لكن ماذا لو أصبحنا الجرحَ ذاته؛ حينها من سيلعق الجراح؟
البارحة حلمت بك في أوّل ليلة عدت فيها من المنفى، وأنا نائمٌ عند ساقيك حيث تصُبّين في شطّ العرب، أتوسَّد أشواكك التي نبتت بدل أعشابك، حيث كنا نرنو إلى عطش أختك في الضِّفة الأخرى، وهي تلوِّح لنا لنلتحم بها، ويغيب عند منعطف خصرها، الشط والسفن والأضواء، في غسق الليل، وتتلامع نجوم أسراب الأسماك، التي كانت تنطُّ هنا وهناك، وتبزغ كالحباحب، وتثقب فقّاعات الماء... كثيراً ما رمينا في الأصائل هنا، نَردَ مصيرنا وحبّنا، وهل كانا طريقين مختلفين؟ فكانت تتكون دوائر ودوائر ودوائر... تُخَطُّ وتُحَدّد في كل واحدة من حلقاتها، مشهد ومحطّة من حيواتنا؛ تنبأنا وحلمنا، بكل المحطّات إلّا الحرب، فهي لم تكن محطّة، بقدر ما كانت حطاماً!
_ مقبرة دفنا فيها الماضي.
_ والمستقبل...؟
_ صَمَت. وصكَّ أسماعنا من أعماق الغابة... نعيب بومة...
لم يكن حلماً بل حطاماً، رأيتك تمشين ورأسك مقطوع وجلدك مُشَعوَط، وجسمك قد تشقّق ونشف، من كثرة العطش حتى صار بحيرة ملح، وقد بانت الأخاديد الغائرة في وجهك كأنك جذامية، وكأنها شروخ وادي سحيق، وعيناك هاويتان مظلمتان أو ثقبان أسودان، يبتلعان كل ما يقترب منهما، وشفتاك مَخيطتان، تريدين أن تقولي لي شيئاً ولكنك لا تستطيعين، صخرة صرخة، بحجم جبل في حنجرتك، جاثمةٌ فوق صدرك كرخامة قبر. بدا لي أنك همست لي بصعوبة حرفاً أو حرفين، نسيتُهما حينما صحوت، وها أنا أحاول أن أتذكرهما، منذ ثلاثين سنة كلما أحلم...
_ قاسم، متى تنتهي هذه السنين العجاف؟
_ ستنتهي يا حِنَّة، ستنتهي.
حينما عدت اكتشفت تعبير رؤياي. لم أكن أحلم ولم يكن يوماً كابوساً، بل هي حقيقة مفجعة، أنك احترقت ومُسِحت من خارطة التاريخ وجغرافيا الوجود، وصرت متحفاً لعناكب النسيان واستوطن الأغراب حبيبتي. اختفت ملامحك، أصبحت غير مرئية. فوجهك هشَّمته المدافع، وتاريخك همَّشته وشوّهته الأقلام، وجسدك سحقته الدبابات، ورأسك قطعته القذائف وخصلات شعرك الحرير، حرقتها نيران الحقد، وشريانك حزَّته موسي الحسد، لتنزفي لغتك مع غروب الشَطِّ الشهيد، الذي لم تسعفه غزارة ينابيع من سَبحوا طفولتهم فيه. يا سيدتي المضرَّجة شفاهك بأحمر شفاه توت بساتينك، لم يكونوا يتحمّلوا على مرّ التاريخ، أن يتكلم النهر العربية، بطلاقة هادرّة... تكسر جميع سدود أفقهم، وتسحق نرجسيتهم الحقيرة التي لا يعكسها، ماؤك المقدس - الذي تعمَّد فيه جميع الأحرار- خشية أن يتنجَّس! عدتُ إليَّ أبحث عنّي فيك، لكني لم أجدك! فقد وجدت "كوت الشيخ والمحرزي والمنيخ والحيزان وسوق السيف وجزيرة الصلبوخ، وكارون..." رِمماً يبابا. وجدتها ضائعة... ألم تقولي لي حين عقدنا خيوط عهدنا، من ليف النخيل، أنَّنا لن نفترق حتى بعد الموت...
فمابالك اليوم أجدك لم تحلّي العقدة فقط، بل قطعت الأنمُلَ أيضا؟! أنسيت نكهة ورائحة القهوة الحلوة في الليالي المقمرة، حيث يطفو القمر في الشط، كفلّينة تنقرها الأسماك، وعزف الدِلال وطقطقة فناجين القهوة المنقوشة، التي تتراقص رقصة شرقية، مع كل رشفة ... سامحيني، أعرف أنهم أرادوا إطفاء نار كرمك ولكن هيهات أن يخمدوا نار كرامتك! لقد أسجروا جحيم حقدهم وكراهيتهم... ولكن يا "حَنَونة يا حِنَّة يا محمَّرة..." ما عهدتك تضعفين مهما ثَخُنَت الجراح... جدّتي " قِسمة " كانت تقول: " البَخَت يِضعَف ما يموت" فياليت مازال لحظك حظ...
_ حظنا نحرته، خناجر الحقد.
_ شوفي أزهار البنفسج! قد يكون الحزن قصيدة!
_ في زمن الضياع، تذبل القصائد.
حبيبتي "حنّة"؛ بنفسجتي! عروسة الأهواز وميناء السلام، وسكَّة السكينة التي يمر بمحطتها قطار الأحلام... يا وجهاً حِنطياً وضاوِياً، كخُبزة، يا غابة عينيين ساعة السحر، والشفاه المورَّدة بالتوت والرُّمان، وخصلات الخوص الحريرية المُسرَّحة إلى الخصر... وفجر الجبين المضيء كالجُمَّارِ، حلكة غابات النخيل... وزورق صياد يرمي شبكة عشقه، في نهر الزمن...
ع و د ي...
إليّ من وراء الغياب والنسيان والحرب والحطام، ع و د ي...
أبي كان يدَّوي في أذني كطلقة "برنو" دائماً:
_العربي غيور، فلا تدع "شِيلَة" شرفك، تسقط، ولو متَّ واقفاً، كنخلة، مقطوع الرأس!
سامحني يا أبت، لأنّي ما زلت أحمل رأسي عبأً وعاراً. أبت لم تكن خطيئتي؛ أنَّ نخلتنا أطول منّي...
إذا لم يكن فينا أن نحيا معاً، فبيدنا أن نموت معا...
يموج صدىً في أعماقي، وتتطاير ضحكة طفلين، يتراكضان، يداً بيد، في حقل حنطَّة بعيد... يحلِّق شحرور فوق الشط، تصيبه طلقة نارية، يرفرف صداها في غابة نخیل منسية...









#رضا_آنسته (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منى
- الرب والرماد


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا آنسته - -الحمرة والنهر-