أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا آنسته - الرب والرماد














المزيد.....

الرب والرماد


رضا آنسته

الحوار المتمدن-العدد: 6223 - 2019 / 5 / 7 - 18:05
المحور: الادب والفن
    


كان منظره غريباً، وهو يتردد على ذلك الزقاق الضيِّق المظلم والمغلق، يومياً، في نفس الوقت، والبيوت والشوارع والأشجار، مضرَّجة بالغروب، بلون أرجواني هادئ، تستيقظ معه الأحاسيس والذكريات... يومياً والغروب، الساعة التي يدقُّ معها ناقوس حضوره عند فتحة ذلك الزقاق المعتم والعتيق، الذي لا تسكنه إلا الظلال والأشباح... زقاق صامت يضجُّ بأصوات بعيدة ومبهمة، تشبه لغط قفير من النحل في الرأس، لا يعرف سرَّ حضوره اليومي، وفي نفس الساعة ومن نفس المكان، سوى أن رغبة ملحَّة كالصمغ... أقوى منه تسحبه رغماً عنه، إليه، مشدوداً بحبلٍ أو مجذوباً بقوة مغناطيسية، لا يستطيع التخلُّف، كأنَّه سجين بإطلاق سراح مشروط.
حاول كثيراً أن يتبيَّن الدوافع الكامنة وراء رغبته اللحوحة تلك، بحث في ملفات ذاكرته، تأملَّ ذاته، نظر إلى نفسه في المرآة، قرأ في كتب تحليل النفس، في تاريخ الشوارع والأزقة والمدن، راجع الطبيب، ذهب عند البصَّارين والعرَّافين، رغم عدم إيمانه بهم، وهو مدرسُّ الرياضيات، وإخبارهم له أنَّ كل الطرق والأزقَّة في كفِّه مفتوحة... لكن دون جدوى. لم يستطع أن يتخلَّص من إدمان ذلك الزقاق. الغريب أنه لم يخرج أحد من بيته ولو مرة واحدة أو يلتقي بأحد ساكنيه ولو صدفة، فيسأل ويستفسر من الزائر الغريب عن سرِّ مروره اليومي أو يسأله هو عما يساعده في إماطة اللثام عنه. وكأنَّه قفر من الحياة والحركة، معزولٌ عن العالم، إلا من ظل الزائر الغريب، الذي أصبح الآن مألوفاً لدى الزقاق، ألفته حيطانه وبلاطاته الرمادية، وصارت تستأنس بوقع أقدامه التي تئن ليلياً، تمزق أستار الصمت والسكون الأبدي الذي لفَّ الشارع بوشاح أرجواني...
قرَّر ذات غروب أن يتناول حبة منوِّمة حتى يمتنع من الذهاب، لكنَّه تفاجأ حينما أبصر نفسه هناك. فاتح صديقه "إنكيدو" بالأمر، طلب منه أن يرافقه وحينما وصلا، والتفت إليه، رآه قد تحول إلى ظلِّه! ينظر إليه بعينين ضائعتين..

عصر ذهنه كثيراً، محاولاً أن يتذكَّر متى وكيف بدأت حكايتهما، في أي فصل وفي أي مساء من مساءات العالم المتشابهة... لكن كلَّما رجع بذاكرته إلى الوراء وجد نفسه في بداية الزقاق، وكأنَّ كل الحكايات والبدايات تبدأ وتنتهي به. لم يكن ليخرج من دائرة وشرنقة التشابهات تلك، ولا أن يتعرَّف على هويّته، لأن هويَّة الشوارع والأزقة من هوية ساكنيها، لولا انفتاح أحد الأبواب ذات مساء، وإطلالة طفل صغير لومضة، واختفائه قبل أن تتاح الفرصة له، بأن يحادثه ويسأله عن شيء، ومهما طرق الباب لم يخرج إليه أحد. في الليلة التالية وفي نفس اللحظة، أطلَّ الرأس الصغير من نفس الباب، وبنفس السرعة، توارى.. وكذلك حصل في الليالي التالية... لكن الزقاق كان قد خرج من صمته، بصورة ذلك الفتى واكتسب ملامح جديدة، كما اكتسب الزائر الغريب، أملاً، بمكاشفة السر المغلق.
يوم أمس حينما انتهى من تدريس مفهوم محيط الدائرة، إنتبه أنه رسم زقاقاً مغلقاً فوق السبورة. وحينما عاد إلى البيت، عاد من نفس الأزقة والشوارع التي جاء منها، وفي البيت زاول نفس أعمال اليوم السابق واليوم الذي قبله، فلم يكن يستمع للموسيقى، وينام قبل أن يستحم، ولا يستحم قبل أن يشاهد التلفزيون، ولا يشاهده إلا بعد أن يعاين وظائف الطلاب، ولا يعاينها إلا قبل أن يُقيلَ ساعة؛ لا يكسر روتينه اليومي هذا شيء. وكأنَّ الزقاق ساعة تُوَقِّت أعماله وممارساته. قبل ذلك كانت الفوضى الخلَّاقة ساعته الأثيرة، يزاول أي نشاط مدفوعاً برغبة اللحظة، ولو على حساب أهم وأولى أولوياته، يعتقد أن الحياة المنظَّمة زقاق مغلق، من دون مفاجآت تنفتح على شوارع واحتمالات متنوعة وجديدة... يمقت شیئاً اسمه الترتيب والنظام، والنظم مفردة غريبة عن قاموسه، خلافاً للمادة التي يدرِّسها ضرورة وليس رغبة. يستمتع بإلقاء جوربه عشوائياً ومشاهدته يحط كمظلة في أرض غريبة! لكن منذ اكتشافه لذلك الزقاق انعدمت الاحتمالات ولُخصَّت في مسير واحد ينتهي بنهاية مغلقة. أصابته كآبة مزمنة وأحسَّ نفسه محصوراً بين أربعة جدران دائماً... وكأنه حبيس زنزانة إنفرادية لا ينفذ إليها الضوء. ولا يبارحها أبداً، ولو ساعة، يتمشى فيها، في فضاء حر، يتملَّى زرقة السماء اللامتناهية... ويحلم بالابتعاد عن الأرض، متجاوزاً مثل نورس، كل الجدران والشوارع والأزقة المغلقة والنهايات المعلومة كأخبار العالم العربي!

قرَّر أن يغادر مدينته إلى مدينة أخرى بشوارع وأزقة جديدة، جمع أغراضه، حزم حقائبه، وحين همَّ بالرحيل، سقطت من يده إحدى حقائبه وتناثرت، لمح بين أشيائها المتناثرة ألبوماً صغيراً، لم يكن رآه من قبل. قعد مقلِّباً الصور، كلها كانت لذلك الطفل المطلِّ من الزقاق في وضعيات مختلفة، مرة خلف المقاعد الدراسية، وهو يحلُّ مادة الرياضيات منتشياً، مرة في المنتزه يضحك ويمرح، وهو يقفز فوق آلة ترامبولين، وتارة عند البحر يرشقه الموج بالزبد، وأصابعه متوهجة كالشموع بذهب الرمل، وتتسرب إلى نفسه برودة منعشة لذيذة.. آخر صورة كانت لزقاق مغلق ومظلم وقت الغروب، وفيه رجلٌ، بملامح مبهمة، يمسك بطفلٍ خدُّه إلى الحائط _ونظراته المذعورة باتجاه مدخل الزقاق _ واضعاً سكيناً فوق رقبته وهو يفحَص بيديه ورجليه، والدم يتقاطر كالمطر من الميزاب، من أوردته، قد غسل الحيطان والبلاطات الرمادية وتسرّب من بين فرجات الصخور، وتسلل عبر إطار باب البيت المواجه لبداية الزقاق.

قبل أن يغادر قرر أن يمر، للمرة الأخيرة به، كان الشفق يرشُّه بحمرة ناعمة، تنساح على جدرانه... بزغت من بين ثناياها نبتات أزهار، وأعشاب متفرقة، أطلَّ الطفل، واختفى.
تقدَّم، وطرق الباب عبثاً.. همَّ بالعودة، إنفرج الباب قليلاً، موارباً، دفعه بيده، وجده ينفتح على غابة ملفَّعة بالضباب والمرايا، وظلٌ ينتظره...




#رضا_آنسته (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...
- رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا آنسته - الرب والرماد