أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - محمد يعقوب الهنداوي - السجن والحرية والقبلة الأولى (3) مذكرات شيوعي















المزيد.....

السجن والحرية والقبلة الأولى (3) مذكرات شيوعي


محمد يعقوب الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 6333 - 2019 / 8 / 27 - 09:57
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


لن أستعرض هنا تفاصيل التحقيقات والتعذيب في قصر النهاية لبشاعتها وقذارتها أولا، ولأن المناضلين يعرفون تلك التفاصيل جيدا ولا أريد ايقاظ آلامهم وأحزانهم الغافية، ثانيا. ففي صباح اليوم التالي اقتادوني الى مكتب الجلاد (حازم محمد رجب)، وعرفت من السجناء لاحقا انه اليد اليمنى للجلاد (ناظم ػزار) مدير الأمن العام. وبعد وليمة سريعة من الضرب والركل والشتائم البذيئة، أخذوني الى سيارة نقلتني الى قصر النهاية، كما سمعتهم يقولونها.

ورغم ان عيوني كانت مفتوحة وثمة فتحات أستطيع من خلالها رؤية حركة الشارع وسماع ضجيجه الا أنني لم أكن أعرف جغرافية هذا الجزء من بغداد جيدا، فهو خارج مناطق سكني وشغلي وما بينهما وأماكن تجوالنا وتسليتنا البريئة في شارع الرشيد ومكتبات شارع السعدون ومقاهي أبي نؤاس.

وعلى الجانب الآخر من بغداد لم أكن أعرف في (الكرخ) سوى نادي حمادة الرياضي الذي كنا نعبر دجلة اليه أيام الجمعة سباحة أو على طوافات فردية من الإطارات الداخلية للسيارات التي ننفخها جيدا ونثق بحملها ايانا الى الجرف الآخر من النهر مع بعض الرقي وفواكه أخرى التي نأكلها هناك بين الضحك والمزاح البريء ثم نعود قبل الغروب.

هذا في الصيف دائما حيث يكون الجو دافئا ونكون في تعطيلاتنا المدرسية، وذلك إضافة الى مناطق معدودة أخرى كنا نستدل عليها قليلا حين تأخذنا أمهاتنا في زيارات متباعدة الى المراقد الدينية أو لزيارة أقارب نداهمهم في بيوتهم على حين غرة فيضطرون الى استضافتنا حيث لم تكن هناك وسائل اتصال متيسرة ولا كانت التبليغات المسبقة بالزيارات العائلية ضرورية، فأنت تحمل عائلتك وضجيجك وتنزل عليهم كالقدر، وعليهم أن يتدبروا أمرهم ليوفروا لكم مستلزمات الضيافة قدر أهميتكم لهم واهتمامهم بزيارتكم.

دخلنا في ما يشبه البستان أولا ثم وفقت السيارة في باحة صغيرة أمام بناية سحبوني الى داخلها ودفعوني بعد قليل الى مكتب واسع مضاء جيدا ويبدو كل ما فيه حسن الصيانة. ووجدت نفسي أمام (حسن المطيري) رئيس جلادي قصر النهاية، وبدأت "حفلات" الرعب. أما باقي التفاصيل والأسماء والمجريات فسأوردها ضمن كتاب يتسع لها ولشؤون كثيرة أخرى.

والمسألة الجوهرية في هذه التحقيقات هي أنني تمسكت برواية بسيطة واحدة، وهي ان شخصا لا أعرفه من قبل جاء الى مدرستي بعد انتهاء الدوام وابلغني أن أخي موجود في المكان الفلاني ويريد أن يرى أمه ووصف لي طريق الذهاب. وعدا ذلك فاني مجرد طالب مدرسة بسيط من عائلة فقيرة لا أعرف شيئا عن السياسة ولا شأن لي بأية "مشاكل". ولم تنفع كل وسائلهم في حملي على تغيير تلك الاقوال لأني أدركت بشكل ما ان أي تبديل أو إضافة أو تغيير في اقوالي سيؤدي الى المزيد من التعذيب وسيوقعني في تناقضات لن أنجو من عواقبها. وساعد صغر سني كثيرا بلا ريب في تصديقهم أقوالي.

وفي جولات التحقيق تلك، وحتى بعدها بشهور، كانوا يخرجونني من زنزانتي من وقت لآخر ويأخذونني الى مكاتبهم وغرف تحقيقاتهم ليضعوني في مواجهة شخص مدمى ومنهك ومشوه الوجه والجسد من التعذيب ويسألونني ان كنت أعرفه أو يسألونه ان كان يعرفني. وكانت اجاباتنا بالنفي دائما حتى دون أن نتطلع جيدا في وجوه بعضنا بعضا.

كانت خليتي الطلابية، بعد انقطاع اتصالاتي مع سعدي الحديثي (منصور) وسالم والشهيدين (فائق أصفر) و(وسام غضبان الربيعي)، تقتصر على خمسة أو ستة من زملائي الطلبة وأبناء منطقتي الذين لم يكن أحد سواي يعرفهم كناشطين سياسيين هم (مرتضى سام المندلاوي) و(صادق علي الباوي) و(فهد قمندار) و(علي حسين النجار) و(عمر فاروق إبراهيم)، وكلهم جمعتني بهم علاقات صداقة حميمية ووطيدة ولم أكن مستعدا لوضع أي منهم في مأزق مهما كلفني الأمر.

وانطلاقا من قناعاتي تلك، لم أتسبب بأي أذى لأي أحد أو أرتكب ما يضعني مستقبلا في مواجهة مأزق مع ضميري أو حتى أن يضعني في بؤرة الرصد الأمني، فمن المعروف ان سلطات الأمن لا تعرف بوجودك ولا تهتم بك ما دمت لست في بؤرة أهدافهم. وكلما نجحت في الابتعاد عن تلك البؤرة كلما استطعت أن تفعل كل ما تريد بأمان. ولكن ما ان تصبح ضمن تلك البؤرة حتى يصبح الجلادون "أقرب معارفك" ولا يكفون عن جرجرتك الى معتقلاتهم وغرف تعذيبهم لسبب أو بدون سبب.

ودأبت على ممارسة هذا الأسلوب طوال حياتي السياسية فكنت أنتحل اسما جديدا في كل مكان جديد أو أتعامل مع شخص جديد لأقطع الصلة تماما بمجرى حياتي الطبيعية وعلاقاتي الأخرى، ولهذا لم تستطع الأجهزة المخابراتية أن ترصدني أو توقع بي يوما، وتأكدت من صحة ذلك وجدواه حتى حين وقعت بأيدي الأجهزة الأمنية في العراق وسوريا وتعرضت للاستجوابات والتعذيب والسجن، لكن أحدا لم يستطع اثبات أية نشاطات كنت أقوم بها في مناطق أو مجالات أو أوقات أخرى.

وبذلك خرجت من السجن، حين قرر الجلادون ذلك لانتفاء أية منفعة لهم من جودي، مرفوع الرأس وبكامل عنفواني وشموخي واحترامي لنفسي واحترام ومحبة وإكبار كل من يعرفني.

* * *

وفي صبيحة أحد أيام كانون الثاني سمعنا ضجيجا بين زنزاناتنا ثم بدأ أحدهم ينادي بالأسماء على بعض السجناء، ومن بين تلك الأسماء ورد اسمي، فتقدم أحدهم الى باب زنزانتي، التي أشترك فيها مع اثنين آخرين، وفتحها وأخرجني وأمرني بأن أسير الى نهاية الممر وأقف هناك مع الواقفين.

كان مجموعنا 34 شخصا من أعمار متباينة ساقونا بعدها الى المكتب الرئيسي حيث دققوا في تطابق أسمائنا مع قوائم كانت لديهم، ثم أخرجونا الى باحة السيارات ووضعوا كل مجموعة منا في سيارة وأخدونا الى مديرية الأمن العامة ببغداد من جديد.

كنا جميعا مرتبكين متوجسين فلا أحد منا كان يعرف ما يجري أو ماذا سيحدث. وفي مديرية الأمن العامة أوقفنا في طابور في أحد الممرات واستدعونا واحد بعد الآخر الى احدى الغرف. وحين وصل دوري قام شرطيان بتدقيق اسمي وأخذ بصمات أصابعي ثم قادني أحدهما الى باب البناية وقال لي: هيا... إذهب.

سألته: الى أين؟ قال: اذهب الى أهلك فأنت طليق.

واستقبلت نسمات الحرية ملء صدري.

* * *

لم تكن المسافة بعيدة عن بيتنا، فما ان رأيت شارع السعدون حتى توجهت الى الباب الشرقي ومنه الى شارع الكفاح ومحلة سراج الدين حيث نسكن. ولم يستغرق الطريق أكثر من ساعة واحدة مشيا على الأقدام.

حين دخلت زقاقنا بدفئه وفقره وألفته التقاني (مكي عبد شبيب) وهو ابن جيراننا في المنزل المقابل لبيتنا تماما والذي كنت أكتب لأخته (منى) أشعار الحب وأسهر الليالي أرقب سطوع نجمتها المباركة في سماوات عشقي، أو أتحمل قيظ ظهيرات صيف بغداد اللاهب واقفا على سطح بيتنا لأراها تقف أو تجلس على عتبة باب بيتهم بغنج وإغواء مراهقة جامحة ودعوة جريئة.

تفاجأ مكي برؤيتي وسألني: محمد... متى خرجت من السجن؟

قلت له: الآن...

قال: وأهلك لا يعرفون بذلك ولم يروك بعد؟

قلت: لا...


ركض مكي الى بيتنا وهو يصرخ بانفعال وفرح: محمد رجع... محمد طلع من السجن...

وما كدت أضع رأسي في حجر أمي وأتوضأ بدمعها الساخن يلهب وجهي حتى تقاطرت أجمل نساء المحلة وبناتها وكانت ألذّ أحضان العمر وأكثرها صدقا ولهفة واشتعالا إذ وجدت المراهقات فيه عذرا للقبلات الحبيسة وكانت قبلات (منى) بينها هي الأشهى. كان عرسا لكل جيراننا الفقراء برجوع محمد من قصر النهاية الذي لا يرجع منه أحد... مرفوع الرأس.

* * *



#محمد_يعقوب_الهنداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل الضبع وعواقبها (2) مذكرات شيوعي
- الحقيقة دائما ثورية (1) مذكرات شيوعي
- المَوتُ مَعْشُوقي
- تاريخ علم المسرح
- مصائب المرأة في الشرع الاسلامي
- لولا الهوس الجنسي لاضمحلّت العمائم
- الحياة اليومية بين العلمانية والدين
- حدائق الدهشة - ملحمة الخلق
- الحزب الشيوعي العراقي وتخريب الوعي الطبقي
- أُرجوحًةُ الضائعين
- ربيعُ الفؤوسْ
- مع الأكراد ضد الكورد... تقنياً
- جنونُ الماء
- لا تعطوا الشحاذين
- برستو
- الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) - رؤية من قلب الجحيم
- قطوف الروح
- حروب الفُرَقاء القدامى وحروب الحُلفاء الجدد
- عرسُ السمّ - هه ورامان
- الشيوعية أشرعة المستقبل والأديان فحيح الجهل وتخاريف أهل القب ...


المزيد.....




- مزاعم روسية بالسيطرة على قرية بشرق أوكرانيا.. وزيلينسكي: ننت ...
- شغف الراحل الشيخ زايد بالصقارة يستمر في تعاون جديد بين الإما ...
- حمير وحشية هاربة تتجول على طريق سريع بين السيارات.. شاهد رد ...
- وزير الخارجية السعودي: حل الدولتين هو الطريق الوحيد المعقول ...
- صحفيون وصناع محتوى عرب يزورون روسيا
- شي جين بينغ يزور أوروبا في مايو-أيار ويلتقي ماكرون في باريس ...
- بدء أول محاكمة لجماعة يمينية متطرفة تسعى لإطاحة الدولة الألم ...
- مصنعو سيارات: الاتحاد الأوروبي بحاجة لمزيد من محطات شحن
- انتخابات البرلمان الأوروبي: ماذا أنجز المشرعون منذ 2019؟
- باكستان.. فيضانات وسيول عارمة تودي بحياة عشرات الأشخاص


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - محمد يعقوب الهنداوي - السجن والحرية والقبلة الأولى (3) مذكرات شيوعي