أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرحمن حسن الصباغ - غانية البلاط [ الجزء الرابع ]















المزيد.....


غانية البلاط [ الجزء الرابع ]


عبدالرحمن حسن الصباغ

الحوار المتمدن-العدد: 6301 - 2019 / 7 / 25 - 20:39
المحور: الادب والفن
    


غانية البلاط [ الجزء الرابع ]
من بعد تلك الحفلة في قصره أنفتحت أمامي آفاق أخرى غيرت مجرى حياتي تماماً فبعد يوم واحد من مجيئه للكابريه إستلمت مكالمة تلفونية في داري من سيدة لا أعرفها قالت أنها حضرت تلك السهرة بصفة غير رسمية لأن مكانة زوجها لاتسمح لها وتريد مني أن أحيي في بيتها حفلة ساهرة بمناسبة زواج ولدها وقالت أن السهرة ستكون نسائية صرفة وستدعى إليها أيضا مغنية أخرى مشهورة أعرفها وراقصة سورية أشتهرت بجمالها وخفة دمها ووعدتني بدفع المبلغ الذي أطلبه،وافقت ثم أستفسرت عن تلك السيدة ممن حولي فقيل لي أنها زوجة الوزير فلان الذي لاتتشكل وزارة دون أن يكون هو وزيراً فيها،وكانت حفلة رائعة أستمرت للثانية صباحاً وفيها تعرفت على الكثير من سيدات المجتمع وعلى وجه الخصوص زوجة رئيس الوزراء ،الباشا، التي دعتني بدورها لحفلة تقيمها في بيتها بمناسبة عودة زوجها سالماً من الخارج وإستلام مهام منصبه ثانية بعد نهاية ماسمي بالحركات وأستتباب الأمن وعودة الأمور لمجاريها،وكانت حفلة جائت إليها كل سيدات المجتمع وخصوصاً أميرات القصر الملكي في أجمل حللهن فتعرفوا عليّ وأعجبوا بأدائي فكنت حقاً فخورة وسعيدة بلقائهن،وأيضاً بلقاء الباشا في نهاية الحفلة وثنائه الطويل عليّ إذ قال لي بالحرف الواحد...أنا مندهش كيف أن في البلد واحدة بهذا المستوى من الفن ولم أسمع بها من قبل،أظن أنه يتوجب أن يكون لك مكانة وشهرة تنافسين وتتفوقين بها على أعظم الفنانات.وفعلا وبعد هذه السهرة صعد نجمي وأصبحت مطلوبة ومرغوبة من كل البيوتات الراقية وخصوصاً من رجالات الدولة ونسائهم.ثم أستدعيت يوماً لحفلة خاصة تقيمها أحدى أميرات البلاط الملكي بمناسبة طهور ولدها وفيها تعرفت على زوجها وأخوها الأمير ذو المكانة السامية الذي كان مبتهجاً جداً لقدومي وكان المعروف عنه أنه من محبي الطرب والغناء ويعشق الموسيقى والنساء الجميلات.وهكذا لم تعد أية حفلة تقام في القصور والبيوتات الملكية والوزارية دون أن يكون لي فيها نصيب الأسد كما يقال فأصبحت نجمة البلاط المفضلة وتوطدت علاقتي بالعوائل المتنفذة وأيضا العائلة المالكة وصرت قريبة وصديقة لهم يأتمنوني على أسرارهم وأعرف كل صغيرة وكبيرة عما يدور في بيوتهم.ثم بعد ذلك فتحت أمامي أيضا أبواب الأذاعة فأصبح الناس يعرفونني وأزدادت شهرتي وبزت شهرة المطربات الأخريات من حولي وبدأت تلك الشهرة تتسع أكثر لتصل الى البلدان العربية فسافرت وعملت في مصر ولبنان وسوريا.وفي يوم من الأيام جاء سائق الباشا يخبرني بأن الباشا يدعوني لسهرة مع أصدقاء له في نزهة نهرية وأنه سيمر عليّ،أي السائق،ليصحبني الى هناك مساءً فأمتثلت لأمر الباشا وذهبت مع السائق بسيارته الخاصة وأستقبلني الأخير ببشاشته المعروفة وقدمني لأصحابه وفوجئت أنه كان من بينهم تلك الأمريكية الجميلة سوزان وزوجها مايك.كان العشاء من أشهى أنواع السمك المسكوف مع الخبز الحار والمقبلات الطيبة وغنيت لهم بعض الأغاني الخفيفة برفقة نقرات أصابعهم على الطاولة،وبعد ذلك قالت لي المرأة الأمريكية، سمعت أنك تبحثين عن دار للكراء في حي المسبح،قلت نعم ولكني لم أوفق بعد فالدورغالية الكراء أو غير مناسبة وبحديقة صغيرة،وأنا الدار أريدها كبيرة وبحديقة واسعة ورخيصة فقال الباشا يعني تريديه حار ومكسب،أي جسب،ورخيص،خبز باب الآغا،فضحك الجميع فقالت الأمريكية طلبك موجود عندي فأنا مذ رأيتك أحببتك،أسمعي نحن سنترك دارنا الكائنة في المسبح ونسكن في السفارة الأمليكية الجديدة بعد أن أصبح زوجي سكرتيرا خاصا للسفير والدارالتي كنا نسكنها هي تابعة للسفارة نؤجرها منها بأيجار زهيد فما هو رأيك أن تستأجريها من عندنا بنفس المبلغ الرمزي؟وأيضا سنترك لك الأثاث بنصف القيمة فتستفيدين ونستفاد...ها ...ماذا قلت؟ فقال الباشا ضاحكا طبعا نعم،واذا كان المبلغ يبدو لك أيضا عالي أتكفل أنا بالموضوع.قلت مستدركة لا باشا العفو أنا طبعا موافقة وممتنة جداً للمسز والمستر وحضرة جنابك العالي.وفعلاً لم يكن الأيجارعالي بالكل بالنسبة لسعة الدار وجماله والحديقة الزاهية الكبيرة أما الأثاث الفخم فباعوه لي تقريبا ببلاش.كم كانت فرحتي كبيرة بإنتقالي لهذه الدار وشعوري بحريتي فيها وخصوصاً الصالون الفخم والحديقة والأرجوحة في وسطها.في تلك الفترة كان لي العديد من الأصدقاء والصديقات والأصحاب ومما لايخطرعلى بالك من الشخصيات،فيهم الأديب والسياسي والأمير والعسكري والعالم والتاجر والشيخ والفنان وحتى رجل الدين،فجاء إنتقالي لهذه الدار فرحة للجميع وأصبحت أعقد صالوناً كل ليلة خميس على الجمعة يحضره أشهر رجالات العراق وأعيانها وقتئذ وتدور فيه مختلف النقاشات والسجالات،واحيانا المناكفات والمماحكات والتي غالبا ما تنتهي بالمصافحات والقبلات بعد جلسة طرب وانشراح تدور فيها كؤوس الراح ويشترك في أداءها الجميع.طبعا كان بين هؤلاء قاسم مشترك هو حبهم لفني وعشقهم لشخصي فكم وكم من مرة صرحوا لي بغرامهم ونوهوا بمكنون قلوبهم،وكم من مرة كانت مشاعر الغيرة والحسد تجعلهم يتصارعون ويتنافسون فيما بينهم وكأنهم أطفال لم يبلغوا الحلم،ضاربين عرض الحائط بوقارهم وبمكانتهم الأجتماعية والأدبية.كنت أحيانا أعطف وأخرى أقسو وأحاول أن أرضي الجميع دون مبالغة وتفريط كثير،ولكني أعترف أنني أحيانا كنت أسقط في حبائل وشباك غرامهم ثم لا ألبث أن أفلت منها على عجل فهم على الرغم مما ترى فيهم من علم ووقار وهيبة،شياطين مكرة وأبالسة فجرة.أعترف أيضا انه كان من بينهم من هو لحوح لصوق ولجوج فسوق لايمكن صده الا بنوع من الخشونة والقسوة التي تضطرني بالنهاية لصرفه مستعينة بخادمي الهندي وخادمتي اللذين كانا يعيشان معي في الدار،ولكن عادة وفي اليوم التالي يأتي الشخص المعني ويعتذرعن تصرفه وننسى الموضوع ونتلافى الزعل إلا ما ندر.كان هذا الخادم الهندي طباخاً ماهراً يعرف كل أنواع فنون الطبخ الشرقية منها والغربية وكانت طباقه الشهية ومقبلاته وحلوياته هي أحد أسرار نجاح صالوني وشهرته،كما أن له لهجة وحركات مرحة محببة لدى الضيوف ولكنه كان يتميز أيضاً بقوام وبأداء عسكري صارم يلتزم بتطبيق التعاليم التي أوجهها له دون نقاش حتى لوكانت موجهة ضد أبوه.كان يعمل طباخاً للذين كانوا هنا من قبل أي المسترمايك وزوجته سوزان واستغنوا عن خدماته عندما أنتقلوا للسفارة وعرضوا عليّ بقائه في وظيفته عندي فوافقت على الفور،فانا ليس لدي الوقت الكافي ولا المعرفة بتنظيم أمور المطبخ وأحتياجات الدار،فهو من يتسوق ويطبخ ثم إني أستعنت بخادمة أيضاً لتقوم بشؤون الدار إظافة لفلاح عجوز أعطيته سكن في غرفة ملحقة بالحديقة.في هذه الفترة إزداد إنتاجي الفني وكان الشعراء والملحنون والموسيقيون يزوروني في الدار ونتمرن على أداء الأغاني لساعات طوال في الصالون وكان أفضل أساتذة اللغة يساعدوني على إختيار كلمات أغنياتي فتصور. كنت من بعد قصة غرامي المأساوية مع مالك باهر قررت أن أهب نفسي لفني وللصالون فقط.توقفت عن الكلام ثم رفعت الشرشف لحد عنقها وطلبت ترجوني أن اوقف التبريد لأن الغرفة أصبحت باردة كثلاّجة،ومع أن ذلك لم يكن من رأيي إلا أني إمتثلت لأمرها.قالت مستأنفة...مع الأسف تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن، فهاهو الأمير المحترم لايترك فرصة أو مناسبة إلا ووجه لي دعوة وكلما مر الوقت كلما زاد تعلقه وولعه بيّ.وكم كنت أخشى أن أغضب الأميرة زوجته، وأنا صديقتها المفضلة وخازنة أسرارها،لذا كنت حريصة على ان أبدو لها وللجميع باني بعيدة عن مثل هذه المغامرات،رغم شكوكهم وظنونهم المتزايدة.حتى أني أضطررت أن أظهر للجميع بأني مرتبطة بعلاقة قوية مع أحد الشعراء المعروفين بعداً للشبهات والحقيقة هي غير تلك بالرغم من أن هذا الشاعر كان حقاً عاشقاً مولهاً.لقد أضطررت أن أمثل هذا الدور لطمأنة أهل القصر والحفاظ على موقعي وصداقاتي، ولكن الذي أثار دهشتي أنه كان من بين السياسيين البارزين من يدفع ويشجع لعلاقتي بالأميرالكبير،زير النساء،أنه الباشا بعينه،فكم من مرة رغبني وشجعني على ذلك بحجة ان الأمير رجل رقيق من عشاق الطرب والموسيقى وأنه شديد التقدير للفن والفنانين ويستحسن أستظافته في الصالون من حين لآخر مع مجموعة مختارة من المعارف الخصوصيين ولكن بعيداً عن أنظار العامة والفضوليين.هل كان بإمكاني رفض ذلك؟طبعا لا...أنها بشكل أو بآخر إرادة ملكية فالأمير هو الحاكم الحقيقي للبلاد والباشا أقرب الناس اليه ورئيس الحكومة الفعلي حتى لو إبتعد لفترة عنها.أنا في البداية كنت آخذ الأمورعلى بساطتها وأسايّر التيار والرغبات التي لايمكنني بأي حال رفضها دون دفع ثمن باهض وأنا الفنانة،،الآرتيست،،المرأة الضعيفة،حتى ولو بدا للآخرين،ولي أحياناً،بأن مفاتيح الولاية كلها بيدي عن طريق رجالاتها المتنفذين.نعم كان لي نفوذاً كبيراً حتى أن الناس كانوا يتوسطون عندي عن طريق فلان وعللاّن أوحتى عن طريق خادمتي وخادمي الهندي في مسائل تعيينهم أو نقلهم أو إصدار عفو عن أبن لهم حبس بمظاهرة...بل حتى الأميرات أنفسهن كن يعرفن مدى قدرتي على التأثير على أزواجهن وأصدقائهم المتنفذين ومعارفهن فيطلبن وساطتي وأحيانا لغرض الوصول لأسرارغريماتهن وصديقاتهن. نعم كان نفوذي واسعاً وهذا ما جعل الباشا،ذلك الثعلب الماكر،حين يلتقيني يهتم بي وبأخباري الفنية ويعدني بفتح جميع الأبواب أمامي لكي أرتقي بفني كما يدعي...ثم يقعد ويعطي لنفسه الوقت الكافي ليتحدث ويسأل ويستفسر بطرق مباشرة وغير مباشرة عن أسرار هذا أوتلك من أفراد الحاشية أو ليشجعني لفسح المجال أمام الأمير الذي كان يتحرق شوقا لنيلي.أشياء كثيرة وكثيرة فهمتها فيما بعد.كم حاولت أن أتملص من الأمير وإغراآته دون فائدة.كان يأتي للصالون ويبقى بعد ذهاب المدعويين ليقضي الليل في داري ويخرج فجراً.كان يظن بأني أبادله نفس المشاعر فهو شديد الغرور والأعجاب بنفسه ولم يكن بأستطاعتي صده فهو كالطفل الذي يلعب بعصفور وقع بيده يحسب أن العصفور يشاركه فرحة اللعب.ومع أنه كان المليك الحقيقي للبلاد إلا أنه لم يكن سعيداً وتغمره أحياناً موجات من الحزن العميق لايبعد ظلالها الثقيلة عنه سوى معاقرة الخمرة ولحيظات يقتنصها عند أمرأة يعشقها ولو لليلة.كان دائما يبدو وكأنه يعيش ليومه خوف مجيئ الغد الغامض.ومع أني لم أكن أهتم بالسياسة وبما يجري من صراع على السلطة إلا أن تجربتي وقربي من هؤلاء الناس المتنفذين والبلاط كشفت لي أموراً خطيرة كانت خافية عني من قبل.من الخارج يبدو لك أن كل هؤلاء يعملون معاً لصالح البلد ولكن لو كشفت أوراقهم لرأيتهم وحوش ضواري تتصارع فيما بينها.لقد كانت هنالك مجموعتين رئيسيتين وكل مجموعة في الحقيقة مؤلفة من كتلتين متحالفتين،المجموعة الأولى هي مجموعة الملك وحاشيته،والمقربين عنده من رجالات الدولة الأوائل، إظافة للنبلاء من العهد المملوكي،والأقطاعيين من رؤساء العشائر،والعوائل المتنفذة من جهة،المتحالفين مع كتلة القادة العسكريين الوطنيين ذوي الشعبية في الجيش وبعض النواب والساسة الوطنيون المؤيدون جماهيريا من جهة أخرى والمجموعة الثانية هي التابعة للأمير وحاشيته،وبعض رجالات الدولة والعوائل من بقايا العهد العثماني،وكبار تجار السوق،ورجال الدين من جهة،المتحالفين مع الباشا،وغالبية مجلس النواب،وأعضاء كثر في مجلس الأعيان،وعسكريين قدم التحقوا سابقا بالجيش العربي أثناء الحرب الأولى.وتحضى المجموعة الثانية بتأييد بريطانيا اللامحدود،وبالرغم من أنهم يظهرون ولائهم للعائلة المالكة ولكن في حقيقة الأمر ولائهم للأمير ولي نعمتهم،يريدون بقاءه في دائرة التأثير بغية أستمرار نفوذهم خوفاً من زيادة شعبية الملك الذي كانت لديه مطالب وأماني وطنية.كان الأمير يعتمد تماماً على الأنكليز ويسلم أمره لهم ويأخذ بسياستهم كمبدأ في حين أن الملك وحاشيته كانوا يرنون للأستقلال السياسي،أما الباشا الذي بدء نجمه السياسي يلمع مع بداية الحرب الثانية فكان يلعب ويحرك الأمور لمصلحته أولاً وآخراً،موهماً الأنكليز والأمير معاً أنه رجلهم ومنفذ سياستهم،والملكيين،بانه لبرالي قومي يسعى لرقي العراق وتألقه،وهو في الحقيقة أقرب للأمير منه للملك والذي يتخذ منه واجهة تحميه يقف خلفها،مع علمه التام بأن الأخير زير نساء يكرس وقته للموسيقى والطرب والسفر والركض وراء الملذات وليس له أطلاع واسع لما يدورحوله ولا دراية كافية بأمور السياسة والأقتصاد والمجتمع.إن جهل البلاط العميق بالملفات الأجتماعية والسياسية والأقتصادية الشائكة للبلاد فتح الباب واسعاً أمام الباشا للعب دور الخبير بشؤون البلد.فهو بأخذه كل أمور الدولة على عاتقه قد جعل من كلا الأثنين،الملك والأمير،معزولين عن عامة الشعب وليس بمقدورهما الأستغناء عنه،فأستطاع أن يمسك بكل ملفات البلد ويستخدم من يعتمد عليهم ضمن سياسة الحلاوة والقرباج،فتارة يعزل ويوبخ وأخرى يرفع ويكافئ،ولكن بالنهاية ليس لديه صديق سوى الذي يخدمه ويحقق مآربه دون نقاش.ولقد كان كل واحد من هؤلاء الثلاثة،الملك والأمير والباشا يظن أنه هو الحاكم الفعلي لهذا البلد المسكين والحقيقة هي أنهم بمجموعهم يخدمون سياسة بريطانيا ومصالحها في العراق فهي وحدها من يمسك بكل خيوط اللعبة السياسية فيه عن طريق تأجيج الصراعات الأنانية والشخصية حتى داخل الكتلة الواحدة بحيث أن صراعاتهم تقضي على تنفيذ اي نوع من الأستقرار فتكون بريطانيا هي من يوجه الدفة في نهاية الأمر بحجة فشلهم بإدارة البلد.والحال أنك لو جئت تناظر تجد الأمر يشبه حلبة صراع الديكة،هذا له ديكه ويأمل بالفوز على غريمه والثاني له نفس الآمال والجماهير تؤيد وترجح هذا أو ذاك ولكن في اليوم التالي ينقلب الأمر والصراع يستمر والناس تخسر أموالها يوميا أملاً في ربح هذا الديك أو منافسه والرابح الوحيد هو دائماً صاحب الحلبة ومالكها الحقيقي،منظم اللعبة وواضع شروطها التي تضمن كسبه المستمر.وأحيانا يكون كلاً من المدربين والديكة هم مجرد موظفين عنده لاغير.وحتى المجموعة الواحدة هي في صراع داخلي ومستمر على السلطة،فأنت لو دققت النظر لوجدت أن في داخلها من يحاول وبسرية،الصعود على أكتاف من هو فوقه ويتعاون مع يساعده للوصول لهدفه فما بالك لو كانت المساعدة تأتي من بريطانيا العظمى،أو ربما القوة الصاعدة،الولايات المتحدة الأميركية.فالباشا في حقيقة الأمر يرى في الأمير رجلاً غبياً مغروراً ولكنه مضطراً لأستغلال أسمه وصفته ومكانته عند الأنكليز لتحقيق أهدافه فهو براغماتي ويعرف أنه لن يكون يوماً ملكاً للبلاد وأن أسمى مايمكن الوصول إليه هو رآسة الوزراء،والقضية تركزت عنده على كيف يمكن البقاء في هذا الموقع وكل مرة لفترة طويلة،وكيف يجعل الكل يعتمدون عليه فيمسك بكل خيوط اللعبة بيده.والأمير من جهته يعرف أن الباشا محتاجه للبقاء في مكانه كما هو محتاج الملك والأنكليز للبقاء في منصبه.وكذلك الملكيين والحاشية يعرفون أنهم محتاجون لهؤلاء جميعاً لإدارة الدولة وأتقاء غضب الأنكليز وإلا ربما،سيكون البديل إزاحة العائلة المالكة ومجيئ حكم عسكري كما كان يهدد به أنقلاب شكرصتقي مثلاً رغم ما أشيع بأن هذه الحركة جائت بتشجيع من الملك نفسه،أو ربما مجيئ حكم وطني جمهوري كما بدأ يتجلى في حركة شديد عاصي الكيناني بعد مقتل الملك وهرب الأمير والباشا للأردن.هكذ كان الوضع في العراق طيلة الأربعينيات وبداية الخمسينيات ولكن بصعود نجم الولايات المتحدة بدأت الأمور تتغير فبعد الحرب الثانية أصبح واضحاً بأن أمريكا بدأت تحل محل الدولتين الأستعماريتيين العجوزتين بريطانيا وفرنسا اللتين فقدتا الكثير من هيبتهما خلال الحرب فبدت صورتهما مهزوزة بعد نهاية الحرب.وببروز قوتين فتيتين جبارتين في الصدارة على مسرح العالم،الأتحاد السوفياتي وأمريكا،أصبح الأستمرار بالأعتماد على قوى أمست في المرتبة الثانية ضرب من الغباء بالنسبة للسياسيين المخضرمين الذين يجيدون قرائة المسار التاريخي للأحداث والرقص على الحبال،ومنهم وعلى رأس القائمة،بالطبع الباشا ومجموعته،ذلك الشخص الذي بدأ حياته العملية ضابطا في الجيش التركي يدافع عن الدولة التركية وولاياتها ثم أنقلب عليها وإنضم إلى الجيش العربي،صنيعة بريطانيا،لما رأى بأن كفة الحرب الأولى بدأت تميل لصالح الحلفاء،وها هو اليوم يرى إرتفاع نجم أمريكا فما المانع من تقديم خدماته لها بحجة ليبراليته وحبه للحرية ومحاربته للشيوعية فهوهكذا يعيد صياغة نفسه ودوره من جديد،كما تعود،ويتهيئ ليصبح رجل أمريكا القوي في بغداد.فهاهي كلاً من أيران وتركيا والسعودية قد أختاروا السير في الفلك ألأمريكي فلماذا التردد.وجاء طرح مشروع حلف بغداد الذي يضم الباكستان وأيران وتركيا إضافة للعراق،كحلقة من حلقات أحلاف أمريكا لمحاصرة الأتحاد السوفياتي،القشة التي قصمت ظهر البعير،أي بريطانيا التي لم تعد عظمى،وكان الباشا أهم عراب له.فحينها بدا واضحا للعيان بأن بريطانيا خسرت نفوذها في العراق لصالح الأمريكان ونخّاسيهم من العراقيين فلعبت ورقتها الأخيرة بلجوءها لتأسيس الأتحاد الهاشمي كرداً موازياً على الوحدة بين سوريا ومصر وكطوق نجاة للحكمان الملكيان،وأيضاً لتقوية نفوذها في العراق والأردن أمام النفوذ الأميركي المتصاعد. حركة متأخرة في بحر الشرق الأوسط المتلاطم الأمواج والزاخر باللاعبين الجدد.لقد وجدت نفسي أعيش في وسط هذه الأحداث والصراعات رغماً عني،نتيجة لقربي من مراكز النفوذ فكنت أدفع ثمن ذلك الأقتراب على شكل ضغوطات ومرارات كضريبة أجبارية لحياة البذخ والترف والمرح.كنت أشعر بأن الباشا يدفع ويريد مني بعلاقتي بالأمير وأيضا مع الشخصيات الأعتبارية التي أستقبلها في صالوني أشياء لم أكن أفهمها بالبداية،فكان يسألني بأسلوبه الذكي عن هذه الشخصية أو تلك ورأيها بالحكومة وبالأوضاع.ولما كنت أحس أن أسألته ليست مجرد إستفسارات كنت أحاول تلافى الأجابة عن تلك الأسئلة أو أجيب بعدم علمي عن الموضوع.حتى جاء اليوم الذي أخبرني فيه بحزن مبالغ به،بعد أنتهاء حفل تتويج الملك الشاب بأن المسترمايك وزوجته ربما سيعاودون السكن في دارهم،ويعني داري،عن قريب،لأن السفير الأمليكي الجديد جاء ومعه سكرتيره الخاص،وقد يستغني عن خدماتهم ولذا يتوجب عليّ أن أبحث عن منزل آخر...ثم نظر إلى وجهي نظرة فاحصة فلما رأى دهشتي وخيبة أملي لسماع هذا الخبر،أستدرك قائلا،ولكني أوقفتهم عند حدهم وزجرتهم وقلت لهم بأنك شديدة التعلق بهذه الدارولن تغيري سكنك طالما الباشا،أي هو،على قيد الحياة.فهمت بسرعة أنه تهديد مبطن وان لكل شيئ ثمن،وثمن بقائي في هذه الدارهو أن أتعاون معه وأخبره بالتفاصيل عن تصرفات وأخبار من يزورني وبالأخص حضرة الأمير المحترم.ولكني ومع ذلك كنت أخفي أحياناّ كثيرة أخباراّ وأقوالاّ ممكن أن تعرض أصحابها للخطر.وللعجب وبالرغم من حرصي على عدم إلحاق الأذى بأصدقائي وضيوفي كنت أرى وأسمع بأن الكثير من الشخصيات الوطنية التي كانت تزورني قد تعرضت للإقصاء والملاحقة من قبل الحكومة لابسبب أنتقاداتهم أو عباراتهم النابية التي يطلقونها أحيانا ضد الباشا أو الحكومة وأنما بسبب مواقفهم ووجهات نظرهم بالنسبة للأتحاد السوفياتي وأمريكا وحلف بغداد والوحدة العربية أو أسرائيل،وهذا ما أخبرني به الباشا نفسه مضيفا أنه ليس له أية علاقة بالموضوع وأنما هو شأن وزارة الداخلية.علماً بأني لم أنبس ببنت شفة له أو لغيره عن مايقال بخصوص هذه المواضيع،حتى أني بدأت أشك بخادمتي وخادمي، ولم أكتشف السر إلا مؤخراّ.قلت والنعاس قد بدأ يغالبني أي سر؟قالت سر معرفة الحكومة ووزارة الداخلية بالذات لما يدور من حديث في الصالون وفي كل ركن من البيت وحتى في غرفة نومي وبتفاصيله الدقيقة.قلت وكيف أكتشفت السر؟قالت حدث الأمرعن طريق الصدفة بالنسبة للسلطات بعد هذه الثورة بأربعة أيام في سوق الكرّادة،في دكان أحد العطارين،إذ أن المتسوقين والمارة أنتبهوا في الصباح الباكر من ذلك اليوم أن دكانة العطار المفتوحة قد تعرضت لحادث سرقة،وكان هذا العطار بشهادة جيرانه قد أقفل محله بسرعة في اليوم التالي من الثورة وأختفى عن الأنظار من وقتها، ويبدوا أنه كان على عجلة من أمره بحيث أنه أهمل أن يقفل باب محله جيدا مما أغرى السراق بدخوله وسرقة محتوياته ليلاً. فلما دخلت الشرطة المحل وجدت ضمن الأشياء المبعثرة أشرطة تسجيل ورسائل مكتوبة بالأنكليزية ودفترعناوين الزبائن وأشياء أخرى ثم أنهم أستفسروا عن مكان إقامة العطار فدلوهم عليه فلما جاؤا للرجل ليخبروه بما حدث لمحله أرتبك وظن أنهم جاؤا ليقبضوا عليه فحاول الهرب ولكنه فشل مما جعلهم يحققون معه ويسألونه عن مضمون التسجيلات والرسائل وعلاقتها بالسفارة الأمليكية،إذ كانوا قد عثروا على أشرطة غير مستخدمة موضوعة بظروف مكتوب عليها سفارة ال و. م. في بغداد،فأعترف العطار بأنه يعمل لصالح السفارة الأميلكية،يوصل لها كل التسجيلات والرسائل مع السلع التي يوردها لهم ثم يأخذ الأشرطة الجديدة ويعطيها لطباخ السيدة شريفة بندر،فأسرعت الشرطة وألقت القبض على طباخي الهندي وحققوا معه،خادمتي هي من أخبرتني بتفاصيل كل ما حصل، فكانت دهشي كبيرة وخوفي أكبر أن أتهم بدوري.الطباخ أقر بكل شيئ وقال لهم أنه منذ البداية كان يعمل لصالح السفارة ويقوم يومياً بتشغيل وأستبدال أشرطة التسجيل لجهاز مسجل موضوع تحت البانيو في صندوق خاص في الحمام، هو الوحيد الذي يستطيع الولوج اليه وهو مرتبط بلاقطات حساسة موضوعة في الصالون وغرفة النوم والطعام،ثم يكتب تقريره ويرفق الشريط بأسماء المدعويين والشخصيات والتاريخ والساعة وينقل الأشرطة في الصباح التالي للعطار عندما يذهب للتسوق ويأخذ بدلاً منها أشرطة جديدة صادرة عن السفارة وهكذا دواليك.وأخبرهم أيضا بأن المسجل كان موجود قبل مجيئي أنا لهذه الدار وكان يستخدم للتنصت على السياسيين العراقيين أو الأجانب الذين يأتون للسفارة القديمة بصفة غير رسمية فيجري أستقبالهم هنا في هذه الدار.الشرطة طبعا حققت مع الخادمة أيضا ولكن الخادم برأها وبرأني من الأشتراك،وبهذا أطلقوا سراحها ولكنهم وضعوا مخبرين قرب الدار ليقبضوا عليّ حال رجوعي للبيت للتحقيق معي.قلت والنوم أصبح يثقل جفوني هذا فعلا شيئ خيالي،قالت نعم...ومن هذا فهمت كيف أنهم كانوا يعرفون كل مايدور في البيت وبما يتحدث به ضيوفي.لقد كانوا يريدون أن يعرفوا تماما وجهة نظر المثقفين والمتنفذين وسلوكياتهم ويستفيدون من كل ذلك في توجيه سياساتهم وقد كان الباشا خير معيناً لهم في تطلعاتهم تلك،إذ كان يعرف ذلك جيدا وهو من رتب مع المدعو مايك والمدعوة سوزان مسألة تأجير الدار لأعمل ومن دون أرادتي مخبرة سرية على الشخصيات الوطنية وعلى خصومه السياسيين وحتى على أصدقائه وبالأخص منهم الأمير ليستعمل كل ذلك وسيلة لأبتزازهم وفضحهم إذا وجب الأمر أو لمعرفة أسرارهم وخططهم قبل أن ينفذوها.قلت والحرس؟ما علاقة الحرس الملكي بكل هذا؟ قالت هؤلاء لما عرفوا عن طريق الصحف والراديو قصة التسجيلات وأختفائي،أرادوا أن ينتهزوا الفرصة ويصلوا لمآربهم الحيوانية بإستغلالهم للظروف التي ألمت بيّ ويظهرون بنفس الوقت بمظهر الوطنيين المدافعين عن الثورة ليضمنوا بقائهم في مراكزهم.من المحتم أنهم بحثوا عني في كل الأماكن المتوقع إختبائي فيها وعلموا أخيراً بأني أسكن عند أختي فضلوا يراقبون البيت حتى خرجت منه وأخذت تاكسي لأنتقل لمكان آمن فلاحقوني وكادوا أن يمسكوا بي وباقي الحكاية تعرفها... و..و.و.و...و.و.و.وفتحت عيني لأرى نفسي وحيداً منبطحاً على الفراش أتصبب عرقاً ونور الضحى يملأ الغرفة،قلت لابد أن تكون قد نزلت لتفطر ولكني وجدت على الوسادة بجانبي قداحتها وتحتها ورقة صغيرة مكتوب فيها،الساعة الآن السادسة والنصف... الوداع... أنا مضطرة للسفر بأسرع وقت،سأبقى ممتنة لك طول حياتي...أترك لك قداحتي للذكرى.نم هنيئا أتمنى لك أحلاماً حلوة.



#عبدالرحمن_حسن_الصباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غانية البلاط [ الجزء الثالث ]
- غانية البلاط [ الجزء الثاني ]
- غانية البلاط
- لقاء مع سيدة النهر
- رسالة في أصل وفصل الكلمات
- الخرافة أقوى من العلم
- الأكتشاف الخطير
- كنز الخليفة المستعصم بالله
- هامبرغر وساكسفون
- جاري مجرم
- المترف والنشّال
- الفخ الياباني
- فصخ
- سياحة لأيران على عهد الشاه محمد رضا بهلوي
- في السعادة والسعدان
- خصومة قديمة
- في الأفق يلوح طوفان جارف؟
- أخطاء شائعة وملاحظات على هامش الحضارة السومرية
- في نشأة الموسيقى وعلاقتها باللغة [نظرية في أصل النغمات الرئي ...
- كركوك أسم سومري


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرحمن حسن الصباغ - غانية البلاط [ الجزء الرابع ]