أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرحمن حسن الصباغ - غانية البلاط















المزيد.....


غانية البلاط


عبدالرحمن حسن الصباغ

الحوار المتمدن-العدد: 6298 - 2019 / 7 / 22 - 23:28
المحور: الادب والفن
    


غانية البلاط [ الجزء الأول ]
هذه قصة من وحي الخيال،وكل شخوصها لاعلاقة لهم لابالماضي ولابالحاظر، وكل تشابه مع وقائع وشخصيات حقيقية هو محض صدفة.
حدثتنا فطومة آل وجعان عن حبيبة الدلالة عن أخوها حبيب الدلال عن الشيخ عبدالرحمن الحالم قالت قال،كنت في حديقة دارنا وكان الوقت صيف،وصيف بغداد يعرفه من عاش فيها ويعرف حكايات براكينه الثورية ولياليه العطرة الندية.كنت أهوى ساعات ما بعد الظهيرة حيث تخلو الشوارع من المارة هربا من شمس تموز الحارقة منهم من يقيل وآخرون يكتفون بالجلوس في أماكن مكيفة لمزاولة أنشطتهم فيسود هدوءا تاما لعدة سويعات لاتسمع فيها سوى هديل ذات الطوق يأتيك من بين سعف النخيل.لا أعرف لمذا هذا الوقت بالذات يثيرني وتنشط فيه كل جوارحي وأحاسيسي فأشعر بأني بكامل نشاطي فأخرج غير آبهاً لا بالشمس ولا باللاهف، وهي تسمية لا شك مولدة من الهواء اللاهب،في ساعة يبول بها الحمار دماً كما يقول البغداديون أو البغادّة كما يسمون أنفسهم.كنت ماسكاً بخرطوم الماء،الصوندة،أسقي به أصول شجر النارنج العطشى وأستنشق ريحها الرطب الطيب وإذا بي وكأني أسمع طرقاً سريعاً يأتي من خلف باب الحديقة الحديدي،و نداء خافت لأمرأة لا أرى منها سوى أقدامها وطرف عبائتها من خلال فرجة مابين الباب والأرض، فرميت الخرطوم وتقدمت للباب قائلاً من هناك؟فجائني صوت أخفت من الأول يقول دخيل ألله إفتح لي...إفتح بسرعة،أسرعت الخطى وفتحت الباب فإذا بالمرأة تلقي بنفسها على قدمي قائلة دون أن أستطيع رؤية وجهها...أسترني ألله يخليك.نظرت للشارع يمنة ويسرة فلم أرى فيه أحدا.سحبت قدمي بسرعة وساعدتها على النهوض.كانت أمرأة جميلة بكل معنى الكلمة رغم الأرهاق والهلع الذي تعانيه، فالعرق الذي يتصبب من وجهها ولهاثها وأرتجاف أوصالها يعني انها جائت هاربة فزعة كطريدة يلاحقها صياد.أغلقت الباب بالمزلاج جيداً وساعدتها بالمشي نحو قمرية في داخل الحديقة وأجلستها على أحد الكراسي ثم طمنتها بأنها الآن في مأمن وأستأذنتها لآتي لها بشربة ماء.رجعت بكأس الماء فوجدتها حاسرة بشعر كستنائي قصير وقد أرخت العبائة على كتفيها،أمرأة ناضجة تحاول،بجهد أن ترسم أبتسامة ما على وجهها الفارط البياض،ذوالعينين الشهلاوتين اللتين كانتا تنظران بهما إليّ نظرات تساؤل طفولية.قالت بعد أن شربت الماء بصعوبة أرجوك لاتسلمني لهم وأنا أعطيك كل ما تريد،فلو سلمتني ربما سيقتلوني ...نعم سيقتلوني...أتفهم؟ حدجتها ملياً،كانت قد تجاوزت الثلاثين ولكنها تبدو بمظهرها وحركاتها كبنت عشرين،قلت لها أطمئني تماماً فأنت هنا في الحفظ والصون كائن من كنت.نظرتني بنظرة أحسست منها أنها تريد أن تتحقق من قدرتي على حمايتها،ثم قالت هل تعرف من أنا؟قلت لا ولكن كوني على ثقة بأني سأحميكي من أية أخطار طالما أنتي في بيتنا، قالت أنت شاب شهم وأنا لا أريد إستغلال نخوتك وأخاف أن يؤذوك بسببي،قلت ومن هم هؤلاء؟ قالت ودمعة جرت على خدها،أناساً ليس في قلوبهم رحمة ولا شفقة لقد تتبعوا التاكسي الذي كنت أستقله وحاولوا إيقافه،بمضايقة السائق وشتمه،فخفت أن يسلمني لهم فنزلت منه وركضت بسرعة دون وجهة،فنزلوا خلفي يريدون الإمساك بيّ وأخذي معهم عنوةً،فلما شاهدت بعض النسوة في الشارع شدة هلعي وضعفي، صدوهم وزجروهم وحالوا بينهم وبيني،ثم أدخلوني بسرعة لأحد البيوت وأعطوني عبائة،ذلك إني كنت سافرة،ثم هربوني للدار التي خلفهم ومنها خرجت لشارعكم هذا.أنهم ولاشك يبحثون عني الآن في كل مكان.قلت ولكن من هم؟ قالت هم أربعة شبان من الحرس الملكي يعرفونني جيدا ويريدون الأنتقام مني.قلت ولكن مالسبب؟...في هذه الأثناء،وقبل أن تجيبني،سمعت صوت محرك لسيارة تقف أمام باب حديقة الدار،فقمت مسرعا وخرجت من القمرية المحجوبة عن الرؤيا من الخارج وتوجهت للباب فرأيت شابا طويلا وأنيقا يخرج منها ويتجه نحو بابنا،فلما لمحني قادما نحوه تمهل ولم يطرق الباب،فقلت له من خلفها تفضل...؟ قال نحن نبحث عن مجرمة هاربة ربما تكون إختبأت عندكم؟قلت،مهلك مهلك...ولكن من أنتم ومن هي هذه المجرمة؟قال نحن من الحرس وهذه المرأة يجب أن تسلم للعدالة للإقتصاص منها.قلت وألله أنا لاعلم لي لابها ولابما أرتكبته من جرائم ولكن إخبرني عن صفتها وإعطني رقم هاتفكم الرسمي وأنا أتصل بكم حالما أراها.تردد بالجواب ثم مد عنقه يتطلع داخل الحديقة فأعقبت بحدة،قلت لك ياسيد أني لم أصادف هذه المرأة فلا داعي للإلحاح،فللبيوت حرمتها.إستدار الرجل ممتعضاً ثم ركب السيارة فأنتبهت لوجود ثلاثة أشخاص آخرين معه في السيارة. تحركت السيارة وتوقفت أمام البيت المجاور لنفس الغرض أيضاً،فخرجت مع خرطوم الماء بحجة رش مدخل البيت فوجدت الكثير من الجيران الفضوليين يقفون أمام أبوابهم أيضاً.تأكدت من إبتعاد السيارة فعدت للقمرية حيث المرأة فلم أجدها في مكانها فدخلت الدار من باب المطبخ المقابل للقمرية،فوجدتها قابعة فيه،ترتجف باكية،مختبئة خلف الثلاجة،فأبلغتها بأنهم أبتعدوا عن الشارع ولن يعودوا فلا داعي للخوف ثم أغلقت باب المطبخ وساعدتها على النهوض وأخبرتها أن بإمكانها إصلاح شأنها في الحمام في نهاية الممر فالدار خالية.ذهبت ثم عادت بعد دقائق،يسبقها عطر ناعس،وهي تتهادى مبتسمة بكسم يضج أنوثة،وقد نزعت عنها العبائة وأصلحت مكياجها ولونت شفايفها بالوردي الفاقع،وقد ثنت العبائة تحت أبطها وعلقت شنطة خضراء فاتحة على كتفها تتماشى مع فستانها الأنيق الضيق المنقط بنقط بيضاء على خلفية خضراء مما يضفي جواُ منعشاً في هذا الطقس القائض.قالت وهي تسحب كرسياً من خلف الطاولة لتجلس قبالتي،يبدو لي أنك تعيش وحيداً هنا؟تلكأت قليلاً،لأني لم أكن أريد الحديث عن خصوصياتي مع أمرأة لا أعرف عنها شيئا ولكني وجدت أن من حقها أن تستفهم عن ذلك،إمرأة في بيت رجل غريب.قلت ليس بالمطلق فالعائلة ذهبت للإصطياف في لبنان وأنا أضطررت للبقاء لتهيئة نفسي لأمتحانات مدرسية مؤجلة لآخر الصيف لظروف ألمت بيّ.قالت وهي تبتسم إذن أنت لازلت طالباً في المدرسة؟قلت بإمتعاض،لما أحسسته من تهكم في نبرة صوتها،نعم...قالت ولكن الذي يراك يظن أنه أمام شاب قد تخرج من الكلية،قلت بعصبية حاولت جاهداً أخفائها،نعم أبدو كذلك،ولكن في الحقيقة أن عمري متناسب تماماً مع مرحلتي الدراسية قالت وهي تضحك وقد قدمت صدرها،على الطاولة،ووضعت رأسها بين كفيها، والآن أنت بأي صف بالمدرسة؟هنا كدت أنفجرغضباً وقد أستفزتني وأفقدتني توازني قلت،وأنا أقف وأستدير بأتجاه الطباخ متظاهراً بتحظير الشاي لأخفي أرتباكي،أنا ياستي المديرة في الصف الخامس ثانوي.قالت وهي تضحك نعم يسمونني ست رغم أني لامديرة ولا حتى معلمة.قلت،وأنا أحاول أستعادة توازني وأبدو كشاب واثق من نفسه،هل تفضلين الشاي بالحليب أم سادة؟ قالت،والصوت قادم من خلف أذني تماماً،أحس عليها لهاث أنفاسها،وعطرها وحرارة جسدها يلفاني ...سادة حبيبي سادة.قالتها،وقد وضعت يدها بخفة على كتفي،تفضل أجلس وأنا من سيعد الشاي،فإعترتني رعشة سريعة وكأن في أصابع يدها تيار كهربائي بدأ يسري من قمة رأسي لأنامل قدمي.تسمرت ولم أعد أستطع الألتفات نحوها فإستدرت سريعاً بكل جسمي نحو الطاولة وجلست وظهري لها،ثم قلت بصوت بدا لي خافتاً وكنت أريده أقوى...لديك في الثلاجة جبنا وزبدة وزيتونا...ثم سكت ولم أعد أستطيع إظافة شيئاً آخر.كنت أسمعها تتحرك خلفي بخفة وكأنها كانت تعيش معنا من قبل،الشيئ الذي أعطاني،دون أن أدري لماذا،إحساساً بالراحة.وضعت الصينية وسط المائدة قائلة،أنا عادةً عند العصر أتناول الشاي في بيتي مع شيئ من الجبنة البيضاء تماماً كما نفعل الآن ولكن،وقالتها بحسرة،ها قد مرأسبوع وأنا بعيدة عن داري وشبه متشردة،لولا بعض أولاد الحلال من أمثالك الذين يندرون في أيامنا هذه.في الحقيقة كنت أسمعها تتكلم ولكني كنت في شبه غيبوبة خصوصاً وأنها تجلس أمامي ولا تبعد عني سوى شبرين،وثلاثة أرباع صدرها مكشوف،وتتحرك بعفوية غير معهودة ،أمام فتى غريب في مقتبل عمر الشباب.الذي أثار حيرتي وحنقي هو أنني لا أعرف هل هي لاتعير للأمر أهمية،لأنها تعتبرني ولداً لم يبلغ الحلم بعد رغم شاربي النابت،أوتظن أنها أكبر مني كفاية وفارق السن يسمح لها بهذا التصرف؟أم لأنها تنظر لي نظرة الشاب الشهم من أولاد الحلال الذي لايمكن بأية حالة أن يعتدي على أعراض الناس؟أو ربما تتعمد الظهور بمظهر الساذجة لتستفزني وتثيرني أكثر؟أو حتى تشجعني. أعترف بأني كنت في موقف لايحسد عليه فلا أعرف أي دور ألبس،ولا أي مسلك أسلك؟وكيف ستكون نهاية الرواية مع هذه الفاتنة التي رماها القدر على أعتاب دارنا في وحدتي؟الشيئ الثاني هو كيف سأبرر بقائها هنا معي،ربما لأيام،أمام الجيران وأمام أهلي فيما بعد؟...جائني صوتها الدافئ كأغنية أنستني حيرتي...ألا تشرب شايك؟أنه سيبرد...نظرت إليها بتفحص وكأني لم أرها مذ جائت،فقلت في نفسي أن وجهها ليس بغريب عليّ ولا أيضا صوتها.قالت يبدو لي أنك تتسائل أين رأيتني من قبل؟قلت نعم يبدو لي وكأني أعرفك منذ زمن بعيد قالت ضاحكة ليس بالبعيد حتماً ثم أردفت هل لديكم جهاز تلفزيون؟قلت نعم قالت فأعلم يا أستاذي الكبير بأني المطربة شريفة بندر...قلت بصوت مرح تشوبه الدهشة والتساؤل ،وألله صحيح...؟نعم...بالضبط...فأنا ومنذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها راودني شعور بأني أعرفك من قبل،أرجوك ياست شريفة أن تعذري غفلتي بعدم التعرف عليك وقتها.قالت وهي تربت على يدي وتضغطها لاعليك المهم أنك انقذتني،حميتني،دخيلة عندك دون أن تعرف من أنا وهذا عندي أكبر جميل،وأنا أحيي فيك شهامتك ورجولتك.حقاُ أحسست بالزهو في داخلي ولكني لم أكن فرحاً جداً بما قالته إذ أن ذلك يعني أنه يتوجب عليّ أن أتصرف مع هذه المخلوقة الجميلة من الآن فصاعدا بالصفات التي طوقتني بها،قلت،بإقتضاب،عفواً أنا لم أفعل سوى الواجب.قالت أنت الآن تعرف من أنا وأنت ما أسمك؟ قلت عبدالرحمن،قالت عاشت الأسامي ثم أردفت، نعم ياعبدالرحمن أنا التي كانت ولأيام معدودات فقط أحسد نفسي على حياة العز والشهرة وكثرة الأحباب والأصحاب من ذوي الشأن وفجأة إنهار كل شيئ وأنتهى،لأمسي طريدة وحيدة لا أعرف أي مصير ألقاه غداً.أيــــه ياعبدالرحمن ...هذه الحياة التي نحياها لها وجهين كسائرالأشياء فهي أن أقبلت عليك وأظهرت لك طيبها وزينتها فأحذرغدرها وقبحها في قادم الأيام...وها أنا اليوم أتجرع بداية مرارة غدر الزمان بعد أن عشت متربعة على عرش لاتحلم به الملوك، لأنه عرش قد من قلوب العشاق والحالمين رغم أنه كان محاطاً،للأسف،بالكثير من المنتفعين والمغرضين. قلت لاأفهم ما تعنيه بالضبط ياسيدتي فلو أفصحت بكلام أفقهه.إبتسمت وقالت قصتي طويلة يافتى،هل تعلم بأن الذين كانوا يطاردونني ويريدون أن أمثل أمام القضاء كانوا يتحسرون قبل هذه الأحداث،على إشارة أو بسمة مني وكانت تلاحقني عيونهم وآهاتهم في كل مرة ألوح لهم فيها في أروقة البلاط؟لقد كانوا بالنسبة لي مجرد أفراد في الحرس الملكي وأعاملهم كذلك.كنت أعلم أنهم يشتهونني ويفخر كل واحد منهم أياماً أمام أصحابه لو كلفته بأن يأتيني بحذاء السهرة من منزلي واليوم يريدون أخذي أمام العدالة وكأني أجرمت أوأرتكبت جناية بحقهم..أنه الحقد وغريزة الأنتقام الحيوانية هي التي تحرك هؤلاء الأوباش لأنهم لم يستطيعون نيلي من قبل.كانت تتحدث ويداها وجسمها يرتعشان تأثراً.قلت أرجوك حاولي أن تنسي هؤلاء الأوغاد فهم لايستحقون من فنانة عظيمة مثلك كل هذا الأهتمام.قالت هذا صحيح ولكني فقط كنت أريد أن أوضح لك كيف أن نكرات كهؤلاء يصبحون فجأة ذوي شأن عندما يميل بك الدهر،وأنا التي كانت تعاملهم بكل لطف وكرم.قلت بصوت خافت وأنا أخفض ناظري خشية أن تلاحظ فيهما لهيب الجوى،لنعود الى حديث عرش القلوب فهو أهم من هؤلاء. ضحكت بصوت رنان وقالت بدلع مبالغ به،تعرف أنت ملعون ياولد ولكن قبل ذلك قل لي هل بإمكانك أن تسدي لي خدمة صغيرة؟قلت وما هي؟أأمري...قالت أن تدلني على التلفون لأني يجب ان أتصل بواحدة من معارفي لأطمأنها،فأوصلتها للتلفون فقالت أبق جنبي،فأتصلت وتحدثت وطمأنت ثم ألتفتت لي قائلة بعد أن أغلقت بكفها فم سماعة التلفون هل تثق بي كما أثق بك؟فوجئت بالسؤال ودون إنتظار إجابتي قالت،لي مبلغاً من المال وجواز سفرمع هذه المرأة ولابد لي من الحصول عليهما وأنا لا أستطيع الذهاب لأخذهما لأني مراقبة وأنت الوحيد من يقدر فهل هذا ممكن فتكمل بذلك جميلك؟قلت لامانع عندي على أن تعطيني العنوان وصفة المرأة،ولكن أرجوك لاتفتحي الباب لأي كان أثناء غيابي قالت طبعاً أكيد،ثم عادت لتكلم المرأة وأخبرتها بقدومي ثم أعطتني العنوان فلبست ملابسي على عجل وأقفلت الأبواب من الخارج زيادة في الحيطة وخرجت للشارع العام وأخذت تاكسي متوجهاً لذلك العنوان الذي كان بعيداً عن منزلنا في الطرف الجنوبي من بغداد،في أحد أحيائها السكنية الراقية.وصلنا الدار فطلبت من سائق التاكسي أن يبقى بإنتظاري ثم ترجلت ووضعت يدي على زر جرس الفللا الفخمة المبنية على الطراز الغربي وأمامها حديقة واسعة ببساط من الحشيش الأخضر وتزينها في وسطها أرجوحة بيضاء. فتحت الباب الخشبية الداخلية وجائت،شبه مهرولة،فتاة شقراء ممتلئة قليلا ببيجاما وردية باهتة،فتحت المزلاج وقالت تفضل للداخل،أغلقت أنا الباب وسرت خلفها وهي تمشي بتؤدة أمامي ثم دخلت الدار التي كانت شبه مظلمة وباردة جدا.قالت تفضل هنا وهي تشيرلأريكة مريحة،ثم إختفت خارجة من باب الصالون.كانت الدارعلى مايبدو غير مسكونة سوى من الفتاة.لما تعودت عيني على الظلمة رأيت صالوناً فخماً تزين جدرانه صور ولوحات لعديد من الفنانات والفنانين وأخرى لشريفة بندر مع شخصيات رسمية وفنانين عرب و أجانب وعراقيين.عادت الفتاة تحمل حقيبة جلدية صغيرة وصينية فوقها قنينة كوكا كولا وكأس مملوء بمكعبات الثلج قالت،أنت عبدالرحمن أليس كذلك؟ قلت نعم قالت ولهفة على محيّاها ودمعة في مآقيها،كيف حالها؟ قلت بكل خير إطمئني قالت الحمد لله،ثم وضعت الحقيبة الصغيرة على الطاولة وقالت هذا مبلغ بخمسمائة دينار وجواز سفرها وهذا كل ما تملكه من مال هنا...أرجوك أن تساعدها في محنتها هذه ألله يخليك...قلت والنعاس يغالبني لبرودة الغرفة وظلمتها والمشروب البارد ومنظر بيجاما الفتاة وشعرها يهفهف أمامي بهواء المكيف،إطمأني سأبذل ما بوسعي،ثم نهضت بصعوبة فصافحتني بكف لم أرى في حياتي كفاً أطرى وأنعم منها،ثم قبل أن نخرج سلمتني حقيبة سفر متوسطة الحجم كانت موضوعة في المجاز قائلة هذه بعض الملابس التي قد تحتاجها شريفة خانم.خرجت أمامي مسرعة ومشت نحو باب الحديقة وأنحنت تفتح المزلاج وهي تلتفت لي باسمة مودعة بنظرات مترددة كأنما تود أن تعطيني موعداً أو تشجعني على البقاء معها.عندما توجهت للسيارة كان يقف بقرب سائق التاكسي رجلاً نحيفاً،بقميص نصف كم،أبتعد ما أن رآني متوجها للتاكسي. فتحت باب التاكسي واللاهف يلفح وجهي وألتفت أنظر بإتجاه باب الحديقة،كانت لاتزال واقفة خلفه مودعة.سار بنا التاكسي قليلا فقال السائق يبدو لي أنك ستسافر للإصطياف؟معك حق فحر بغداد لايحتمل والأحداث تجعل الواحد ينفجر ويبحث عن مكان يهرب إليه أليس كذلك؟قلت وأنا أتطلع اليه بريبة أخفيها،لا يا أسطى هذه حاجات أبي جئت آخذها له فهو مريض يرقد في المستشفى،فرد ببطئ وابتسامة خبيثة بدت تحت نظّارته الشمسية وشواربه السوداء الكثة،عفواً عن الفضول ولكن هل كان أبوك،ألله يشافيه طبعا،يسكن عند شريفة بندر؟أسقط في يدي ولم أعرف بماذا أجيبه فأدرت رأسي ناحية الشارع لأهرب من نظراته،فقال آسف لتدخلي في شؤونكم الخاصة ولكن أخبرني إلى أي مستشفى نتوجه؟قلت والأرتباك باد عليّ،إلى المستشفى الحكومي في باب المعظم.أنزلني سائق التكسي أمام بوابة المستشفى فأنتظرت إبتعاد سيارته تماماً عن الأنظار لآخذ تكسي ثاني وأتوجه للدار.كانت الساعة قد جاوزت الخامسة والنصف، استقبلتني بلهفة وفرحة،قائلة لقد أتعبتك وألله معي ولا أعرف كيف أجازيك، سلمتها حاجاتها وسألتني عن حال الفتاة قلت لها كل شئ بدا لي على ما يرام هناك قالت الحمد لله،والآن إسمح لي أن أذهب وأغير ملابسي فأنا ومنذ أيام بنفس هذا الفستان.قدتها لغرفة نوم في الطابق العلوي حيث يوجد حمام مرفق بها وأخبرتها أنه بامكانها أن تعتبرها غرفتها الخاصة ثم نزلت للصالون لأدخن سيجارة وأرتاح قليلاً من جملة أحداث هذا اليوم الطويل والمليئ بالمفاجئات.بعد حوالي النصف ساعة جائت شريفة،تلف رأسها بمنشفة وهي ترتدي قميص نوم طويل ورقيق،وجلست قبالتي على الكنبة واضعة ساق على الأخرى ثم أخرجت سيجارة أشعلتها بولاعة ذهبية وطلبت أن أفتح التلفزيون لترى مسيرة الأحداث. كانت تبكي وهي تتابع نشرة الأخبار والتقارير المتعلقة بمجريات الأمور.لم أفهم سبب بكائها وحزنها ففضلت أن أنسحب وأذهب للمطبخ لتحضير طعام العشاء. بعد برهة لحقت بي وهي تقول أنتهت حياتي هنا،كل شيئ ينهارمن حولي،كم أتمنى لو كنت قد مت قبل أن أرى ماحدث.قلت لها هوني عليك يا سيدتي غداً تهبط حدة الأحداث وتعود الأمور لمجاريها،قالت ولكن الذين ذهبوا لن يعودوا...ويا ليتهم أخذوني معهم،وطفقت تبكي بنحيب حارق من جديد،قلت لها لمذا كل هذا الحزن والأسى؟.أخذت سيجارة من علبتي ونظرت إليّ وقالت هل لديك شيئ من المشروب،ويسكي أو بيرة أو أي شيئ؟ قلت للأسف لا...فقامت وصعدت للغرفة ورجعت وبيدها ورقة بخمسة دنانير،أو ما نسميه نحن وقتها نوط أزرق أبو الخمسة والذي كان له آنذاك طنة ورنة،وتوسلت بي أن أذهب وأشتري لها قنينة ويسكي وبيرة قلت طيب ولكن من عندي فحلفت عليّ أن آخذ النوط.أخذت دراجتي الهوائية وعلاّقة وأنطلقت لأن محل بائع المشروبات الروحية بعيد نسبياً فيما يلي جسر الصرافية من جهة الرصافة.عند عودتي بعد ساعة تقريبا وجدتها قد أكملت تهيئة الطعام والسلطات فجلسنا وأكلنا ثم أنتقلنا بعدها للصالون لإكمال السهرة بعد أن رتبت مستلزمات المشروب من مزة وثلج.قالت،ألا تشرب معي؟ قلت طيب أشرب بيرة،قالت وهي تملأ كأسي أنت لوعرفت قصتي لشاب شعر رأسك في الحال فأنا عشت حياة مرة وحلوة ولكن مرارتها وقساوتها كانت أكثر بكثير من حلاوتها فأنا ولدت أمرأة ولم أعرف أبداً طعم الطفولة وكنت يتيمة بالرغم من وجود الوالدين.لقد وجدت نفسي في عائلة تحترف الفن وهو للناظر من بعيد شيئ جميل ولكن الثمن غالي، فالأم غائبة لاهية والأب سكير مقامر وأنا ضائعة بين الأثنين،دارنا ليست بدار بل قل ناد ليلي،أو فندق خاص.زوار وأكل وشرب ومجون وقمار وعراك كل ليلة.أمي تكره أبي وتتمنى موته وهو لايطيق رؤيتها، يخاصمها نهاراً ويطلب ودها ليلاً لتسعفه ببضعة دنانير ليضعها فورا على محرقة القمار،وانتهى الأمر بالطلاق وما لبث أبي،أن مرض ومات.أما أنا وبسبب وجودي في هذا الجو الموبوء فلقد سبقت عمري وفهمت ما يفهمه الناس في عمر الشباب،كنت أرى ما يدور حولي من موبقات سواء في الدارأو في الملاهي التي تعمل فيها أمي وتصطحبني معها إليها أحياناً دون أن تقدر خطورة ذلك وتأثيره على نفسيتي.نعم كل شيئ بدأ معي مبكراً،كنت أقلد أمي في كل شيئ في مشيتها ورقصها وغناءها وكانت تضحك وتشجعني وكذلك أصحابها حتى أني بدأت أدخن سرا منذ سن الثامنة وقد تدهش لو علمت بأني عرفت الجنس في السابعة من عمري...لاليس تماما .لقد كان هو موسيقي من أصدقاء أمي المقربين يزورنا من حين لآخر ويغتنم فرص إنشغال أمي خارج الدار أو مجرد ابتعادها لمداعبتي وملامستي، ويحثني أيضا على مداعبته،وكان يعطيني مقابل ذلك هدايا صغيرة وحلوى أجنبية.وجائنا يوماً وأمي غائبة عند الدكتور وكان عمري وقتها أحد عشرعاما فأخذ يقبلني ويلامسني وكنا قد تعودنا ذلك ولكن هذه المرة ذهب بعيدا... في لعبه...ولم أستطع لضعفي وحيرتي أيقاف هذا الثور ومنعه من ...فصرخت بأنفاس متهدجة وكل جسمي يرتعش من شدة الخوف والألم... وكانت تلك هي لحظة دخول أمي الدار فهرعت لغرفة نومها لتجده جاثماً فوقي فحاولت أن تسحبه وهي تصرخ وتستغيث دون جدوى،وما تركني حتى... وأرتمى جانباً كالخنزير المذبوح يشخر صاحياً،وأمي تبكي وتمسح الدم والأذى عني مرة،ومرة أخرى تضربه على رأسه بشنطتها وبحذائها،وأنتهت المسألة بعد حين بأن عقد عليّ وتزوجني وأنا الطفلة ذات الأثني عشرعاماً وكان يكبرني بأربعين سنة.لم يكن زواجاً وأنما غطاءاً لعلاقته الجنسية بي.كنت أنا في حيرة من أمري معه فتارة أرى فيه أباً،فهو يهتم بي ويأتي لي بالهدايا والملابس،وأخرى أشعر نحوه بالكراهية والتقززمن أفعاله وشبقه الحيواني، بالرغم من قبولي أحياناً بمداعباته وشغفه بجسدي الصغير،الشيئ الذي كان يشعرني بأني أمرأة ناضجة ومرغوبة،رغم أني كنت طفلة لم تكتمل مفاتنها بعد.لقد تفتح جسدي وبسرعة عجيبة وأصبحت كاملة الأنوثة بعد سنتين فقط وبدأت عيون الشبّان والرجال تلتهمني أينما توجهت وكنت شديدة التمتع والفخر برؤيتهم يتلوعون ويتحسرون شوقاً،ثم بدأت المغريات والعروض تنهال علي من كل جانب فأشتدت غيرة زوجي وأشتد إهمالي وأحتقاري له نكاية به وأنتقاماً منه،فلم أعد أرى فيه أباً ولم يعد لي حاجة بعطفه الزائف ولا لهداياه التافهة وأنتهى الأمر بالطلاق.
يتبع



#عبدالرحمن_حسن_الصباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقاء مع سيدة النهر
- رسالة في أصل وفصل الكلمات
- الخرافة أقوى من العلم
- الأكتشاف الخطير
- كنز الخليفة المستعصم بالله
- هامبرغر وساكسفون
- جاري مجرم
- المترف والنشّال
- الفخ الياباني
- فصخ
- سياحة لأيران على عهد الشاه محمد رضا بهلوي
- في السعادة والسعدان
- خصومة قديمة
- في الأفق يلوح طوفان جارف؟
- أخطاء شائعة وملاحظات على هامش الحضارة السومرية
- في نشأة الموسيقى وعلاقتها باللغة [نظرية في أصل النغمات الرئي ...
- كركوك أسم سومري


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرحمن حسن الصباغ - غانية البلاط