أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عيسى بن ضيف الله حداد - التوراة في ظل معتنقيها















المزيد.....


التوراة في ظل معتنقيها


عيسى بن ضيف الله حداد

الحوار المتمدن-العدد: 6300 - 2019 / 7 / 24 - 19:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الانبثاق التوراتي
في المنظور الكهنوتي – الرسمي
" تعلن لجنة الكتاب المقدس البابوية (1948) التي تعتبر أهم مؤسسة دينية تعتمد قدسية هذا الكتاب " أنه يوجد ازدياد تدريجي في الشرائع الموسويّة سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية، يظهر في الروايات التاريخية..
تقديم الكتاب المقدس ص 4، إصدار دار المشرق.

الكتاب والمقدس
" وُجدت التوراة في السماء قبل خلق الكون " (التلمودMidrash Raba 1,)

منذ القدم وكشأن مفروغ منه، تم اعتبار الكتاب المقدس العبري من قبل مريديه، من ذات الوحي المقدس.. أوحى به الله مباشرة إلى عدد كبير من الحكماء والأنبياء والكهنة من بني إسرائيل.. تم النظر إلى حوادثه كتاريخ واقعي في الزمان والمكان المحدد.. - لم يعانق قط هذا المعتقد لمن انضوى في ظله أي ريب...!!
على وقع من ذلك افترضت المراجع الدينية الرسمية اليهودية والمسيحية، بأن كتب موسى الخمسة (التوراة) قد أنزلت إليه (موسى)، أنجز كتابتها بنفسه قبيل موته مباشرة، وهو على جبل نيبو- كما يروي سفر التثنية.
أما كتب أسفار يشوع والقضاة وصموئيل اعتبرت جميعها سجلات مقدسة، احتفظ بها صموئيل النبي في شيلوة. ونُظر إلى سفر الملوك الأول والثاني كمدونين بقلم أرميا النبي.
على ذات المنوال ساد الاعتقاد بأن الملك داود هو مؤلف سفر المزامير، وأن سليمان مؤلف سفر الأمثال ونشيد الإنشاد..
والسؤال: أين نحن في يومنا من هذه المآتي ؟
في البداية، نتناول رؤية اليهودية الرسمية لانبثاق كتابها المؤسس لها، أي توراتها..- ثم نعرج بعيد ذلك على رؤية المسيحية الرسمية لها، وفيما تلى ستتابع خطانا مسارها...؟

1
في المنظور الكهنوتي اليهودي
في اللغة العبرية لا توجد كلمة تقابل " الوحي"، وحين استدعت الضرورة فيما يتعلق بتلقي توراة موسى في سيناء استعملت صيغة تقديم التوراة "Don de la Torah " Matan Torah " بالأحرى التسليم يد بيد. - على ذات المنحى اعتبر التلمود " أن التوراة سلمت لفافة بعد لفافة ".
تدعم هذه المفردة اللغوية المقولة الخاصة بوسم الإله التوراتي بخصائص جسدية بشرية، إذ من الاستحالة بمكان عدم توفر اللغة العبرية على مفردات لها سمة مجردة تغطي صلة التواصل بين الإله والناس.
مهما يكن من أمر، توحي هذه الظاهرة بطبيعتها عن بدائية هذا اللاهوت، ذلك لكونه قد أتى على نمط الأنماط الأولية لتجليّات الذات الإلهية في المخيال البشري..
تشكل التوراة،حسب المنظور الكهنوتي اليهودي، النواة المركزية لمجمل الكتاب المقدس العبري، بينما لا تكون " الكتابات الأخرى سوى صياغات جديدة لناموس موسى. ينطبق عليها ما أنطبق على جوهرها، أي التوراة..
على مدى هذا المنظور تنبثق التوراة من الذات الإلهية.. تجلت هذه الرؤية في صياغات متعددة في سياقات تاريخية مختلفة، وإن كانت بحقيقتها متحدة في جوهرها، من بينها على سبيل المثال: ما تعبر عنه الرؤية اللاهوتية للمنظومة الكهنوتية العبرية المثبتة في النصوص التلمودية، إذ تعتبر بأن " وُجدت التوراة في السماء قبل
خلق الكون "، وكانت " في صدر الله أو عقله "..
في مصدر آخر، يعلن ذات المنظور: بأن لا يمكن فهم الناموس (التوراة) بدون الميثاق أي عقد العهد المبرم بين اليهوه وإبراهيم، كما ظهر في تكوين (15/18) " ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً. لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات " .. وما الناموس (الشريعة) سوى التأكيد والتجديد لميثاق ذاك العهد العتيد.
يذكر القاموس الموسوعي لليهودية، أن هذه الرؤية تستمد جذورها من نصوص يشوبها الغموض، وردت في الكتاب المقدس العبري: ففي سفر الأمثال الإصحاح (8/22-31): الرب قناني أول طريقه منذ القدم، مُسحت منذ أوائل الأرض.. فطوبى للذين يحفظون طرقي ".
بيد أن هذا النص المتمتع بماهية عمومية مبهمة، لا يخص التوراة تحديداً، وإنما قد يعني نفسه أي الحكمة بحد ذاتها...؟
بصدد سفر الأمثال العائد- حسب المنظور الرسمي- إلى الملك سليمان، تعلن عنه الترجمة المسكونية للكتاب المقدس: يعود هذا السفر إلى عصر ازدهار هذا النمط من الأدب (أدب الحكمة) في الشرق القديم، من حيث قد وُجد له مماثلات في أدبيات السومريين وآشور وبابل والكنعانيين والحثيين والمصريين..
تم جمع سفر الأمثال من قبل الكتبة، على مراحل عدة.. لعل كتبة سليمان ومن لف لفهم رغبوا في تمجيده، من خلال ربط الحكمة به (حكمة سليمان)، أو ربما تمجيد الحكمة بصفتها الكليّة من خلال ربطها به.
التلمود يغرف في المزيد– على هذا الصعيد عمل كتبة التلمود، على تأجيج وشحن البعد اللاهوتي للنص- في أي نص أرادوه.. وأسبغوا عليه أبعاداً أخرى، ليست من أصوله الأولى.
ثمة نصوص أخرى من ذات المحتوى، يستند عليها كتبة التلمود في مزاعمهم، يستمدونها هذه المرة من التوراة ذاتها من سفر اللاويين)3/17): " دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم،" ومن سفر التثنية (12/1) " هذه الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوا بها في الأرض ".
بيد أنه لم يتم في هذين النصين (اللاويين والتثنية)، الإعلان عن كون التوراة من مكتبة السماء قبل الخلق، إنما عبّر النصان عن دعوتهما لسيادة نواميس التوراة عبر العصور المتتالية...!!
على هذا المنحى- يكون التلمود كدأبه، قد عمد إلى تأجيج بُعد الأصل اللاهوتي للنص التوراتي.
لم يقف كتبة التلمود عند تلك الحدود، في إضافاتهم وتفسيراتهم المغرقة في اللاهوت، إنما راحوا يغالون في غمر النص بذات المقدس: ففي الميدراش (الجذر القديم للتلمود)، تُوصف التوراة أنها قد " مثلت مخطط عمل مرجعي استعان به الله حين الخلق"، بالأحرى كمثال للتخطيط الهندسي للخلق الكوني.
الله والتوراة لدى التلمود: يتعالى شأن التوراة لدى التلمود ليصبح
مصدراً لثقافة الرب بذاته.. يذكر (التلمود): إن الرب (يهوه) يقضي يومياً ثلاث ساعات في قراءة التوراة، وثلاث ساعات لحكم العالم، ويفكر حينها في إفناء العالم، وثلاث ساعات يوزع الأرزاق والخيرات على الكائنات، ربما يستشير الحاخامات في حل بعض القضايا على الأرض، عندما يعجز عن حلها في السماء..
وقد جاء إن إرادة الرب لا تعلوا على إرادة الحاخامات، وحدث أن الرب " يهوه " اختلف ذات مرة، مع بعض الحاخامات حول بعض القضايا، فالتجأ الرب "يهوه " والحاخام الذي اختلف معه للحكم من بينهما، إلى أحد الحاخامات الذي حكم على الرب " يهوه" أن يقدم اعتذاره للحاخامات لأنه قد أخطأ.. لم يتوان الرب قط عن قضاء بعض الليل بتعلم التلمود مع زملائه من الملائكة والشياطين..
الله والتوراة: نظر الله مليّا في التوراة حين خلق العالم -[كما لو كانت التوراة مخلوقة بذاتها.!!].. يستند الله في أحكامه على قواعد التوراة [بمثابة دستور...!!]..
والسماء يتواصلان بواسطة التوراة التي تمثل النموذج.. يخضع الإله والملائكة للتوراة كحال الحكماء... يعتمد الإله على توراة الأحبار بصيغتها المعتمدة من قبلهم.. ويسيّر العالم على مشيئتها...
ليس من عجب هذا التمادي في الغلو.. أليست التوراة في عرفهم " هي أداة الخالق، بها ولأجلها خلق الكون.. وإنها أقدم من الكون وإنها أسمى فكرة وروح حية في العالم "..
على نسق النهج التلمودي، يأخذ تيار المتصوفة اليهودي"بنظرية الوجود السابق للتوراة (قبل الخلق)، وربطها مع النظرية العامة للعالم النوراني، حيث اعتبروا " أن التوراة هي إحدى السمات الأولية للإله ".
تزعم مدرسة القبالة الصوفية اليهودية " أن التوراة قد تكونت بدءاً من اسم الله أي أن حروفها يمكن إعادة ترتيبها لتكون لواحق لأسماء إلهية ".. وعندما يرغب بعض الحاخامات أن يتواضع ويتكلم بلغة عصرية، كالحاخام بلانت، يعلن أن التوراة هي التاريخ اليهودي يتمازج بتاريخ الله.!!
الله والتوراة واليهود: اليهودي الصادق هو صورة الله على الأرض.. لليهود رسالة أساسية تتمثل بدراسة التوراة.. ليست هذه الرسالة سوى ترجمة لإرادة الإله.. تمثل هذه الدراسة فريضة شأنها شأن الصلاة وفروض التعبد الأخرى.. تمتلك الدراسة هذه بعداً فكرياً وعملياً معاً، يتمثل في تطهير شعب إسرائيل، ومن ثم لتعم الكون بكليته..
إن كانت التوراة هي طريق الخلاص فإن تناسيها هو ما أدى إلى دمار الهيكل الأول والثاني، على يد البابليين والرومان ومن ثم الشتات.. عندما تمسك اليهود في التوراة شهدوا الأمن والسلام والخلاص.. (متى؟)
تعتمد جل هذه المقولات على ما يشبه الفتوى التي أطلقها أحدهم عبر قوله: موسى معلمنا، ونحن من حيث كوننا على جدارة بتفهم تعاليمه، سيكون علينا متابعة السير في طريقه وانتهاج طريقته..
هل أراد صاحب الفتوى الإيحاء باكتساب، حق الابتكار في ذات النهج.. أي حق الابتكار المتجدد في خط التوراة...!!
والسؤال: ألا تعني هذه الأقوال فتح المدى واسعاً لفريق الأحبار للتصرف بما يريدون.. سواء أكان الأمر في التوراة المكتوبة، أو المحكية. وما التوراة بحقيقتها سوى شقيها المكتوبة والشفوية.. – كما سنرى..
الله والأحبار: يحكم الإله في القضايا وفق قواعد التوراة تماماً كما يفعل الأحبار في محاكمهم.. ثمة تماثل بين الأحبار والإله.. يصدر الأحبار قراراتهم بعد دراسة التوراة والله كذلك.. الله في دراسته للتوراة يستند على ذات القواعد التي اعتمدها الربانيون- الأحبار – وذلك على مستوى الفهم والتأويل والتوصل إلى التفسيرات والقرارات.. الله ذاته لا يخرج عن قرارات الربانيين (جمع رابي، حبر).
الله كناطق رسمي للأحبار: في نص تلمودي شهير يظهر الرب صارخاً " أبنائي تغلبوا علي " " أبنائي تغلبوا علي- ورددها مرتين " "
Mes enfants m ont vaincu ..
ألا يبدو في ذاك المشهد، كما لو كان الله هو الناطق الرسمي لشأن الأحبار، من حيث كونه معتمِداً على التوراة وناظراً فيها، وفي أثوابها المتجددة، المصنوعة قبلاً وأبداً من قلم الكهان، على مر الزمان..
الأحبار كدور ووظيفة وشأن، ثمة قرائن عدة تصب في تعظيم دور الهيئة الحبرية بشأن تشكل الأدبيات المقدسة - لننظر عن كثب في الآتي: تلقى موسى التوراة المكتوبة والشفوية في سيناء، نقل هذه وتلك إلى يشوع بن نون، ومنه إلى الشيوخ، ومن الشيوخ إلى الأنبياء، ومنهم إلى مجمع عزرا بعيد العودة من بابل، ومن الأخير إلى الأحبار.. (تلمود، Avot 1)
يعلمنا هذا القول الشيء الكثير، إذ يشير إلى المصب الأخير، المتمثل في كون الأحبار همُ وهم بذاتهم، أصحاب الشأن الخطير في جملة ما حدث..
من المؤكد بكون هؤلاء الأحبار، من صنع هذه المقولة بتسلسلها وتفاصيلها..
ربما يسهل أمر المغالطة على هذا القول، فيما لو كانت المسألة قد اكتفت وتحددت بمجرد نقل وتنقل، بيد أنها قد ارتدت حلةً أخرى جعلت منها تصرّح، بل وتصرخ بأعلى صوتها، بما يتفوق عليه دلالةً وشأناً.. وكيف؟ لنرى، ما يراه الأحبار في توراتهم وفي ذواتهم.. - (علاوة على ما سبق)
نظرية التوراة المزدوجة المدونّة والشُفوية - لا تقف العقيدة الرسمية لليهودية عند حدود جعل التوراة سابقة للخلق الكوني، أي أنها من أرشيف السماء، إنما قد تبنت وجود توراتين منزلتين معاً: الأولى، هي التوراة المدونة المفترضة في كونها من هبة السماء إلى موسى في سيناء..
تتمثل الثانية، بالتوراة المرويّة التي تُعزى بدورها إلى مأثورات موسى، حيث يُزعم بكونه قد تلقاها بذات الوقت من السماء في سيناء. ونقلها بدوره قبل مماته مع التوراة المدوّنة إلى يشوع بن نون، خليفته الأول في القيادة والنبوة.
التوراة المكتوبة والشفوية في صلة وثيقة: لا تُفهم التوراة الأولى إلا على ضوء الثانية.. كلاهما موحى به.. صنوان لا ينفصلان. وضعت التوراة من حيث الأساس لتُستكمل من قبل تأويلات الحكماء (أي الأحبار)، عبر توالي الأزمنة (حتى متى؟).. -[لم يغلق الباب..!!] وما تلبث أن تتجدد بلا انقطاع عبر الدراسة لدى كل جيل.. كل ما هو جديد ومستشف من قبل أحد الأحبار يشكل جزءاً لا يتجزأ من التوراة الموحى بها إلى موسى.. - كل تعمق في النص من قبل الأحبار يتم اعتباره كوحي متجددٍ من قبل الرب..
على هذا المنوال، تحلّى التلمود بقيمة أكبر من لفائف التوراة (المكتوبة)، على صعيد الممارسة والواقع، على الأقل في بعض الأزمنة.. لعله هو ما يمثل التوراة الحيّة والمتجددة.. (كما أشرنا آنفاً)
وفقاً للعقيدة اليهودية- التلمودية السائدة، لا يمكن استيعاب التوراة المدوّنة، إلا على ضوء قرينتها التوراة المحكيّة.
يغالي التلمود في تقديس التوراة الشفويّة (Yoma 28b) حيث يعتبرها سابقة في وجودها المنزل للتوراة المدوّنة، اعتماداً على مقولة سفر التكوين26/5 " من أجل أنّ إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي ".
الجدير بالبيان: بكون هذه المقاربات التلمودية من ِشأنها تتويج التلمود ذاته صفة القدسية كالتوراة تماماً، إن لم يكن قد تجاوزها قدسياً بسبب سبقه الزمني- حسب الزعم التلمودي..
وما التلمود بمصدره سوى تلك التوراة المحكية.. التي غدت مشرعة على مصراعيها، من حيث قد غدا من المستطاع وضع كل ما تجود به قرائح الحكماء على عاتق تلك التوراة المحكية..
بيد أن للمسألة هذه وجه آخر يثقل كاهلها، إذ تعلن الأدبيات الدينية اليهودية عن وجود تلمودين: الأول التلمود الفلسطيني وهو الأقصر، الثاني التلمود البابلي وهو الأطول (ما ينيف ثلاثين مجلداً).. فأي منهما يا ترى مَن يتلقى سمة التمثيل الشرعي للتوراة المحكيّة...؟
على هذا النحو يظهر لنا: أن مفهوم التوراة الشفوية، قد فتح المجال للمدرسة الحبرية كي تصبح السيدة على الجماعة العبرية، فمن خلالها غدا الباب واسعاً أمامها لإضافة ما شاءت وارتأت..
على هذا النحو يتعالى شأن التلمود في قدسيته، ليصبح بمثابة التوراة الجديدة..
في مجرى السباق عبر هذا السياق، راحت بعض المدارس التلمودية تسعى في مذهب المغالاة، إذ رأت أن التلمود " من كلمات الله الأزلية، وهو من صياغة القوانين التي أوحى بها الله إلى موسى شفوياً. علمّها وسلمّها موسى بدوره، لمن أتى بعده.. و تتوازى في جوهرها ووجوب طاعتها، على نسق ما أتى في الكتاب المقدس ذاته..
برز فريق من أحبار اليهود ليجعل من " المشنا " مرجعاً أقوى حجة من الكتاب المقدس، لكونها صورة معدلة من الشريعة جاءت متأخرة عنها. وقد بدا فيها نبذة من قرارات الأحبار متعارضة تعارضاً بيناً وصريحاً مع قوانين أسفار موسى الخمسة، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها.
على هذا المدى تعالى شأن التلمود في العصور الوسطى، إذ عكف يهود ألمانيا وفرنسا على دراسة التلمود، بأكثر مما يدرسون الكتاب المقدس نفسه..
وفق هذا النسق، دخلت اليهودية الحلولية التصوفية على الخط، وكانت قد " تبلوّرت في مرحلة الشتات اليهودي، وتمادت في تفشيها عبر كل المفاهيم والتصوّرات اليهودية، إذ اعتبرت، أن الثابت لديها أصبح هو المتغير (التوراة هي ثبات، ومتغيرة في التلمود)، والمتغير يتحول بدوره إلى حالة ثبات - بذا يشكل التلمود حالة أكثر قدسية وثباتاً من التوراة.. ولمّا المتغير يصبح ذات يوٍم ثابتاً، يظهر متغير آخر.. وهكذا دواليك، مع دواليب التحوّل المتغير إلى الثابت..
على هذا النحو يتمتع التلمود عبر تلمودييهم إلى التجديد.. ولما كانت التوراة تمثل البنية أو جسد الدين اليهودي- يكون التلمود قد مثل روح العقيدة اليهودية.
وأخيراً تم إغلاق باب السماء بآخر الأنبياء: [ وظاهرة احتكار النبوة ] " السماء أغلقت أبوابها، والروح القدس لن تتواصل مع أي كان، بعد حلقة الأنبياء المتأخرين، حجي وزكريا وملاخي بانتظار عصر الخلاص، حيث تفتح أبوابها من جديد.
هل أراد القرار التلمودي قطع الطريق على الأنبياء من ذوي الاتجاهات والأقوام الأخرى، أو طي صفحة الأدبيات النبوية التي أنتجتها التيارات المرفوضة من قبل الحزب الحبري التلمودي، كالتيار العبري الإغريقي ومجموعة قمران المعادية في نهجها لمنظومة الهيكل الرسمي...؟
الجدير بالبيان، أن هذه التيارات المشار إليها، قد جاءت كحصيلة تفاعل مع الآخر، ونهجاً أولياً للخروج من دائرة المنظور اللاهوتي القبلي الحبري العبري. كما تم النظر إليها- من قبل بعض المؤرخين- على صلة ما، في مسار التمهيد التاريخي لظهور المسيحية الكونية...؟

تقليد حكماء التلمود هالات التقديس: لم تكتف المدرسة التلمودية بمجرد تصعيد حدة درجة الحرارة اللاهوتية للتوراة، وزج التلمود في موازاتها تقديساً ومنزلةً، بل عكفت لتقلد رموزها سمات مقدسة تبز بها الأنبياء.. من حيث قد ارتدوا جميعاً عباءة التقديس، كهليل ويوحانان بن زكاي، وأكيفا بن يوسف وغيرهم كذلك..
كما سنرى: تنطع هؤلاء بدور واضح في صياغة الأدبيات العبرية المقدسة وضبطها وقوننتها (CANONISATION أي إصدار قرار تقديسها)، بما فيها التوراة ذاتها..
على هذا المنوال يأتي السؤال: عندما يعلمنا هذا التلمود أن التوراة المرويّة هي صنو التوراة المدونّة في درجة قداستها، وهي هي في التلمود ذاته (أي المروية).. وتكون التوراة المروية، على صعيد الواقع من صنع حكماء التلمود..
ألا يشكّل مثل هذا الاعتراف في نهاية المطاف، مؤشراً تاريخياً على دورٍ واضح لحكماء التلمود في حياكة التوراة المدونة ذاتها...؟
ثم ألا يصبح المجني عليه موسى بمثابة النص الغائب (أو ربما المغيّب)، أو بالأحرى المشجب الذي يعلق عليه كل ما هب ودب من يراع الحكماء...! - هو ذا ما يرشدنا إليه التاريخ الواقعي التاريخ الحقيقي، لتشكّل وتطوّر الأدب المقدس (العبري) الحبري..
من المفارقات المثيرة ذات الصلة بالأدبيات التلمودية، تلك التي تنص عليها دائرة المعارف العالمية، حيث تذكر فيها " لمدة
طويلة فضل فيها اليهود التلمود على عهدهم القديم..
الله والتوراة بين فكي التلمود والأحبار: في ذات المشهد، ألا تصبح التوراة المكتوبة ذاتها والله معها، كما لو وقعت ووقع بين فكي التلمود والأحبار.!! - ها هو التلمود، يتصدّر رأس الحكمة، وراح يسعى متألقاً، فوق هامة لفائف التوراة (التوراة المكتوبة).. أليس التلمود هو الممثل الفعلي للتوراة الحيّة! --ومَن صنع التلمود سوى قلم الأحبار...!!!
وأرى، بعدما غدت الساحة ضيقة إزاء التوراة المكتوبة بعد زمن قمران.. جاء دور التوراة المحكية.. لتفتح الأبواب على وسعها.. لوضع ما يريدون..- وهكذا كان..
ولنعلم، أننا إزاء كتاب لاهوتي - مقدس موحى به - ولسنا قطعاً أمام كتاب موسوعي وضعي دنيوي..
لو كان الأمر سوى ذلك، لأصبح لهذا الشأن مغزى آخر.



#عيسى_بن_ضيف_الله_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية
- رؤية في الفضاء العربي
- - هل يمكن للاسلام ان يتماشى ويتعايش مع دولة علمانية -
- مقاربة مختزلة لإشكالية عدم التدوين في التاريخ العربي القديم ...
- مقاربة أولية مع إشكالية تدفق اللاجئين السوريين إلى البلدان ا ...
- مقاربة أولية في الذاكرة الجمعية
- المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة ودورها، والعلاقة مع الأحز ...
- العلمانية والإسلام


المزيد.....




- انتشر بسرعة عبر نظام التهوية.. لحظة إنقاذ كلاب من منتجع للحي ...
- بيان للجيش الإسرائيلي عن تقارير تنفيذه إعدامات ميدانية واكتش ...
- المغرب.. شخص يهدد بحرق جسده بعد تسلقه عمودا كهربائيا
- أبو عبيدة: إسرائيل تحاول إيهام العالم بأنها قضت على كل فصائل ...
- 16 قتيلا على الأقل و28 مفقودا إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة ...
- الأسد يصدر قانونا بشأن وزارة الإعلام السورية
- هل ترسم الصواريخ الإيرانية ومسيرات الرد الإسرائيلي قواعد اشت ...
- استقالة حاليفا.. كرة ثلج تتدحرج في الجيش الإسرائيلي
- تساؤلات بشأن عمل جهاز الخدمة السرية.. ماذا سيحدث لو تم سجن ت ...
- بعد تقارير عن نقله.. قطر تعلن موقفها من بقاء مكتب حماس في ال ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عيسى بن ضيف الله حداد - التوراة في ظل معتنقيها