أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - ماذا تنتظر؟














المزيد.....

ماذا تنتظر؟


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 6279 - 2019 / 7 / 3 - 22:18
المحور: الادب والفن
    


ماذا تنتظر؟
=======

لا أحبُّ الانتظار. لكنني أنتظر. أنتَ أيضًا تنتظر. كلُّنا ينتظر. الإنسانُ بوجه عام يحيا حال انتظار دائمة لشيء ما. إما ينتظرُ شيئًا ماديًّا مثل رسالة، كتاب، حبيب غائب، نقود، ابن ضالّ، أو حتى ينتظر أن يرفعَ الطعام من على الموقد. أو ينتظر شيئًا معنويًّا مثل: لقاء، سفر، ترقية، نجاح، عدالة، ميلاد أو حتى موت. وإن زعمت عزيزي القارئ أنكَ الآن (في هذه اللحظة تحديدًا) لا تنتظر شيئًا، فأنت واهم. فأنت تنتظر أن ينتهي هذا المقال لتعرف عمَّ سيُسفر. وإن كنت لا تنتظرُ شيئًا بالفعل، فأنت في الحقيقة تنتظرُ أن تنتظرَ شيئًا. أي تنتظرُ "الانتظارَ". جميعُ الأحياء ينتظرون شيئًا ما. الموتى فقط لا ينتظرون. أحقا؟ مَن يدري؟ ربما ينتظرون.
حالُ الانتظار والترقّب تلك، هي دليلُنا على أننا نحيا. وهي ما يمنحنا الشغفَ بالأشياء. أو حتى الرهبةَ منها. والشغفُ والرهبةُ والتوجّسُ والقلقُ والترقّب كلها مشاعرُ إنسانية وصحيّة وضرورية من أجل انتظام الحياة وجوديًّا، على مستوى الروح؛ وبيولوجيًّا على مستوى الجسد. وبينما يمارسُ البشرُ تفاصيل حياتهم وهم ينتظرون، نجد أن هناك بشرًا آخرين يؤجلون حياتهم انتظارًا لهذا الذي سوف يأتي. أو لا يأتي. هناك من يرهنون أعمارهم ولا يفعلون شيئًا إلا الانتظار، إن كان الانتظارُ شيئًا يُفعل.
عبّر عن هؤلاء البشر الكاتب المسرحي الأيرلندي "صمويل بيكيت" في مسرحيته الفاتنة "في انتظار جودو"، التي صُنِّفت نقديًّا ضمن مسرح العبث أو اللامعقول أو Absurd. رجلان لا يجمع بينهما أيُّ شيء سوى أنهما ينتظران شخصًا ما اسمه "جودو" سوف يحلُّ لهما كل أزماتهما. لن نعرف أبدًا طبيعة تلك الأزمات، ولا كيف سيحلها جودو، ولا مدى صلاحيات ذلك الجودو الذي ليس إلا شخصية افتراضية لا تطأ خشبة المسرح أبدًا، ولن تظهر للجمهور، ولن نعرف عنه أي شيء إلا اسمه الذي يتكرر على لساني الشخصين المنتظرين: استراجون وفلاديمير، اللذيْن ينتظرانه منذ نصف قرن دون يأس ودون ملل. لا، ثمة ملل ينتابهما بين الحين والحين لكنهما يتحايلان عليه بثرثرة مفككة تنحو نحوًا سرياليًّا كوميديًّا. وهو أجمل ما يميز أدب "بيكيت"، من حيث تصدّع البنية وعبثية الحوار وانهيار هيكل الحبكة الدرامية. إذ لا حبكة أصلا ولا دراما تسير في خط متنامٍ تصاعديّ شأن المسرح الأرسطيّ المعتاد. بل ينحو "الحكي" نحوا دائريا "عبثيًّا" مفرّغا لا يؤدي إلى معنى. مع مراعاة أن "اللامعنى" هو في ذاته "معنى" دون شكّ. ومن هنا كان مُسمى "مسرح العبث". لكن الفكرة من وراءه عميقة على المستوى الفنيّ والمضمونيّ على السواء. إذ تشير إلى عجز اللغة، كلّ لغة، عن التعبير الكامل الحقيقي عما يمور داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر.
يأتي الرجلان إذًا كل يوم، منذ خمسين عامًا من مطلع الشمس وحتى غروبها، إلى ذات البقعة الجرداء، إلا من شجرة يفكران كثيرًا في شنق نفسيهما عليها ولا ينفذان قرارهما أبدًا. يثرثران بتوافه الكلام، وينتظران. يسأل أحدهما الآخر: ماذا نفعل الآن؟ فيجيب الآخر: ننتظر. / هيا نمضي! / لا نستطيع! / لماذا؟ / لأننا ننتظر جودو/ آه. / إنه لم يقل إنه سوف يأتي على وجه اليقين ./ وإذا لم يأت اليوم؟ / سوف نحضر إلى هنا في الغد/ . ثم بعد غد.
عشرات المدلولات والرموز يمكننا أن نُحِلّها محلّ جودو المنقذ المُخلِّص المنتظَر أبدًا. حتى وإن خلا السرد من أي دليل على وجوده اللهم عدا الغلام الذي يأتي ليخبر المنتظريْن أن جودو قادمٌ غدًا. هذا الغد لا يأتي بدوره أبدًا. على أن الانتظار تحوّل إلى هدف وحياة. لا حياة خارجها. (رغم أنهما عاشا نصف قرن دون جودو!).
يختلف هذا اللون من الانتظار السلبي الذي طرحه بيكيت عن الانتظار الذي طرحه "قسطنطين كفافيس" في قصيدة "في انتظار البرابرة". ليس وحسب في كون "البرابرة" عدوًا مخيفًا عكس "جودو" رمز الخلاص. لكن الأهم هو في اختلاف طبيعة الانتظار ذاته وهو ما يهمنا هنا. انتظار استراجون وفلاديمير سلبيّ، فيما انتظار سكان المدينة إيجابيّ وإن لم يخل من كوميديا وعبث أيضًا. القومُ محتشدون في الأسواق، ومجلس الشيوخ توقف عن العمل مترقبًا وصول البرابرة، والإمبراطور صحا من نومه مبكرا على غير عادته وارتدى أجمل ثيابه وازدان القناصل والجند بالصولجانات وتقلّدوا الجواهر والذهب. لماذا؟ لأن البرابرة قادمون اليوم. الكل خائف ومرتعب والحكومة تتأهب لهذا العدو الشرس منتويةً أن تسلّم إليه القيادة كاملةً دون قيد أو شرط. وفجأة تكتسي الوجوه بالوجوم. لماذا؟ لأن البرابرة لم يجيئوا كما هددوا. وكأن الشعب التعس كان ينتظر عدوا "مجهولا"، كي ينجو من عدو "معلوم". هو النظام. حتى أن السطر الأخير من القصيدة يقول: "ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كانوا حلاً من الحلول".
ولأننا ننتظر أحدًا طوال الوقت، نحزن حين لا ينتظرنا أحدٌ. لذلك تقول فيروز: "قديش كان في ناس/ ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني ويحملوا شمسية / وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني!"

***

#فاطمةـناعوت
#مصر



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطنُ …. عند السلف الصالح
- برقياتُ محبة للبابا تواضروس … من المسلمين
- لماذا مصرُ استثنائيةٌ؟
- مرسي ... جاوز الإخوان المدى
- طاووسُ الشرقِ الساحر
- لا شماتة في موت مرسي … ولكن...
- حول قِبطية چورج سيدهم!
- محاولةٌ أخرى للتنفّس
- عيد ميلاد جورج سيدهم
- سهير، آنجيل … ماتَ معهما … كلُّ شيء!
- 1 يونيو … عيدًا مصريًّا
- محمد عبده يُشرقُ في سماء الأوبرا القاهرية
- كتابٌ … يبحثُ عن مؤلف!
- أنا أفريقية وأفتخر!
- أطفالُ السجينات ... فوق كفِّ السيدة الجميلة
- محمد ممدوح … صمتُه كلامٌ!
- الصحوةُ من الصحوة … وارتزاقُ الأصفار!
- محمد عبده وطلال … يراقصان صِبانا
- شافت الصليب قالت: والمصحف مانا واخدة تمنه!
- الطريدة


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - ماذا تنتظر؟