أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ديوان - الزوجة آخر من تعلم















المزيد.....



الزوجة آخر من تعلم


علي ديوان

الحوار المتمدن-العدد: 6201 - 2019 / 4 / 14 - 09:43
المحور: الادب والفن
    


مزيجا من الضحك الهستيري والبكاء المر، كان يضج خلف الباب، حين أقفلته خلفها، وولجت ثانية إلى مدخل بيتها الواسع بثرياته الكرستالية الفاخرة، ولوحاته العريقة، والمرايا الكبيرة التي تحتل جزءا من الجانب الأيسر، والمنحوتات الحديثة لاجسام بشرية، او اجزاءا منها، بأوضاع وأحجام مختلفة، والتي كانت تتوزع على الجانب الأيمن.
كان صوت أخيها فيكتور عاليا ومنفلتا بين المجموعة المكونة من سبعة أفراد، فهو بين قهقهة متقطعة وعويل مرير، وقد فقد السيطرة على نفسه تماما، واصبح لايعي ما يفعل أو يقول، بفعل ما تعرض له من تنشق للمواد المخدرة والمهلوسة، وبفعل الفاجعة التي يعيشها، والصدمة التي يحس بها.

لم يكن وضع الآخرين أفضل منه بكثير، فهم بين مستنكر ومستغرب لما يدور، أو منذهل وزائغ بوعيه عن كل شيء، وبين من يحاول ان يسير الأمور ويرسل كل إلى بيته بأمان، كما كان البروفسور مارتن يفعل.
ذلك لأنه الوحيد تقريبا الذي كان حذرا ويعي مايدور. فهو لم يتأثر كثيرا بما عبق في الصالة، لأنه كان آخر الحضور، ولم يمضي على وجوده في المكان الوقت الكثير، ولأنه أيضا قد اخذ الحيطة وجلس جوار النافذة التي فتحها، حذرا إزاء الروائح والعطور الغريبة التي كان يزخ بها المكان.

انه يعرف ياسمينه جيدا، انها من المع الباحثين عنده، استاذة الطب النفسي الوقائي في الجامعة، وعالمة ومحاضرة في اكبر الجامعات العالمية، ويعلم انها من الممكن أن تأتي بامور وأشياء غريبة، خصوصا في الوضع الصعب الذي هي فيه بعد فراق رفيق حياتها. وايضا لأنها كانت دائما تبحث بفكرها وفضولها خارج دائرة المألوف والعادي.
وقد كانت صريحة معه في امور كثيرة والى حد كبير، لأنها كانت تثق به كثيرا، وتجمعهما علاقة قوية وصداقة وثيقة تعود لأيام الجامعة. وأيضا لانها تثق بفضوله العلمي وجراته البحثية، فهو الوحيد تقريبا الذي تتجرأ على مشاركته أسئلتها وأفكارها المجردة والغير مألوفة.
فمثلا كانت تتساءل عن القيم والأخلاق والتقاليد التي يلزم الناس انفسهم بها حتى تصبح جزءا من كينونتهم وشخصيتهم وهويتهم، عن منشاها وتطورها، وتأثيرها على الصحة النفسية والعامة، وعما إذا كانت المحرمات هي فعلا امور ضارة تؤثر سلبا على استمرار العيش بسعادة واستقرار، ام انها ابتكار من سلطة او مؤسسة دينية او اجتماعية او سياسية من اجل التحكم بالبشر وسوقهم في اتجاه يخدم المصالح العليا لتلك الجهات.
وتبحث ايضا في تفاقم الكثير من الأمراض النفسية الحديثة والخطيرة وخصوصا في المجتمعات المتطورة مدنيا، والمتازمة صحيا، بسبب قيم تلك المجتمعات وعاداته ليس إلا.
وايضا كانت تتساءل عن تقولب التعليم الطبي الأكاديمي ورفضه الاستفادة والبحث في الطب البديل، والذي أثبت جدارة كبيرة في الكثير من الحالات التي عجز الطب الكلاسيكي عن معالجتها.
كان عقلها يتقصى ويبحث في تاريخ الإنسان وسبل عيشه وممارساته التي ساعدته على البقاء خلال مئات الالاف من السنين رغم الظروف الصعبة، ورغم ضعف بنيته الجسمية قياسا الى الحيوانات الاخرى.
وقد توصلت الى أن البشر قبل بضعة آلاف من السنين كانوا يتجامعون بين أفراد العائلة الواحدة، ويأكلون بعضهم في حالة المجاعات والحروب، واستطاعوا تجاوز ذلك دون أن يؤثر ذلك كثيرا على صحتهم العامة، أو جعلهم يعيشون عقدا قاتلة كما هو الحال في العصر الحديث.
وكانت أيضا تفاتحه احيانا حول هوايتها الخاصة, وولعها وما تتوصل إليه من دراسة لتأثير المخدرات وسموم الافاعي والعقارب والعناكب وبعض الضفادع والاسماك والنباتات والأعشاب، وكيفية الاستفادة منها بشكل جريء في العلاج للكثير الحالات المرضية النفسية أو الإكلينيكية، وقد خصصت لذلك الكثير من الوقت والمال، وحضرت الكونفرنسات والورشات في أصقاع الأرض المختلفة.
كما كانت أيضا تسافر إلى المجتمعات البدائية والقرى النائية, تدرس اوضاع الناس، وتتقصى حياتهم وطرق معيشتهم وطقوسهم وأفكارهم وطرق علاجهم وتطبيقاتها.
واهتمت ايضا وتدربت ومارست أيضا علوم التنويم المغناطيسي واليوغا والتانترا والتأمل والتنفس والخيال الخلاق وتابعت الكثير من الآباء الروحيين وقابلت العديد منهم.

وهي الآن في حالة من التشوش والأنفعال، تتقاسمها رغبات متضاربة من البكاء المر والانفجار بالصراخ، أو الضحك العالي، كما الذي سيطر على اخيها فيكتور وهو يودع آخر يوم من حياة زوجها، الذي كان له صديقا وسندا ومربيا لاكثر من عشرين عاما، هي عمر علاقتهما التي كانت ثابتة ومستقرة وقوية _ كما يراها الآخرون.

لقد كان فيكتور في بواكير مراهقته، حين قدمت سام لأول مرة لعائلتها على أنه صديق مميز. وقد حدث منذ اليوم الأول تعلق فيكتور به، كمثل اعلى للقوة والوسامة والذكاء والشخصية المميزة. وكان دور سام في حياته تعويضا كبيرا عن الأب البعيد المنشغل باعماله وبعائلته الأخرى. وقد عاش فيكتور وتربى معهم فور زواجهم، ولحين تخرجه من الجامعة وزواجه.

سوف لن يكون هذا الغياب الأبدي سهلا على احد ممن عرف سام... انه حاضر ابدا للأصدقاء والمعارف والجيران، لمن احتاج عون أو شحت به الايام، معروف للجميع بشهامته وحبه لفعل الخير والمساعدة بكل مااستطاع. وهاهم اول المقربون والأصدقاء قد حضروا على الفور حين واتاهم خبر رحيله عن الدنيا قبل ساعات. كان اولهم اخته وزوجها ثم فيكتور وطليقته وصديقة ياسمينه المقربة اولغا مع زوجها، واخيرا البروفسور مارتن

كان الجميع غير مستوعبين هذا التدهور السريع في حالة سام وهذا الرحيل الدائم له. وكانوا قد فجعوا بالخبر وذهلوا بالوضع الذي وجدوا ياسمينه عليه حين استقبلتهم. لقد كانت صامتة وعيناها غائرة تحدق في المجهول، كأنها ترصد أطراف الكون أو تسبر أغوار النجوم، كانت واجمة ويبدو عليها الضياع والذهول أكثر من الحزن أو الفجيعة. وقد استقبلتهم جميعا بنفس البرود، ورافقتهم واحدا واحد إلى الصالة، دون تبادل اي حديث أو الرد على كلمات التعازي. كما انها لم تأبه بردة فعلهم واستغرابهم حول الرداء الأسود القديم المهترئ الذي ترتديه، والقبعة السوداء الغريبة التي تعتمرها، والتي يعتليها بببغاء بألوان فاقعة وراس من الحجر الأخضر وعرف احمر، ملصق على جسم الببغاء، وثقله يجعله يترنح يمينا وشمالا حين تحرك رأسها. وسط هذه الغرابة وهذا السكون كانت قد وضعت أسطوانة قديمة لموسيقى الجاز في الجهاز القديم الذى يحتل الزاوية اليمنى، كانوا قد اشتروها سوية وهم في شهر العسل من إحدى الجزر الكاريبية، كما وضعت على الطاولة جرة ماء ممزوج ببعض المنكهات الشرقية، ومبخرة في الوسط تتصاعد منها روائح وعطور غريبة، تغذيها هي بالمزيد بين الحين والاخر.

لم تستطع المجموعة المكوث طويلا، لأنهم أحسوا بالوهن والتشتت في التفكير والتصرفات، وخصوصا فيكتور. فقد بدأ حزينا جدا وواجما اول الأمر، وبعد برهة من الوقت أصبح يحرك جسمه يمينا وشمالا مع نشيج متقطع، وشريط من الذكريات الجميلة مع سام كان يدور في رأسه، مع خليط من مشاعر الشوق اليه، والاحساس بالخسارة والحزن كانت تجيش في صدرة من جراء فقدانه، وأيضا الكثير من الحزن والشفقة تجاه ياسمينه، التي كانت اخته الكبيرة وأمه الثانية وصديقته المقربة أيضا. وفي كل مرة يلقي النظر إليها كان يود أن يخبرها بأن تخفف عنها كل هذا الألم وهذه الصدمة، ويعلمها بما يعرفه البعيد والقريب بأنها لم تكن الوحيدة في حياة سام، وان الكثير من النساء قد تقاسمن الفراش معه، وان الكل يود لو انها عرفت هذه الحقيقة، لكي لاتبقى معلقة في الوهم. ولكنه يتردد أيضا ويخاف أن يؤلمها ذلك أكثر مما يخفف عنها.

بعد هذا الصراع الداخلي أصبح نظره معلقا على ذلك الببغاء المترنح فوق قبعتها ذات اليمين وذات الشمال. واصبح الأمر مسليا له، وبدأ شيئا فشيئا ينسى لماذا هو هنا ولم هذا التجمع، ومع كل نفس من الدخان يستنشقه أصبح لايحس بجسمه، أو احيانا يرى نفسه يطوف بطيئا للأعلى ملتصقا في السقف ثم يهبط ببطا اكبر مثل بالون كبير... . وهو يحاول بين الحين والآخر استعادة وعيه وتوازنه ولكنه يفشل مرة تلو الأخرى. ثم وبعد برهه تخلص تماما من الاحساس بالحزن والألم، واصبح ينظر لكل شيء بشكل مختلف وغريب. اختفى منظر الصالة والجالسين من أمامه. وأطل مكانه منظر لحفرة ضخمة جدا كان خياله قد اعتبرها قدر كبير لصناعة الحياة، ذهل كثيرا وهو يحاول أن يستوعب كيف أنه لم يرى هذا المصنع الهائل أو يسمع به من قبل؟؟ أصبح يرى الحياة تصنع أمامه من مواد معروفة ومتضاربة، وكل يدخل إلى هذا القدر بسهولة ويسر كما تتسلل أشعة الشمس بين أوراق الشجر. كان يرى النار على شكل خيوط برتقالية متصلة تنساق بنسق واحد، لايوجد لها لهب أو سناء. والغبار والطين يمران من مكان آخر وبنفس الطريقة فهم لا يتطايران أو يختلطان. ويرى الماء يصعد من مكان آخر وينسكب بهدير متصل إلى هذا المكان الهائل باستمرارية وازلية. ثم يلتفت إلى جهة أخرى بعد أن يسمع جلجلة من الأصوات المختلفة، فيسمع الغضب مخيفا وهو يزار من مكان قصي. والفرح وهو يهلهل ويتسرب من مكان أقرب. ويميز الحزن وهو يان من هوة عميقة ومظلمة. يحس بالغيرة تتسلل من بين الجميع وتتخذ كل الصور والأشكال لتأخذ مكانها وسط المصنع. ثم الرغبة وهي كالغيرة بأشكال وألوان وصيغ شتى تسلل وتحاول أن تمتزج أو تلتصق بكل شئ وتبقى فيه. وحين يرفع بصره إلى الأعلى كانت الألوان تتوالى وتتساقط على أشكال أوراق الأشجار أو فراشات ضخمة أو طيور عجيبة.
وهو حين ينظر إلى وسط القدر بدهشة وحماس شديدين، كان يرى الناس تخرج على شكل فقاعات زاهية متفاوتة في الحجم والارتفاع والسرعة والحركة، وأيضا فترات بقاء أو إعمار متفاوته. وكانت تمور بكل اتجاه. كان فيكتور يحاول بين الحين والآخر أن يعود بوعيه إلى المجموعة والمكان ولكنه ومع كل محاولة كان يندمج أكثر وأكثر بذلك المصنع والعالم الغريب. واصبح الان يحاول أن يتنطط مثل صبي صغير، ومن ثم يصرخ على حين غرة وسط الحضور؛ انه يرى سام على شكل فقاعة جميلة ذات شكل بيضوي ومستطيل كثيرا، كانت تتحرك بوتيرة أسرع من كل الفقاعات الأخرى وتتجه اليه بالذات، وكان يرى نفسه صغيرا في السن لا يتمكن من النطق بعد، ومع تقدم الفقاعة نحوه كان يفرفش بيديه في الهواء مثل طائر يهم بالطيران، يبتسم بفرح وبهجه واضحين، وحين تقترب جدا منه كانت تنفقع امامه بشكل مفاجئ لتشكل مئات الألوان والفقاعات الصغيرة الأخرى امام عينيه، وتترك رذاذا خفيفا باردا على وجنتيه الممتلئتين، فينفجر هو من جهته بالضحك الصاخب، و بعد برهة قليلة يتنبه إلى اختفاء سام مع اختفاء الفقاعة فيبدأ بالصراخ والعويل، ومن بين النشيج يظهر سام من جديد على شكل فقاعة جديدة ليبدأ طور الضحك والبكاء من جديد... .

كان هذا الوضع قد ازعج الآخرين واقلقهم من السبات الذي ينزلقون إليه، الا ان ياسمينه كانت تنظر إلى فيكتور من طرف عينها بطريقة مختلفة تماما، وكلها حنو واسى نحوه. فهي تعلم انه سيكون الأكثر تأثرا بالاجواء العابقة تلك، وتعرف انه عاطفي جدا وضعيف وحساس، فهو أصغر الأخوة واقربهم إلى قلبها.
كان لايزال في السابعة من عمره حين تم الطلاق بين امها وابيها. حدث ذلك بشكل درامي حين خرجت المشاكل بين الأم والأب عن دائرة السيطرة والمألوف، واصبح الصراخ والسباب والتشابك يحدث مرات عديدة في الأسبوع الواحد وبشكل غير مفهوم لهم. كانت الأم مصممه على الطلاق لادعاءها ان ابيهم غير متحمل لأي مسؤولية تجاه الاولاد_ كما تقول، عدى انه يساهم بالنقود اللازمة للعيش، يخرج للعمل اول النهار ويعود متأخرا كل يوم، ويختلق الاعذار للغياب في عطلة نهاية الاسبوع ايضا. لا يذكر اي من الأولاد ماهية ذلك العمل ولكنه كان يقول انه يتقن حرفا شتى ويعمل بأماكن مختلفة من أجل لقمة العيش، ويملك مكتبا للاستيراد والتصدير.

كانت امهم تعمل معلمة في المدرسة القريبة، وكانت ملتزمة في عملها وجادة في تربية أولادها. اختفى الوالد تقريبا من حياتهم مباشرة بعد الطلاق، لتتزوج الأم بعد وقت قصير جدا من أحد زملاءها. لقد كان جافا تجاههم، حادا بطبعه وشرسا، مما جعلها واختاها الآخرتين وفيكتور تحت وطأة من الاحساس بالضعف وقلة الحماية، كان الأمر مضاعفا بالنسبة لفيكتور لأن تعلقه بابيه كان كبيرا، وكان زوجها الجديد يزجره حين يتواجد في غرفة نومهم، مما يجعله ينزوي معظم الوقت صامتا في الزاوية البعيدة في الصاله.
واصبح شيئا فشيئا قليل الكلام أو اللعب مع الأطفال الآخرين. وفي نفس الوقت حافظ على تفوقه في المدرسة، لم يثر هذا الأمر انتباه الأم أو الإختان الاخريتان، على العكس من ياسمينه التي أصبحت تغذيه بالاهتمام والحب والرعاية رغم حاجتها هي نفسها لذلك.

وقد زاد اهتمامها والتصاقها به بشكل كبير بعد وفاة الأم، بعد أربعة سنوات، وانتقالهم للعيش في بيت اجدادهم من الام. ولذلك فقد أصرت على أصطحابه معها إلى بيتها حين تزوجت من سام.

كما أن ياسمينه كانت تنظر إلى طليقته ميمي بالكثير من العطف والأسى أيضا، فهي تماسكت بتواصلها مع العائلة حتى بعد طلاقها من فيكتور، وكانت أيضا تحب سام وتعزه كثيرا، وكان له معها ومع أهلها الكثير من المواقف الكريمة. وهي أيضا تحب فيكتور، رغم انها لم تتمكن من الاستمرار بالعيش معه، رغم طيبته وأدبه وحسن معاملته لها. فقد كان ذلك كله جيدا لأجل علاقة صداقة طيبة، اما الحب وخصوصا في مقتبل العمر فيستلزم وهجا وحميمية من نوع آخر، تجعل المرأة تتحرق شوقا ولهفة ورغبة من أجل الحبيب. ولم يكن فيكتور قادرا على تلبية ذلك. وقد حاولت ميمي قدر المستطاع في بث روح الحميمية في تلك العلاقة ولسنوات عديدة ولم تفلح. وكانت من الزبائن شبه الدائمين في عيادة ياسمينه. تشكو من بروده معها والملل الذي يلاصقهم. فمع كل اللطف والخلق الذي هو عليه، الا انه لم يستطع توفير الحب لها، لأن روحه الحساسة والضماى لذلك الحب لم ترتو منه بما فيه الكفاية في الصغر.

وفي أحد الأيام، وكالارض الضماى التي تستفيق على غيث وفير، حدث لميمي مالم تحتسب له أي حساب، فقد وقعت في فخ الرغبة وهاجت أمواج عواطفها على حين غرة، وعصفت بها أي عصف. ففي إحدى حفلات صديقاتها المقربات، كانت هي قد اقتحمت الحضور كعادتها بطاقتها الفوارة ومرحها وحضورها القوي. ولم تمضي غير دقائق معدودة حتى احست بذلك الشاب الخشن المظهر، ولكن في نفس الوقت يحمل من الرشاقة والجاذبية الكثير، وهو يخترق روحها بنظرات جريئة ووحشية، مثل امواج هائجة تدعوها للاندماج والالتصاق به والغور سوية معه في بحر من اللذة، غير عابئين بكل من حضر. احست لاول مرة كان عسلا حارا قد صب في احشاءها، وانها تنزلق شيئا فشيئا الى دعوته تلك، وبفقدان سيطرتها على نفسها وان ذلك الوحش الجميل يستدرجها الى هوة من الضياع والهيام الذي حلمت دائما به مع فيكتور، ولكنها ايضا تستشعر ايضا بارادتها في عدم الانزلاق. فاستجمعت قوتها بعد برهة صغيرة، لتستاذن صديقتها بالانصراف متعللة بوعكة مفاجئة، وحين انطلقت مسرعة الى للخارج في محاولتها النجاة من ذلك الاعصار العاطفي المفاجئ، فتح باب احدى السيارات المركنة وجاء صوته من داخل تلك السيارة يدعو الى توصيلها الى بيتها... ارتجفت ركبتاها ووهن صوتها ولم تبدي اية مقاومة حين نزل من الجانب الاخر واجلسها بجواره في المقعد الامامي، وبعد دقائق من انطلاق السيارة وهم في صمت مطبق، توقف بها على حافة الحديقة القريبة، ومسك يديها الباردتين المرتجفتين، ثم لثمها بقبلة خفيفة، اعقبها بالتهام عنيف لشفتيها ولسانها الهبت روحها واطاحت بكل ماتبقى لها من ميل للمقاومة او الانهزام... في عتم تلك الظلمة وعلى حافة المنتزه ذاك، تفجر فيها ذاك البركان الذي كانت تحس به دائما يمور في داخلها مثل وحش بري يحاول الانفلات. لم يكن رحيما معها في صراع تلك الليلة، كان يقتحمها بكل عنف، يمسكها من شعرها كانه يهم ان يقتلعه، ثم يرخيه ويضمها اليه بكل رقة، يرصها اليه كمن يحاول ان يكسر اضلاعها، ثم يرتخي الى الوراء ويحنو عليها بكل محبة، يولج فيها بكل قوة وسرعة، ثم يهدا للحظات... حتى اذا ما التقطت انفاسها من جديد يعيد هجومه كانه ثور هائج. في نهاية ذلك اللقاء اسلمت له كل شئ، وضاع هو فيها كمن حاز على كل ما ينتظره من احلام في شخص امراة واحدة.

كان ذلك زلزالا قد احل بها، فلم تستطع بعدها الانقطاع عن التواصل مع ذلك الشاب يوما واحدا، وكانا يغوصان شيئا فشيئا في بعضهما وهم في ضياع جميل، بعيدا عن الواقع وما يحمله من معاناة. وأصبحت تحس بفوران الحياة في داخلها وبعصف التوق إلى الاندماج الأبدي مع ذلك الرجل جسدا وروحا، وفي نفس الوقت أيضا بالعيب والعار والخزي من ابتعادها عن فيكتور من الجانب الآخر.
أصبح الحبيب يلح عليها بالعيش سوية والاقتران الابدي كما كان يسميه، لان ذلك هو قدرهما المحتوم كما كان يقول. وكانت هي ايضا تتمنى ذلك، ولكنها تخاف منه كثيرا، اذ كيف سيكون حال فيكتور ان هي طلبت الانفصال؟؟ كانت تعرف ان فيكتور بدا يعي كل شيئ، وخيمة من الحزن العميق بدات تطوف فوق راسه، الا انه كان يحاول التغافل خشية أن لا يقترب بنفسه الى اللحظة المؤلمة تلك.. لحظة فراقها. وبقيت هي في دوامة ذلك الصراع لاشهر، حتى جاءت اللحظة التي انهارت بها تماما وهي في عيادة ياسمينة، ونقلت حينها إلى المشفى.

لقد كانت تلك من أصعب الايام في حياة ياسمينه. وهي تجرع أخيها كأس فراقه من حبيبة عمره وصديقته ورفيقته. وفي نفس الوقت مساعدتها واخراجها من المستشفى إلى بيت أهلها في مدينة أخرى.

لقد عاد فيكتور للعيش مع ياسمينه من جديد، وهو كسير منهزم وضعيف، وكان عليها ان تدعمه وتداريه لسنوات اخرى ليتمكن من العيش مستقلا. وقد ساعدها في ذلك عاملان؛ الأول أنه كان قد أصبح طبيبا جراحا معروفا وماهرا، ولأجل أن يسد حاجته إلى وجود النساء في حياته فقد تخصص في التجميل. وبهذا فإنه كان يتعامل مع أجساد النساء واعضاءهن في كل يوم، فهو يكبر النهد الصغير، ويصغر النهد الكبير، يرشق البطون ويكبر الارداف، ينفخ الشفاه ويشد الخدود. ويقيم الكثير من العمليات لتضييق أعضاءهن التناسلية. ويقيم بعض العلاقات الجنسية بضع مرات في السنة.
والعامل الآخر أنه قد علم بانفصال ميمي عن ذلك الرجل بعد أن أنجبت منه طفلان، وعاد للاقتراب منها وعمل لاعادة بناء صداقة جديدة معها، وقد سعدت هي لذلك وأصبحت تقاسمه كل أسرارها، وهما يتزاوران باستمرار. وهاهي قد قدمت معه فور سماعها خبر وفاة سام، وتحاول جاهدة الان ان تقدم الدعم له، رغم انها ايضا قد تاثرت بتلك الروائح والبخور. وكانت ياسمينه رغم فجيعتها برحيل سام، الا انها ايضا تشعر بالكثير من الشفقة والحزن تجاههما.

والان وحين اغلقت الباب خلفها، احست كم هي منهكة، وكم من الضياع والياس والاحباط يلم بها. وحين التفتت قليلا وجدت قرينتها فاتي تقف مقابلتها على الجانب الايسر تبادلها نفس النظرات الذابلة الحزينة فبادرتها القول: من الجيد انك هنا الان يا فاتي، لقد أصبحت تحضرين حين الحاجة لوحدك، ودون دعوة مني كما كان دائما، ولكن ماجدوى ذلك ياعزيزتي، الا ترين كيف انتهى الامر؟ هل كان ايا منا ينتظر هذه الفاجعة؟ هل ان دراستنا وعلمنا وفهمنا ومعرفتنا قد ساعدت على منع تدهورنا لهذه الهاوية؟؟ لقد مات سام ياعزيزتي لقد مات، ماذا تعتقدين قد بقي لي بعده؟ انه حبيبي وزوجي ورفيقي وسندي وصديقي.. . لقد ابتلعه الموت امام عيني بكل برود، كنت ارى ذلك واحسه تماما... كان يتهاوى ويختفي ويضيع يوما بعد يوم مثل ما ينشف الماء من قاع الارض، او تذوي وتسقط الاوراق في الخريف. لقد تسارعت الايام لتلفه بغمامة الغياب باسرع مما توقعت. تقولين انني اعرف ذلك مسبقا مثلما يعرفه هو... هه ربما، ولكنه لم يكن هناك بد من ايقاف ذلك، رغم انه لم يكن غاية لايا منا في يوم من الايام... انما هذا ما اوصلنا القدر اليه. اوه اعلم انك وانا لا نؤمن بالقدر، ولكن هذا ما الت اليه الامور على كل حال... اوتحسبين اننا لم نحاول تجنب ذلك؟؟؟ نعم حاولنا ولكن كل لوحده وبالقدر الذي استطاع.

عجز، عجز، عجز.... اجل ذلك هو ما الم بنا، فلم يستطع ايا منا ان يتجاوز ما علق بالذات من تشوهات...

اننا مهما درسنا وقرانا وعرفنا عن كل شي وفهمناه في عقولنا، نبقى عاجزين امام عبث طاقة المشاعر التي تبرمجت عليها شخصيتنا واحاسيسنا منذ ايام الطفولة المبكرة والصبا، بكل ما فيها من تخلف وادران، وان كنا قد تظاهرنا بالتمدن والتطور والتعفف والاستيعاب، فهي تبقى تنخر في داخلنا، ان لم تتم مواجهتها ومعالجتها في الوقت المناسب. وذلك يتطلب مصادر الدعم الكبيرة والجهود المضنية والمثابرة الواعية، والتي لاتترك حياتنا العملية فرصة لها.

من الجيد انك هنا الان كي ابوح لك بما لم اجرا عليه من قبل، لانه والان وبعد خسارته، لايفرق عندي الامر من بعيد او قريب...

لقد عرفت ذلك كما تعلمين منذ السنة الثانية لزواجنا، وكنت حينها حاملا بسارة..
لم نكن نعتقد حينها ان اي حبيبين في الارض يمكن ان يكونوا اكثر منا ولعا وحبا وهياما بالاخر، كان لقاءنا منذ اليوم الاول مميزا ومثيرا، وكانت كل ساعة وكل يوم يمر يزيد من ولعنا واندماجنا وهيامنا ببعضنا.

كان هو قد عاش طفولة صعبة مع اب قاس، يضع كل شئ في الحياة في ميزان الربح والخسارة الماديين، وكان سام لايعرف عن امه اكثر من انها سافرت حين كان عمره عاما. وعن طريق اسقصاءه الخاص وبحثه، عرف ان اباه من عمل على ذلك، بمساعدة القانون الظالم، حيث كانت مهاجرة، وقد عمل على تسفيرها وحرمانها من طفلها. لم يتزوج الاب بعدها، واستجلب اخته التي لم تكن اقل قساوة منه لتتولى امر سام. كان طفلا ذكيا موهوبا وقويا، واراد منه ابوه ان يبلغ منزلة رجال الاعمال الكبار من اقرانه. وعمل على تهياته لمستقبل مادي زاهر. ولكن كل ذلك كان عن طريق الاكراه والزجر. كان سام موهوبا في امور عدة، في اللغات والرسم والموسيقى والرياضة والرياضيات، الا ان اسلوب الاب قد حدد من ابداعه ونبوغه في اي منها. فكان يعاني من الكبت والحرمان ولم يعش طفولة او مراهقة سعيدة. حين كان يخرج من المدرسة كانت بانتظاره سيارة تقله الى التدريب الرياضي، وحين انتهاءه منه يكون درس خاصا للغات بانتظاره وبعدها درس الموسيقى وهكذا الى اخر ساعة في اليوم...


يحكي لي سام ان ما خفف الكبت عنه في تلك الايام هو اكتشافه للعادة السرية في سن مبكر، فكان يلجا الى الحمام كلما احس بالضغط النفسي العالي، وكانت طاقته الجنسية فوارة ليس لها مثيل. فانقذه قضيبه من معظم الحالات والظروف القاسية التي كان يمر بها، اذ هو يهرب بخياله مع اجمل الجميلات ويعيش اوقاتا سعيدة مع نفسه تمكنه من موازنة ذلك الحرمان والضغط النفسي الرهيب.
كما اكتشف ايضا انه قد استخدم نفس الخيال لممارسة الجنس مع كل من يضايقه اويؤذيه، اذ هو لم يجرا على الرد المباشر، وليعيش نوعا من التوازن.

وكان اغرب ما مر به هو تجربة مع ابيه، اذ كان حزينا ومتعبا في احد الايام، ولم يحضر درس البيانو، وبدلا من ذلك توجه الى غرفته في البيت لياخذ قسطا من الراحة، ولم تمض سوى سويعات حتى فتح الباب بعنف، ليطل راس ابيه مزمجرا واعدا مهددا بكل السبل وهو يكيل له انواع الشتائم والسباب لغيابه عن الدرس- الذي يكلفه الكثير من المال كما كان يقول، ويخبره ان عشاءه سوف يكون مع كلبهم في نفس الوعاء والطعام... كانت صدمة سام عنيفه وذهوله مريع وخوفه مضاعف، رغم انه اصبح كبيرا وذراعاه قويتان ومفتولتان، الا انه انزوى بدءا في زاوية السرير، محاولا تخبئة وجهه واغلاق اذنيه..كان الالم والخوف يعتصره ويهاجمه من كل صوب.... وفي عنف تلك المعمعة تخيل انه يبطح ابيه على المكتب ممسكا به من شعره وخالعا سرواله ليبدا بممارسة الجنس معه بكل عنف، اصبحت تلك الصورة اقوى واقوى في مخيلته... ذهل هو نفسه لهذا الخيال، ولكن ومع ازدياد الاب في كيلة للكلمات البذيئة، واحمرار وجهه وتصاعد الزبد من شفتيه كانت تزيد تلك الصورة، حتى نهض اخيرا من السرير وبدا ينظر لابيه بشكل مختلف، وابتدا يبتعد عن الواقع اكثر بذهنه ويرى الاب في ذلك الانفعال وذلك الاحمرار والزبد ولكن مبطحا تحته وهو يولج فيه...فاخذ يبتسم بغرابه لذلك ثم يقهقه عاليا فعاليا، ومن ثم يتجه نحوه ماشيا دون ارادة وغير عابئا باي شئ... كانت صدمة الاب قوية وحيرته وخوفه اكبر، حين راى ابنه بتلك القامة الطويلة الممشوقة والمنكبان العريضان ونظرة الاستهانة الغريبة به، فسارع الى الخارج قافلا الباب وراءه. ولم يكرر بعدها اي اهانة او زجر، ونقله الى المدرسة الداخلية خلال ايام، حيث كانت نهاية للمعاناة والبدا بحياة كريمة.

ولم يكن وضعي انا بالسهل ايضا، فطفولتي كانت صعبة هي الاخرى، لقد كانت امي تعمل كثيرا، وفوق ذلك فقد كانت تتاخر بعد الدوام ايضا للاجتماعات وسواها كما كانت تقول.. رغم ان عيونها وهيئتها كانت توشي بشئ اخر.. وابي ياتي اخر الليل سكرانا معظم الاحيان. لم استطع انا او اي من اخواتي الاكبر من عمل اي شيء تجاه ذلك. كنا نتجمع على التلفاز عند الغروب ونحاول عمل بعض الطعام البسيط لنسد به رمقنا، وايضا مداراة فيكتور الذي كان هزيلا ومريضا معظم الوقت بعيونه الجميلة التي تشع عن ذكاء متقد وفطنة عالية، وحين تم الطلاق بين ابي وامي لم نحظى بالراحة ايضا، فبرغم ان امي اصبحت اكثر تواجدا بالبيت بعد زواجها الجديد، الا ان زوجها كان عنيفا جدا معنا، كان يزجر ويضرب وفوق هذا فان نظراته لنا كبنات كانت مثل نظرة الذئب للخراف، تثير الفزع والرعب، وتجعلنا نتكور على بعضنا، مثل القطط الصغيرة المبللة. ولم يكن ذلك بالامر الذي ممكن ان نحدث به امي، رغم اننا نعرف انها تحس بكل شئ وتقف عاجزة عن فعل اي شئ. كنا مثلا نوقظ بعضنا حين الحاجة الى المرحاض ليلا.

وبوفاة امي كانت الخسارة قد تضاعفت، فاصبحنا ايتام الابوين، وهذا ما دفعني لاعطي فيكتور كل الحنان والرعاية التي استطيع.. وكان هو اجمل طفلا في الدنيا. ذكيا ومطيعا وبريئا.

ولذلك فان تعرفي على سام كان اجمل حدث يمكن ان يحصل لي وله. كنا نغوص في بعضنا، والجنس بيننا لم يكن حاجة للتسلية او الانجاب، كان تحطيما لعالم صعب جاف وقاحل، واعادة صيرورة جديدة وجميلة. كنا نغوص في بعضنا، وننعجن جسدا وروحا، نصرخ الما ولذة، نتاوه ولعا، نعض وناكل بعضنا بعضا، من اخمص القدمين الى اخر شعرة في الراس، وحين نلتقط انفاسنا لبعض الوقت كنا نعاود الكرة وبشكل اعنف من الاول. لم يكن النوم او الطعام او الشراب مما نحتاجه لساعات طويلة.. نواصل الليل بالنهار او النهار بالليل. وكان قضيبه العنيد حاضرا معنا طوال الوقت، كان يغوص في مثل المحراث الذي يقلب تربة الارض ليزيدها خصوبة ويحضرها للزرع والاثمار. لم اعرف او اسمع ان لاي رجل امكانية الانتصاب والممارسة لكل ذلك الوقت الطويل، وبذلك النشاط والاندماح.

لقد وجد سام في، الام المفقودة بحنانها وحرصها وحبها ورعايتها، كان يتكور حولي احيانا وهو مولج في لتبدا دموعه بالانهمار ويبكي مثل طفل ضائع، وانا احتضنه واخفي راسه بين نهدي واحني عليه بكل مالدي من انوثة ورعاية وابكي معه، ونبقى على ذلك لوقت طويل.

وكنت اتشبث به احيانا اثناء الجنس وانبت اضافري في كتفيه مثل غريقا ماسكا منقذه طالبا للنجاة والحماية. لقد كان هو بالنسبة لي مثل الاب الحاني الحامي الشهم القوي المداري. وكنا نغير الاوضاع والهجومات والدفاعات في كل مرة، كما لو كان الفراش ساحة نزال لحرب طويلة.
وبعد انتهاءنا في كل مرة كنا نراجع الاحداث بمرح وفكاهة. وخصوصا حول بطولات "العامل الكوني" كما كنا نسمي قضيبه.. كانت اياما واوقاتا ملائ بالسعادة والتكامل والحب والمرح....

ولكن الصدفة لعينة احيانا... فقد اكتشفت بعد اقل من سنتين لذلك، انه ورغم كل ذلك الحب وتلك الحياة الجنسية الاستثنائية، كان قد عمل علاقات مع نساء اخريات في ذلك الحين. كان يملك مكتب عقارات ضخم، وكان تاخره في العمل كل يوم اربعاء يحمل معه سببا اخر للبقاء غير العمل نفسه... كنت قد احسست بذلك ولكني حاولت في البداية تجاهله قدر ما استطعت. ولكن ما زاد في شكوكي هو ان احد زبائني قد جاء لعيادتي ليشكو لي من نار الغيرة تاكل احشاءه تجاه زوجته، وهو لايستطيع ان يمنعها من الذهاب الى "الحفلات" مع صديقاتها او عائلتها كما كانت تقول، والتاخر لاخر الليل وبالاخص يوم الاربعاء، الذي كان يحس انها تقابل عشيقا ما. كان استاذ كبير في القانون، منحدرا من عائلة متواضعة، وكان هذا زواجه الثاني، بعد ان توفيت زوجته الاولى مبكرا، والتي كان يقول عنها انها الوحيدة التي اخلصت له. وقد كانت زوجته الجديدة احدى تلميذاته ومن عائلة برجوازية. منغمرة في الحفلات والسهرات واختراع اية مناسبة للسهر والمرح والاستمتاع بالرقص والموسيقى. لقد اثار هذا الامر فضولي مما عمدت الى زيارة سام في احد الايام في مكتبه وزرعت جهازا صغيرا. كان الامر فضيعا بالنسبة لي حين سمعت كل مادار بينهما، نعم لقد كانت هي زوجة الزبون، وهي تروي له عن قلق زوجها المتزايد وغيرته حول تاخرها يوم الاربعاء بالذات.

لم استطع يومها النوم. وبدلا من التوجه للعمل في اليوم التالي كنت قد اودعت المستشفى بسبب الانهيار العصبي. ان ما صدمني هو ليست معرفتي باحتمال حصول ذلك من عدمه، لانني اعرف امكانية حصول ذلك نظريا. انما سيل المشاعر والاحاسيس... من العار والعيب والخوف والغيرة التي تبرمج عقلي عليها منذ الصغر، لقد انتفضت جميعا في داخلي تجاه هذا الفعل. لم استطع ان انظر في عينيه وقتها ولم استطع ان اصارحه ايضا، لان ذلك سوف لن يغير شيئا. وانني وان استطعت ان امنعه من مقابلة نساء اخر عمليا. فانني لا استطيع ان امنع عقله واحاسيسه من اشتهاء ذلك.
كنت اعرف وبحكم خبرتي الخاصة وعملي ان كل شخص معرض لما مر به سام، وبضمنهم انا، والفرق هو ليس بوجود الميول نحو شخص اخر من عدمه. وانما الذهاب قدما لتلبية تلك الميول ام كبتها وردعها. اوفي كثير من الاحيان انكارها حتى امام الذات.
كنت اعلم ان الناس ثلاثة اصناف لا رابع لهم في هذا الامر: فمنهم من يمارس علاقة مع طرف ثالث ويخبئ ذلك على الجميع، ومنهم من يعمل علاقة ويجهر بها. والنوع الاخير والاكثر شيوعا ممن يكبت ميوله وينفيها امام الاخرين وحتى امام نفسه. ولكنه يفشل في الغالب عن مواجهتها في احلام النوم او اليقظة، او التعرف على تاثيراتها مع الزمن على علاقته بالاخر

لذا فانني لم استطيع ان احلم باي رجل اخر لا يملك تلك الرغبات، سواء قام عمليا بفعل ما ام لم يقم.
وفي الواقع ورغم ان وجود تلك السيدة قد اثار غضبي وغيرتي، الا اني لم اجدني اختلف عنها كثيرا. واحترمتها بشكل او باخر، واعتبرتها اكثر جراة مني واكثر اخلاصا وصدقا مع نفسها.
لقد كنت اشتهي زوجها_ زبوني، ولكني اظهر غير ذلك والبس ثوبا زائفا من العفة والطهارة.

لقد كنت قد قررت مع نفسي منذ اليوم الاول للحمل، على ان لا اترك طفلي المرتقب بدون اب مهما كانت الظروف. لانني اعلم اكثر من اي شخص اخر قساوة ذلك وصعوبته عليه.

وكانت فترة بقائي في المستشفى حاسمة في شكل العلاقة بيننا والتي دامت لحد غيابه الاخير هذا. وكان قراري في وقتها ان يستمر زواجنا. وان اتقصى في داخلي اكثر عن كيفية تحقيق ذلك، بطريقتي انا، والتي تسعى بالناي عن قيمي وميولي التي اكتسبتها من المجتمع.
ان اغوص اكثر في داخلي والبي مايتناسب مع فطرتي وطبيعتي. وهذا ما دفعني الى دراسة الانثروبولوجيا وتاريخ تطور العلاقات العاطفية بين البشر وتكون الاسرة وبناء القيم التي تحدد العلاقة الاسرية حسب الحقبة الزمنية وحسب الموقع الجغرافي.

ولم تكن دراستي وبحوثي ومعرفتي لتخفف العبء عني او تسهل الحل. لان ما ثبت لي اننا البشر نملك جينيا رغبات وعواطف وميول متضاربة شكلا ومضمونا. منها ما ولد معنا وساعدنا على البقاء لمئات الالاف من السنين ونسميه الدوافع والغرائز الفطرية، ومنها تطور عندنا وفي المجتمعات المختلفة خلال السبعة الاف سنة الاخيرة، من تقديس وتكريس لتقاليد والتزامات، اكثرها ضد فطرة الانسان وحاجاته الاساسية. بالاضافة الى اننا من نتاج الطبيعة ونعود لها في كل شيء، والطبيعة يافاتي متقلبة ومتضاربة في الكون العظيم وفي مجموعتنا الشمسية وعلى سطح كوكبنا، وان كانت مستقرة فالى حين... ، وما عسانا ان نفعل ونحن جزءا منها.

لقد عرفت وقتها ايضا ان سام قد احس بي وانه قد حدس انني عرفت، ولكنه عجز عن مواجهة الامر معي.

ورغم انه قد زاد تجاهي بحنوه وحبه ومداراته، ولكنه قد طعن ايضا بما حدث، وكان مرضي ثقيل عليه ايضا. كان ذلك على المستوى الروحي العميق، لقد تحسست ذلك جيدا وانا اعلم به، وقد اثار ذلك بعض الرضا عندي. ولكنه لم يثنني عن المضي في طريقي في اشباع ميولي نحو زوج عشيقته تلك. وزادني في مرامي ذاك سببا اخر الان، وارتايت ان احققها بعد نقاهتي من الولادة. وكان ذلك ما حصل، خصوصا وانني قرات ميوله نحوي منذ زيارته الاولى، ولكنه مثلي كان قد قمعها وسيطر عليها وقتها، وقد سعد كثيرا بمبادلتي له تلك المشاعر لاحقا.

لقد غير ذلك الحدث من علاقتي بسام، فلم اعد اشعر بدور الضحية بعدها. ولكن وفي نفس الوقت قد اطاح بشئ من القيمة الخاصة التي كانت تميز العلاقة بيننا.
فرغم انني كنت قد اقمت تلك العلاقة مع زوج عشيقته برغبتي وارضاءا لاحاسيسي، الا ان نوعا اخرا من مشاعر الغضب قد بدا يمور في داخلي تجاه نفسي وتجاه سام. وبدا ياكل شيئا فشيئا من علاقة حبنا.
وكان علي ان اغوص اكثر لتحليل تلك المشاعر ومعالجتها، وكان امرا معقدا حقا. فقد كانت المشاعر السلبية تلك في تغير وتذبذب دائم، حسب وضعي النفسي والصحي، حسب ضغوطات تربية الطفلة والدراسة والعمل، وطبعا كانت تتزايد مع كل اقتراب لموعد الدورة الشهرية.

لقد مرت الايام والسنوات ولم يخفت او يزول قلقي من فقدانه، رغم ان مشاعر سام كانت دائما ايجابية تجاهي. وقد دفعني قلقي وفضولي الى تتبع كل علاقاته الاخرى بدقة، وخصوصا مع تلك العشيقة. فقد عرفت انهم يتواصلون عن طريق بريد الكتروني غير تابع لاي منهما عن طريق زرع كاميرا صغيرة في مكتبه، وعرفت الرقم السري لدخول ذلك البريد. لقد كانوا اذكياء وحذرين جدا. فهم لايتراسلون فيما بينهم حتى من خلال ذلك البريد، بل يودعون الرسائل في المسودة، ويتم مسح تلك الرسائل اولا باول حال الاطلاع عليها. من الواضح ان علاقتهم كانت علاقة ثقة وصداقة راسخة ومتينة، اضافة الى الانجذاب العاطفي. ومن الواضح ان احدا منهم لم يحاول السعي الى الانفصال، او ان يخططوا للعيش سوية.

ان اشد ما صدمني في تلك العلاقة، هو موضوع حملها، فقد فهمت ان زوجها غير قادر على انجاب الاطفال كما الاخرين، وان الحيامن عنده ضعيفة جدا. وقد اقترح عليهم الطبيب الخاص ان يحاولوا عملية اطفال الانابيب، الا انها كانت قد قررت الحمل من سام وفعلت، موهمة زوجها بنجاح عملية الانابيب تلك. كان ذلك امرا عظيما بالنسبة لي، ولكنني محكومة بالجهل بالكتمان... كما انني لاحظت القلق والتشوش الذي اصاب سام، لم يكن راغبا في ذلك ابدا كما فهمت من محادثاتهما. ولكنها انقطعت عن لقاءه لحين ولادتها.

وقد فكرت من ناحية اخرى انه ربما من الجيد ان يكون لابنتنا سارة اخ في هذه الدنيا، قد يلتقون بشكل او باخر بعد رحيلنا، خصوصا وانني قد قررت عدم الانجاب ثانية، بسبب فقداني الاستقرار في علاقتي مع سام، وايضا بسبب طموحاتي العلمية والعملية وتزايد مسؤولياتي، من العيادة الى استاذة محاضرة في الجامعة الى المؤتمرات والندوات وورشات العمل في مختلف أصقاع الارض.

لقد استمرت لعبة الشد والجذب مع سام طوال الوقت، وكان هو على الدوام اغلى شيئا في حياتي. وقد حرصت على اذكاء نار المشاعر بيننا بطريقة أو باخرى كلما وجدت الى ذلك سبيلا.
ففي فترة معينة كنت قد اثرت غيرته من خلال اقامة علاقات صداقة حميمية مع رجال لا يدورون في فلك علاقاتنا العادية العملية او الاجتماعية. مثل الخباز الوسيم في الشارع المقابل، والذي جعلته يهيم بي من خلال الايحاء له بالاهتمام الخاص، ويضا اخباره ان زوجي لايهتم بي وانه عادة ماينسى عيد ميلادي. وكانت مفاجئة سام كبيرة حين قرع الجرس صباح عيد ميلادي وفتح الباب ليرى ذلك الشاب المهذب الوسيم وهو يقدم باقة جميلة من الورود مكللة ببطاقة تفيض بعبارات الغزل والأمنيات الجميلة.

وفي فترة اخرى كنت قد عملت بريد إلكتروني وهمي من احد المقاهي، وقمت بمراسلة بريدي الحقيقي منه، وقد تقمصت شخصية احد الاساتذة الجامعيين وهو يرسل مشاعره وتمنياته باللقاء ثانية في المؤتمر القادم، للاستمتاع سوية كما في المرة السابقة _كما يزعم. وحين وصلت البيت قمت بفتح تلك الرسالة متظاهرة بالابتسام والسعادة والانشراح، ومراقبة لردة فعل سام وفضوله. ثم ذهبت الى الحمام تاركة الكمبيوتر والبريد مفتوحا، وراقبت كيف ان سام قد قفز الى الكمبيوتر وسجل العنوان الالكتروني للمرسل، وما هي الا سويعات حتى بعث برسالة الى ذلك البريد الوهمي متوعدا ومهددا في حالة تكرار تلك المراسلات. لم يجيبه ذلك البريد طبعا، وبدلا من ذلك جاءني منه موعد للقاء في هوتيل قريب من موقع المؤتمر القادم، وتركت الكمبيوتر مفتوحا ثانية ليتسنى لسام الاطلاع على التفاصيل، وقد قام في هذه المرة بكتابة تفاصيل الموعد من الزمان والمكان، كل ذلك وانا اراقبه من خلال الكاميرا المزروعة في الصالة. وقد عرفت بعدها من خلال مراسلاته مع عشيقته انه هيا نفسه للسفر والايقاع بي في ذلك المكان. وكنت قد انتظرته في مكان خفي مستمتعة برؤيته يقطع الاف الكيلومترات ليقبض على مع عشيقي الموهوم... وقد حضر بالفعل، وكان يقف قلقا بين عالمين، فهو من جانب يتمنى ان يقف بنفسه على دليل مادي لادانتي، حتى يريح جزءا من ضميره حول علاقاته الاخرى، ومن جانب اخر يتمنى ان لايكون ذلك صحيحا وانني له وحده وليس لاي احد سواه. لقد كان مرتبكا ومشوشا وهو يعتمر قبعة عريضة ونظارات سوداء، وانا اراقبه عن كثب، وبعد ساعات من الانتظار الغير مجدي، نهض محاولا الذهاب، ولكنه اصطدم بشابة جميلة واوقع حقيبتها، وكانت حينها صورة للقطة حميمية وهو يلتقط الحقيبة ويعيدها لتلك الشابة مع ابتسامة عريضة.
لقد جن جنونه وهو يستلم في اليوم التالي ايميل يهدده باعطاء تلك الصورة لي واخباري عن خيانته لي مع تلك الشابة في ذلك الهوتيل البعيد.
وبالطبع فانا منهمكة في عملي "ولا اعلم اي شئ"....




الجزء الثاني

بالقدر ما اثارت تلك الحادثة من تشوش وقلق عند سام، بقدر ما ازعجتني وقللت من احترامي لذاتي، واشعرتني بضعفي وقلة حيلتي ازاء مشاعر الغيرة والخوف والقلق الذين يقلان مضجعي.
كان واضحا انها غيرت كثيرا في علاقتنا...
لم اشا ان ارى سام على هذا الحال من قلة الحيلة والشك والتوتر والتشوش وربما الغضب في داخله. كان صعبا جدا عليه ان يصدق او لايصدق دوري في ما يحدث. واصبحت الاسئلة تتطاير في ذهنه عما يجري وحقيقته، كانت هناك خيوط خفيه تشير الي من قريب او بعيد. ولكن ترتيب الاحداث ونوعها لايعطي اي خيط او دليل لادانتي.

وقد حزنت انا كثيرا لما حدث، وقررت الابتعاد عن تلك الافعال. ولكن ذلك قد اثر ايضا بشكل سلبي على علاقتنا، اذ انني بقراري اعتاقه من تحكمي ذلك كنت قد فقدت المزيد من المشاعر والحميمية تجاهه، وكان ذلك مريحا ومؤلما في الوقت ذاته.
اذ انه كان يؤلمني ان تضعف علاقتنا وباي شكل من الاشكال، لانها كانت تعتبر لي الحصن الحامي لي ولابنتي ومستقبلي حين يدور بي الزمن، واصل الى سن الكبر.
وبنفس الوقت اعطاني ذلك الابتعاد المزيد من الوقت والطاقة للاهتمام بعملي وتطوري العلمي، الذي كان يغذيني بالكثير من الاعتزاز بالنفس من جهة، ومن جهة اخرى فاني اعتبره مفيدا جدا للهدف الاسمى بالنسبة لي، وهو فائدة البشر جميعا، وتكثيف الجهود والبحوث التي تصب في صحة الانسان وسعادته.

كما انني اصبحت اميل الى مجامعة رجالا اخرين، ولكن هذه المرة عدم اشراكهم بوعي في تلك العلاقة. ولذلك فقد اخترت من زبائني من يعجبني ويشدني اليه، وبنفس الوقت يملك الحاجة الى الممارسة الجنسية او الروحية لكي تتحسن حالته الصحية. وابتدات بطريقة جديدة بالعلاج النفسي اسميتها (الاشباع الغريزي). وكانت تستند مبدئيا على ان معظم المشاكل السابقة او التحديات المستقبلية ممكن معالجتها او التخفيف من حدتها عن طريق اشباع كامل او جزئي للغريزة الجنسية. وبهذا فقد كنت انومهم مغناطيسيا، ومن ثم اعطيهم التوجيهات لتخيل تلك المشكلة القديمة، او التحدي المستقبلي على شكل امراة جميلة، وبدلا من الصراع معها او مقاومتها او اعتبارها مشكلة مستعصية، الاندماج والاستمتاع معها واعتبارها شيئا جميلا ومحببا وضروريا. وكنت اضع نفسي موضع تلك الحاجة في عملية الممارسة، سواء كانت الحالة تعاني من هجران او الم عاطفي، او شوق الى امراة صعبة المنال، او نيل تقدم وانجاز على الصعيد العملي اوالعلمي، او حتى في حالة الحاجة الى المال او السلطة، اوالتهرب من الضغط النفسي العالي في العمل، او الحرمان من الام اثناء الطفولة المبكرة.

لقد كانت تلك التجارب مهمة بالنسبة لى في اكتشاف عوالم موازية للحياة المالوفة ولكنها محكومة دائما بالعار والكره والنفور من قبل المجتمع. لقد استنجت ايضا ان دور بيوت بيع الهوى او الدعارة كما يسميها الكثير بغضا وانتقاصا، هي ضرورية جدا للصحة النفسية للمجتمع، وان العاملات في تلك الدور، لهن الفضل الكبير في دعم الصحة النفسية والعاطفية في المجتمع، وفي تفريغ الكثير من الادران والكبت والمشاعر السلبية التي تفتك بالافراد. وانهن في موضع هام، تماما كما كان يتم النظر اليهن وتقديرهن في فجر الحضارة في بابل مثلا، فقد كانت مهنة بائعات الهوى تبرعية ومقتصرة على بنات العوائل النبيلة، وتحدث في المعابد المقدسة من اجل خدمة الهة الحب والتكاثر عشتار، وكانت كنيتهن قاديشو_ اي القديسة. ولو كنت املك السلطة الان، لاعددت بيوت العلاج الجنسي النفسي في كل مكان، تحت اشراف علمي، ولاقمت الدورات التاهيلية الصحية والتقنية للعاملين فيها من كلا الجنسين، لمعالجة النساء والرجال على حد سواء فهم لايختلفون كثيرا في تلك الحاجة للعلاج...

لقد اكتشفت ايضا ان الزبائن الذين يدعون "الاخلاص" او "التدين" ظاهريا، هم الاكثر اندماجا وتفاعلا في العملية الجنسية وهم تحت التنويم. وكما تعلمين يافاتي فان الانسان يستطيع فقط ان يقوم بالافعال والامور التي تتناسب وتنسجم مع امنياته ورغباته وقيمه المكبوته، ولايمكن للمنوم ابدا ان يجعل من الزبون ان ياتي باي فعل يتنافى مع مبادئه وقيمه وهو في الحالة العادية.

وحين انتهاء تلك الجلسات، حرصت على ان اعطي للزبون تعليمات نسيان تلك التجربة واقعيا والاحتفاظ بها كحدث تم في الخيال لاشباع الارتواء. وكانت الاضافات كثيرة لذلك الارتواء حسب حاجة الزبون ووضعه النفسي، والنتائج في تحسن الزبائن وبلوغ اهدافهم كانت جيدة ايضا.

لقد كانت تلك التجارب عميقة وخاصة في مجال الجراة في بحثي العلمي ومفيدة لي من الجانب الاخر في الكف عن ملاحقة سام كما كنت من قبل، والعمل على بناء علاقة طيبة ووطيدة معه.

وكان ما حل به مثيرا، فقد اثرت تجربة سفره الفاشلة تلك، كثيرا على وضعه النفسي وتوازنه. اذ انه وبطبعه وتركيبته النفسية يحب ان يفهم ويسيطر على كل شئ في عالمه، وكان ذلك مايلزمه ليحس برجولته اولا، ومن ثم بالامان والاستقرار الداخلي ثانيا، وان لا يترك اي شئ للقدر او الصدفة. فكل شئ في حياته محسوب بدقة واتقان، وقد وجد نفسه بعد تلك التجربة ضعيفا تجاه قوتان؛ الاولى نحوي، اذ انه احس اكثر من ذي قبل بامكانية فقداني، وباهمية وجودي في حياته كرصيد كبير يعوضه عن حنان الطفولة المفقود. وكان ابتعادي العاطفي عنه وتخيله لفقداني شديد الوطئة عليه. وبهذا ايقن ان سعادته لاتكتمل الا بوجود شئ في حياته خارجا عن ذاته، وعن حدود تحكمة كما يرغب هو او يريد، وذلك مما اقلق دواخله.

والعامل الثاني ان هناك مجهولا ما يترقبه ويتحكم به، وهو غير قادر على الرد المباشر لانه لايعرف من هو ذلك المجهول. وهو وان كانت بعض الاسئلة تثار في داخله من كوني انا هو ذلك المجهول، الا ان براءتي امامه وانشغالي العميق بعملي وابحاثي كان يبعد اي شبهة لذلك. فان كان ماحدث يعني انني على اعلم به، وادير كل تلك الاحداث فتلك مشكلة كبيرة، وان كان يعني انني لااعلم بما يدور وان من يواجهه هو شخص اخر مجهول فهذه مشكلة اكبر. لقد اثر ذلك كثيرا على دفق الحياة فية وبرز اكثر على خمول طاقته الجنسية.

لقد مرت بعدها سنوات من البرود، ومع تقدم العمر كان الزمن قد حفر شقوقا خفية بيننا. لم تؤثر تلك الشقوق على علاقتنا كاصدقاء، الا ان ذلك لم يكن الاهم لكلينا، لانها اثرت على رغبتنا وتشبثنا بالحب ونبض الحياة ولذتها.

وعلى الرغم من انه على وعي بما الت اليه علاقتنا، وتاثير ذلك على كلينا، وعلى الرغم من معرفته الواسعة وقدراته المتفوقة في التغلب على جميع المشاكل والعقبات العملية او الاجتماعية ومن اي نوع، كما اثبت ذلك طول حياته، الا انه لم يعمل الكثير على اعادة تلك الحياة وذلك الوهج بيننا. بل وعلى العكس فقد انغمر اكثر واكثر باعماله. وكذلك مع عشيقته تلك، وساعدها على بناء ثروة كبيرة فوق ثروتها.
اذ انهما اهتما بالمتاجرة بالعقارات والاملاك سوية ارضاءا لها. لم يكن هو يتكسب الكثير من المال من ذلك. كان يقدم لها كل النصح والمشورة والعروض للاتجار بتلك الفلل والشقق والبيوت الضخمة. وكانا يقضيان اوقاتا حميمة في تلك العقارات، بعيدين عن اي شبهة اولا، والاستمتاع المجاني بتلك الاملاك حتى وان لم يتم بيعها بالفعل. كنت اراقب كل ذلك وادرجه في باب المعرفة بالشئ، واحاول ان اشغل نفسي بامور اخرى.

لقد عرفت الان فقط كم كنت غبية في فعل ذلك... اذ انني كنت قد دست على اغلى شيئا في داخلي خوفا منه او عليه. كان علي ان اصارح، ان اشكو، ان اصرخ ان اتاوه مثل جميع البشر، فانا منهم على اية حال، لقد ركبني الغرور والمركز والالقاب، فتخيلت انني استطيع السيطرة على كل شئ حتى مشاعري، ولكن كل ما عملته بالفعل هو انني كنت اكبت تلك المشاعر وذلك الزخم، وانا اعلم من غيري من ان الكبت لايلغي الشئ بل يحول مسارة الى اتجاه اخر، وقد يكون الانفجار يوما وباتجاه خطير..

ان اكثر ما ركزت عليه واقلقني خلال كل تلك السنوات هو ابنتنا سارة ومصيرها. فقد كان يشغلني السؤال؛ كيف استطيع ان امهد لها حياة كريمة خالية من العقد والمشاكل التي نعاني جميعا منها. وكيف امد لها يد العون، لتكمل حياتها بسلاسة وانسجام مع داخلها كامراة، وايضا انسجاما مع الطبيعة التي يسعى الانسان الحالي وبكل الطرق الى تشويهها والى تقويضها فوق راسه. في مجتمعات تمور بالامراض والتشوهات والالام والعقد النفسية. ثم والاهم من ذلك كيف افسح لها المجال لاكتشاف كل ذلك، دون الاحساس باي تدخل او تحكم مني او اي احد اخر، لان ذلك يفسد عليها طبخة الحياة كما اعلم.

كان ذلك الطريق وتلك الاسئلة هي من اعظم تحديات حياتي. وانا لااعلم لحد هذه اللحظة اذا ماكنت قد عملت ما هو مناسبا. ولكني شبه اكيدة بانني قد عملت افضل ما استطعت.
ان مدرسة (امنا الارض) التي التحقت بها سارة الان هي امل الانسانية في ان تعود الى فجر طفولتها الاولى مستعينة بنفس العناصر التي ساعدت الانسان على التطور والبقاء لالاف السنين، قبل ان تاتي ماتسمى بالحضارة، لتشوه قيم الانسان وصحته وحياته.
فكل مايعيشه الانسان الان تحت قوانين وعادات وتقاليد واديان وسياسات هي ضد فكرة تكوينه وتطوره وسعادته. لان السعادة موضوع ومعايشة فردية بحته، تختلف كثيرا وقد تتضارب احيانا بين شخص واخر.
وان معظم ما وجد في المجتمعات من قيم واديان وعادات وتقاليد هي من اجل خدمة السلطة في تلك المجتمعات. والعمل على جعلها كتل قادرة على التوسع والديمومة والسيطرة على المجتمعات الاخرى، وليس من اجل الناس كافراد ومجاميع قادرين على التعاون فيما بينهم ومع الطبيعة الام من اجل عيش افضل لكل ماهو حي من نبات او حيوان.

ولذلك فانني اعتقد ان مدرسة الغابة، او (امنا الارض) هي الخيار الافضل حاليا للاجيال للتعرف على الطبيعة وعلى انفسهم اكثر وايضا لممارسة الحرية الكاملة في بناء الحياة التي يحتاجها كل فرد.

لقد حدث تطور سلبي اخر في حياتنا بعد دخولنا سن الاربعين. فقد تبين اكثر من ذي قبل تاثير السلوك الحياتي العام للمجتمع على علاقتنا. اذ اننا مقادون ومتحكم بنا اكثر مما نعتقد. نحن ضحية تنويم مغناطيسي جماعي، نسير وندار بارادة اخرى، لها من الوجود والتاثير على حياتنا اكثر بكثير مما نعرف او نعتقد، وان هذا الامر يزيد خطورة مع الزمن. فالقنوات الحديثة للاعلام والدعاية والتسويق تقولب وتغير وتشوه الحياة وتفسد طعمها على الرجال والنساء على حد سواء.
لقد عملت الدعاية والاعلان على تبلد الاحساس والحس والسمع والشم والتذوق. في الوقت ذاته طاردت حاسة النظر واستغلتها وشوهتها الى نهايتها القصوى. وكل ذلك من اجل التحكم الاقتصادي والسياسي، خدمة لمصالح الشركات والقوى المتحكمة بالعالم اليوم. وجعل الناس يلهثون وراء شراء واقتناء اشياءا لا تساعد الا في زيادة الضغط النفسي عليهم، وعلى ابعادهم عن انفسهم وحاجاتهم الاساسية من الحب والاصدقاء والعلاقات الانسانية الجميلة والاستمتاع بالطبيعة. واضعاف قدرتهم على اختيار نوع الحياة التي توفر لهم السعادة الحقيقية.
وقد استخدم جسم المراة وشكلها بشكل مشوه لاجل جذب المستهلك. فاستخدمت صور جسدها مع العطور والملابس والسيارات والعجلات والتلفونات وحتى في الورش واماكن العمل، مستغلين بذلك الحرمان العاطفي والجنسي للافراد، والذين هم سببا فيه.
وهكذا تم الغاء القيمة الحقيقية للمراة كانسانه، وكنبع عظيم للحب والعطاء وللسعادة، مهما كان شكلها او عمرها. وتم وتصديرها على انها افخاذ رشيقة وطويلة، وارداف ممتلئة ونهود بارزة وشفايف ممطوطة. واصبح الرجل ضحية لتلك الصورة النمطية يلاحقها في احلام الصحوة والغفوة، ويلهث وراء تلك النهود والاعجاز دون ان يحصل على الاحساس بالاشباع منها، حتى وان ضاجعها وحضي بها. واصبحت المراة ترى كل في تجعيدة او تغضن في وجهها اوجسمها، خطرا لوجودها ومنذرا لها بفقدان قيمتها امام حبيبها، او الاهتمام بها من قبل الاخرين.
وانا يافاتي امراة قبل كل شئ، وان علمي ومعرفتي لايستطيعان من تحصيني امام احساسي وحمايتي من مخاوفي ورغباتي. لقد اصبحت اطيل الوقوف امام المراة في قلق، ازن بيدي كل يوم تكتل بطني وافخاذي، واحدق في كل تجعيدة او اثر جديد تحت وحول عيوني، اراقب الخطوط التي ابتدات ترتسم بين نهودي وفي رقبتي، واقلق ان طال شعري لايام بدون صبغ ناشرا ومعلنا عدد الخطوط البيضاء في شعري.
وهكذا اذن كان على ان اضع كل وجودي وقيمتي وخبرتي وحبي وعطائي للحياة والبشر في جانب، وان اقف امام المراة مثل مراهقة صغيرة لكي اجعل من مظهري ملفتا، بالاحمر والاسود والاخضر غيرها من الالوان، كما الدمية في سوق الالعاب. اذ لايوجد احدا في المجتمع هذا اليوم ممن يستطيع التعامل بالجدية والاحترام الكافي مع اي احد اخر، ان لم يجده قد تهندم على شاكلة الدمى الاخرى. وكل شعرة بيضاء تخط في راس المراة تحمل معها نذير التجاهل وقلة الاهتمام. وقد وجدتني اضعف واتقهقر واحارب زمنا يزيدني قهرا مع مرور السنوات.

وبالمقابل فقد كان لمجرى الزمن على سام منحا اخر، اذ ان شكل الرجل الخارجي وهو في الاربعينات مغر وجذاب، حتى وان احس هو بالوهن والضعف في داخله، فان مظهر السلطة والمال والكياسة تجعل لكل تجعيدة في وجهه وكل شيبة جديدة في راسة لمعان من الجاذبية والاغراء، حتى للشابات الصغيرات، تجري وراءها كما تسبح الاسماك لحتفها وراء كل مايلمع لها في البحر.

اه يافاتي لو تعرفين قساوة السنوات الاخيرة التي عشناها. فبرغم اننا قد حققنا النجاحات الكثيرة على المستوى المهني والاقتصادي والاجتماعي... الا ان ارواحنا كانت قد ذوت، ومشاعرنا قد تحجرت تجاه بعضنا واصبحنا مثل ثمرتين ذابلتين قد فات وقت قطافهما.
يبدو يافاتي ان الدماغ البشري يسوق الانسان في النهاية الى كيفما كانت عليه بدايته. ربما لانه كان قد تبرمج هكذا على الحياة في الصغر او هكذا تعامل معها لاول مرة.
فقد اصبح سام منزويا في السرير لوحده، منطويا على نفسه في وضع الجنين. تماما كما كان يصور ذلك لي وهو في طفولته. فبضعف علاقتنا الروحية ضعف عنده احساس التنعم بحنان المراة وعطفها وعنايتها، وصار يحمي نفسه بالوحدة والانعزال الروحي، وكنت احس به حتى ونحن في قمة الاندماج والاستمتاع مع المعارف والاصدقاء.

لقد عاقبته انا دون قصد مني بالحرمان، ورد هو علي بالاهمال دون قصد ايضا. ولم يكن اي شئ اقسى علي من ذلك، فعدت هائمة ضائعة كما كنت ايام طفولتي، اعيش احساس الضعف والضياع كطفلة بلا اب يحميني.

لقد كنا ننام جنب بعض ولكن ارواحنا كانت تهوم في اماكن وعوالم اخرى. ويا للمفارقة يافاتي، لقد كان كل منا يسمع الصرخات المكبوتة عند الاخر.. ويعجز عن الاجابة او التلبية، رغم حاجته الخاصة لتلك الاجابة ايضا.

لقد كانت تاتي فترات يعذبني التوق فيها الى حياتنا الجميلة السابقة، واتذكرها مثل حلم جميل بعيد، او امل ضاع دون رجعة.
وفي نهاية العام المنصرم، ومع اقتراب ايام الاحتفالات بالعام الجديد وتهيؤ الناس والاسواق والقاعات لذلك الحدث، اشتد في الحنين لايامنا الجميلة تلك، وقررت ان اقوم بالمبادرة وادعوه الى قضاء عطلة جميلة في الجزر الكاريبية وفي نفس المكان الذي اقمنا فيه في شهر العسل. وان احاول ازالة ماعلق من صدا في مشاعرنا، وما تحجر من تواصل. وعدت احلم الى اعادة اجواء الحب والحميمية.
وكنت قد اشتريت البطاقات وحجزت في افضل الهوتيلات واعددت المفاجئة، ولكن... كانت عشيقته هي الاخرى قد اعدت عدتها من جانبها، فقد اثر بها بروده كما اثر بي، وقد انقطع عنها بشكل شبه تام كما فهمت، وقد الحت عليه بدعوته الى اي مكان يرغب في راس السنة ايضا ولم يلبي دعوتها... وعندها رمت اليه باخر ورقة عندها....اخبرته انها سوف تجلب ابنه معها ليستمتعون سوية بغفلة عن الزمن، وليقابله ويعيش معه لاول مرة لايام جميلة، واوضحت له ان تلك فرصة نادرة قد لاتتكرر. لقد اصابت هدفها فيما ارادت وحصلت على بغيتها. فجاءني في احد الايام معتذرا عن قضاء راس السنة سوية لاول مرة، وذلك لانه بصدد "زيارة عمته في المدينة الاخرى وهي تعيش اخر ايامها"
وبرغم انني كنت قد اعددت نفسي لتلك الصدمة... الا ان ما اصابني لم يكن قليلا وقتها.... فبدلا من روح السماح والحنان والحب التي احضرت نفسي لها، تلاطمت امواج من الغضب والضياع وخيبة الامل والالام والصرخات المكبوتة. وقد اجبته بالتفهم والايجاب، وليتني لم اجب.... لو كنت قد صرخت يافاتي وقتها، لما انتهت صرختي لحد الان، ولو كنت قد عبرت عن غضبي بالتكسير، لكنت قد كسرت جميع ماعلى الارض.... ولكنني غبية ثانية، لقد كبرت وانتفخت ذاتي مع المنصب والجاه والالقاب ونسيت الطفلة في داخلي، بل دست عليها. كانت تلك فرصة يافاتي لفتح الملفات والتحدث بصراحة وبهدوء عن كل شئ حدث معي ومعه، ولكن الغرور والكبرياء الفارغ قد عمى كلينا.

وقد تصادف ذلك مع مراجعة احد الزبائن لي. وكان من الرياضيين المتفوقين والمشهورين. وقد حقق الكثير من الميداليات والالقاب. ولكنه يعاني من مشكلة حبه لتعذيب الحيوانات، وخصوصا الكلاب والقطط. اذ كان في صغره ضحية تربية قاسية لزوجة ابيه، التي كانت تحب الكلاب والقطط وتفضلهما عليه بالمعاملة في كل شيء. وكان يقوم وقت غيابها بتجارب مختلفة على تلك الحيوانات، كان يقشر الجوز الى نصفين ومن ثم يلبس تلك القشور في ارجل القطط، وينتظر قدوم السيارات ليرمي القطة امامها، وحين تحاول الانهزام والركض فانها تصاب بالذعر الشديد. اذ تبقى مكانها مهما زادت من سرعة حركتها، بسبب ماالبس في ارجلها من قشور، والسيارة تتقدم لسحقها. وكان ياتي بالعلب القصديرة الفارغة ويضع بها بعض من الحصى ويربطها الى رقبة الكلب ومن ثم يضربه ليركض، فتصدر ضجة كبيرة، وكلما ركض الكلب اكثر كلما زادت الضجة والطقطقة وزاد هلعه.
فكانت لي صفقة مريعة مع ذلك الزبون، ففي اخر جلسة تنويم عملتها له، اخبرته ان كل شئ يسير على مايرام معه، وانه على وشك الشفاء التام، وما عليه الا ان يقوم باخر شئ في حياته تجاه الحيوانات ليشفى وينتهي من تلك الحالة الى الابد. واعطيته التعليمات؛ عنوان الشاليه الذي سوف يقضي سام عطلته معها، وانا اعرف مسبقا انها لاتفارق قطتها البيضاء تلك، فهي رفيقتها في جميع المناسبات والحفلات والصور، واخبرته بان يستدرج القطة تلك، ومن ثم يربط برقبتها حبل طويل من القطن منقوع بالبنزين، وان يضربها لتركض ثانية الى البيت ثم يشعل النار في طرف الحبل الاخر من جهته ويغادر المكان بهدوء.

لقد جاء سام للبيت في اليوم التالي فقط، وقد افزعني مارايت حين اقفل الباب وراءه... انه بنصف شارب وبدون حواجب.. لقد احترق الكثير من شعر وجهه ويديه ومنظره يثير الرعب والفزع، خصوصا وهو يحدق بي مباشرة وعيونه تتطاير شررا ولسانه يقبع على الاف الاسئلة. ركضت نحوه محاولة احتضانه وصرخت، مالذي احل بك حبيبي؟ فاجابني بزجر وعنف: هل سمعت بجنهم؟؟ ان الناس تسمع بها ولا اظن ان احد منهم قد راها، ولكن هوة منها تنفتح علي بين الحين والاخر... هل تعلمين ذلك؟؟ سالني بتهكم وازاحني عن طريقه.

لم يكن لنا بعدها غير السكون الذي يتلو العاصفة... والجمود التام في كل تواصل بيننا، وابتدا بعدها مراجعاته للاطباء الى غير نهاية. فلم يدم علاج بشرته وشعره الكثير من الوقت، ولكن الاطباء وجدوا خللا في الغدة الدرقية.. تبعه مشكلة في عمل الجهاز اللمفاوي وتشخيصا سريعا للسرطان الذي بدا بالانتشار بالرئتين والكبد وباقي اعضاءه، ليفارقنا بهذه السرعة.

كانت الروائح المبثقة من الصالة قد تكثفت في الممر حيث ياسمينه التي اشرفت على الانهيار وهي تتحدث للمراة_ حيث ترى وجه فاتي، وتروي لها كل تلك الامور والاحداث، ولاول مرة يتشنج حديثها ويبح صوتها وتستغرق في البكاء.. وتردف، يافاتي انت تعلمين ان ليس لي في الدنيا غيرك وخصوصا الان. فبرغم كثرة المعارف والاصدقاء، الا ان احدا منهم لا يستطيع ان يفهم ويعذر ويحترم ما مررت به منذ يوم زواجي، وما يزيد العبء علي انني بروفسورة وطبيبة نفسية. فكانني لست امراة او بشرا ممكن ان يحب اويكره، يستمتع او يعاني، يسكر او يمرح ويصيب او يخطئ مثلما هو حال جميع البشر. كما انني اعلم انني غريبة جدا عن عالم الناس، فانا منهم ولكني اكثر الاحيان وحتى في غمرة الاندماج في الجلسات معهم، اراني خارجة عنهم كاني اراقب الاحداث واراقبني من شرفة عالية.. غير منتمية لاحد او الى زمان او مكان. لذا فانا افهمهم جيدا ان قالوا عني غريبة الاطوار او مجنونة، فربما انا كذلك بالفعل، ولكن ورغم كل ذلك فانا بحاجة لصديقة. لقد كانت فرحتي كبيرة بك حين قادتني احدى جلسات تاملي الى خلقك كصديقة لي، تنبهني برفق ان اخطات وتساندي وتؤازرني في ازماتي ومحني... خصوصا وان مامررت به كان استثنائيا في كل شئ. لقد كنت انت سندي كلما استحضرتك كل هذه السنوات، والان ولاول مرة اراك هنا امامي دون دعوة مني... وعادت تحدق بصعوبة بالمراة.. لترى شفايف فاتي تنطق وتسمع صوتها يجيب: انت متعبة ياياسمينه وانا افهم ذلك، ولكن المسؤولية ملقاة على عاتق البشر في كل ما يفكر او يقول او يفعل، وانه ان فقد حبل السيطرة على الغضب والانفعال، فقد معه القدرة على العيش بسلام والحفاظ على كل ثمين له في هذه الارض.
تراجعت ياسمينه الى الوراء.. وقد اجتاحتها موجة من الغضب وصرخت.. اسمعي يافاتي... لاتبتعدي بالقارب بك لوحدك... فانت تعلمين انك انا، وانت تعلمين بانني قد سيطرت وداريت وتحملت مالايمكن لاحد ان يتحمله، وانني قد احببت وضحيت... وان ميزان كل علاقة مهما كان نوعها يصاب بالخلل حين يكون احد الطرفين مضحي، والاخر فاتر متلقي مسترخي. وانا لااراك تنطقين بالحق والمعقول كما كنت تفعلين دائما. ويبدو ان حبل مودتنا قد انقطع هو الاخر.. وحان الوقت لاحدانا ان ترحل... وعندها خلعت قبعتها بكل عنف لتضرب وجه المراة...
سمع تكسر مئات القطع الزجاجية وتبعثرها في الممر... اطفئت الانوار في تلك الليلة ولم يراها احد متوهجة في البيت بعدها ابدا


الجزء الثالث

بعد اكثر من مائة عام على تلك الاحداث، كانت هناك مظاهرة كبيرة تطوف المدينة وتتركز صوب شمالها حيث الغابة القريبة... لقد باعت السلطات تلك المنطقة الى احدى الشركات الكبرى لاقامة منتجع سياحي وتجاري كبير، وازاحة المقام المقدس "للسيدة فاتي"_ عذراء الغابة، كما يلقبونها. وها هم جموع الاهالي والمريدين ينتفضون دفاعا عن هذا المقام الهام.
فمن منهم من لم تساعده السيدة العذراء فاتي في مرض او محنة او شدة، لقد عرفوها كما عرفها اباءهم واجدادهم من قبل، سندا لهم وحاميا ومنقذا في الظروف الصعبة، لايوجد احدا في المدينة ينكر ذلك. لقد خرجت_ كما يقول الاجداد ممن عاصروها _من رحم الغابة، عذراء لم يمسسها رجل ولم يعرف لها من اهل او عائلة او اقارب، وكانت تشفي الاطرش والاعمى والابرص والمشلول وتشفي جميع الامراض وتحل جميع العقد والمشاكل، بلمسة منها او بدواء من الاعشاب من صنعها او بتميمة تلقيها في اذن الزائر. ولم تخيب في ذلك من احد. وكانت ترفض اي نوع من الهدايا او العطايا او الاجور، وتقول ان جزائي هو ان تحبوا بعضكم كاخوة، ومن استطاع منكم فليزرع شجرة اينما يكن ويحرص على ارواءها. وستعطيه الشجرة بالمقابل اكثر مما يتوقع او يريد. وهكذا فقد ابتدا الزوار والمريدين وقتها بزراعة الاشجار حول كوخها الصغير الواقع خارج المدينة، وحفر القنوات للارواء من البحيرة القريبة. حتى نمت وتكاثرت لتصبح تلك الغابة الكبيرة.
واقام بعض المريدين بيوتا واكواخا قريبة منها، حيث يتسنى لهم التنعم ببركاتها وخدمة غابتها. وحين وافاها الاجل كما يقول الاجداد، لم يرى احد لها من جثة. بل اضاءت الارض والسماء وعبق عطر في الاجواء لايام عديدة... .
ولم يحرم اي محتاج او مريض مساعدتها حتى بعد ذلك، اذ لايصعب على احد من الحصول على بركاتها حين يقصد مقامها، حيث روح الشفاء والعلاج تطوف في المكان، وحيث قدر للبعض من ان يتعرفوا الى النباتات الاعشاب والعصائر والوصفات التي كانت تعالج بها، كما انها تاتي في الطيف للمقيمين في حضرتها، وتساند كل مريض لحين شفاءه. واستمر الناس بزراعة الاشجار امتنانا وعرفانا لها، لانها كانت تخدم الناس جميعا دون تمييز، ولم يعرف عنها انها تنتمي لاي طائفة او مذهب او دين.

ان الجرافات الان مستعدة لازالة الضريح على جانب الطريق مسنودة بجموع الجيش والشرطة، ولكن الناس على الجانب الاخر يقفون درعا حاميا للغابة والمقام... بعد اسابيع عديدة من ذلك ضعفت كتلة المدافعين تلك، جراء قسوة الظروف والاجواء وانحسرت قوتهم، وتشجعت السلطات للتنفيذ وابتدا اليوم الحاسم للبدا بالمشروع، حيث ابتدا قلع الاشجار في الصباح الباكر... ولكن وماهي الا سويعات حتى سمعت اصواتا وهديرا للمشاة والسيارات وهي تاتي مساندة من المدن الاخرى.
اذ ان فضل السيدة فاتي كان قد تعدى كل الحدود، وافاد جميع الناس من اقصى البلاد الى اقصاها، ولم يكن هناك بد من وقف الاعتداء عليه. عندها امرت السلطات بتوقف المشروع وابقاء الوضع على ماهو عليه.


وبعد مرور مائتا عام... تجمع الناس من كل صوب، في الذكرى المئوية لحادثة "تدخل السماء" في الدفاع عن "عذراء الغابة" كما يؤكدون... واوضح المرشدون السياحيون للوفود والسواح القادمين من مختلف ارجاء المعمورة، كيف تعطلت جميع المعدات التي حاولت الاعتداء على المقام الشريف قبل مائة عام وكيف شبت بها النيران لوحدها امام مراى الناس... وكيف شلت ارجل الشرطة والجنود كلما حاولوا التقدم والاعتداء على المقام، وعن تشريد الباقين منهم، وجعلهم لايستطيعون النوم لعدة ايام، الى ان باشروا بزرع الاشجار تكفيرا عن خطاياهم.... كما اوضحوا فضل سيدة الغابة على البلاد والعباد، ودورها كمنقذا لهم من اخطاءهم، وحاميا ضد الاعداء.
لم تكن انسانة مثل الاخرين كما كانوا يقولون، بل كانت وهجا من ضوء وطيفا خفيفا يمر بالزائر والمريد، كما كانوا يؤكدون. وكانت تتجلى للمريض وتسانده في محنته ايا كانت، وتهب للمحتاج لتلبية ما يحتاجه. وكانت روحا طاهرة نزلت من السماء لتساعد جميع البشر بدون استثناء.... شريطة ان يؤمنوا ويخلصوا لها.



#علي_ديوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذكرات كلب سائب
- لحظة....حياة
- حول تصريح السيد نوري المالكي حول اللاجئين
- ترجمة الخطاب الذي القي امام السفارة العراقية في كوبنهاكن يوم ...
- ازمة غزة والاعلام الالكتروني
- ضرب الرئيس الاميركي بيل كلنتون بالاحذية العراقية والدنماركية


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ديوان - الزوجة آخر من تعلم