أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - فياض محمد شريف - مدخل الى نظرية التعقيد و التفكير المنظومي Introduction To Complexity Theory And Systems Thinking أو النظرة العلمية الجديدة للعالم















المزيد.....



مدخل الى نظرية التعقيد و التفكير المنظومي Introduction To Complexity Theory And Systems Thinking أو النظرة العلمية الجديدة للعالم


فياض محمد شريف

الحوار المتمدن-العدد: 6144 - 2019 / 2 / 13 - 11:57
المحور: الطب , والعلوم
    


"بدون تغيير أنماط تفكيرنا، سوف لن نتمكن من حل المشاكل التي نوجدها بنمط تفكيرنا الحالي" آينشتاين (Cabrera, 2006).
مقدمة
علمتنا الأساطير و الفلسفة و علوم القرن السابع عشر و الثامن عشر و التاسع عشر مكللة بقوانين ميكانيك نيوتن أن العالم يسير بانضباط عالي الدقة كما يبدو من ظاهر حركة الكواكب و النجوم و توالي الليل و النهار و الفعل و رد الفعل، بل هو يعمل كالساعة المتقنة. غير أن ظهور النظرية النسبية بتأكيد تغير الزمان و المكان و تفسير الجاذبية في مطلع القرن العشرين و فيزياء الكم وما كشفته من تقلب الأشياء و عدم الدقة و احتماليات الحقيقة لا ثباتها وما احدثته من تطبيقات تكنولوجية متعاظمة كشفت لنا أن ما نراه و ندركه هو مزيج من النظام و الفوضى مر و يمر بتاريخ متعرج من التعقيد بدأ من الصفر (النقطة المفردة في الانفجار الكبير) و وصل الى أعداد هائلة من الجسيمات و المادة و كميات اعظم بكثير من الطاقة و المعلومات و الاعظم منها من المادة المظلمة و الطاقة المظلمة.
عند تفحص الطبيعة من ناحية المكان (الأبعاد: الأطوال و الحجوم)، ثمة الأبعاد التي يتعامل بها الانسان و الأحياء الأخرى و تكون بحدود ملمترات الى سنتمترات و امتار و كيلومترات و الذي يسمى أحيانا بالعالم الوسطي (Meso World). و ثمة أبعاد مهولة تتمثل بحدود الكون المرئي و تصل الى 1025 م تنتشر فيها مليارات المجرات التي تتألف من مليارات النجوم و أعداد أكبر من الكواكب و الكويكبات. و هذه المسافات تقاس عادة بالسنة الضوئية التي تبلغ 9 x 1015 م. و هذا المجال من الكون مع الحيز الذي يتعامل به الانسان يسمى بالعالم الكبير (Macro World). في المقابل ثمة العالم الصغير (Micro World) الذي يبدأ بأجزاء الألف من المليمتر (الميكرومتر) نزولا الى النانومتر(1 x 10-9) و ما دونه. و في العالم الصغير يمكن تمييز مستويين من الأبعاد: الأبعاد النانوية (Nano Dimensions) التي تنحصر بين 1 و 100 نانومتر و الأبعاد الذرية التي تقاس بالبيكومتر (10-12) و الفيمتومتر (10-15). المواد في العالم الصغير (النانوي) يمكن أن تظهر صفات تختلف كثيرا عما تظهره في العالم الكبير بسبب المساحة السطحية العالية مقارنة بالحجم. فالمواد غير الموصلة للكهرباء يمكن أن تصبح موصلة له، كما أن بعضها يتوهج بدرجات حرارة أقل كثيرا عما هو في العالم الكبير و غير ذلك. و لهذه الأبعاد أهمية كبيرة جدا حيث تفسر جزئيا الخواص و الفعاليات الغريبة التي تظهرها المواد و الخلايا الحية كون اجزائها الفعالة الرئيسة ذات ابعاد نانوية. كما أن سلوك المادة في العالم الصغير الذي تحكمه بشكل واضح قوانين ميكانيك الكم، يظهر الحالات الفريدة المتمثلة بازدواجية الوجود كأجسام و موجات في نفس الوقت، و ظاهرة التراكب الكمومي (Superposition) حيث تكون في أي مكان حسب احتمالياتها، و حالة الإختراق (Tunnelling) حيث تتخطى حواجز الطاقة، و ظاهرة التشابك (Entanglement) بين الجسيمات التي تبدي ترابطا سلوكيا بغض النظر عن المسافة الفاصلة بينها. هذه الخواص تظهر بفعل ما يعرف بالتماسك (Coherence) بينما لا تتبدى هذه القوانين واضحة في العالم الكبير الذي تحكمه قوانين ميكانيك نيوتن و النسبية بسبب فك التماسك (Decoherence). غير أن الأجسام و النظم في العالم الكبير تتألف بدورها من مكونات و نظم تقع في أبعاد العالم الصغير (الكترونات و بروتونات وذرات و جزيئات)، ما يجعل من ظواهر ميكانيك الكم تعمل في العالم الكبير أيضا في بعض مظاهرها على الأقل( Abbott et al.,2008). و هذا ما يدفع الفيزيائيين لإيجاد نظرية موحدة (نظرية كل شيء) والتي تفسر سلوك المادة و الطاقة و المعلومات. لقد توصل الفيزيائيون (Turok, 2015) الى معادلة شاملة يقال عنها أنها تشمل الفيزياء كلها:
مع ذلك فجهود العلماء لا تتوقف من أجل إيجاد نظرية شاملة تتضمن نظرية الأوتار (String Theory) أيضا التي تم توحيد نسخها المختلفة في نظرية M. كذلك محاولة توحيد النسبية مع ميكانيك الكم في نظرية الإنبثاق (Emergency Theory) من قبل فريق (2017) Irwin.
بينت الأبحاث و الدراسات في شتى فروع العلم في العقود الأخيرة، عدم كفاية فهم الظواهر المختلفة خصوصا المعقدة منها كالطقس و الزلازل و النظم البيئية للأحياء و عمل الدماغ البشري و حركة المجتمعات و تقلبات الأسواق و عمل الجينات و غيرها، على أسس المنهج التبسيطي الاختزالي و كذلك المنهج الألي الحتمي و ضرورة أن تكون الدراسات للنظم الكلية كما هي في الواقع بكل تقلباتها و احتمالات نتائجها. كما بينت أهمية تضافر العلوم المختلفة كالرياضيات و الحاسوب و الفيزياء و الكيمياء و علوم الحياة و العلوم الإجتماعية و الإقتصاد و غيرها في تناول الظاهرة. حصل هذا بعد عقود من التفارق و التطور المنفرد لكل علم على حده باعتماده المنهج التبسيطي الاختزالي بتفكيك الظاهرة المعقدة الى اجزائها المكونة و الذي كان ضروريا في المراحل السابقة على مدى 300 سنة و أدى الى بلوغ كل منها مستويات رفيعة من تراكم المعلومات و المعطيات و الكشف عن القوانين التي تحكم مكوناتها.
ظهرت نتائج هذا التوجه الجديد في العقود الأخيرة من القرن العشرين بنشوء علوم بيولوجيا النظم (Systems Biology) و المجموع الجيني (Genomics) و المجموع البروتيني (Proteomics) و المجموع الأيضي (Metaboleomics) في البيولوجيا و التقنية النانوية (Nanotechnology) و علم التعقيد (Complexity Science) و التفكير المنظومي (Systems Thinking) على المستوى العام. كما نشأت مراكز بحوث متخصصة مثل Santa Fe Institute و New England Complex Systems Institute و The Complex Systems Network of Excellence في الولايات المتحدة تضم باحثين ذوي رؤى بمختلف التخصصات للإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تهم البشرية كنشوء و تطور و مصير الكون و الحياة. و كان محقا عالم الفيزياء الكبير ستيفن هاوكنك حين أعلن أن القرن الحادي و العشرون سيكون قرن التعقيد(MacKay, 2008).

نظرية التعقيد (Complexity theory)
أنا الأول و أنا الآخر
أنا البغي و أنا القديسة
أنا الزوجة و أنا العذراء
أنا العاقر و كثر هم أبنائي
أنا في عرس كبير و لم أتخذ زوجا
أنا القابلة و لم أنجب أحدا
و أنا سلوة أتعاب حملي
أنا العروس و أنا العريس
و زوجي من انجبني
أنا أم أبي و أخت زوجي
و هو من نسلي
عشتار
(فراس السواح،2002)
تتضمن نظرية التعقيد عددا من المفاهيم العامة:
الوحدة و التنوع (Unity and Diversity)
وحدة الوجود ترجع الى أن كل شيء نشأ من الطاقة ثم المجال الكمومي (Quantum field). والأخير هو بحر متلاطم من نسيج المكان و الزمان (الزمكان) عند التوسع السريع للكون بعد الانفجار العظيم. كما أن جميع الجسيمات الأولية التي تكونت من المجال الكمومي و كذلك الذرات التي كونتها و تكونها و كل المواد التي نعرفها في الطبيعة هي من حيث البنية طاقة مكثفة. و هكذا فإن الطاقة و المادة هما جوهر واحد و هذا ما أكدته معادلة آينشتاين الشهيرة:
الطاقة = الكتلة X مربع سرعة الضوء E = M C2
و التي تعني تحول أحدهما الى الأخرى و هو ما جرى تطبيقه عمليا في القنابل الذرية و الهيدروجينية، ويجري استخدامه في توليد الطاقة الكهربائية في المفاعلات النووية و هو ما يجعل الحياة على الأرض ممكنة من خلال ضوء الشمس. و من ناحية أخرى فان من أهم المميزات الوجودية التي أكدتها فيزياء الكم هي التفردية (Discreetness) لكافة مكونات الطبيعة بدءا من الطاقة حيث توجد بشكل كمات ((Quanta صغيرة و ليست ككل مستمر، الى الجسيمات تحت الذرية (الكترونات، كواركات، بروتونات، الخ.) الى المعلومات Information)) و وحدتها المكونة البت (Bit). و الحال ينطبق على الأجسام المكونة من تجمع ذرات و جزيئات، أي جميع ما نعرفه من اجسام في الطبيعة. و من المعروف جيدا ان الأجسام التي تبدو كأنها كتلة واحدة متماسكة (الهواء، الماء، الصخور، النباتات، الحيوانات، الكواكب و النجوم) هي في الواقع تجمعات لجزيئات و ذرات و الكترونات و بروتونات كل يحتفظ بفردانيته و إن ارتبط بالمكونات المماثلة او المختلفة بأواصر كيميائية، حتى قيل أن الأيادي لا تمس بعضها عند التصافح. و يمكن القول أن التفردية أوجدت الأعداد في الطبيعة أو الحاجة لمنطق الأعداد الرياضية. التفردية مكنت من تحقيق ظواهر وجودية أساسية: التماثل و التضاد و التشابه و الاختلاف بين الجسيمات و الذرات و التكوينات الناتجة عنها. التضاد يتمثل في أن أي جسيم أو جسم تم أو يتم تكوينه يترافق بتكوين جسيم أو جسم مضاد له و تصادمهما يؤدي الى فنائهما و تكوين فوتونات (هوكنج.2006). فالالكترون ذو الشحنة السالبة له جسم مضاد هو البوزترون ذو الشحنة الموجبة، و هكذا. و يمكن أن تتضاد الجسيمات من حيث الشحنة الكهربائية فبعضها مشحون بشحنة سالبة (الكترونات) و أخرى بشحنة موجبة (بروتونات). و حتى على مستوى الذرات، فالذرة التي تكتسب الكترونا تصبح شحنتها سالبة (أيون سالب) و التي تفقد الكترونا تصبح شحنتها موجبة (أيون موجب). و يمكن أن يتضاد استقطاب الفوتونات الى اعلى أو الى أسفل، كذلك لف (Spin) الالكترون يمكن أن يكون مع أو عكس عقرب الساعة. كذلك تضاد لف الالكترونات أو استقطاب الفوتونات المتشابكة (Entangled). و كقاعدة عامة لا يمكن فهم الكثير من الأشياء و الظواهر إلا بضدها أو نقيضها(ضوء- ظلام، حار- بارد، موجب – سالب، مفترس – فريسة، نظام – فوضى، الخ.).
أما الجسيمات من النوع نفسه فتكون متماثلة. و الأمر ينطبق على تماثل الذرات و الجزيئات من النوع نفسه و بالتالي الأجسام المكونة منها.
يمكن اعتبار التضاد و التماثل حالتين وصفيتين (Qualitative) و المنطقة بينهما يعبر عنها بالاختلاف و التشابه و هما صفتان كميتان (Quantitative) متلازمتان. حيث يمكن اعتبار التضاد أقصى درجات الاختلاف و التماثل أقصى درجات التشابه. فبينما يحتوي أو يظهر المختلفان قليلا من التشابه، يحتوي المتشابهان قليلا من الاختلاف و لا يمكن المقارنة الا بوجودهما معا. هذه الخصائص الأساسية للأشياء في الطبيعة هي مصدر الوحدة و التنوع الهائل فيها. فجميع الأحياء تتشابه و تختلف مع بعضها في الوقت نفسه، كذلك كل مكونات الطبيعة غير الحية تظهر الخاصية نفسها لا بل أن الأحياء كلها تتشابه و تختلف مع المواد و التكوينات غير الحية كونها جميعا مؤلفة من ذرات عناصر متشابهة لكنها بتجمعات جزيئية و ترتيبات مختلفة. و كقاعدة عامة فان كل الموجودات في الطبيعة تحمل بذاتها صفتي التشابه و الاختلاف في الوقت نفسه.
الحركة و التغير
كل شيء في الكون يتحرك (Tyson et al.,2000) و لا يوجد سكون في الطبيعةSchiller 2016)). و الحركة تكون نسبية، أي أن حركة الشيء تكون نسبة الى شيء آخر. و اذا كان تعريف الحركة المنسجم مع البديهة هو تغير موقع الشيء في المكان مع الزمن، فان التعريف الأدق و الأشمل هو تغير حالة الأشياء Schiller, 2011)) أو كما عبر عنها الفيلسوف الأغريقي هيرقليطس (530-470 ق م) " انك لن تعبر النهر مرتين ". و للأهمية الكونية العظمى للحركة، فقد درس الباحث الألماني Schiller الحركة في كتاب من ستة أجزاء (2485 صفحة) سماه "جبل الحركة" مفاده أن الحركة هي الملاحظة الأكثر أساسية عن الطبيعة و إن أي شيء يحصل في العالم هو نوع من الحركة.
ثمة أنواع مختلفة من الحركة مثل الحركة الزاوية حيث يتحرك الشيء حول محوره (دوران الأرض حول نفسها) أو محور خارجي (دوران الأرض حول الشمس)، أو حركة خطية حيث تكون الحركة بخط مستقيم (حركة كرة البليارد)، و حركة عشوائية (حركة جزيئات الغازات و السوائل) و حركة دورية (البندول، عضلات القلب) و حركة موضعية (حركة الأطراف أو أغصان الشجرة) و غيرها. ما هو الشيء الذي يسبب أو يمكن من الحركة و من يوجهها. حسب Lloyd (2006) فان الطاقة هي التي تمكن الشيء من الحركة (انجاز شغل) و المعلومات (Information) هي التي توجه سلوكه في ظل قوانين الطبيعة. و هكذا فان الحركة هي مفتاح التغير و ما يرافقها من تبادل و تحول للمعلومات عبر التصادم و التآثر ما بين الأشياء و معالجة المعلومات و ما ينتج عنها من حالات جديدة.
مع الانفجار العظيم كانت الطاقة متجانسة بشكل أشعة جاما، وثمة القليل من المعلومات لوصفها بسبب عدم التميز. و مع تمدد الكون (حركة) خلال الأجزاء القليلة جدا من الثانية من الانفجار العظيم، تكونت قوى الطبيعة الأربعة: القوة النووية الضعيفة و القوة النووية القوية و الكهرومغناطيسية و الجاذبية. ثم تكونت البروتونات و النيوترونات من الكواركات (تايسون و كولدسمث، 2012). بعدها تكونت نوى الذرات ثم ذرات العناصر الأخف الهيدروجين (90%) و الهيليوم و ندرة من الليثيوم و الديوتيريوم و التريتيوم.
ترافق تكوين القوى الأربعة و الجسيمات الأولية و الذرات بزيادة هائلة للمعلومات. تبع ذلك تكثف للمادة (حركة) حيث نشأت النجوم و المجرات، بينما تكونت العناصر الأثقل، كربون، نتروجين ، أوكسجين، الخ. في قلب النجوم الكبيرة بسبب تفاعلات الاندماج النووي ثم انتشرت مع انفجار النجوم (Supernova) ليتكون الغبار ما بين النجوم و الذي تتكون منه نجوم (شموس) جديدة مع كواكبها و أقمارها. على الكواكب و منها كوكب الأرض، مكنت الطاقة الحرة الوافرة و انخفاض درجات الحرارة الى تكوين مركبات عضوية مختلفة التعقيد و التي توجت بنشوء الأشكال الأولية للمادة الحية (Lloyd, 2006). و ما كان لهذه الأخيرة أن تتطور الى الأحياء البدائية و الراقية لولا الاختلاف في المادة الوراثية و الذي نتج عن الطفرات و التكاثر الجنسي. و الطفرات تتضمن عمليات حذف أو حشر أو استبدال للقواعد النتروجينية الأربعة (كوانين، أدنين، سايتوسين و ثيامين) من أو في جزيئة DNA الأصلية بينما يعتمد الاختلاف في التكاثر الجنسي على عملية العبور للقطع الكروموسومية. و كلا العمليتان تتطلبان فعل الحركة.
المكونات و العلاقات
سبق و أن ذكرنا أن كل الأشياء في الطبيعة تتألف من مكونات قد تكون متشابهة أو مختلفة. و لابد لكل مكون من مكونات الطبيعة أن يتأثر و يؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالمكونات الأخرى و بقيم مختلفة تتناسب و طبيعة كل مكون. الشيء بذاته (خواصه) مهم حيث سيشكل الجزء كما أن علاقته بالأشياء الأخرى لا تقل أهمية و ستسهم في تشكيل الكل. فكل جسم مهما كان كبيرا أو صغيرا يتبادل تأثير الجاذبية مع الأجسام الأخرى. كما يتعرض كل جسم لوابل متواصل من الاشعاعات و الجسيمات و المجالات الكهرومغناطيسية الصادرة عن أجسام أخرى. و تتعرض جميع الأجسام للتصادم أو الاحتكاك مع أجسام أخرى ما يجعلها عرضة لتغير تركيبها و حركتها على الدوام. و على العموم تتواجد جميع الأجسام كمنظومات (Systems) لتجمعات ذرية أو جزيئية نتيجة لروابط تجمع مكوناتها، بل أن الذرات و الجزيئات الحرة ذاتها تشكل منظومات بشكل معادن (بلورات) أو غازات أو سوائل. و في كل منظومة ترتبط عناصرها المكونة بعلاقات مميزة تزيد من تعقيدها. كما ترتبط المنظومات مع المحيط و يمكن أن تتبادل الطاقة و المعلومات معه و تخضع للانتخاب الطبيعي في تشكلها و تطورها (Heylighen, 2018). و غالبا ما تكون العلاقات بين الأشياء في الطبيعة بشكل شبكات، تنشأ عن تأثير المكون من خلال الفردية و الحرية و التأثر بالمكونات الأخرى عبر الخضوع لقواعد التآثر. على مستوى الكائنات الحية ثمة اتصالات خلوية داخلية و ما بين الخلايا المتجاورة سواء كانت بشكل أحياء مفردة الخلية (بكتريا، خمائر) أو متعددة الخلايا (نباتات، حيوانات) تنظم فعالياتها و علاقاتها مع البيئة. كما تنشأ روابط مهمة بين أفراد المجتمعات النباتية والحيوانية و البشرية حيث تلعب أدوارا هامة في تشكيل سلوكها كمجموعات متميزة و علاقات متبادلة فيما بينها ككل و مع البيئة حيث تشكل الأنظمة البيئية و النظام الحيوي ككل. و تظهر المجتمعات البشرية علاقات اجتماعية اقتصادية ثقافية متنوعة و مختلفة التعقيد على المستويات المحلية و العالمية. و كقاعدة عامة كلما زادت العلاقات و الروابط بين مكونات المنظومة وقل التمايز بين المكونات زاد النظام (قلت الفوضى) كمثال تحول الماء الى جليد؛ مسيرة شعبية سلمية، في حين أن زيادة تمايز المكونات مع قلة الروابط بينها تؤدي الى زيادة الفوضى كمثال تحول الماء الى بخار؛ قمع المسيرة الشعبية باستخدام العنف. كما أن زيادة تنوع و أعداد المكونات و زيادة العلاقات بينها يزيد من تعقيد المنظومة.
اللاخطية (Nonlinearity)
اللاخطية هي الوصف الرياضي للظواهر التي لا تتناسب فيها الأسباب و النتائج أو لا تتماشى فيها المخرجات مع المدخلات. و تفسر اللاخطية التغيرات في العوامل مع الزمن. اللاخطية يمكن أن تفضي الى عدم الدقة و غير المتوقع و الشواش (Chaos) والتعقيد و عكس البداهة التي تكون خطية. في الطبيعة توجد علاقات خطية مثل حركة البندول البسيط، السقوط الحر للأشياء، حركة الكواكب، علاقة المبيعات و الأرباح. أما العلاقات اللاخطية فهي التي تسم معظم الظواهر في الطبيعة. كتغير شكل الاميبا، والمناخ و الأعاصير و عمل أسواق الأوراق المالية و الحركات الاجتماعية و التقلبات السياسية و الفن التجريدي. و حسب (Schiller (2011 فان اللاخطية يمكن ان تفسر عدم الانسجام كما يمكن ان تؤدي الى تأثيرات أقوى.
و في بعض النظم يمكن ملاحظة تحول العلاقات الخطية الى علاقات لاخطية أو العكس لتفاعل المتغيرات نفسها. كعلاقة سرعة التفاعلات الكيميائية و درجة الحرارة، حيث تزيد بعلاقة خطية ثم تتحول الى علاقة لاخطية بعد تخطي عتبة معينة من درجة الحرارة العالية. كذلك، منحنى نمو البكتريا حيث يكون لاخطيا لكن جزء مهم منه يكون خطيا (الطور الأسي).
ان مبعث اللاخطية يكمن في إحتمالية الحقيقة كما اكدتها فيزياء الكم. فالحقيقة المتحققة ليست حتمية التحديد سلفا لكنها تكون حيث أحد العديد من الممكنات التي تتناسب مع احتمالاتها التي تحددها قوانين الطبيعة. فمرورك يوميا في هذا الطريق الذي تزينه الأشجار العالية من جانبيه لا يعرضك لخطر سقوط شجرة او غصن على رأسك. هذا يتحقق في أغلب الحالات لأنه احتمال أكبر بكثير من سقوط الشجرة أو الغصن. لكن مثل هذا الاحتمال الأخير يحصل مع ذلك و لا يمكنك الجزم بعدم حصوله. نسبة ظهور الصورة أو الكتابة للعملة المعدنية عند رميها حسب العلاقة الخطية هي 50%، لكن في مثل هذه التجارب قد تحصل على نسب أخرى، مع أن ال 50% هي النسبة الأرجح. في حالات أخرى، فإن أحداث معينة تحصل من خلال الصدفة (الحظ) فقط كتلقيح النطف للبيضة و نشوء الجنين حيث أن من يحقق الفعل هو واحد من عشرات الآلاف، و كذلك الفوز بجوائز اليانصيب المتحقق هو الاحتمال الضعيف جدا. هذه الأحداث تتصف بعدم القدرة على التنبؤ بها.
العامل الآخر هو حساسية النظم الطبيعية للأوضاع الابتدائية، حيث و بسبب طبيعة العوامل المكونة ذاتها فان التغيرات البسيطة يمكن أن تؤدي الى تغيرات مهمة مع الزمن. و للتعبير عن هذه الحالة شاع استخدام ما يعرف بتأثير الفراشة (Butterfly Effect) الذي يقول بان رفرفة جناح فراشة فوق بكين يمكن أن يتحول بعد زمن الى اعصار فوق نيويورك. أو كما تعبر عنه أغنية فولكلورية أمريكية حسب (غليك، 1987):
بسبب مسمار سقطت حدوة حصان
و بسبب حدوة تعثر الحصان
و بسبب حصان سقط فارس
و بسبب فارس خسرت معركة
و بسبب معركة فقدت مملكة
أغلب الأعاصير تبدأ بارتفاع بسيط في درجة حرارة مياه البحر أو المحيط في منطقة معينة، يؤدي الى سخونة الهواء و خلخلة الضغط و نشوء الريح و هكذا. تصلب الشرايين يبدأ بخدش بسيط في بطانة الشريان لتترسب عليه بعض مكونات الدم و جزيئات الكوليسترول و التي يزداد سمكها مع الوقت و يمكن أن تسبب موت المريض نتيجة لانسداد الشريان بجلطة دموية.

التعقيد (Complexity)
التعريف الأكثر قبولا أن التعقيد يقع بين النظام و الفوضى. فالمنظومات المعقدة ليست منتظمة وقابلة للتنبؤ كحالة ثبات الجزيئات في البلورة، و لا هي عشوائية أو شواشية كحركة جزيئات الغاز. انها تظهر مزيجا من الحالتين، فهي قابلة للتنبؤ الى حدما في بعض الوجوه و عصية على التنبؤ في وجوه أخرى. الوضع الوسطي يوازن بين التصلب و الهيجان و يعرف بـ "حافة الشواش". إن التوازن القلق هذا مطلوب لأغراض التكيف و التنظيم الذاتي و الحياة للأنظمة المعقدة التي تنحو تلقائيا باتجاه حافة الشواش. و تظهر المنظومات المعقدة حالة التمايز بين مكوناتها التي تكون كثيرة في الغالب و الترابط بين المكونات من خلال علاقات التآثر بينها أي الاستقلالية مع شيء من الاعتمادية. إن مكونات المنظومة المعقدة هي في الواقع عوامل (Agents) كونها هي ذاتها منظومات مفردة ضمن المنظومة المعقدة و تتصرف استجابة للأحداث التي تؤثر فيها. فالبشر هم عوامل في منظومة المجتمع المعقدة، الخلايا عوامل في منظومة النسيج، و جزيئات البروتين عوامل في منظومة الخلية الحية. و ينظر لعوامل المنظومة المعقدة ضمنيا على انها ذات أهداف فأفعالها تصب في مجرى تعظيم أهليتها، نفعها، أو تفضيلاتها الفردية. و في حالة عدم تمييز هدف معين لها، فان نشاطها سيخضع لمنطق السبب-التأثير أو الشرط-الفعل (إذا- فإن). و بسبب الصلات التي تربط عوامل المنظومة ببعضها، الفعل الذي يحدثه أحد العوامل (تأثير موضعي) سيقدح تأثيرات اضافية لواحد أو أكثر من العوامل المجاورة في البداية، ثم الأخرى البعيدة في المنظومة، وهكذا تحصل سلاسل من الأحداث يمكن أن تشمل المنظومة كلها (تأثير عام)(Heylighen et al., 2008).
المعلومات و نشوء التعقيد
حسب (2017) Irwin ثمة اعتقاد واسع القبول من قبل الفيزيائيين النظريين، أن الحقائق كلها هي معلومات بالأساس. و المعلومات هي معاني محمولة بواسطة رموز. و اللغات و الشفرات هي مجاميع من تلك الرموز التي تحمل المعنى. و المعنى يعتمد على طريقة ترتيب الرموز و التي تخضع لقواعد. و لكي تتحقق المعلومة لا بد من "منتخب" يختار الترتيب المعين مع مدى من درجات الحرية. و هذا في رأيي ما تقوم به كل الأشياء في الطبيعة.
و انطلاقا من هذه الأهمية العظيمة للمعلومات و باعتبارها قيمة فيزيائية ملازمة للأشياء كما الطاقة و الكتلة، يؤسس Lloyd (2006) الى أن المعلومة هي الاختيار بين بديلين. مثل 0 -1؛ حار- بارد؛ موجب – سالب، و هكذا. و كل متقابلين إثنين يكونان بتا (Bit) واحدا، و الأربعة تنتج اثنان من البتات، و هكذا. و البت هو أصغر قيمة للمعلومات و يمثل وحدة المعلومات. كل جسيم أو ذرة أو جزيئة أو جسم يسجل معلومات (المعلومات هنا تتمثل بالشحنة مثلا سالبة- موجبة أو مشحونة - متعادلة، اللف:مع عقرب الساعة-عكس عقرب الساعة، الخ.). أي تصادم ما بين هذه المكونات و غيرها و أي تغير حركي في الكون بغض النظر عن حجمه يعالج هذه المعلومات بطريقة منهجية تمثل عملية حوسبة. و عملية الحوسبة تتضمن استخدام عمليات منطقية (Logic Operations) مثل AND و NOT و COPY و´-or-تقوم بتحويل البتات بطرق بسيطة محددة و بوابات منطقية (Logic gates) بسيطة و قليلة تنشأ عنها حيث تعالج المعلومات المدخلة (مدخلات) الى معلومات خارجة (مخرجات). و تنشأ عن تشكيلات من البوابات المنطقية دوائر منطقية (Logic Circuit) تقوم بتحويلات أكثر تعقيدا للمعلومات المدخلة. ما يفعله الكومبيوتر الاعتيادي هو إعمال البوابات المنطقية للبتات تدريجيا في برامج يحددها المبرمج. و البرنامج هو امتداد معين من البتات تخبر الكومبيوتر ماذا يعمل. و حيث أن المواد و الطاقة و المعلومات في الكون تخضع لقوانين ميكانيك الكم، فإن الكون يمثل كومبيوتر كمومي و البتات تكون بشكل بتات كمومية أو كيوبت (Qubit) و هذا يمتاز عن البت الذي يستخدم في الكومبيوتر الاعتيادي (الذي يكون حالة من حالتين – 0 أو1) بأن يكون 0 أو 1 أو 0 و 1 في نفس الوقت نتيجة ظاهرة التراكب الكمومي (Superposition) ما يجعله بإمكانات حاسوبية فائقة. و نتيجة التقلبات و التحولات العشوائية للبتات في الطبيعة و التي تقوم بها الجسيمات و الذرات و الجزيئات و الأجسام المتصادمة و المتآثرة باستمرار، و التي أغلبها يعطي نتائج غير ذات معنى أو أخطاء عشوائية، لكن بعضها ينتج برامج قصيرة تحدث تغييرات أدى تراكمها و تداخلها على مدى ملايين و مليارات السنين الى كل التعقيد الذي نراه اليوم. و يرجع الباحث Lloyd (2006) هذا التعقيد الرائع في الكون الى ثورات معالجة معلومات كبرى تمثلت أولها بالانفجار العظيم ثم نشوء المادة الحية، و اختراع الجنس، و تطور الدماغ ثم اللغة و الكتابة و الحساب. و لكل ثورة معلوماتية كبرى كان لها تقنيتها التي بنيت على تقنية الثورات المعلوماتية التي سبقتها.
ثمة من يميز مكونات الطبيعة الى أربعة مستويات من التعقيد: المستوى الأول و هو الأقل تعقيدا يتمثل بالطاقة و القوى الأساسية الأربعة (الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة و النووية القوية و الجاذبية) و الجسيمات الأولية تحت الذرية (كواركات، الكترونات، الخ.) و الذرات و المواد بحالاتها الأربعة (الصلبة و السائلة و الغازية و البلازما) و حركتها. و لكونها الأبسط فإن تراكيبها و سلوكها يمكن فهمه بمنطق رياضي و قوانين ميكانيك نيوتن و النسبية التي تعمل في العالم الكبير المرئي ( ملمترات، أمتار، كيلومترات/ ثانية، دقيقة، ساعة، يوم، سنين) و ميكانيك الكم االتي تعمل في العالم الصغير غير المرئي ( مكرومتر، نانومتر، بيكومتر أجزاء الثانية، .... فمتوثانية) المستندة الى الاحتمالات و عدم الدقة. العلم الذي يدرس هذا المستوى من التعقيد هو الفيزياء. المستوى الثاني يتمثل بتفاعل الذرات و الجزيئات للعناصر الطبيعية و علاقاتها الطاقية و تكوين المركبات بدرجات تعقيدها المختلفة بما فيها البوليمرات (الجزيئات الضخمة) ذات النشاط الحيوي. و مع أن هذا المستوى هو أكثر تعقيدا من المستوى الأول إلا أنه يخضع في الكثير من جوانب دراسته للمنطق الرياضي و يعبر عنه بمعادلات و قوانين إلا أن الحيود يكون اكبر من المستوى الأول خاصة في الكيمياء الحيوية التي تدرس الجزيئات العضوية الضخمة كالبروتينات و الانزيمات و الأحماض النووية و كيمياء النانو. العلم الذي يدرس هذا المستوى من التعقيد هو الكيمياء. المستوى الثالث يشتمل على المواد و الكائنات الحية و التي تتضمن مواد و تراكيب عضوية معقدة جدا و ذات تنظيم خاص و تراكيب نانوية الأبعاد و فعاليات مميزة لا تظهرها المواد غير الحية تتمثل من بين امور أخرى بالقدرة على التكاثر و التغاير و التطور و حفظ النوع. و توج تطور الأحياء بظهور الانسان العاقل (Homo sapiens) الذي يتصف بوعي الذات و امتلاك اللغة و القدرة على التفكير و التعلم و الابتكار. إن أجسام معظم الأحياء تقع ضمن أبعاد العالم الكبير، إلا أن تراكيبها الدقيقة الفعالة (الخلية و أجزائها) تقع ضمن أبعاد العالم الصغير و عليه فإنها تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية و فيزياء الكم و الكيمياء و كذلك البيولوجيا. و بسبب المستوى العالي من التعقيد ليس من السهل التعبير عن الظواهر البيولوجية بالقوانين و المعادلات الرياضية لوجود درجات حرية عالية للمتغيرات و بالتالي تتركز القوانين و المعالجات و المعادلات الرياضية في مجال الوراثة و الفسيولوجيا و البيئة بينما يشيع استخدام الاحصاء و الحوسبة في جميع فروع البيولوجيا خصوصا علم الحياة الجزيئي و تقسيم الأحياء. العلم الذي يدرس هذا المستوى من التعقيد هو البيولوجيا أو علم الحياة. المستوى الرابع هو الأكثر تعقيدا و يتمثل بالمستوى الاجتماعي الذي يتألف من أعداد كبيرة من البشر و كل فرد فيه يمثل أعقد و أرقى الكائنات في الطبيعة التي نعرفها الآن. و يمكن القول أن الكيان الاجتماعي هو تجمع عضوي سائب لعدد قليل أو كثير من الأفراد تشده علاقات و اتصالات مباشرة و غير مباشرة تشبه بحدود معينة تجمع خلايا الكائن الحي أو تشكل ما يعرف بالكائن الحي العلوي (Metaorganism). يتأثر سلوك الانسان بالوراثة و البيئة و العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية و مستوى التحضر. و للعادات و التقاليد و المعتقدات الدينية و المشاعر القومية أدوارا في التأثير على السلوك حسب مستوى التسامح أو التعصب فيها. ويزداد تعقيد السلوك البشري مع زيادة عدد الأفراد و تنوع و تشابك علاقاتهم من العائلة الى المجتمع المحلي و مجتمع الدولة و المجتمع الانساني. في هذا المستوى من التعقيد يصعب التعبير عن الظواهر بقوانين رياضية مع وجود بعض القوانين الاقتصادية و الاجتماعية و التاريخية و الحقوقية المرنة بينما يستخدم الاحصاء و الحوسبة في فهمها. هذا المستوى هو مجال علوم المجتمع و الاقتصاد و التاريخ و القانون اضافة الى الآداب و الفنون.
يفيد هذا التقسيم لمستويات التعقيد في القاء الضوء مبكرا لكشف الملامح الكلية للنماذج التي تدرس في نظرية التعقيد. و من الضروري التأكيد على تداخل المستويات الأربعة المذكورة، فالمستوى الأول من التعقيد متضمن في المستوى الثاني و تداخلهما شرط أساس لتكون المستوى الثالث، و المستوى الأخير لا يتم دون المستوى الثالث. و حسب (2018) Heylighen فان مكونات الطبيعة علائقية أي أنها جوهريا معتمدة الواحدة على الأخرى و مترابطة و كل عنصر أو مكون في الطبيعة يوجد فقط بالعلاقة مع العنصر الآخر و شبكة العلاقات التي تنشأ بهذه الطريقة هي الأساس لتكوين التنظيمات المعقدة.
و هكذا فإن كل شيء أو ظاهرة في الطبيعة تتسم بهذه الدرجة أو تلك من التعقيد، كما أن جميع النظم المعقدة تظهر سمات و آليات عمل متشابهة. هذا قاد الى نشوء نظرية أو علم التعقيد الذي يمثل جهدا مضنيا لفهم ما يدور فينا و ما حولنا بدءا من المكونات تحت الذرية الى الذرات و الجزيئات و الكائنات الحية و الكواكب و النجوم بل الكون كله مستخدمين مجمل المعرفة البشرية و الأبحاث العلمية بكافة فروعها.

التفكير المنظومي (Systems Thinking)
هي طريقة التفكير التي تنظر لمعظم الأشياء في الطبيعة الحية و غير الحية على انها منظومات متداخلة، منظومة صغرى داخل منظومة أكبر، داخل منظومة أكبر ، داخل منظومة أكبر (شكل1) و هكذا الى أن تصل الى المنظومة الأكبر و هي الكون بأكمله. و عند تعاملنا مع أي جسم أو ظاهرة طبيعية فنحن نتعامل مع منظومة تقع ضمن تراتبية هرمية تصاعدية (زيادة في التعقيد) فتكون المنظومة هذه منظومة صغرى (Subsystem)، كمثال الانسان كفرد يمثل منظومة صغرى ضمن منظومة عليا (Supersystem) هي العائلة ثم منظومة اعلى هي المجتمع و هكذا. أو أنها تكون على رأس تراتبية هرمية تنازلية فتكون منظومة عليا تتألف من مراتب من عدد من المنظومات الصغرى، كمثال اللغة منظومة عليا تتألف من منظومات صغرى هي الجمل، و هذه تتألف من منظومات صغرى هي الكلمات و هذه تتألف من منظومات صغرى هي الحروف. أدنى المنظومات الصغرى هي تلك التي لا تتمكن عواملها المكونة من النشاط المستقل (Johnson IV et al.,2013). وعلى الرغم من التنوع الهائل في أنواع المنظومات، فإنها تشترك في سمات تركيبها و آليات عملها ما يمكن من دراستها و تكوين نظرة علمية عامة لما يدور من حولنا.

شكل 1: جسم ملموس مثل قطعة من الملح يمثل منظومة تتألف من بلورات كل منها يمثل منظومة و بدورها تتألف من منظومات عديدة هي أيونات الكلور و الصوديوم. و كل منها يحتوي في مركزه على منظومات النوى الذرية التي تتألف من منظومات البروتونات والالكترونات و كل منهما منظومة تتألف من ثلاثة كواركات.

المنظومة (System)
المنظومة هي كل موحد مؤلف من مكونات مترابطة متبادلة التأثير (متآثرة) توجد في بيئة تكون مفصولة عنها بواسطة حاجز يفرقها أيضا عن غيرها من المنظومات و يكسبها هويتها الخاصة. مكونات المنظومة تكون كثيرة في الغالب، متشابهة أو متباينة و لا يمكن تقسيمها الى أجزاء مستقلة و ليس لأي مكون تأثيرا مستقلا على كل المكونات. المكونات يمكن أن تكون ذات طبيعة مختلفة: ذرات، جزيئات، خلايا، ترانسيسترات، خلايا عصبية، ناس، شركات، رموز، مفاهيم، الخ. العلاقات تمثل التأثير الذي يحدثه أحد المكونات على سلوك المكون الآخر(Heylighen, 2018). الملفت في المنظومة هو أن الكل أكبر من حاصل الجمع البسيط لمكوناتها و هو ما اكده منظر التفكير المنظومي (1972) Bertalanffy في أن مقولة الفيلسوف الاغريقي أرسطو "الكل أكبر من مجموع أجزائه" تمثل الحجر الاساس لمفهوم المنظومة. فبلورة ملح الطعام NaCl كمنظومة تتألف من الصوديوم و هو فلز قلوي و الكلور و هو لافلز (غاز سام) حيث ليس لأي منهما الطعم المالح. الأجزاء المعزولة للسيارة لا تتمكن من أداء عملها كوسيلة نقل، و لا تتمكن أعضاء جسم الكائن الحي المعزولة من الحياة دون ارتباطاتها لتكون منظومة كاملة. يؤدي التآثر ما بين مكونات المنظومة الى حصول ظاهرة الإنبثاق (Emergence) و هي صفات أو افعال تسم المنظومة ككل كالطعم المالح و النقل الموجه و الحياة في الأمثلة المذكورة. سيتم مناقشة موضوع الانبثاق لاحقا.
يمكن اعتبار المنظومة شبكة، كل مكون فيها يمثل عقدة و التأثيرات المتبادلة بين المكونات تمثل العلاقات أو الصلات كما في الشكل 2.

شكل 2: يوضح شبكة المكونات المرتبطة بعلاقات

و مع أهمية المكونات في تشكيل المنظومة، فإن وجودها دون علاقات متبادلة فيما بينها لا تشكل منظومة بل مجموعة (Set). و تتميز المجاميع غير المنظومية بارتفاع الانتروبي (Entropy) (و هو مقياس لدرجة القلق و قلة المعلومات و التفكك) و انعدام الطاقة الحرة القابلة للاستغلال و التي تمكن من اداء شغل و ليس لها تركيب ملحوظ. كمثال، كومة الرمل لا تشكل منظومة، حيث تغيب العلاقات بين حبات الرمل المكونة لها. كذلك علبة الأدوات الميكانيكية لا تشكل منظومة فكل أداة فيها يمكن أن تؤدي عملها دون الحاجة الى الأخرى. تختلف المنظومات من حيث درجة تعقيدها و علاقاتها بالمحيط أو البيئة و فعالياتها. يمكن تقسيم المنظومات الى:

شكل 3: أنواع المنظومات و علاقاتها مع البيئة
المنظومات المعزولة: هي المنظومات التي لا تتبادل المواد و الطاقة و المعلومات مع المحيط الخارجي أو البيئة (شكل 3). لا توجد منظومات معزولة في الطبيعة و المنظومة المعزولة الوحيدة هي الكون بأكمله.
المنظومات المغلقة: هي المنظومات التي لا تتبادل المواد لكنها يمكن أن تتبادل الطاقة و المعلومات مع المحيط (شكل 3). تتحدد الحالة النهائية للمنظومة المغلقة بواسطة شروطها الأولية. و تتجه المنظومات المغلقة جميعها نحو حالة من التوازن و الانتروبي الأقصى. كمثال، الحافظة الحرارية (الترمس)، أو غاز محصور في وعاء محكم.
المنظومات المفتوحة: هي المنظومات التي تتبادل المادة و الطاقة و المعلومات مع البيئة و تستخدم تبادل الطاقة لديمومة تركيبها. كل الأنظمة الحية بضمنها المنظومات المعقدة المتكيفة هي منظومات مفتوحة (شكل3). و لكن ليس كل منظومة مفتوحة هي معقدة و متكيفة (كمثال الشمعة المشتعلة تمثل منظومة مفتوحة غير معقدة و غير متكيفة).

المنظومات المعقدة المتكيفة Complex Adaptive Systems
يمكن اعتبار المنظومة المعقدة المتكيفة منظومة متعددة العوامل (Multi Agents System) تتبادل التأثير مع غيرها من المنظومات أو مع البيئة. العامل هنا هو المكون الواحد في المنظومة و الذي هو بدوره عادة ما يكون منظومة بذاته أيضا. كما ان العوامل في المنظومة تكون غير قابلة للتجزؤ و تؤثر في ديناميكية المنظومة (Kaisler & Madey,2009). تتبادل المنظومة المواد و الطاقة و المعلومات مع البيئة و التي تمثل المدخلات (Input) بينما ما يصدر عن المنظومة من هذه الموارد أو التأثيرات يمثل المخرجات (Output). عندما تكون مخرجات منظومة ما أو بعض منها مدخلات لمنظومة اخرى ستحصل علاقة متبادلة بين المنظومتين. و عند ارتباط عدد من المنظومات على أساس المدخلات و المخرجات بشكل متماسك ستشكل منظومة عليا (Super system) تضم المنظومات المشتركة التي ستمثل منظومات صغرى (Subsystems) (Heylighen et al., 2007). كمثال، الخلية الحية للأحياء الراقية: تضم الخلية عددا من العضيات مثل النواة (واحدة عادة) التي تحتوي على معظم ال DNA حيث المعلومات الوراثية، و الميتاكوندريا (عديدة) حيث تنتج معظم الطاقة بشكل جزيئات ATP، و الرايبوسومات (كثيرة جدا) حيث تنتج البروتينات إضافة الى عدد من العضيات الأخرى المهمة لا نذكرها للإختصار. كل العضيات موجودة في محلول غروي كثيف هو السايتوبلازم الذي يحتوي الكثير جدا من المواد المختلفة بضمنها بروتينات و سكريات و دهون و مركبات متنوعة كثيرة جدا و محاط بغشاء يفصل الخلية عن الخلايا المجاورة أو عن البيئة. لكي تقوم الرايبوسومات بدورها فانها تستلم المعلومات الخاصة بانتاج البروتين من النواة بشكل جزيئات RNA، و تستلم الأحماض الأمينية التي سيتكون منها البروتين الجديد محمولة على نوع آخر من جزيئات RNA من السايتوبلازم كما تحتاج الى الطاقة تأخذها من الميتاكوندريا و السايتوبلازم. تنتج الريبوسومات البروتينات التي ستذهب الى السايتوبلازم لمعالجتها و نقلها الى العضيات أو الأجزاء التي تحتاجها. من جهتها تحتاج الميتاكوندريا الى سكريات و دهون تعالج جزئيا في السايتوبلازم لكي تنتج الطاقة بشكل جزيئات ATP. الطاقة التي تنتجها الميتاكوندريا تذهب الى النواة و الرايبوسومات و غيرها من العضيات في السايتوبلازم لاتمام عملها. و هكذا تكون مخرجات النواة مدخلات للريبوسومات، و مخرجات الرايبوسومات مدخلات للنواة و السايتوبلازم و مخرجات السايتوبلازم مدخلات للميتاكوندريا و مخرجات الميتاكوندريا مدخلات للنواة و الرايبوسومات و السايتوبلازم. و هكذا تمثل الخلية المنظومة العليا، و كل عضي يمثل منظومة تحتية. في مرتبة أعلى، ستمثل خلايا الكبد منظومات تحتية لنسيج الكبد و هذه بمجموعها ستشكل منظومة عليا هي الكبد كعضو، و هكذا القلب و الدماغ و جميع أعضاء الجسم كل منها سيمثل منظومة عليا بالنسبة للخلايا و الأنسجة التي يتألف منها و التي تمثل منظومات تحتية. و في مرتبة اعلى، ستشكل الأعضاء كلها منظومة عليا هي الجسم بينما تمثل الأعضاء منظومات تحتية. و يمكن الانتقال الى مرتبة اعلى، حيث يمثل جسم الفرد و نشاطه الكامل منظومة تحتية لمنظومة عليا هي المجتمع. و ينطبق الحال على التجمعات الحيوانية و النباتية وكل الأحياء الأخرى حيث تشكل منظومات تحتية تتبادل المدخلات و المخرجات لتشكل منظومة عليا هي مجموع الكائنات الحية (Biosphere). كذلك الأقمار مع الكوكب الذي تدور حوله يمثل منظومة صغرى، الكواكب و أقمارها التي تدور حول شمسها ستكون منظومة أعلى هي المجموعة الشمسية، ومليارات المجاميع الشمسية ستمثل منظومات صغرى تشكل منظومة عليا هي المجرة، و مليارات المجرات ستشكل المنظومة الأعلى و هي الكون. هل للعوامل أو المنظومات التحتية هدف؟ نعم، فلكل عامل أو منظومة تحتية ميل أو هدف تحقيق الممكنات بغض النظر عن درجة تعقيده حيا كان أم غير حي. يتم تحقيق الميول أو الأهداف من خلال التجربة و الخطأ و التي ستنتج تغيرات تخضع للانتخاب الطبيعي الذي سيحدد الحالة الممكنة التي هي أكثر أهلية مثلما تستكشف الجسيمات جميع المواضع المحتملة دائما حسب ميكانيكا الكم (Turok, 2018) . فالشحنات الكهربائية المختلفة تميل تلقائيا للاقتراب من بعضها بينما تنفر من مثيلاتها و الجزيئات المستقطبة مثل جزيئات الماء تميل للارتباط مع الجزيئات المستقطبة (مثل السكريات و الأملاح) كما تفعل الجزيئات غير المستقطبة مثل جزيئات الدهون الشيء نفسه مع الجزيئات غير المستقطبة (مثل النفط أو البنزين) و الأقطاب المغناطيسية المتشابهة تنفر و المختلفة تتجاذب. ذرات العناصر اللافلزية مثل الهيدروجين (H) و الأوكسجين (O) و النتروجين (N) و غيرها تتفاعل تلقائيا مع مثيلاتها لتكوين جزيئات ثنائية الذرة H2 و O2 و N2 على التوالي. كذلك جميع التفاعلات الكيميائية التلقائية مثل تفاعل الهيدروجين و الأوكسجين لتكوين جزيئات الماء تحصل لميل الذرات و الجزيئات للوصول الى مستوى منخفض من الطاقة الحرة. و جميع الأجسام غير الحية الأخرى مثل دقائق التربة أو الصخور تسعى اذا ما حركت بقوة خارجية من مواقعها البحث باستمرار عن موقع يخفض طاقتها الكامنة مثلما ينحدر ماء الشلال من أعلى الجبل الى الوادي. أما الكائنات الحية كلها من أبسطها الى أرقاها فلها هدف بيولوجي أساس مشترك هو البقاء حية عبر زيادة الأهلية في البيئة. هذا الهدف البيولوجي الذي يتضمن درجات مختلفة من الوعي الذي هو انبثاق ظهر بسبب الطبيعة الخاصة و التنظيم و التعقيد العاليين للتركيب الكيميائي للكائنات الحية و الذي تفتقده المواد غير الحية. المنظومات الصغرى تتمتع باستقلالية و قد تتعارض ميولها أو اهدافها الذاتية و ليس لها هدف عام أو مشترك. هذا يجبر المنظومات المختلفة على التكيف مع الضغوط و التأثيرات التي تتعرض لها من المنظومات الصغرى الأخرى. كما أنها تتعرض لمحددات تفرضها عليها المنظومة العليا. كمثال، قد يرغب الطير المفرد أو الفرد من الماشية باعتبار كل منها منظومة صغرى بالطيران أو المسير بأي اتجاه لكن حينما يكون كل منهما جزءا من سرب أو قطيع أي جزءا من منظومة عليا فانه سيخضع لقواعد محددة و لكن بسيطة كأن يطير أو يسير مع الاتجاه العام للقريبين منه و أن يبقي على مسافة بينه و بينها لتقليل أو منع التصادم حيث ينبثق نوع من النظام. و جميع الأنظمة المائية في العالم الأنهار، الشلالات، البحيرات، البحار و المحيطات مع كل تنوعها وعظمتها و جمالها فإنها تخضع لقاعدة بسيطة واحدة و هي أن الماء يجد مستواه (Kaisler & Madey,2009) حيث الطاقة الكامنة الأقل.

التنظيم الذاتي Self-Organization
كم نندهش حينما نتأمل زهرة جميلة معقدة كزهرة الأوركيد أو فراشة مطرزة بالألوان، مثلما نعجب بالعمارات الشاهقة أو تفحص تركيب الساعة. و حيث أننا نعرف أن العمارة أو الساعة من تصميم مهندسين فلابد أن تكون الأزهار و الفراشات بل كل شيء لا يصممه ويصنعه الانسان من تدبير قوة خارجية خارقة. هذا ليس حال العامة فقط بل حتى المتعلمين بمختلف مستويات التعليم كونه ينسجم مع البداهة أولا و يتماشى مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الانتروبي (الفوضى) للمنظومة تزداد دائما أي أن أية منظومة تتجه نحو التفكك و الانحلال و كذلك نمط التفكير على أسس الفيزياء التقليدية التي تفضي الى مبدأ السبب و النتيجة المحتمة. غير أن نظرية التعقيد و التفكير المنظومي تفسر الظواهر الطبيعية على أساس التنظيم الذاتي و الانبثاق. كل منظومة معقدة متكيفة تنحو لأن تتخذ تركيبا عاما تلقائيا ينتج عن تآثر عواملها المكونة. التلقائية حسب (Heylighen, 2008) تعني عدم وجود عامل داخلي أو خارجي يسيطر على هذه العملية حيث يمكن الاستغناء عن أو استبدال أي عامل مفرد من المنظومة الكبيرة بما يكفي، دون الاضرار بتركيبها. هذا الأمر يجعل المنظومة قوية و مقاومة للتقلبات. هي لم تصمم من الخارج مثل المكائن أو غير ذلك مما يصنعه الانسان و لا يمكن تحديد شكل المنظومة من خلال خواص عناصرها مثلما لا يمكن التنبؤ بنوع البناء من معرفة خواص الطابوق (Cleveland, 1994). تنحو المنظومة الديناميكية دائما، بغض النظر عن نوعها أو مكوناتها الوصول الى حالة التوازن أو ما يطلق عليه الجاذب (Attractor). الجاذب هو النقطة أو المحور الذي يندفع اليه الشيء، مثل حركة البندول. فعند تحريك الجسم المعلق من نقطة سكونه فانه سيبتعد عن موقعه الأصلي ثم يعود اليه ويغادره و يرجع بالاتجاه الآخر و يضل يكرر هذه الحركة بفعل الاستمرارية الى أن يستقر في موقعه الأصلي الذي يمثل الجاذب. كذلك ترسيب العوالق في محلول يتم بجهاز الطرد المركزي حيث ستترسب العوالق في قعر الأنبوب حيث يكون الجاذب. في حالة التوازن هذه تكون الأجزاء المختلفة للمنظومة متكيفة تكافليا. و كلما زادت العشوائية المؤثرة في المنظومة، كلما أسرعت في الوصول الى الجاذب و تحقيق التنظيم الذاتي بزيادة النظام. و حسب De Wolf & Holvoet (2005) التنظيم الذاتي يتطلب الموازنة بين النظام (Order) و الشواش و الوصول الى حافة الشواش حيث يتمتع بالمرونة المناسبة. هنا يمكن اعتبار الحالة السائلة للماء مثلا تمثل حافة الشواش لجزيئات الماء، حيث المزيد من النظام يقود الى الانجماد (الجليد) بينما المزيد من الشواش يقود الى حالة الفوضى (البخار). في النظم السياسية، الديمقراطية تمثل حافة الشواش حيث أن المبالغة في النظام تقود الى الدكتاتورية بينما الحرية المنفلتة (مزيد من الشواش) تؤدي الى الفوضى. و في الاقتصاد، يمثل اقتصاد السوق حافة الشواش بينما يمثل الاقتصاد الموجه مركزيا و الاقتصاد غير المتبلور طرفي المبالغة بالنظام أو الفوضى على التوالي.
تبدأ عملية التشكل من خلال التآثر الموضعي بين عوامل المنظومة بينما تكون العوامل البعيدة غير معنية أو مستقلة عن بعضها. لكن التأثير سينتقل تدريجيا الى تلك المناطق مع الوقت بسبب ترابطها مع جميع عوامل المنظومة. و بسبب التبادل المعقد لعمليات التغذية العكسية الموجبة (تكبير التأثير) و السالبة (تخفيض التأثير) يصعب التنبؤ بالتأثير البعيد الذي يمكن أن يبدو عشوائيا في البداية. و هكذا لا تكون حصيلة التآثرات محددة مسبقا لكنها يمكن ان تظهر تفضيلات أو وضعيات على حساب أخرى. و يمكن أن تنتخب الحالات التي هي أكثر أهلية من غيرها أما من قبل البيئة مباشرة أو من قبل العوامل التي سبق أن تكيفت مع البيئة. الآلية الأساسية للتنظيم الذاتي حسب Heylighenهي التغاير الذي يستكشف مناطق مختلفة من فضاء الحالة ((State Space و فضاء الحالة هو حاصل الضرب الديكارتي لفضاءات الحالة لكل مكونات المنظومة (أو كل الحالات الممكنة) حتى يدخل في جاذب (Attractor). هذا الأمر سيمنع التغيرات خارج الجاذب و بذلك يقيد حرية عوامل المنظومة بالتصرف المستقل. و اذا كان نمط أو هيئة أو تركيب المنظومة يتطلب طاقة حرة يحصل عليها من البيئة أو يحررها من مواد مخزونة داخليا أصلها البيئة أيضا، فانه سيخفض الانتروبي للمنظومة و يصدر مزيد من الانتروبي بشكل حرارة الى البيئة. و بذلك فهو يتماشى مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية. فالكائنات الحية كمنظومات معقدة مفتوحة تعتمد طاقة الفوتونات في ضوء الشمس في عملية التركيب الضوئي (البكتريا الخضر المزرقة و الطحالب و النباتات) أو الأحياء المتغذية على النباتات لبناء مركبات خازنة للطاقة (سكريات، دهون) تستخدمها كمصدر داخلي للطاقة الحرة عند الحاجة. بناء المركبات المعقدة لغرض النمو يتطلب عكس ما يفرضه القانون الثاني للديناميكا الحرارية بزيادة التحلل (الانتروبي). لكن تخفيض الانتروبي الداخلي سيتم تعويضه بتصدير مزيدا من الانتروبي الى البيئة الخارجية بشكل حرارة و غازات و فضلات. ثمة أمثلة كثيرة للتنظيم الذاتي نذكر منها ذرات العناصر و الجزيئات و التفاعلات الكيميائية (شكل 4)؛ تكون النجوم و المجرات وبقائها و تحولها؛ نشوء الأشكال البدائية للحياة؛ تشكل (تجميع) و تفكك الفايروسات ضمن دورة حياتها المتكررة؛ الخلية الحية تعتمد في تركيبها و

شكل4: تفاعل كيميائي
فعالياتها على عمليات التنظيم الذاتي: فالرايبوسومات (مصانع البروتين الخلوية) تنتظم ذاتيا حيث أنها تتألف من عدد من جزيئات البروتين وجزيئات RNA منفصلة و تتحد لتتخذ تركيبا فعالا لانتاج البروتين بعدها تعاود التفكك و هكذا؛ جهاز كولجي العضي الذي يعالج البروتينات و يتألف من عدد من الأكياس و الحويصلات المرتبة يتنظم ذاتيا (Schuberth et al., 2015)؛ الأنيبيبات الدقيقة التي تشكل الهيكل الخلوي و تقوم بالنقل و معالجة المعلومات تنتظم ذاتيا (Dumond, 2012)؛ الحويصلات الناقلة؛ عمل الجينات؛ مضاعفة جزيئات DNA؛ تكوين البروتينات و جزيئات RNA؛ الانقسام النووي و الانقسام الخلوي؛ تشكل جزيئات البروتين: حيث يكون الشكل الأولي للبروتين عند تكونه خيطيا ثم يتخذ الشكل الثانوي بهيئة صفائحية أو حلزون ثم الشكل الثالثي الثلاثي الأبعاد من الأشكال السابقة أو الشكل الرابعي عندما يندمج اثنان أو أكثر من جزيئات البروتين. تحصل هذه التحولات تلقائيا من خلال وجود شحنات موجبة و سالبة على جزيئات الأحماض الأمينية المختلفة المكونة للبروتين. كذلك وجود مناطق محبة للماء و أخرى كارهة للماء و التفاعل بين بعض السلاسل الجانبية المكونة. و من الأمثلة الأخرى التنظيم الذاتي في المستعمرات البكتريا عالية الكثافة و في الأغشية الحيوية (Cho et al.,2007)؛ عمل الجهاز العصبي في الانسان و الحيوانات الراقية المؤلف من ملايين الخلايا العصبية المترابطة (Yufik et al.,2017)؛ عمل الجهاز المناعي الذي يضم ملايين الخلايا المختلفة التي تعمل معا ضد الجراثيم؛ تطور الجنين (Shahbazi et al.,2016)؛ السوق الذي يلبي حاجات ملايين المشترين و البائعين البالغة التنوع و التغير المستمر؛ الانترنت. اللغة كمثال، منظومة عالية التنظيم و التركيب و تتألف من حروف و كلمات برموز صوتية و مكتوبة و هي ذاتية التنظيم تبدأ بسيطة و تنمو و تتعقد مع الوقت و تتطور و تتفاعل مع اللغات الاخرى. و يمكن ان تفشل في مواجهة التحديات فتضمحل أو تنقرض، كما تنقرض الكائنات الحية. اللغة لم تنشأ بجهد فرد أو قوة خارجية إنها منتوج ذاتي للمنظومة البشرية في اقليم أو منطقة جغرافية افرزتها شبكة العلاقات ما بين الافراد و بينهم كمنظومة و البيئة التي يعيشون فيها. ثمة حالة مشابهة للتنظيم الذاتي و التي تعرف بالتجميع الذاتي Self-assembly)) حيث ينشأ عن تآثر مكونات المنظومة تركيب خاص لها. و حسب (2010) Howard يختلف التنظيم الذاتي عن التجميع الذاتي بكون الأول يعتمد في ديمومته على الضخ المستمر للطاقة. و يمكن أن نضيف بأن التجميع الذاتي يكون فاقدا للديناميكية بعد وصوله الى حالة التوازن. من أمثلة التجميع الذاتي تكون الشكل المخروطي لكومة الرمل عند الصب التدريجي لحبات الرمل في نقطة معينة؛ تكوين الكثبان الرملية و سفيان الرمال المتموجة في الصحراء بسبب الرياح. أشكال الهندسة الكسرية (Fractals) التي تظهر في الشكل المتكرر على أبعاد مختلفة و التي تخضع لمعادلات بسيطة مثل: Y= X2 + C حيث أن Yتساوي دالة X, و X هو العامل المتغير، و C عدد ثابت. كما في تشققات الطين المغمور بعد جفافه، تشكل ضفاف الأنهار و سواحل البحيرات و البحار و الأشكال المميزة في جلود حيوانات الحمار الوحشي و النمور و القطط و بعض الأسماك و كذلك اشكال زهرة القرنبيط و ترتيب أوراق اللهانة (شكل5) و حبوب عباد الشمس و تفرع الأشجار و الخيوط الفطرية و الأوعية الدموية وغيرها.

الانبثاق Emergence
نتيجة التنظيم الذاتي و تشكل التركيب الناتج عن تآثر العوامل المكونة للمنظومة، تنشأ ديناميكية وظيفية كلية للمنظومة تتصف بالتماسك و القوة و التآزر و التناظر. هذه الأنماط (Patterns) و الوظائف الجديدة على المنظومة تنشأ عن تآثر الكل و ليس عن أي من العوامل المنفردة و تؤكد مقولة ان الكل أكبر من مجموع أجزائه المكونة. كمثال، الماء في الحالة السائلة له قدرة على البلل أو على اذابة الكثير من المركبات الكيميائية و هي حالات انبثاق ناتجة عن التنظيم التلقائي لجزيئاته، بينما لا تتمكن مكوناته المفردة من ذلك كما في بخار الماء حيث تفتقد الجزيئات للتنظيم الذاتي المتماسك و تتصرف كل جزيئة بمفردها بحركة عشوائية، أو عند تجمعها بهيئة بلورات مقيدة عالية التنظيم كما في الجليد. منظمات المجتمع المدني و النقابات هي منظومات تتألف من أفراد تنبثق عنها أنشطة و فعاليات لا يمكن تحقيقها بالجمع البسيط للأنشطة الفردية لأعضائها. ظاهرة الحياة هي انبثاق يتمثل بتبادل المواد و الطاقة و المعلومات مع المحيط و فعاليات التنفس و النمو و التكاثر و غيرها في منظومة الخلية الحية أو الكائن الحي و التي تحصل سوية بينما لا يتمكن أي مكون لوحده فيهما من تحقيقها. الادراك و العقل و الفكر هي انبثاقات لنشاط شبكة الخلايا العصبية للدماغ و لا يمكن تفسيرها على اساس الجمع البسيط لأنشطة الخلايا العصبية المنعزلة. القطعة الموسيقية هي انبثاق يظهر الايقاع و الأنغام و الانسجام (الهرموني) لمنظومة الآلات الموسيقية المتزامنة و لا يمكن تحقيقه بالنوتات المفردة أو العزف الانفرادي المستقل للآلات الموسيقية. و الإنبثاق يتجسد بأنماط (Patterns) تنتجها المنظومة و تكون منفصلة عن المادة الفيزيائية المنتجة لها. فالوعي والتفكير أنماط معلوماتية منفصلة عن الدماغ مثلما أن المعلومات التي نتحصل عليها من العمليات الحاسوبية هي منفصلة عن الحاسوب كمنظومة فيزيائية. و حسب Tegmark (2014) فان ذلك مشابه للموجة الناتجة عن رمي حجر في الماء. فالموجة لها طول و تردد و سرعة و معادلات توصفها و هي منفصلة عن جزيئات الماء التي تحققت فيها.
الانبثاق كما التنظيم الذاتي ينشأ بتراتب تصاعدي أو ما يعرف بالقاع صعودا (Bottoms-Up) أي بنشاط العوامل أو المنظومات التحتية الذي ينتقل و يؤثر في نشاط المنظومات الأعلى فالأعلى حتى يشمل المنظومة العليا التي سينبثق عنها نمط أو فعالية أو وظيفة تآزرية جديدة بينما تحتفظ المنظومات التحتية باسقلالياتها الذاتية ضمن التكامل الذي يشمل جميع المنظومات. التفاعل التآزري سيكون مصدرا مهما للقيمة المضافة التي يتسم بها الانبثاق. فعند تفاعل ذرتين أو جزيئتين فإن منظومة الالكترونات و هي منظومة تحتية ضمن منظومة الذرة أو الجزيئة العلويتين من يقوم بالتفاعل بينما يحصل انبثاق و هو حالة جديدة يشمل الذرتين أو الجزيئتين و تحتفظ المنظومات التحتية الأخرى (نواتي الذرتين أو ذرات الجزيئتين) باستقلالها الذاتي. النبات عندما يتفاعل مع الضوء فإن البلاستيدات الخضراء (و هي منظومة تحتية ضمن منظومة الخلية)



شكل 5. سفيان الكثبان الرملية (أعلى يمين) و التشققات الطينية و تموجات جلد سمكة الأرنب و تخطيطات الزبرا و و التفافات أوراق رأس اللهانة و زخرفة حبة طلع نبات Forsythia والجسم الثمري لفطر الموريل و عش النمل الأبيض و تفرعات دماغ القط (أسفل يسار).

هي من يقوم بهذه الوظيفة، و امتصاص الماء و الأملاح تقوم به خلايا الجذر و هي منظومة تحتية أخرى لكن جميع الخلايا الأخرى في المنظومة العليا (النبات) ستتعامل مع نشاط الخلايا الخضراء و خلايا الجذر و ينبثق نشاط حيوي منوع يتمثل بديمومة النمو و الأنشطة الحيوية الأخرى لمنظومة النبات ككل. الجهاز المناعي كمنظومة عليا في مقاومة الجسم ضد المسببات المرضية يتكون من منظومات تحتية مختلفة كل منها يتألف من ملايين الخلايا كالخلايا البلعمية و الخلايا المتعادلة و الخلايا اللمفاوية كما تنتج منظومة متنوعة من جزيئات الأجسام المضادة (الكلوبيولينات). يقوم أفراد كل منظومة بعمل مختلف مضاد للجراثيم يتوج بتآزر عمل هذه المنظومات بانبثاق حالة المناعة تجاه الممرض. من العوامل المؤسسة للانبثاق فعل ظاهرتين متناقضتين هما التفاضل (Differentiation) و التكامل (Integration). التفاضل هو التمايز الذي يمكن من وجود و عمل المنظومات التحتية بمستوياتها المختلفة بينما يوفر التكامل الفعل التآزري للمنظومات التحتية بتراتبياتها الهرمية الذي يفضي الى الانبثاق. و مع أن هذه المفاهيم فعالة في جميع أشكال الانبثاق الا أنها تتوضح بجلاء في بعض الأمثلة مثل انبثاق أعشاش النمل. فمستعمرات النمل تضم ملايين الأفراد غير المتمايزين مظهريا و فسلجيا و بمستوى ذكاء منخفض. فحسب أحد الباحثين لا تتمكن الأعداد القليلة (حتى 500 نملة) من النمل المحارب من التصرف الذكي بالبحث عن الغذاء و تستمر في الدوران حول نفسها حتى تستهلك طاقتها و تهلك. لكن الآلاف أو الملايين منها و التي ستشكل منظومة تتصرف بسلوك ذكي و تنقسم الى منظومات تحتية يقوم كل منها بعمل معين كالبحث عن الغذاء أو الحراسة أو بناء العش. هذه الأنشطة المختلفة تتآزر و تتكامل مؤدية الى انبثاق عش بهيئة بناء معماري بارتفاعات و تشكيلات مختلفة يحتوي على انفاق و مداخل و مخارج يشمل المستعمرة كلها.
يمكن للانبثاق أن يفسر ظواهر تبدو معقدة للغاية كالتشكل المظهري (Morphogenesis) في الأحياء و تطور الجنين من خلية واحدة الى مجموعة خلايا غير متمايزة الى التكون التدريجي للأعضاء و اكتمال تكون الجنين. قدم Turing (1952) معالجة نظرية لهذا الموضوع و بين أن هذه التغيرات تنبثق من خلال آلية واحدة هي الزيادة الموضعية لتفاعل (تنشيط موضعي) يتبع بتثبيط طويل المدى لهذا التفاعل. مثلا من خلال فعل الجينات و الهرمونات ثم الانزيمات يمكن أن يحصل تفاعل في عدد محدود من الخلايا يؤدي الى زيادة جهدها الأزموزي و هذا يؤدي الى توسعها ثم يتوقف التفاعل بعد ذلك كاسرا التناظر الموجود سابقا لينتج تشكيلا جديدا. أو تنشيط تفاعلات "موت الخلايا المبرمج" (Apoptosis) في عدد محدود من الخلايا مما يؤدي الى موتها و تحللها ثم يتوقف التفاعل بعد ذلك محدثا تجويفا مستداما في أنسجة الجنين كما في القلب أو الكلى أوغير ذلك. أما تشكل الأعضاء المختلفة للجنين فيحدث من خلال برامج تشغيل و تثبيط مجاميع جينية متسلسلة تؤدي الى تمايز خطوط خلوية رئيسة. بعدها تفعل برامج مماثلة على جينات مختلفة تؤدي الى تمايزات خلوية أكثر تخصصا و هكذا تنشأ الأنسجة و الأعضاء المختلفة. من المؤكد أن مثل هذه الأحداث تحصل بتفاصيل كثيرة جدا و متداخلة تشترك فيها جزيئات اشارية تستلمها بروتينات مستقبلة و تنتقل بواسطة سلاسل من البروتينات لتصل الى الجينات و هنا تعمل آليات مختلفة تشترك فيها بروتينات و جزيئات RNA و ريبوسومات لتنتج بروتينات جديدة تلعب أدوارا في التمايز و التخصص الخلوي. علما ثمة أنواع مختلفة جدا من التشكل المظهري و بدرجات مختلفة من التعقيد تتناسب و تعقد الكائن الحي.
التغذية العكسية Feedback
يمكن تعريف التغذية العكسية على أنها عملية يعود التأثير فيها الى (أو يؤثر في) مسببه. أو أن مخرجات منظومة ما تعاود الدخول مباشرة أو من خلال منظومة وسطية أو أكثر، الى المنظومة نفسها، و بذلك تلعب تلقائيا دور السبب (Heylighen,2018). كمثال، المناخ يؤثر تأثيرا مباشرا على الغطاء النباتي للأرض من خلال الضوء و الغازات و درجة الحرارة و الرطوبة. في المقابل يؤثر الغطاء النباتي في المناخ من خلال تخفيض الضوء المنعكس و تقليل الحرارة المنعكسة من سطح الأرض، و زيادة الرطوبة من خلال النتح و زيادة تركيز الأوكسجين و تخفيض تركيز ثاني أوكسيد الكاربون من خلال عملية التركيب الضوئي و بالتالي يخفض من ظاهرة الانحباس الحراري.
ثمة نوعان أساسيان من التغذية العكسية:
التغذية العكسية الموجبة: و فيها يقوم السبب بتعظيم نفسه أو تستمر المنظومة بإداء العمل الذي تقوم به ما يؤدي الى معدلات نمو عالية في المخرجات قد تقود الى الشواش. وهكذا تعتبر التغذية العكسية الموجبة مصدرا مهما لنمو و تغير المنظومة (نمو أسي، تذبذب، شواش). كما أن التغذية العكسية الموجبة تمثل الأساس لظاهرة الاعتماد الحساس على الشروط الأولية و مظهرا لللاخطية في المنظومة حيث تنتج تأثيرات كبيرة من مسببات صغيرة. إن التغذية العكسية الموجبة تتمثل في العلاقة التالية بين متغيرين مثل A و B. فالزيادة في قيمة أو نشاط العامل A تؤدي الى زيادة في قيمة أو نشاط العامل B، و الزيادة في B تؤدي الى زيادة في A و هكذا. كمثال، التفاعل الكيميائي المولد للحرارة. حصول التفاعل يؤدي الى ارتفاع درجة الحرارة، هذا العامل بدوره سيزيد من سرعة التفاعل و هكذا. اذا لم يتم التخلص من الحرارة الناتجة من التفاعل فستنفجر المنظومة. تفاعل الإندماج النووي لنوى ذرات الهيدروجين و تكوين الهليوم في قلب الشمس. فما أن يبدأ هكذا تفاعل بوصول درجة الحرارة الى مقادير عالية جدا نتيجة ضغط كتلة الهيدروجين الضخمة جدا، تنتج عن التفاعل طاقة عالية بشكل حرارة و ضوء. و هذه بدورها ستمكن من استمرار التفاعل لحين نفاذ الهيدروجين. عملية نضج الثمار تتم بحلقة تغذية عكسية موجبة. فنضج ثمرة واحدة سيؤدي الى اطلاقها لغاز الاثيلين الذي سيحفز النضج للثمار المجاورة التي استلمت الغاز. و هذه بدورها ستنضج و تنتج المزيد من الغاز و تنضج مزيد من الثمار و هكذا. ظاهرة الطلق أثناء الولادة تقدم مثالا للتغذية العكسية الموجبة. حيث أن تقلصات الرحم تحفز انتاج هرمون Oxytocin و هذا الهرمون بدوره يزيد من تقلصات الرحم و هكذا لحين الولادة. و من الأمثلة النموذجية لتوضيح التغذية العكسية الموجبة، ظاهرة انتشار الأمراض المعدية في النبات و الحيوان و الانسان. فالإصابات الفايروسية، البكتيرية أو الفطرية تبدأ بوحدة واحدة أو عدد قليل من الوحدات التكاثرية لهذه المكروبات (السبب) حيث تصيب خلية واحدة أو عدد قليل من خلايا العائل الحساس للاصابة (التأثير). مع الوقت تتكاثر اعداد المسبب المرضي لتصيب خلايا جديدة. استمرار تكاثر المسبب المرضي يؤدي الى زيادة الإصابات الجديدة و هذه ستؤدي الى زيادات هائلة في أعداد المكروبات. وهكذا يمكن أن تصاب معظم خلايا العائل ثم تنتشر منه لتصيب اعداد اكبر من الأفراد و بذلك يحصل الوباء و هو حالة شواشية مدمرة بالنسبة للأحياء.
التغذية العكسية السالبة: و هي آلية لاخطية تخفض الأسباب الكبيرة الى تأثيرات صغيرة. و هذه تؤدي على العموم الى حالة التوازن المستقر بسبب عكس أي انحراف عن حالة التوازن و اعادة المنظومة اليها. حالة التوازن هذه يمكن اعتبارها "هدف" ضمني تسعى المنظومة دائما للرجوع اليه(Heylighen,2018). كمثال، المحافظة على درجة حرارة الغرفة باستخدام مولد حرارة (Heater) مرتبط بمثبت حرارة (Thermostat). فعند نزول درجة حرارة الغرفة عن قيمة محددة في مثبت الحرارة، هذه المعلومة ستجعل مثبت الحرارة يشغل مولد الحرارة و بذلك ترتفع درجة حرارة الغرفة الى المستوى المطلوب المحدد في مثبت الحرارة. عند ذلك تعمل هذه المعلومة على ايقاف عمل مولد الحرارة بواسطة مثبت الحرارة و هكذا. مثال آخر، التفاعل الكيميائي المذكور سابقا في الشكل 4. حيث أن سير التفاعل بين المواد المتفاعلة نحو اليمين بتغذية عكسية موجبة، يعكس بتغذية عكسية سالبة بتفاعل المواد الناتجة لإعادة تكوين المواد المتفاعلة و وصول المنظومة الى حالة التوازن. كذلك العلاقة بين العرض و الطلب في الاقتصاد. فزيادة المنتوج يؤدي الى زيادة العرض و هذا بتغذية عكسية سالبة يؤدي الى انخفاض السعر. و استمرار انخفاض السعر عن حد حرج معين سيؤدي من خلال تغذية عكسية موجبة الى خفض الانتاج و من ثم قلة العرض. و الحالة الأخيرة عبر التغذية العكسية السالبة ستقود الى ارتفاع السعر و الوصول الى حالة التوازن بين العرض و الطلب. و في البيولوجيا، تلعب التغذية العكسية دورا مهما للغاية من أجل تحقيق حالة التوازن الديناميكي (Homeostasis) في جميع الفعاليات و الأنشطة الحيوية لجميع الكائنات الحية. فمعظم إن لم تكن كافة التفاعلات و العمليات الحيوية تظهر حالتين متناقضتين متلازمتين هما التنشيط أو الزيادة عبر التغذية العكسية الموجبة و التثبيط أو التخفيض من خلال التغذية العكسية السالبة. الأولى تتمثل بزيادة التعبير الجيني (تشغيل الجينات) بتكوين مواد مطلوبة أو زيادة النمو أو زيادة التكاثر، الخ. استمرار هذه الحالة ستقود الى تراكم يفوق الحاجة و يستنفذ خزين الموارد الجزيئية و الطاقة و يقود الى التضخم و الأمراض السرطانية أي باتجاه الشواش. و الثانية تتمثل بتثبيط التعبير الجيني (ايقاف عمل الجينات) الذي يحفزه تراكم منتجات التغذية العكسية الموجبة و بالتالي تدفع باتجاه ضبط الانحراف عن حالة التوازن الديناميكي و الرجوع اليها.
و هكذا تعتبر آليات التغذية العكسية الموجبة و السالبة من العوامل المهمة في التنظيم الذاتي و الإنبثاق و تطور و ديمومة المنظومات.
من كل ما تقدم نخلص الى أن كل ما نراه من تنوع و تعقيد في الطبيعة ينبع من حقائق وجودية أساسية تتلخص بالوحدة و التباين، بالحركة و التآثر، بالتنظيم الذاتي و الإنبثاق التلقائي للتراكيب و الأنماط و الفعاليات و الألوان و الموسيقى، بتعقد المعلومات من خلال تقلباتها و معالجاتها من كل مكونات الكون المترابطة بمنظومات متداخلة لتنتج برامج تتعقد باستمرار في حاسوب الكون الكمومي الذي يعمل وفق قوانين فيزيائية بسيطة و قليلة يمكن أن تكتب على قميص بدون أكمام.

المراجع
هوكنج ستيفن. 2006. تاريخ موجز للزمان. من الانفجار الكبير حتى الثقوب السوداء. ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 165 ص
تايسون، نيل ديجراس و دونالد جولدسميث. .2012 البدايات: ١٤ مليار عام من تطور الكون. ترجمة محمد خضر فتحي. القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر. 315 ص.

غليك، جيمس.1987. نظرية الفوضى، علم اللامتوقع. ترجمة أحمد مغربي. 395 ص
فراس السواح. 2002. لغز عشتار. الالوهة المؤنثة و أصل الدين و الاسطورة. دار علاء الدين . 436 ص
Abbott , Derek , Paul C. W. Davies and Arun K. Pati. 2008. Quantum Aspects of Life. Imperial College Press. Pdf, 469 pp.

Bertalanffy, Ludwig Von. 1972. The History and Status of General Systems. The Academy of Management Journal, 15 (4): 407-426.
Cabrera, Derek Anthony. 2006. Systems Thinking . A dissertation presented to the Faculty of the Graduate School of Cornell University in partial fulfillment of the requirements for the degree of doctor of philosophy. Pdf. 303 pp.

Cho H, Jo¨nsson H, Campbell K, Melke P, Williams JW, et al. 2007. Self-organization in high-density bacterial colonies: efficient crowd control. PLoS Biol 5(11): e302. doi:10.1371/journal.pbio.0050302

Cleveland, John. 1994. Complexity theory basic concepts and application to systems thinking. Innovation Network For Communities.
De Wolf, Tom and Tom Holvoet. 2005. Emergence Versus Self-Organisation: Different Concepts but Promising When Combined. S. Brueckner et al. (Eds.): ESOA 2004, LNCS 3464, pp. 1–15, 2005. Springer-Verlag Berlin Heidelberg 2005.

Dumond, Mathilde. 2012. Two main ways to model the self-organization of cortical microtubules. Master BioSciences, Département de Biologie, Ecole Normale Supérieure de Lyon. Pdf 7 pp.

Heylighen, Francis, Paul Cilliers and Carlos Gershenson. 2007. Complexity and philosophy. In: J. Bogg and R. Geyer (editors) , Complexity, Science and Society, (Radcliffe,Oxford)

Heylighen, Francis. 2008. Complexity and Self-organization. prepared for the Encyclopedia of Library and Information Sciences,
edited by Marcia J. Bates and Mary Niles Maack (Taylor & Francis, 2008). Pdf, 20 pp.

Irwin, Klee. 2017. The Code Theoretic Axiom The Third Ontology. PDF 13 pp.
Heylighen, Francis. 2018. Complexity and Evolution. Fundamental concepts of a new scientific world view. Lecture notes. 2017-2018. Pdf 167 pp.

Howard, Jonathon. 2010. Self-organization in biology. MPG. pdf 6 pp.

Johnson IV, John J., Andreas Tolkb, and Andres Sousa-Pozac. 2013. A Theory of Emergence and Entropy in Systems of Systems. Procedia Computer Science, 20 : 283 – 289

Kaisler, Stephen H. and Gregory Madey. 2009. Complex Adaptive Systems:Emergence and Self-Organization Tutorial Presented at HICSS-42, Big Island, HI. University of Notre Dame. PPT 115 pp.

Lloyd, Seth. 2006. Programing the universe. A quantum computer scientist takes on the cosmos. Alfred A. Knopf. New York. Pdf, 152 pp.

MacKay, R. S. 2008. Nonlinearity in Complexity Science.
Mathematics Institute and Centre for Complexity Science
University of Warwick, Coventry CV4 7AL, U.K. pdf pp 10

Schiller, Christoph. 2011. Motion Mountain. The Adventure of Physics Volume I. Twenty-fourth edition. Copyright © 2011 by Christoph Schiller. pdf 466 pp.

Schiller, Christoph. 2016. Motion Mountain. The Adventure of Physics Volume IV. Twenty-ninth edition. Copyright © 2016 by Christoph Schiller. pdf 286 pp

Schuberth, Christian E., Carolina Ta¨ngemo, Cvetalina Coneva, Christian Tischer and Rainer Pepperkok. 2015. Self-organization of core Golgi material is independent of COPII-mediated endoplasmic reticulum export. Journal of Cell Science, 128: 1279–1293

organization of cortical microtubules
Shahbazi, Marta N., Agnieszka Jedrusik, Sanna Vuoristo, Gaelle Recher, Anna Hupalowska, Virginia Bolton, Norah N. M. Fogarty, Alison Campbell, Liani Devito, Dusko Ilic, Yakoub Khalaf, Kathy K. Niakan, Simon Fishel, and Magdalena Zernicka-Goetz. 2016. Self-organisation of the human embryo in the absence of maternal tissues Nat Cell Biol. 2016 June - 18(6): 700–708. doi:10.1038/ncb3347

Tegmark , Max. 2014. Consciousness is a mathematical pattern. Lecture TEDxCambridge .
https://www.youtube.com/watch?v=GzCvlFRISIM
Turing A. 1952. The chemical basis for morphogenesis. Phil Trans Roy Soc London, 237:37–72

Turok, Neil. 2015. The Astonishing Simplicity of Everything. Public Lecture
https://www.youtube.com/watch?v=f1x9lgX8GaE
Turok, Neil. 2018. We Are Innovators -on the Power of Ideas. Public Lecture. Perimeter Institute. https://www.youtube.com/watch?v=B0OIbRUvdU4

Tyson, Neil de Grasse, Charles Tsun-Chu Liu and Robert Irion 2000. The universe : at home in the cosmos. Washington, DC: National Academy Press
Yufik, Y. M., Sengupta, B., Friston, K., eds. 2017. Self-Organization in the Nervous System. Lausanne: Frontiers Media. doi: 10.3389/978-2-88945-340-5





#فياض_محمد_شريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدخل الى نظرية التعقيد و التفكير المنظومي Introduction To Co ...


المزيد.....




- من إحدى مركبات مكافحة الشغب.. رش مسؤولين إيرانيين بالمياه في ...
- مع اقتراب الصيف.. أطعمة غنية بفيتامين C تفوق البرتقال
- -جيش- من صراصير السايبورغ في الصحراء للتدرب على مهام الإنقاذ ...
- سامسونغ تعلن عن بطاقات ذاكرة تعمل بسرعات عالية
- مغردون يتفاعلون بعد فصل -غوغل- موظفين رفضوا مشروع تعاون مع إ ...
- غوغل تفصل 28 موظفا احتجوا على تعاونها مع إسرائيل
- -عقيدة نووية إيرانية جديدة-.. ما الذي كشفته صور الأقمار الصن ...
- عشان خطة الرجيم تنجح.. 4 أسباب وراء الفشل فى فقدان الوزن
- الاكتئاب في الربيع.. أهم الأعراض و6 خطوات أساسية للعلاج
- هل السكريات السبب الرئيسى في زيادة وزنك؟ اعرف الكمية المعتدل ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - فياض محمد شريف - مدخل الى نظرية التعقيد و التفكير المنظومي Introduction To Complexity Theory And Systems Thinking أو النظرة العلمية الجديدة للعالم