المعنى فن إنتاج اللغة

حسن عجمي

الحوار المتمدن-العدد: 6114 - 2019 / 1 / 14 - 08:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

المعنى فن إنتاج اللغة بينما اللغة فن إنتاج الأكوان الممكنة. بذلك المعاني تصوغ الأكوان الممكنة. و عالَمنا الواقعي كونٌ من ضمن الأكوان الممكنة فإن لم يكن ممكناً ما تحقق في الواقع. هكذا يمتلك المعنى دوراً جوهرياً و أساسياً في صياغة الوجود و ما يتضمن الوجود من أكوان واقعية و ممكنة و متنوّعة لأنَّ المعاني تُنتِج اللغات و اللغات تُنتِج الأكوان الممكنة التي من ضمنها عالَمنا الواقعي.

المعاني فنون إنتاج اللغات. فاللغات تنشأ و تُبنَى و تتطوّر بنشوء و بناء و تطوّر المعاني. مثل ذلك أنه عندما تكوَّن معنى أنَّ الزمان و المكان يشكّلان كينونة واحدة غير قابلة للفصل حينئذٍ تكوَّن مصطلح الزمكان (جمع الزمان و المكان) كما وَرَدَ في نظرية النسبية لأينشتاين. هكذا معنى اتحاد الزمان و المكان شَكَّلَ مصطلحاً لغوياً جديداً ألا و هو الزمكان ما يدلّ على أنَّ المعاني تُكوِّن اللغات. و بذلك المعنى فن إنتاج اللغة.

من المنطلق نفسه , حين تكوَّن معنى وجود ثقوب في الفضاء تبتلع ما يقترب منها و لا تسمح بخروج أي إشعاع منها عندئذٍ بنى العلماء مصطلح "الثقب الأسود" الدال على تلك الثقوب في فضاء الكون. لكن عندما تكوَّن معنى وجود ثقوب فضائية مناقضة للثقوب الأولى لكونها تسمح بخروج الضوء منها حينئذٍ شَكَّلَ العلماء مصطلح "الثقب الأبيض" الدال على تلك الثقوب. هكذا المعاني تبني اللغات.

بالإضافة إلى ذلك , المعاني تُشكِّل اللغات المُستخدَمة يومياً في التواصل. فمثلاً , يوجد معنى مفاده أنَّ المعرفة كامنة في العُرف. و على أساس هذا المعنى تمّ اشتقاق و تكوين كلمة "معرفة" من كلمة "عُرف" في اللغة العربية ما ضمن التعبير عن أنَّ المعرفة كامنة في العُرف. هكذا المعنى فن صياغة اللغة. تتعدد الأمثلة على ذلك منها أيضاً أنه يوجد معنى فحواه أنَّ الحُكم يجب أن يتصف بالحكمة. و على أساس هذا المعنى تمّ في اللغة العربية اشتقاق فتكوين كلمتي "الحُكم" و "الحكمة" من الجذر نفسه (ح- ك- م) لارتباطهما. و ثمة معنى مضمونه أنَّ العالَم يتكوّن على ضوء العِلم ما سمح للغة العربية أن تشتق و تكوِّن كلمة "العالَم" من كلمة "العِلم" أو اشتقاقهما من الجذر نفسه (ع - ل - م) لارتباطهما. كما ثمة معنى مفاده أنَّ العائلة هي التي يجب أن تُعال. و من خلال هذا المعنى كوّنت اللغة العربية كلمة "عائلة" بفضل اشتقاقها من فعل "عالَ" ما ضمن التعبير عن أنَّ العائلة هي التي يجب أن تُعال. كل هذه الأمثلة ترينا أنَّ المعاني تشكِّل اللغة و بذلك المعنى فن إنتاج اللغات.

من جهة أخرى , اللغة فن إنتاج الأكوان الممكنة. فمثلاً , النظريات العلمية المختلفة لغات متنوّعة تصوغ أكواناً ممكنة متعدّدة. فلغة نظرية نيوتن العلمية تُشكِّل أكواناً ممكنة محكومة بقوانين طبيعية حتمية منها أنَّ القوة تساوي الكتلة ضرب التسارع (كما في عالَم ما فوق الذرة في كوننا الواقعي بالذات) بينما لغة نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية تشكِّل أكواناً ممكنة أخرى محكومة بقوانين احتمالية (على نقيض من قوانين نيوتن الحتمية) تستلزم أنَّ الجُسيم نفسه (كالإلكترون) هو جُسيم و موجة في آن رغم أنَّ الجُسيم نقيض الموجة (كما في عالَم ما دون الذرة في كوننا الواقعي نفسه).

أما لغة نظرية النسبية لأينشتاين فتصوغ أكواناً أخرى مختلفة عن أكوان لغة نيوتن و أكوان لغة ميكانيكا الكمّ. لغة نظرية أينشتاين العلمية تشكِّل أكواناً ممكنة حيث الزمن فيها نسبي فيتسارع الزمن أو يتباطأ بتباطؤ سرعة الأجسام أو تسارعها رغم محكومية أكوان أينشتاين بقوانين طبيعية حتمية على نقيض لغة أكوان ميكانيكا الكمّ بينما لغة نيوتن العلمية تصوغ أكواناً ممكنة حيث الزمن مطلق و ليس نسبياً. كل هذا يدلّ على أنَّ اللغات فنون إنتاج الأكوان الممكنة.

كما أنَّ اللغة العربية تشكِّل أكواناً ممكنة حيث المعرفة مصدرها العُرف (لاشتقاق المعرفة و العُرف من الجذر نفسه) و حيث الحُكم فيها معتمد على الحكمة و العالَم فيها يتكوّن على ضوء العِلم بينما العائلة فيها تتكوّن على أساس الإعالة (لاشتقاق هذه الكلمات من الجذور نفسها). أما اللغة الإنكليزية فتشكِّل أكواناً ممكنة أخرى حيث الجماعة (community) تتكوَّن على ضوء التواصل (communication) لاشتقاقهما من بعضهما و حيث العائلة (family) فيها تتكوَّن على أساس المؤانسة و الألفة (familiar) لاشتقاقهما من بعضهما. هكذا اللغات تشكِّل الأكوان الممكنة. و تتكثر الأمثلة في اللغتيْن العربية و الإنكليزية و اللغات الأخرى و كلها ترينا أنَّ لغاتنا اليومية (كالعربية و الإنكليزية و غيرها) تُنتِج أكواناً ممكنة متنوّعة ما يؤكِّد على أنَّ اللغات فنون صياغة أكوان ممكنة مختلفة.

إن كان المعنى فن إنتاج اللغة , و علماً بأنَّ اللغة فن إنتاج الأكوان الممكنة , إذن المعاني فنون صياغة الأكوان الممكنة المتعدّدة و المختلفة و المتنوّعة. هكذا يتنوّع الوجود بمعانيه و لغاته و أكوانه الممكنة. نحيا في كون واقعي هو حصيلة وجود الأكوان المتوازية الممكنة اللامتناهية عددياً (فلانهائية أعداد وجود أكوان ممكنة تتضمن بالضرورة الرياضية وجود عالَمنا بالذات). لذلك نولد و ننمو و نموت بولادة الأكوان الممكنة و نموها و موتها تماماً كما نولد و نحيا و نموت بلغات معانينا و معاني لغاتنا.

مثل تطبيقي على هذا النموذج الفلسفي هو أنه بلا مفهوم "الثلج" و معناه لن يوجد الثلج بل ستوجد مادة جامدة بيضاء باردة من الممكن أن تتحوّل إلى ماء (فالموجود كذرات مادية أو كمعلومات مُكوِّنة للمادة البيضاء الباردة الجامدة يبقى كما هو لكنه لن يكون ثلجاً لفقدان مفهوم "الثلج" و معناه). و بذلك اللغة بمفاهيمها و معانيها تشكِّل الواقع تماماً كما أنَّ مفهوم "الثلج" و معناه يشكِّلان وجودية الثلج بدلاً من وجود مجرّد مادة جامدة بيضاء باردة قابلة للتحوّل إلى ماء. فحين نخسر مفهوم "الثلج" و معناه نخسر معرفتنا بأنه ثلج و لكن المعرفة مطابقة للواقع و بذلك نخسر واقعية أنه ثلج فلا يكون ثلجاً.

إن وُجِدَ كائن فضائي من مجرة أخرى مالك لعقل مختلف و لغة مختلفة كلياً عن عقولنا و لغاتنا فسوف يرى الثلج و يدركه بطريقة مختلفة تماماً عن كيفية رؤيتنا و إدراكنا للثلج كأن يرى الثلج و يدركه (إدراكاً صحيحاً) على أنه مجموعة معلومات و تبادلها لافتقاره إلى مفهوم "الثلج" و معناه بينما كائن فضائي آخر بعقل آخر و لغة أخرى فسوف على الأرجح يرى الثلج و يدركه (إدراكاً صحيحاً أيضاً) على أنه بناءات رياضية هندسية (لافتقاره إلى مفهوم "الثلج" و معناه و من جراء تركيبته البيولوجية و العقلية و اللغوية المختلفة). هكذا الواقع يختلف باختلاف الكائنات الحية العاقلة المختلفة بمفاهيمها فبلغاتها و عقولها ما يؤكِّد على أنَّ مفاهيمنا و معانيها تساهم بقوة في صياغة الوجود بواقعه و أكوانه الممكنة.

أما الواقع في حدّ ذاته فغير مُحدَّد بلا عقل يدركه بمفاهيم اللغة و معانيها تماماً كما تقول نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية (فقطة شرودنغر تبقى غير مُحدَّدة إن كانت حية أم ميتة إلى أن يدركها العقل لأنَّ فقط بوعينا بها تصبح مُحدَّدة إما على أنها حية و إما على أنها ميتة). من هنا مفاهيم عقولنا و معانيها تملك الدور الأكبر في بناء الوجود كما نراه و نختبره. فالكون غير مُحدَّد بلا عقل يُحدِّده.

#حسن_عجمي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل