إياد الغفري
الحوار المتمدن-العدد: 6077 - 2018 / 12 / 8 - 02:27
المحور:
سيرة ذاتية
يُعرَّف الإدمان في الويكيبيديا بأنه اضطراب سلوكي يفرض على الفرد تكرار عمل معين باستمرار لكي ينهمك بهذا النشاط بغض النظر عن العواقب الضارة بصحة الفرد أو حالاته العقلية أو حياته الاجتماعية.... العوامل التي تم اقتراحها كأسباب للإدمان تشمل عوامل وراثية، بيولوجية، دوائية واجتماعية.
****
أيام الطفولة عندما كان الحديث عن الإدمان يدور كنت أتخيل جبل المقطم، وتجار الباطنية... وأستعيد ما طبع في ذاكرتي عن الكيف من نتاج الدراما المصرية....
تطور فهمي للإدمان عند دراستي المسرح... فصار الإدمان هو للمخدرات وانتفى عن الحشيش... فصارت كلمة مدمن تعني متعاطي الهيروين والكوكائين، بينما متعاطى الحشيش يسمى مثقفاً ثورياً، أو فنان... ولعب زياد الرحباني وشخص تافه يرتدي فولاراً أحمراً ويرخي ذقنه تحت لحية تخللها الشيب وكنا نحسبه على الله أحد شبيحة زياد دوراً مهماً في سحب الحشيش من خانة الإدمان لخانة الثقافة.
الكحول يومها لم يعنِ الإدمان، واستمر الأمر كذلك لفترة طويلة... أثناء عملي في الخطوط النمساوية كنت أشرب يومياً وبدون توقف، ولم أُدرج الكحول تحت مظلة الإدمان إلا عندما التقيت بناصر قبل وفاته بفترة قصيرة...
ناصر كان من أهم رسامي سوريا، عقل متقد، سخرية مخيفة من الوجود... عاش في منتصف دمشق الثمانينات وأنفق ما حصل عليه من رسم قصص الأطفال لدار نشر سلفية على براندي أبو نواس وويسكي قاسيون، ولمن لم يعرف طعم هذه المشروبات يؤسفني عجزي عن شرحها... لكن يمكن تخيل منظر عادل إمام وهو يتحدث عن ثاني أوكسيد المنغنيز...
ناصر كان يفطر في الرواق بليتر من البراندي، وبطحة قاسيون.... استمر على هذا حتى تم اعتقاله في التسعينات وساقته عناصر المخابرات للتحقيق من وسط نادي العمال في دمشق.
سبب الاعتقال كان وشاية من مثقف صار اليوم ثائراً.... والتهمة كانت أنه يتعاطى بالشأن السياسي وكما قال لي المرحوم ناصر، وبعد التحقيق معه اكتشفوا بأنه "علَّاك" وقرر المحقق إطلاق سراحه ما لم يكن مطلوباً بجرم آخر؛ كون الاعتقال كان مبنياً على مذكرة بحث نظامية وأمر من القاضي...
لدى التدقيق اكتشفت الأجهزة الأمنية أن ناصر مطلوب بسبب التخلف عن خدمة العلم منذ سنوات عدة، لكنه ولكونه مسجل في نفوس حلب، لم يتم الاستدلال على مكانه لحينها...
نقل ناصر إلى البالوني... ومنه إلى قطعته العسكرية كونه متخلف عن السوق لعشرات السنين،
أخبرني بعد تسريحه وإلغاء عقوبة مضاعفة الخدمة بمكرُمة من السيد الرئيس
أنه خلال دورة الأغرار كان يتعمد أذية نفسه كي يتم سوقه للمستوصف حيث كان يغافل الممرضين ويسرق زجاجات الكحول الطبي... يومها تأكدت أن الكحول يسبب الإدمان... عافانا وعافاكم الله.
توفي ناصر ولم يبق منه سوى ذكراه في مخيلة أصدقاء تفرقوا بين عواصم العالم في تيه سيطول لأكثر من أربعين عاماً، صوت ضحكه وسخريته من الواقع ومن القيم والمثل العليا... صراخه بكلمته المفضلة "بقرة" عندما كان يريد توصيف أنثى، شاعر، مثقف أو فيلسوف سوري راحل.
****
مع الوقت تعرفت إلى إدمانات جديدة...
المرأة كإدمان يصعب الشفاء منه، المنابر الافتراضية التي بسحرها الأزرق تشدنا لنعود إلى عذاباتها، ولكني اعتبرت حتى مساء البارحة أن أخطر إدمانين في الكون هما المرأة والله؛ سنوات مرت على تلك الأنثى لكنها تعود لتداعب مخيلتي كل يوم.... وإدمان الآلهة أراه يومياً يحكم البشر على اختلاف أعراقهم ليترك ملايين الجثث تتعفن على وجه الأرض.
البارحة فقط وخلال تعاطي الجعة في كولن مع صديقي النطاسي تعرضنا لقضايا الإدمان... فتح عيني على إدمان أشد خطراً من المخدرات بأصنافها والكحول والنساء والله... سنوات غربته وعمله الدؤوب لم يتمكنا من علاج هذا الإدمان بل كانا مسببين له،
إدمان الوطن.
ليست دمشق بحاراتها، بيوتها، ولا بأطعمتها، ولا العائلة التي بقيت فيها تتواصل معه وتزيد في حنينه لمسقط رأسه...
مزيج من كل ما سبق وأمور أخرى يستحيل شرحها تمثل الوطن،
الشوق الذي يراود أحدنا وهو مربوط إلى ساقية الإنتاج وإثبات الذات في منافينا الرضائية أو الإجبارية ما هو إلا نوبة من نوبات المدمن.
نتحدث عن الله كأفيون المجتمعات، والمرأة على أنها حشيشة كيف، لكن الوطن... لا يمكن تشبيهه إلا بأوسخ أنواع المخدرات... أنا متأكد أن الهيروين والأفيون والكريستال وال إل إس دي يمكن علاج مدمنيها بمشقة، لكن إدمان الوطن يستحيل علاجه.
****
أتخيل ميخائيل رومان في عرض مسرحية الدخان، النص الأهم في المسرح العربي مع الاعتذار من أبي ديمة.... أنظر لعينيه وهو يشاهد حمدي يصرخ: اللي عنه سل ما ركعش... اللي عنه سل ما ركعش...
إدمان حمدي يختصر قهر المواطن، وبحث أوديب عن الحقيقة، ويقزم تساؤلات هاملت عن الوجود.... قد يكون إدمانه هو إدمان الوطن المؤلم الذي بدأ ينخر في جثثنا.
ناصر، زياد، ميخائيل، حمدي..... لروحكم الرحمة ولنا حسن الختام.
إياد الغفري – ألمانيا
#إياد_الغفري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟