أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رسائل إلى سميرة (10)















المزيد.....

رسائل إلى سميرة (10)


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6066 - 2018 / 11 / 27 - 01:14
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


مثل اليوم قبل 27 عاماً خرجتِ من السجن، مُنهية أربع سنوات وشهر واحد وأحد عشر يوما في غياب أصغر. وفي مثل اليوم تُكملين أربع سنوات وأحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً في غياب أكبر، لا أعلم عنك خلاله شيئاً، ولا يعلم أحبابك الكثيرون.
سبق أن عشت أنت، وعشت أنا، مثل هذه الحياة المعلقة. سنوات سجنك وسنوات سجني، وقت لم نكن نعرف متى ينتهي التعليق. لكنها اليوم أشد قسوة وقتامة. لا يكاد يكون هناك وجه للمقارنة بين غيابيك يا سمور. هذا الغياب أكبر بكثير وأقسى، وأكسر للقلب.
كانت في انتظاري وقت غبتُ امرأة في مثل عمرك تقريباً وقت غبتِ، لم تلبث أن تنتظر ثانياً، ثم ثالثاً، قبل أن ترحل مكسورة القلب ولم يرحل الانتظار. وأنا اليوم في انتظار المرأة الغائبة التي تعيش في المجهول منذ 1813 يوماً بعد أن سبق أن عاشته 1482 يوماً، هي وأنا على جانبين من جدار أو من جدارين من المجهول.
بين غيابيك سيرة بسيطة وغنية لامرأة شجاعة.
بعد سنوات السجن قررت أن تمسكي بزمام حياتك، أن تبحثي مستقلة عن الحب والعمل والحرية. تركت حمص إلى دمشق. لم تديري ظهرك لأب وأم وإخوة وأخوات كنت تحبينهم، لكنك أردت أن تشُقّي لنفسك درباً، وأن تمتلكي ما يمكن من حياة مستقلة. أقمت مع ناهد، رفيقتك المعتقلة السابقة مثلك، التي كانت تنتظر حبيياً معتقلاً. بالمناسبة يحزنني يا سمور أن أخبرك أن سلامة قضى قبل أقل من شهرين. عاوده المرض، ورحل على غير توقع.
عشتِ بعد ذلك مستقلة في بيت قريب. تعملين على الكمبيوتر في مكتب جريدة خليجية، وتُخرجين مواد صحفية وكتباً. كان هذا العمل يدر عليك دخلاً متواضعاً، لكن الحياة الكريمة ليست مشروطة حتماً بدخل عال. ولقد عشتٍ حياة كريمة يا سمور.
في هذا البيت الذي كان غرفة واحدة، للمعيشة والعمل والنوم، بدأت علاقة عاطفية برجل كان مثلك في السجن. كنت في عالم اجتماعي من المعتقلات والمعتقلين السابقين، في السنوات الأخيرة من التسعينات، أو ممن هن وهم ليسوا غرباء عن هذا العالم. الحياة صعبة من كل وجه في بلدنا وقتها على امرأة مستقلة في ثلاثينات عمرها، لكنك لم تريدي الكثير: مساحة تخصك وتصون خصوصيتك، وعمل تعيشين منه، والأهم رجل تحبينه. ليس كثيراً، لكنه مع ذلك لم يكن مضموناً: البيت غرفة مستأجرة، والعمل مؤقت ولا يكاد يكفي لأجرة الغرفة والمعيشة، ومن هم حولك من رجال في وضع لا يختلف كثيراً عن وضعك، يبحثون عن حياة بدورهم.
يمس قلبي يا سمور أن أتذكر أنك قلت لي في أسابيعنا الأولى إن لديك شيئان لتحرصي عليهما: شغلك وعلاقتك بي. نقطتا ثبات في حياة قلقة لامرأة مستقلة.
صار لك بيتان لنحو عامين، غرفتك في مساكن برزة، خلف مشفى حاميش، وبيتنا في المنصورة، قبل قدسيا بقليل. تنامين عندي أحياناً، في نهاية الأسبوع بخاصة، وبين حين وآخر أقصدك إلى غرفتك، لكن غالباً لنخرج من هناك إلى مقهى أو إلى مطعم أو إلى السينما. لم يكن يمكن البقاء معك في سكنك في غرفة تؤجرها أسرة تستعين بها للمعيشة لامرأة عازبة.
في سكني، تعرفتِ على أخي خليل الذي كان يقيم معي، وعلى علي الذي زوّجنا، وعلى أصدقاء متنوعين. كنت من أهل البيت منذ البداية. أحبك أهل الحبيب، لم تكوني غريبة بينهم ولا كانوا غرباء عنك. الأهل هم الأهل تقريباً، والسيرة هي السيرة تقريباً. سوى أن الحبيب متقشف في التعبير، قليل الرومنسية، وقليل الشعر.
لكنه كان يطبخ لك في أيام الحب الباكرة تلك.
تذكرين كم كانت طيبة المقلوبة التي طبختُها لك؟ دون مكسرات، لكن طيبة. حين حاولتً طبخها مرة ثانية بعد أسابيع لكثرة ما نالها من ثناء منك في المرة الأولى كان النجاح متواضعاً. لكنك فضلت دوماً تذكر ذلك النجاح الباكر النادر، فيما كان مناسباً لي أكثر التذكير بالفشل اللاحق كي لا يكون قيامك أنت بالطبخ مجرد تقسيم عمل تقليدي. لم تكوني، والحق يقال، مميزة في الطبخ في البداية. هل تذكرين المطبّق الذي كنت تحضرينه لنفسك غداء وقت زرتك مرة بلا موعد؟ ألهيتك عنه بالغزل. قلت لي: المطبق رح يحترق! قلتُ بسرعة بداهة غير مألوفة: ليس وحده الذي يحترق! أعجبك غزلي، ولا أزل أنا كذلك معجباً بهذا التوفيق الذي جاء في وقته. رجاء لا تقولي إنه توفيق نادر. لم يكن نادراً جداً! ليس أندر من نجاحاتي في الطبخ على الأقل، صح؟
ما يدخل شيئاً من البهجة إلى قلبي يا سمور هو أنك أحببت حياتنا المشتركة. لم تكن هنيئة كل الهناء، لكنك عشتِها وعشناها معاً بكرامة. أنت من صنعت من مكسن مستأجر بيتاً، ولقد كان عامراً بالصديقات والأصدقاء، بأزواج المحبين الشباب، بضيوف لم نكن نعرف بعضهم كفاية أحياناً. وطبعاً بشركاء من حياتينا السابقتين على الحب والزواج.
ثم إننا رممنا، وإن في وقت متأخر، ما كان تقطع من روابط الأهل بفعل ارتباطنا. كان لك عزيراً عليّ لأنه كان عزيزاً عليك.
ومثلما كانت حياتك بعد السجن استمراراً لنضالك قبله وفيه، كانت حياتنا معاً استمراراً مختلفاً لحياتينا قبل السجن وأثناءه وبعده. ما رمينا شيئاً خلفنا، أخذنا كل شيء معنا، وبخاصة لم نتخل عن سنوات السجن للسجان.
رفيقات سجنك تناثرن في العديد من البلدان يا سمور، في فرنسا وألمانيا، في تركيا والإمارات، وفي منفى الداخل أيضاً. وخلال سنوات لم يكن يجتمعن في مثل هذه الأمسية كما ألفن أن يفعلن طوال سنوات بمشاركة دائمة منك. تفرقن مثلما تفرق الكثير من أصدقائك وأحبابك، قبل غيابك وبعده. الأحوال صعبة، لكن الناس يكافحون، يعيدون بناء حياتهم بما استطاعوا. جيلنا الكهل ليس في أنسب وضع لاستئناف الحياة، إلا أننا معتادون على المشقة. لكن هل يجب أن أقول لك ذلك فعلاً؟ أنت من تعرفين الصعب، ومن تغلبت عليه دوماً.
رفيقاتك يجتمعن اليوم، افتراضياً، يستأنفن ما انقطع، يكتبن لك، يتذكرن الغائبة التي كانت تسهم في جمعهن والشريكة الدائمة في السهرة السنوية.
كنت تريدين أن نبقى في تركيا بعد لقائنا المفترض القريب وقت خروجي إليها قبل خمس سنوت وشهر ونصف. كنت تخشين البُعد عن البلد، وتريدين بيئة سورية تكلمينها بالعربية. ولكُنّا بقينا هناك على الأرجح لو سار التقديرات كما أمِلنا. خرجتُ من هناك قبل عام ونيف فقط، ولكني عدت في الصيف لأكون أقرب ما يمكن إليك بعد تهجير دوما في الربيع الماضي. كانت شهوراً قاسية، مجهدة، محبطة. لكن كان مما خفف منها في عنتاب لقاء بكر وتهامة، كرمهما وطعامهما الطيب، ولعب الطاولة مع بكر الذي كان يتلقى مساندة صلبة من "الفتاة" ديانا ضدي. لقبتها بالفتاة لأنها تصر على أن لا تذكر اسمي؛ تُسمّيني... الرجل. ولا تسمعني صوتها، تناكفني دون كلمات.
وحيداً مع صورك الستة في يوم ذكرى حريتك الأولى، حلمي يا سمور هو أن تصير حريتك الثانية يوماً نحتفل به قريباً مع أحبابنا.
وحتى ذلك اليوم السعيد، "العينتين" ماشي على دربك، ليس له درب غيره.
إلى حين نكون معاً، دوماً، هنا أو هناك. أو هنالك.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم سورية بعد قرن من الحرب العالمية الأولى
- عن القدرية والإرادوية... رد على حسام الدين درويش
- إشكالية الاستيعاب وما بعدها
- حق الخسارة: رد على أيمن ابو هاشم
- نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟
- الباراديغم الإسرائيلي / سورية وفلسطين ونظام الإبادة السياسية
- خلاصة عن سميرة ورزان ووائل وناظم بعد انهيار سلطة -جيش الإسلا ...
- ملاحظات بخصوص الكتابي والشفاهي في سورية
- سورية والعالمية الحربية الأولى
- العالم في -اللحظة الفاشية-
- سورية والتحول الأجنبي
- مقالات إلى سميرة (8) في المسألة الإسلامية
- مقالات إلى سميرة (7) الكلوم والكلمات: في تمثيل الأزمات وأزمة ...
- مقالات إلى سميرة (6): في نقد التضامن
- ثلاث مشكلات في مفهوم الدولة
- دولة إبادة في سورية، وليس نظام دكتاتوري
- مقالات إلى سميرة (5) الحبُّ والتعذيب والاغتصاب، والإبادة
- الأبد كمنفى من التاريخ
- مقدمة الطبعة الأسبانية لكتاب -الثورة المستحيلة-
- رسائل إلى سميرة (9)


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رسائل إلى سميرة (10)