أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدور زكي محمد - دموع في ظلال الخوف















المزيد.....

دموع في ظلال الخوف


بدور زكي محمد

الحوار المتمدن-العدد: 6039 - 2018 / 10 / 30 - 14:38
المحور: الادب والفن
    


بعد تردد طال أيامها وشهورها منذ أن اهتدت إلى عنوانه، وجدت نفسها مأخوذة بفكرةطاغية، لماذا لا تذهب إليه وتنسى كل التفاصيل الموجعة التي ألقت بها بعيداً عنه؟ كانت توّاقة للعودة إلى عالمها الذي هجرته وأسدلت عليه ستاراً لا يشفّ إلا عن لواعج الأسى. عطر الذكريات سبقها إلى حيث تسكن صديقتها في ضاحية تتكأ على تل وارف الخضرة وتزهو بيوته بألوان الزهور. توقفت عند بابها وسرحت طويلاً قبل أن تطرقه، كان النهار في بدايته، كيف ستوقظها في يوم إجازتها، ليكن فهي لم ترها منذ شهرين، هاهي تفتح لها الباب ومازال النعاس يشدّها لسريرها الدافئ، رحبت بها بكل صدق وقالت بدهشة:
- ما الخبر يا عزيزتي؟ أراك مشرقة، هل من جديد؟
- أجل سنسافر معاً فقد عرفت أين يعمل، ألا ترافقيني؟ فلا أقوى على لقائه وحدي، أرجوك.
- بكل سرور، دعينا أولاً نشرب قهوتنا، وأنسى أنك أيقظتني قبل الأوان ... آه منك يا ياسيدة الأسرار.
- آسفة، سأحدثك بكل ما أخفيته عنك.
لم تكمل نوال فنجانها فأمامها مهمة مشكوك بنجاحها، وعليها أن تطوي سنوات طويلة قضتها بعيداً عنه، فهل تستطيع؟. خرجت وهي تنبه صديقتها ليلى:
- هيا بنا، لا تطيلى الوقوف أمام المرآة، سانتظرك في سيارتي!
لم تسمعها ليلى لكنها أسرعت وجلست إلى جانبها وليس على لسانها سوى: يا لك من مجنونة!!
طريق الصديقتين يتجاوز الثلاث ساعات، لكن ما ستقوله نوال سيطول أكثر، فها هي تسرد كل التفاصيل، منذ أن قررت الهروب مع جان من بغداد، بعد أن رفضت عائلتيهما بشدّة فكرة زواجهما، ولكن كيف لها ذلك وسفر النساء حينذاك كان مشروطاً بمرافقة زوج أو محرم! كان عليهما أن يتزوجا أولاً بعد أن يتحول عن دينه وهذا ما حصل.
قالت وصوتها تشاغله العبرات، يغيب تارة ثم يهدر كأنه نشيد أمل:
- وصلنا بيروت محطتنا الأولى،ومنها انطلقنا إلى نابولي، حيث التقى جان بصديق مخلص جدير بكتمان سرّنا،وهو الذي نصحنا بالتوجه إلى رافللو؛تلك القرية الإيطالية الغافية على كتف البحر،وقد لاحت لنا على البعد وكأنها رسم من عالم الخيال، وكلما اقتربنا منها تجدد الحلم بأن يكون لنا بيت جميل نصنع فيه سعادتنا، بعيدا عن أهلنا وغربتهم عن كل ما يجول في قلبينا من عشق بسيط وصادق.
لم نكن نشكو من قلّة المال، فقد كان والد جان غنياً ويحتفظ بعلاقات وثيقة مع مسؤولين متنفذين، ما أتاح له أن يحول مبالغ كبيرة لحساب إبنه في الخارج، ظانا بأن جان هرب بسبب خوفه من الإعتقال. لكن الحال لم يدم، فالسّر انكشف حين تمادت عين الفضول لمهاجر عراقي ثري، جاء من روما إلى رافللو، وهي مقصد الأثرياء والمشاهير، لمحنا عن بعد دون أن ننتبه، وأحسب أنه تابعنا إلى حيث دارنا فعرف العنوان، فقد وصلتنا رسالتين من أهلنا، حملتا أكبر كم من التقريع واللوم، بل التهديد أيضاً، ما دعانا للتحرك إلى قرية أخرى بعيدة.
مرت أشهر غلبت خوفنا، وعاد لنا صفاء عيشنا حتى جاء ذلك اليوم النحس من العام ثمانين، إذ قامت الحرب وأُغلقت كل منافذ الوطن. تغيرت حياتنا وعمّ الحزن بيتنا الصغير، فهناك أهلنا وشباب يساقون إلى الجبهات، إخوة لنا وأصدقاء، ونحن ننعم بالأمن، شعور بالذنب صار يأخذ الكثير من زاد حبنا، وفوق ذلك نضب رصيدنا في البنك
وصرنا على حافة الإفلاس، لولا كرم صديقنا الذي استضافنا في داره، لنبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل والتقلب من مكان إلى آخر.
غمر سيل الذكريات مساحة الرحلة، وراعت ليلى أن لا تقاطع رفيقتها، وصارت تناولها منديلاً بعد آخر لتمسح دموعها، غير أنها اضطرت إلى تنبيهها بأن لا تسرع كي تلقى حبيبها بسلام، وأن تريح قلبها من خفقانه، فربما لا يكون منشغلاً بذكراها بعد كل ما مر عليه من سنين، وما ألمّ به من قسوة الأهل. ولعل هذا الخاطر هو لحظة الحقيقة الموجعة، التي أخرست نوال، فبدت وقد تبلدت ملامحها، وزال منها وهج الشوق، تساءلت: كيف سنهتدي إليه؟ طارئ الإحباط جعلها تطلب من ليلى أن تقود السيارة، فيدها المرتجفة أضعف من أن تمسك بأي شيء.
هدف الصديقتين كان محيراً، فكل ما في العنوان يشير إلى أن جان يعمل في أحد المتاجر المشهورة التي لديها فروع كثيرة في مدينة مساحتها آلاف الكيلومترات، وساكنتها تقارب الثلاثة ملايين. وقد يكون عمله في الضواحي البعيدة.
لنبدأ البحث، هكذا قالت ليلى وهي تشير إلى بناية تحمل علامة المتجر الشهير ب ماركل وأنجريد:
- هيا لنسأل عنه هنا، يبدو أن هذا هو مركز الشركة.
أبتسم لهما موظف الإستقبال، قائلاً:
- لدينا الآلاف من الموظفين والعمال وليس بوسعي خدمتكما.
- ولكن جان بطرس رجل أعمال معروف، هكذا قالت نوال.
- إن كان كذلك، فالأمر سهل.
تحدث مع زميلة له ثم قال:
- للأسف من تبحثون عنه ربما يكون موظفا أو عاملاً، أنصحكما أن تفتشا كل فروع الشركة فهنا مركزها.
- يا لها من رحلة خائبة، كيف سيتسع يومنا هذا، سوء الحظ يرافقني منذ أن طاوعت حماقتي وصممت على مفارقة جان، هكذا قالت نوال وعادت لتسرد قصتها:
- بعد تشرد وتجوال دام طويلاً، استقر بنا المقام في ضاحية بعيدة بروما واستطعنا ان نعمل بأجور تكفينا للعيش بأمان، وقد حسبنا أن أهلنا لن يهتدوا لطريقنا، غير أن الحظ لم يبتسم لنا طويلاً، أو لسنا من العراق؟ فما ذاق بلدنا طعم الأمن والرخاء في بضع سنوات، حتى ضاق القدر بالناس وانفتحت عليهم أبواب الجحيم.
وذات مساءٍ غائم بكل هموم الكون، طرقت يد بابنا فاشتعل الخوف في صدورنا، ترى من يعرف مكاننا غير صديقنا الذي لا نشك بإخلاصه وكتمانه سرنا، لعله هو فلماذا الخوف.
راح جان بكل ثقة، يستقبل الطارق فإذا به من سينتزع منّا سعادتنا البسيطة! ياله من مساء معتم، عقدت الدهشة لسان جان وهو يقف أمام أبيه، بينما انهالت شتائم الأم على رأسي وكادت بكتلتها الضخمة أن توقعني أرضا لولا تدخل زوجي الذي أبعدها عني وهو يصرخ: كفى، كفى، ماذا فعلنا، هل أجرمنا، ماذا تريدون منّا؟
هدأت العاصفة وحلّ محلها سكون مضطرب ونظرات ساخرة من السيد بطرس صوب ولده، ثم أمسك بغليونه وصار ينفخ دخانأً هو مزيج من حسرة وحقد، طال الصمت حتى قال:
- من لك في هذه البلاد، صديقك المخلص؟ إليك المفاجأة، هو الذي أخبرني عن مكانك!
- لابد أنك ابتززت والده بالديون التي لك عليه.
وقد صدق ظنه فهذا ما حصل فعلاً.
أنا لم أقل شيئا فكلما حاولت أخرستني أمه الحيزبون بالفاظها الجارحة. المهم الرسالة التي جاء بها الغازيان:
علينا أن نعود إلى بغداد، رفضنا في البداية، لكن السيد بطرس ألتفت إليّ وخاطبني لأول مرة وهو يسلمني رسالة من أمّي:
- أرجو أن تفكري بمستقبل جان فلو بقي زوجك لن ينال شيئاً من ثروتي وأنسى أن لي ولدأً كان كل أملي في الحياة... اقرأي رسالة أمك جيداً لتدركي أي جرح تسببت به لعائلتك.
توقفت نوال لدقائق وهي تكفكف دموعها ثم واصلت:
- توفى أبي بعد أشهر من الفضيحة التي أثارتها والدة جان، وهي تنشر خبر هروبنا لكل جيراننا، وصار الرعاع منهم يلقون الأزبال قرب بيتنا، وبعضهم يعيّر والدتي كلما التقاها في السوق أو الشارع. الرسالة أوجعتني وصرت أبكي بحرقة، وجان يواسيني ويتحدى أبيه بإصرار قائلاً:
- لن أتخلى عنها، وسنعود سوياً كزوجين.
وهكذا عدنا وبقينا شهوراً منبوذين من عائلتينا، نشكو صعوبة العيش كحال معظم الناس في زمن الحصار. تحملت وكان لدي من القوة للاستمرار طويلاً، لكن جان تعب وأسفرت ملامحه عن شكوى مريرة ورغبة في الهروب. لم أشك في حبه لي لكني تيقنت من أنه لم يعد يحتمل، وهذا ما كان تنتظره عائلته التي رتبت زواجه من فتاة غنية ونجحت في إقناعه، أو على الأصح إجباره.
سكتت نوال لدقائق وكأنها تستدعي صورا غابت عنها، بينما راحت ليلى تحثها كي تقول أكثر:
- وهل حلّت القطيعة بينكما، أم .. ؟
- كان عليّ أن أضحي من أجله وأبتعد، مع أنه توسل إليّ أن أبقى قريبة منه وأن لا أفكر في الزواج من غيره، ريثما يجد طريقاً للعودة لي.
- وماذا بعد؟
- تآكل صبري واشتعلت في قلبي نيران الغيرة، كيف يكون لامرأة أخرى، وأنا أعيش قريبة من داره، أسمع أخباره، لم يكن أمامي سوى الهجرة إلى بلاد بعيدة، وهذا ما حصل بعد أن قبلت خطبة شاب عربي، لانتقم لنفسي وأهرب من كل ما يذكرني به. وهكذا وصلت إلى هذه الأرض. ومرت سنين طويلة دون أن أسمع عن جان أي خبر، فقد هاجر هو الآخر، ولكن لم أعرف وجهته، وبعد أنفصالي عن زوجي بسبب سلوكه الأرعن وقسوته، لاح لي أمل بأن يعود لي شيء من الماضي، فصرت أبحث عنه.
- وكيف اهتديت إليه؟
- الزمن أحياناً يقرب بين القلوب ويذيب بعضاً من قسوتها، فبعد قطيعة طويلة مع أخواتي، تواصلن معي وحملن لي خبراً عنه.
- إذا لابد أن ننجح في مهمتنا ونجده. لنبقى ليلة هنا ونواصل البحث في الصباح، أنت متعبة وكذا أنا.
تباعدت أجفانها ولم تنم نوال ليلتها، تناهبتها الخواطر فاتسعت مساحة الأرق والصور تلاحقها من زمن رائق أشرقت فيه شمس حسبتها لن تغيب. الوقت يمر وأنفاس الصباح تنعش القلب وتغريه بالترقب.
- هيا يا ليلى كفى نوماً، لنتناول قهوتنا ونمضي.
- لن أتنازل عن فطوري، أنا جائعة.
- بسرعة إذاّ
جولة جديدة، للبحث عن الضائع في المدينة الكبيرة، والظهيرة على الأبواب. توقفت نوال قريباً من أحد معارض الشركة وهي تحدق غير مصدقة، تصرخ وتتهيأ للنزول من السيارة:
- إنه هوهو!! تعالي لنلحق به.
كان جان يجر عربة تحمل أصنافاً من الخضروات والفواكه، ويتجه بها إلى الطابق الأسفل من المتجر الذي يضم مطعماً وسوقاً كبيرة للمواد الغذائية.
تابعته الصديقتان بذهول حتى وقف في محل عمله وهو يرتدي بدلة العمال البيضاء وقد اتّسخت قليلاً، وينشغل بترتيب بضاعته الملونة. تقدمت نوال نحوه فتباطأت ليلى وظلت تراقب المشهد غير بعيدة، ثم دفعها الفضول فمشت إليهما لترى عن قرب كيف يستوي الألم في قامة رجل، وكيف تغيب اللغة وينعقد اللسان، أكانت الدهشة القاسية سيدة المكان، أم سطوع الذكريات ووهجها الذي أجرى الدموع؟
بقيت ليلى غير مبالية بخصوصية اللحظة كأن قدميها التصقتا بالأرض، بينما لف الأرتباك جان وهو بين مصدّق ومكذّب لما رآه، في عينيه شوق، لكنه خائف، وبصوت كسير خاطب نوال:
- انت تشبهين امرأة من بغداد!!
وكان معذورا لأن حبيبته تغيرت كما تغير هو، عشرون عاماً وست عمر فرقتهما، أفلا يحفر الزمن وديانه الظالمة، ويجرح صفو الذاكرة؟
لم تتحمل ليلى سكون اللحظة وقسوتها فافلتت منها كلمات ما كان ينبغي لها ان تقولها لرجل لاتعرفه:
- أهذا ما تذكره عنها،أنسيت ما كان بينكما، إن كنت لا تذكرها كما تدّعي فلماذا تبكي؟ هل أنت خائف ....
ابتعدت ليلى ولم تكفّ عن المراقبة، وصارت تنتظر بشوق ما ستخبرها نوال من حوار الندم وبقايا عشق قديم، في عيون حائرة.
كان يتمنى لو يحتضنها ويزيل عنها لوعة الانتظار، أن يقول لها مازلت أحبك، أنا أنكر نفسي ولا أنكرك، لكنه ما استطاع، بل أرخى جفونه ليتيح لدموعه أن تسيل رغم الخوف الذي لفّ فؤاده الحزين.
خاطبته بلهفة خائبة، وقلب مرتجف:
مالك ياعزيزي جان، لماذا أنت هنا، ولماذا كل هذا الخوف في عينيك؟ أما من ذكرى تشدّك إليّ؟
أنت ألحبيبة، كيف لا أذكرك،فعلى طول سنوات فرقتنا كنت كلما تذكرتك أشعر بأن الحياة تعود لي، وأحلم أن أراك يوما، لأطلب غفرانك لاني لم أكن قويا بما يكفي كي أحتفظ بحبك. لكني ما تمنيت أن ألقاك وقد فقدت كل شيئ حتى الرغبة في الحياة، أشغل نفسي بعمل شاق كي أعود إلى حجرتي وأرتمي على فراشي دون تفكير.
ما كانت نوال تتوقع منه كل هذه العاطفة، فقالت له وقد أشرقت ملامحها بأمنيات الغد وما بعد غد:
لم يكن لسعادتي مثيل حين عرفت محل عملك، هل يمكن أن يأخذني الحلم إلى جوارك من جديد؟ الآن أدركت كم أحبك وكم كنت أخدع نفسي بفكرة نسيانك.
أطرق جان وفاضت عينيه بالأسى، فقال:
حتى وأنا على هذا الحال تتمنين قربي؟
كانت نوال قد غابت تماما في سماء عينيه، وكأنها تشدو بلحن حزين، قالت:
المحبة لا تعرف الأحوال، والمال ليس كل شيء. ثم سألته: هل يحرجك لقائي؟ أو تخشى أن يراك أحد يعرف عائلتك؟
لا لا أبداً، هكذا أجاب جان، وبلهجة عراقية محببة، أكد لها ثقته بنفسه، وكأنه أصيب بصحوة خاطفة: (هذا الكلام ما ياكل عندي) أنا لا أخشى من شئء.
لكن ما إن مرت دقائق حتى صار جان يتلفت كمن يتوقع عيناً تراقبه، ثم زاد ارتباكه
بعد أن لمح صاحب العمل يخطو باتجاهه فتوسل لنوال أن تتظاهربأنها تسأل عما يبيعه كأي مشترية.
.
قالت نوال بحسرة: كما تريد يا عزيزي لن أزعجك. وهمت بالانصراف لكن ليلى أوقفتها وقالت : انتظري سنعود إليه بعد أن يذهب هذا الغبي، فظلم أن ينتهي لقاءك بجان هكذا، لابد أن تحصلي على رقم هاتفه كي تتواصلي معه، لا تبكي يا عزيزتي.
كفكفت نوال دموعها وانشغلت بتفحص بعض ما تحتاجه من المتجر لتملأ سلتها ولاحظت غياب المدير، بينما هرع اليها جان ليودعها ودسّ في يدها ورقة تحمل رقم هاتفه وعلبة من الشوكولاته التي كانت تحبها، ثم أشار إلى المقهى القريب من المتجر ووعدها أن يلتقيها هناك بعد أربع ساعات حين ينتهي من عمله.
آه يا جان أي زمن رماك في هذا الحال، ما الذي جرى بحق السماء، هكذا قالت نوال، لكنها ابتسمت لأنها رأته وهذا كل ما كانت تتمناه.
وفي انتظار اللقاء قالت ليلى: يبدو اننا سنقضي ليلة أخرى في هذه المدينة، فقد يطول لقاءكما دهراً! وأنا لا أحب السفر ليلاً، أي جنون جعلني أرافقك، إسمعي سننطلق غداً من الساعة الخامسة صباحاً، لدي عمل أيتها السيدة العاشقة!
أمرك يا مولاتي، أجابت نوال وهي واثقة من سعادة قريبة ستحلّ عليها.
في الطريق إلى المقهى والشمس قد مالت للمغيب، كان جان يغالب حيرته، ولا يعرف من أين سيبدأ الحكاية، بدا مترنحاً، ليس من سكر أصابه، بل لأن روحه كانت تطوف في المكان وتأبى أن تعانق جسده المتعب، حالة أسلمته لما يشبه الغيبوبة، بينما كان يجتاز باب المقهى. ولم يفق إلا بعد دقائق حين لا مست رأسه يد حنون يعرفها جيداً.
كانت نوال إلى جانبه، تمسح جبينه، وتعتذر منه لما سببته له من ألم. لكنه طمأنها بقوله:
لا تخافي، هذا عارض بسيط، لست مريضاً، إنا متعب فقط، ولأني لم أكمل تعليمي وكنت أدير أملاك والدي، فما استطعت أن أحصل على عمل أفضل من هذا، بعد أن احتالت عليّ زوجتي وسلبت كل ثروتي. حتى البيت طردتني منه!
ولماذا كل هذا الشر؟
قصة طويلة لن أصدعك بالحديث عنها.
تبادلا نظرات رقيقة حملت كل أوجاع السنين، بينما كانت ليلى ترقبهما من بعيد ولا تملك أن تمنع دموعها، تمنت لو يعودا للحياة سوية.
قال لها بلوعة: أتحبيني حتى بعد أن أصبحت حطاماً؟
الحطام أن ننسى وتغلبنا السنين، كل ما أخشاه أن لا أراك ثانية، أن تهزمنا الحياة من جديد.
لن يكون هذا، سنلتقي قريباً، في نهاية الشهر.
طال الحديث والنجوى، وعادت الروح إلى منازلها، بينما كان الليل يرخي سدوله، ويوشك الفرح أن ينام في العيون لتلتقي الأجفان ويولد حلم وأمل.
عادت نوال لبيتها وعملها، وانشغلت بولدها ومتطلباته الكثيرة، ولم تنتبه لنهاية الشهر الذي فات، كان لديها ثقة عميقة بوعود جان، لكنها وبعد أن نبهتها ليلى
أفاقت لتكتشف أن الأيام مرت دون أن يتصل بها، قلقت عليه فهاتفته مرة وأخرى وغيرها دون جدوى. زاد انشغالها وحسبت أن مكروها المّ به فسافرت إليه. سألت زملاءه في المتجر فلم يجبها أحد، وحين غادرت وهي تلملم أطراف خيبتها، استوقفتها عاملة كانت تدخن جنب الباب، قالت لها:
هل تبحثين عن جان؟ سمعتك تسألين عنه
أجل، إنه صديق قديم، وأنا قلقة عليه
لا تقلقي يا سيدتي فقد عاد لزوجته
متى كان ذلك؟
بعد أيام من لقائك معه، كنا أصدقاء وقد حدثني عنك، في قلبه محبة لك، لكنه مريض ومتعب، ومشتاق لابنته التي حُرم منها، وقد جاءت زوجته وصالحته بعد أن وقعت في ورطة واحتال عليها شريكها.
وكيف نسي إساءتها؟
ربما يفكر بالإنتقام منها ووجد فرصته.
ربما، أشكرك على كل حال وأقدر اهتمامك، دعينا نتواصل.
ياله من قدر معاند يلازمني منذ سنين، هكذا قالت نوال في طريق عودتها، وقد فارقها الأسى وحلّ محله إحساس بالمرارة، وامتلأ رأسها بأسئلة كثيرة عن جان، تمنت لو يجيبها أحد عليها، هل أحبها حقيقة، كيف عاد لزوجته ونسي وعده، لماذا لم يتصل ...
مرت الأيام والشهور، انصرم الشتاء وذاب الثلج، وليس من خبر يفرح قلب نوال، سوى أحاديثها مع ليلى عن رحلتهما، وتكرار مادار في لقائها مع جان، ودائما تأتي على لسانها عبارته حين حاول أن يبدد ظنونها: ( هذا الكلام ما ياكل عندي) فتعلق ليلى قائلة: يبدو أن الكلام أكل وشرب ومازال يأكل، بل ربما لن يشبع! تضحك نوال بطفولة، ويستمر الضحك. هكذا ينقضي الكثير من أعمارنا ونحن نسخرمن أقدارنا وخياراتنا، ثم نبكي حتى تجّف الدموع.



#بدور_زكي_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عام على رحيل عامر عبدالله:ثورة تموز العراقية ... والحصاد الذ ...
- إنه العراق وليس المالكي
- عندما لا نسمي الأشياء بأسمائها
- تسطيح الديمقراطية في خطاب دول الغرب: القلق على مرسي نموذجاً
- صورة الاسلام في الغرب


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدور زكي محمد - دموع في ظلال الخوف