أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا (2)















المزيد.....

الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا (2)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6034 - 2018 / 10 / 25 - 19:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الأبعاد الثقافية السياسية للاوروآسيوية الروسية

إن التسامي الفكري للفلسفة الروسية هو الذي جعلها أسيرة العوم في بحار الميتافيزيقا والتروع في استكناه حكمتها المتعالية. وحالما حاولت الهبوط إلى"حضيض" الواقع الروسي، فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى التغلغل في كياناته إلى الدرجة التي جعلتها تتلألأ في موشور أرواحه بألوان الإبداع الأدبي وجرأته الأخلاقية، تماما بالقدر الذي جعلها مع مرور الزمن تزدري "القيمة الخالدة" للسياسة وأثرها في إظهار أشد الأفكار سموا بهيئة قبضات متشنجة وطلقات نارية وشعارات غوغائية ومؤامرات قذرة واغراءات فاضحة ورومانسية ثورية وملامح للتحدي لا تقل جمالا عما في أيقونات روبلوف، ولوحات ريبين وسوريكوف وسيروف وفيرتشاكين وكرامسكوي، وموسيقى تشايكوفسكي وريمسكي ـ كورسيكوف وكلينكا، ومعمارية بارما ـ بوستنيك وباجينوف.
الأمر الذي جعلها تتلاشى في تأملاتها العميقة "لحقائق الروح الروسي" وأن تذهب إنجازاتها كذكرى غابرة في ازدرائها الإنساني للزيف والتلف الفاضح في النفس الغضيبة والشهوانية، وأن تنطمر تحت غبار الهالة المصطنعة في لوحات الأنتلجينسيا الروسية وتأسيسها الدائم وغفوتها العميقة والخنوعة لحد ما أمام عواصف الثورة والثورة المضادة. وليس اعتباطا أن تستعيد الفكرة المتراكمة تاريخيا عن الكيان الروسي الثقافي (العالمي) ورسالته التاريخية حيويتها الجديدة بعد ثورة أكتوبر عام 1917 عند أولئك الذين ناهضوها في بداية الأمر واعترفوا لاحقا بما فيها من بعث سياسي وخلق جديد للفكرة الدفينة في تيار أنصار السلافية والفلسفة الروسية ككل.
فقد كشفت الثورة في هتافاتها ولباسها ولسانها عن محاكاة متميزة لمرحلة الفطرة والبساطة، وفي غاياتها عن إعادة الفطرة المركبة في توحيد الأقوام والأمم (الروسية) في "بيزنطية" روحية جديدة، وفي ديكتاتوريتها البروليتارية عن "قيصرية" اجتماعية (شعبية ـ جماهيرية)، وفي شيوعيتها عن نصرانية العدالة والمحبة، وفي كولخوزاتها (جمعياتها الفلاحية) عن المشاعية الروسية، وفي سوفييتاتها (مجالسها العمومية) عن الزيمسكي (المجالس المحلية)، وفي دعوتها للثورة العالمية عن تجسيد للدور التاريخي الروحي الثقافي لروسيا، وفي كومينترنها عن كنيسة عالمية، وفي توجهها صوب الشرق عن كينونة روسيا الأوروآسيوية. وليس اعتباطا أن يؤطر التيار الجديد نفسه بمصطلح الأوروآسيوية. وأن تصدر أعمال مؤسسيه الكبار مثل نيقولاي تروبسكي وبيوتر سافيتسكي وجيورجي فلاروفسكي تحت عنوان (الانعطاف صوب الشرق) في صوفيا (بلغاريا) عام 1921.
فقد كانت محاولتهم الأولى من نوعها في النظر إلى الثورة من زاوية "المهزومين"، الذين أرادوا أن يكون لهم مكانا فيها. إذ نظروا إليها بوصفها محاولة للخروج من مأزق روسيا التاريخي. بصيغة أخرى انهم وجدوا في الثورة المخرج الذي أعطى لروسيا إمكانية تجسيد الأفكار الكبرى المتراكمة عن ضرورة إبداعها الخاص والمستقل عن التقليد الأوروبي. وكتب تروبسكوي في مقدمة كتابه (أوربا والبشرية) الصادر عام 1925 في صوفيا قائلا بأن الثورة الروسية هي احتجاج على الثقافة الأوربية، وانتفاضة وتمرد على المركزية الأوربية، وكشفت عن أن تقليد أوربا يؤدي إلى الهاوية والهلاك. في حين أكد البعض الآخر على أن الثورة خلصت روسيا من التناقضات العميقة التي تغلغلت في مساماتها بفعل "مآثر" البطرسية وإجبارها الروس على تقبل كل ما طفحت به أوربا من قيم وعادات وتقاليد، أي كل ما أدى في نهاية المطاف إلى ثبات آلية التصادم والصراع والتضاد الحاد بين الزعماء والشعب، والحكام والمحكومين، والخواص والعوام. وبهذا المعنى كانت الثورة ردا على آلية التقليد والإجبار السلطوي وتهديمها من خلال البحث عن الحرية والاستقلال الثقافي. إنها جسدت حكم التاريخ على روسيا البطرسية! وكشفت عما في أعماق الروح الروسي من حقد دفين وكراهية لا متناهية على "التمدين الإجباري" والتقليد الخنوع للغرب الأوربي الذي تبجحت به لقرون عديدة الأرستقراطية والانتلجينسيا المتغربة. فإذا كانت مأساة روسيا كما يقول تروبسكوي تتمثل أساسا في مثقفيها فإن الثورة استطاعت أن تكشف عن القيمة الكامنة في جوهر الرجوع إلى حقائق الثقافة الروسية.
وهي فكرة سبق وأن قال بها التيار الديمقراطي الثوري والاشتراكي على السواء، وإن توصلوا إليها بصيغ مختلفة. وليس اعتباطا أن يؤكد بليخانوف قبل ذلك بعقود من الزمن على أن ضعف الإنتلجينسيا الروسية يكمن في خضوعها التقليدي للغرب الأوربي. بينما صب لينين جام غضبه على الإنتلجينسيا الروسية بحيث طابق بينها وبين الجمود والبلادة والتقليد والسخافة والابتذال .
فقد كانت الأنتلجينسيا حاملة التقليد الأعمى لأوربا. من هنا جاءت الثورة، كما يقول تروبسكوي، لتخليص روسيا من "الصفات والبذور الأوربية" عبر تخليص الأنتلجينسيا نفسها من تقليدها السهل للإبداع الأوربي. فالأنتلجينسيا الروسية لم تعمل وتعان من أجل إبداع حقائق المستقبل. لهذا أخذت من أوربا كل ما هو جاهز في الفكر والسلوك والعادات والتقاليد والقيم. أنها أهملت المعاناة الأوربية في إبداع قيمها مما جعل المثقفين، ممثلي تلك الإنتلجنسيا، قرودا وببغاوات. أما النتيجة فقد كانت خواء وهوة سحيقة ردت عليها الثورة بكل أدواتها وأساليبها. فالثورة بهذا المعنى هي قدر روسيا وحكم التاريخ فيها. إنها جسدت ما كان يسعى الروح الروسي إليه ويجاهد من أجل ترتيب "حقائقه المستقبلية". الأمر الذي جعل سافيتسكي يقول بأن الثورة تجل للأوروآسيوية. إنها حافظت على وجود روسيا التاريخية (الإمبراطورية) ولكن بمعنى آخر جديد هو معنى إعادة وحدتها الثقافية الروحية. لقد قدمت الثورة مفاهيم جديدة هي بداية تاريخ جديد يمثل في محتواه وحقائقه مضمون وغايات الأوروآسيوية. وحقيقة المستقبل هذه، كما يقول تربسكوي، تقوم أولا وقبل كل شيء على معارضة النزعة الغربية الأوربية (الرومية ـ الجرمانية)، وثانيا في ترسيخ حقائق الأوروآسيوية.
فالتقليد المميز للمثقفين الروس وبالأخص للتقاليد الرومية ـ الجرمانية لم يؤد إلى صنع أي شيء عظيم. على العكس، إن كل الإبداعات العظيمة في روسيا، سواء في العمارة والموسيقى والأدب، تنتمي إلى الذين عارضوا أو خالفوا النزعة الرومية الجرمانية. ولم يقصد ممثلو الاوروآسيوية بذلك تأجيج العداء للنزعة الأوربية بقدر ما كانوا يقصدون تحجيم أوربا وإرجاعها إلى حدودها الطبيعية. بمعنى إزالة وهم وأسطورة الدور الحضاري العالمي لأوربا. فالتنويم المغناطيسي الذي مارسته أوربا كما يقول الأوروآسيويون الروس، يقوم في سرقتها فكرة ما يسمى بالدور الحضاري الإنساني لأوربا. واقتناع الآخرين (المقلدين) بهذه الفكرة. أما في الواقع فليست الحضارة الأوربية سوى تجارب الرومية ـ الجرمانية. وبهذا المعنى فإنها لا تختلف كثيرا عن الحضارات الأخرى. بمعنى أن لكل منها تاريخه وخصوصيته. وبالتالي فإن من الضروري تهديم أسطورة التفوق الحضاري لأوربا أو الأوهام التي تشاطرها النظريات الأوروبي ككل (التقدمي والرجعي، الأممي والقومي، الديني والدنيوي). فكل منها يحاول البرهنة على أن التاريخ يعمل لأوربا. وإن كل ما فيها من أساليب ومنطق وقيم له صفة عالمية. أما في الواقع فإن التاريخ للإنسان ككل، وإن تجارب الأوربيين هي تجارتهم لا غير. من هنا ضرورة الوقوف بالضد من أوربا التي تضع نفسها بالضد من العالم ككل. لاسيما وأن أوربا كما يقول الأوروآسيويون الروس هي المكان الذي لا أصالة فيه، أو ما سبق لليونتيف وأن دعاه بالمجمع العشوائي لكل ما يخدم المصالح المادية. من هنا تأتي مطالبة سافيتسكي، على سبيل المثال، الشعوب بالكشف عن "أنانية قومية" تجاه التوسع الأوربي من اجل التخلص مما اسماه بالمرض الرومي ـ الجرماني. وليست هذه "الأنانية القومية" في معارضتها للنزعة الرومية الجرمانية أو المركزية الأوروبية بنظر سافيتسكي، سوى أيديولوجية الأوروآسيوية الروسية وحقائقها.
فالأوروآسيوية ليس مفهوما جغرافيا ولا سياسيا. إن ما يحددها ليس واقع روسيا الجغرافي رغم ارتباط مصيرها بموقعها الجغرافي انطلاقا من أن أراضيها ليست في قارتين بل في وحدة عضوية. إنها ليست أوربية وليست آسيوية بل أوروآسيوية. وبالتالي فإن الأوروآسيوية ليست تعبيرا عن الكيان الجغرافي أو السياسي لروسيا، بل التمثيل الأصدق والأخلص لوحدة كيانها الجغرافي السياسي الثقافي، إي أن مضمون الأوروآسيوية هو مضمون سياسي ثقافي روحي واحد يشكل في أسلوبه وغاياته التعبير الأمثل عن المصير الروسي نفسه باعتباره المصير الثقافي لروسيا ككل.
إن ترسيخ حقائق الأوروآسيوية، أو حقائق المستقبل التي اتخذت في أيديولوجية الأوروآسيويين بداية المرحلة الجديدة في التاريخ العالمي والمرافقة لثورة أكتوبر عام 1917 لازمت موضوعبا مرحلة وعي الانتقال العلمي إلى مواجهة المركزية الأوربية (الكولونيالية) وتحرير الذات (الثقافية السياسية). وليس مصادفة أن ينظر الأروآسيويون الروس إلى الثورة باعتبارها مرحلة الأوروآسيوية الروسية. بمعنى رؤية أبعادها الثقافية السياسية أيضا. أما تجليها المباشر فهو واقع الثورة وأفاق بناء الكلّ الروسي الجديد بالضد من المركزية الأوربية وتقاليدها الرومية ـ الجرمانية. ولم يقصد الأوروآسيويون بذلك معارضة الكل بالكل بقدر ما كانوا يقصدون شق الطريق الذاتي لروسيا من خلال الرجوع إلى مصادرها الأولى. فأوربا ليست مصدرا لروسيا التي ليست محاولة دمجها في الصرح الأوربي، إلا وهما وخداعا ذاتيا، ولا معنى له غير تدميرها. إن روسيا ليست أوربا، وليست أوربية، وغير أوربا. إنها أوروآسيوية. وأوروآسيويتها ليست جمع لاثنين، بل كل واحد له خصوصيته المتكونة تاريخيا من وحدة السلافي - الشرقي. إن روسيا بقدر واحد هي حصيلة الروس والتتر والبشكير والشوفاش وعشرات الأقوام والشعوب والأمم. إن بنيتها وكينونتها التاريخية الروحية الثقافية تفترض في ذاتها توسيع مداها العالمي باعتبارها نموذجا لما اسماه ليونتيف بالجماعة المتنوعة الجميلة.
لقد نتجت عن هذه الرؤية الفلسفية الثقافية أبعادا سياسية كان يصعب التخلي عنها. فإذا كان التيار الأوروآسيوي الروسي قد نشأ في بادئ الأمر كحركة للمثقفين المغتربين جسديا، والمندمجين روحيا في الأبعاد الجديدة للثورة البلشفية، فإن موضوعات ذلك التيار واهتماماته وتصوراته وأحكامه وتأملاته كانت تعادل في العقل والوجدان إشكاليات الثورة والمصير التاريخي لروسيا، مما فرض التزامها بالتسييس مع كل مد وجزر في الصراع الاجتماعي السياسي والثقافي الدائر حول الآفاق المرئية وغير المرئية لروسيا الجديدة (الاتحاد السوفيتي). فقد وقع التيار الأوروآسيوي الروسي في بداية الأمر بين فكي كماشة اليمين واليسار، اللذين وزن كل منهما إياه بأوزانه ومعاييره التقليدية. فاليسار اتهمهم باليمينية والمعارضة للثورة (إذ وجد في آراء الأوروآسيوية مجرد آراء لأفكار أنصار السلافية والشوفينية الروسية) بينما وجد اليمين في الأوروآسيوية أنصارا للبلاشفة بفعل تقبلهم الثورة والاندماج في خطط إصلاحاتها باعتباره القدر المناسب لوضع روسيا وحياتها وآفاقها التاريخية والعالمية. أما في الواقع فقد كان التيار الأوروآسيوي خارج أطر الأحكام المباشرة لليسار واليمين سواء بسواء لأنه تمثل في أيديولوجية الرؤية المتراكمة في الفكر الروسي وقواه الثورية والديمقراطية عن النموذج الأمثل والأفضل لروسيا.
إذ لم يتفق الأوروآسيويون الروس فيما بينهم حول جدوى وكيفية الاشتراك الفعال والمباشر في العمل السياسي. فقد وقف تروبسكوي على سبيل المثال بالضد من تسييس الجريدة الدورية (الأوروآسيوية) وشدد على ضرورة اهتمامها بالقضايا العلمية والروحية، في حين أكد القسم الآخر على ضرورة الاهتمام بالقضايا السياسية المباشرة. وهو صراع عادة ما يميز الاتجاهات الفكرية الثقافية بفعل سمو نزوعها العملي و"اشمئزازها" من الانهماك المباشر في العمل السياسي من أجل البقاء في حيز "الاستقلال". وهي استقلالية لها معناها وقيمتها الفكرية دون شك، لأنها تكشف بحد ذاتها عن قيمة الفكر في تحرره من الانجرار وراء المتطلبات المتغيرة للسياسة والساسة.
فالأوروآسيوية الروسية في حصيلتها النهائية كانت تصب في التيار اليساري الديمقراطي العقلاني الروسي. إلا أنها لم تؤسس أفكارها ومواقفها بمعايير الفكر السياسي، بل بمفاهيم الفلسفة الثقافية. إنها مثلت تقاليد الرؤية الثقافية الأدبية الروسية العريقة، أو تقاليد العقل النظري لا العملي. ولم يكن ذلك معزولا عن واقع فقدان التقاليد السياسية في روسيا القيصرية التي كانت تجد في كل فكرة سياسية منافسا لها وخطرا مهددا لهيمنتها "المقدسة". وليس مصادفة أن يترعرع الفكر الديمقراطي الثوري والاشتراكي بمعايير الفلسفة السياسية الأوربية فحسب، بل وبمعاييرها التي تصادت، حالما جرى نقلها إلى الأرض الروسية، في بادئ الأمر بتراث القيصرية العسكري وعسكرية الروح الأدبي المترعرع بين أنصار السلافية وتفرعاتها. وهي المواجهة التي شذبت مع مرور الزمن إدراك قيمة الكلّ الروسي القائم وراء الأطراف المتصارعة والبحث فيه عما يمكنه أن يكون قاعدة لتأويله السياسي وتنظيره العقلي. ونعثر على هذه الظاهرة ونموذجها الجديد في اقتراب وتداخل الأنفاس الأوروآسيوية والسوفيتية في الأحلام المشتركة. الأمر الذي يفسر أيضا "الغيرة" المميزة لخشونة الستالينية في تحطيمها أجنة المنافسة الممكنة من قبل كل من هو "دخيل" على اشتراكيتها.
فقد كان من الصعب قبول الأوروآسيوية من جانب الستالينية، كما كان من السهل تطويعها في نزوع "القيصرية السوفيتية" المنضبطة والموّحدة والصاهرة في كل واحد "التنوع الجميل" لمكونات روسيا القديمة في "اتحادها السوفيتي" الجديد. وكان ضروريا بالنسبة إلى الثورة ومقاييسها الجديدة، أو على الأقل هكذا كان يبدو الأمر بالنسبة إلى تيارها الجارف ما بعد الحرب الأهلية، من أجل تفصيل الواقع بما يناسب تصورها عن الأمثل والأفضل. ومن هنا سحق الثورة لكل الأطراف والمتناقضات. وقد سهل ذلك عليها مهمة تمرير كل المشاريع وتجريبها دون رادع مما افرغ الأيديولوجية الشيوعية من محتواها السوفيتي (الحقيقي) وفعاليتها الداخلية. ولذلك اصبح هيامها في المشاريع المقترحة هو فرضياتها لبيروقراطية وليس لمعاناتها المحتكمة إلى تجارب التاريخ الثقافي للأمم والأقوام الروسية. ولكنها أبدعت في مجرى نتائجها المتضادة (باعتبارها عملية غير واعية في المخططات الأيديولوجية للشيوعية السوفيتية) الكيان السوفيتي لشعوبه المتنوعة (الشعب السوفيتي)، دون أن ترفعه إلى مصاف البديل الفعلي لقومياته المتعددة. إنها صنعت "قومية سوفيتية" ناقصة. لكنها تضمنت في ذاتها الصيغة الأرفع والأعمق والأكثر إنسانية لكل الفرضيات القائمة في التاريخ الروسي عن الأمة الروسية بمعناها الثقافي.
لقد استطاعت المرحلة السوفيتية أن تصنع قومية سوفيتية ناقصة احتوت في أعماقها البذور الأساسية لأمة ثقافية (لا إثنية). وحالما انحلت إلى قومياتها المكونة بعد انحلال الاتحاد السوفيت، ظلت الأمة الروسية تشتمل بفعل بؤرتها الثقافية الكبيرة، على الذخيرة المتراكمة في القيصرية الروسية والسوفيتية، مما جعلها أكثر قدرة في منحاها العملي واستجابتها للتحديات التي يفرضها منطق القومية الثقافية في علاقتها بنموذج الدولة ووحدتها الداخلية وعلاقتها بالأمم والثقافات الأخرى. إنه الكلّ الذي جعلها أقرب إلى "الروح الشرقي" المجهول و"السري" و"اللاعقلاني". فالتجربة الديمقراطية (أو الغربية الليبرالية) المتعسفة كشفت في غضون بضعة سنين لا غير عن غربتها واغترابها عن المرتكزات الجوهرية المتبلورة في مجرى التاريخ الروسي (الدولة الكبرى، والنظام المركزي، والجماعية، والمبادئ الميتافيزيقية الروحية، والأخلاقية، والأممية).
وبغض النظر عن كل التحولات العاصفة لروسيا في القرن العشرين، فق ظل يفعل في وعيها ولا وعيها تراث الصيرورة المتراكمة لروسيا الثقافية في توليف كيانها السلافي ـ الشرقي، الذي وجد انعكاسه النظري والفلسفي والأيديولوجي النموذجي عند أنصار السلافية والبلشفية. لقد ذلل ذلك تاريخيا حدة الروح السلافي الإثني وقولبته بمعايير الرؤية الثقافية عن الكل الروسي والانتماء الموحد إليه.
فقد انحلت السلافية منذ زمن قديم في أقوام وأمم اتخذت نموذجها الأمثل في روسيا الثقافية. وكفت روسيا عن أن تكون إثنية بفعل صيرورتها التاريخية المتراكمة في إمبراطوريتها (أو تقاليدها الشرقية) وكنيستها (الشرقية).
لقد حطمت التقاليد الشرقية الروسية في الدين والدنيا (الكنيسة والدولة) ضيق الإثنية (السلافية) وأبقت عليها كمتحجرات لغوية في أنصار السلافية أو في الغلاف الجديد للبذور النامية للثقافة الروسية. فإذا كانت المكونات السلافية (كالشيك والسلوفاك والبولنديين) قد اندمجت في الغرب الأوروبي، فإن الصرب يراوحون بين السلافية والاوربية بفعل جزئية وجودهم، في حين اخذت الأقوام السلافية الصغيرة للبلقان تندمج اكثر فاكثر بالكينونة الاوربية. بينما تنحدر اوكراينا بشقها الغربي، صوب العداء المتزايد ضد الروس وروسيا بحيث جعلت من نفسها، على الاقل من جانب نخبها السياسية الحالية (الأكثر ابتذالا وانحطاطا وارتزاقا بالمعنى السياسي والأخلاقي)، "السد المنيع" للغرب ضد "العدوانية الروسية"!(يتبع...).
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا(1)
- أثر المرجعيات الثقافية في المصير التاريخي للأمم
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية - على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(3) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(2) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(1)
- داوود الطائي- شخصية ومصير
- سفيان الثوري- شخصية ومصير(3-3)
- سفيان الثوري- شخصية ومصير (2-3)
- سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)
- الحركة الصدرية والمستقبل: من الطائفة إلى الأمة، ومن المدينة ...
- أيديولوجيا الحركة الصدرية – اللاهوت الشيعي والناسوت العراقي
- الحركة الصدرية - الأنا والتاريخ أو اليوطوبيا والمستقبل
- الحركة الصدرية – تيار الداخل وصعود الباطن العراقي
- مقدمات المعترك السياسي والأيديولوجي للحركة الصدرية
- الحركة الصدرية- غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي
- مقتدى الصدر: ميتافيزيقيا -الثورة- الصدرية
- تقييم تجربة بناء الدولة العراقية (2003-2018)
- غاندي وعقدة -القادة العرب-
- إبراهيم بن ادهم - شخصية ومصير


المزيد.....




- تحليل لـCNN: إيران وإسرائيل اختارتا تجنب حربا شاملة.. في الو ...
- ماذا دار في أول اتصال بين وزيري دفاع أمريكا وإسرائيل بعد الض ...
- المقاتلة الأميركية الرائدة غير فعالة في السياسة الخارجية
- هل يوجد كوكب غير مكتشف في حافة نظامنا الشمسي؟
- ماذا يعني ظهور علامات بيضاء على الأظافر؟
- 5 أطعمة غنية بالكولاجين قد تجعلك تبدو أصغر سنا!
- واشنطن تدعو إسرائيل لمنع هجمات المستوطنين بالضفة
- الولايات المتحدة توافق على سحب قواتها من النيجر
- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا (2)