أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)















المزيد.....


سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 5988 - 2018 / 9 / 8 - 20:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هو ابو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري التميمي(97-161 للهجرة). ولد في الكوفة وتوفي في البصرة. وتربى في عائلة تتسم بالعلم والمعرفة والأدب الإسلامي الرفيع. فقد كان والده من محدثي الكوفة الثقات، ومن أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن. وكلاهما من ثقات الحديث الكوفيين. كما يشار إلى أثر أمه في تربيته وسمو اخلاقه. إذ ينسب اليها مخاطبته إياه في نشأته الأولى:"اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي. فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه، وإلا فلا تتعن". وأّثر كل ذلك على تربيته الخاصة بحب المعرفة وطلب العلم وسمو الروح الأخلاقي. فقد قام برحلات عديدة الى مختلف مناطق الخلافة من أجل طلب العلم والعرفة. بحيث قال عن نفسه مرة انه حالما أراد طلب العلم، فانه خاطب ربه قائلا:يا رب! لا بد لي من معيشة!" ووجد جوابه في رؤيته عن تلاشي واندثار العلم فقرر البحث عنه وفيه. ووجد في ذلك كفاية الكفايات. وهكذا ظل ملازما لهذا المبدأ، كما يقول عن نفسه، مدى الحياة. وفي مجراها كانت حياته تترامى ما بين العمل والهروب من السلطة والعيش بمعايير المعرفة والعلم. وليس مصادفة أن يقال عنه بانه كان نموذجا لوحدة العلم والعمل. فقد كانت حياته علمه، وعلمه عمله.
حقق سفيان الثوري في ذاته وحياته ومماته الخصائص الجوهرية للكوفة في مراحل صعودها وصمودها في الصراع الدامي لصيرورة الخلافة العربية الإسلامية. فقد كانت هي صانعة القواعد الأولية للتفكير السياسي، والروح النقدي، واللغة العربية، أي المكونات الجوهرية المميزة لمراحل الانتقال الكبرى في تاريخ الإسلام وعقوله الثقافية، أو ما ادعوه باللحظة التأسيسية للتاريخ الذاتي.
وهذا بدوره لم يكن معزلا عن تاريخ وحالة التشيع المميزة للكوفة التي نشأ بها وترعرع. وبغض النظر عن ابتعاده ونقده للأبعاد المذهبية الضيقة في التشيع العملي، إلا أن وهج المواجهة النقدية والعملية والسياسية للطغيان والاستبداد كان محكوما بأثر التشيع. أما الأحكام القائلة بأنه ترك التشيع حالما ذهب إلى البصرة متأثرا بأيوب السختياني وعبد الله بن عون فلا نصيب لها من الصحة. لقد كان ذلك بأثر تطوره الفكري العقلي والروحي والعملي الذي أوصله إلى صيغة متميزة في الموقف من الاعتدال والتسامح والتشدد والوحدة والوسطية.
فللمدن تاريخها الخاص وأثرها المخصوص في صيرورة شخصياتها الكبرى، تماما بالقدر الذي تتكامل هي في علمها وعملها وخيالها الشعبي بأثر دورهم الظاهري والباطني في كينونتها التاريخية الثقافية. إذ كانت الكوفة من حيث صيرورتها الأولية الكف الذي لم يستطع الاستبداد الأموي كسر أصابعه، بل تحول إلى كفوف تتراءى من خلالها انكفاء السلطة وراء العنف والقهر والاستبداد، ومن ثم التمتع من وراء هذا الستار الواقي للروح بالعزف على أوتار قصائد التحدي وعزة المروءة والفتوة. فقد كانت الكوفة في ذروة فتوتها العقلية والعلمية والروحية والسياسية. إذ مرت بذبذباتها المميزة لمراحل الانتقال العاصفة في تاريخ الخلافة من مقتل الحسين بن علي، بوصفها الهزيمة الروحية الكبرى لفكرة الحق في التاريخ الإسلامي الأول إلى إعادة الاعتبار للنفس بعد هذه الهزيمة في انتصار شعار وفكرة الثأر للروح الخذول كما جسّدته ثورة المختار الثقفي. لهذا أمتلئ كيانه وكينونته بأثر هذا التاريخ المرير والجليل. فقد ولد هو في نهاية القرن الاول للهجرة، كما ولد المختار الثقفي في بدايته. لقد كان ذلك قرن العظمة والانحطاط، الذي كسر وأعاد لحم انكساراته في شخصياته الكبرى وإبداعهم النظري وسلوكهم العملي. بحيث وجد تعبيره في شخصية سفيان الثوري. فقد نشأ في كوفة الروح والمعنى. إذ كانت الكوفة في ذلك العصر ليس فقط مركزاً من مراكز العلم، بل ومركز الرفض الروحي والأخلاقي والسياسي للاستبداد وانحراف الخلافة صوب الملوكية، والشورى صوب الاستبداد السلطوي. وفي هذا يكمن سرّ الروح المعارض لسفيان الثوري. إذ أرست فيه الكوفة وتقاليد التشيع الأول روح التحدي والمواجهة للسلطة حتى النهاية. لكنه سلك ذلك بطريقته الخاصة بوصفه مثقف الروح الحر والإخلاص للحق والحقيقة
جسّد سفيان الثوري إحدى الحالات المأساوية في تاريخ فكرة الحق والدولة والسلطة. والقضية هنا ليست فقط في نوعية حياته المتخفية والمشرّدة والطريدة والسرّية، وموته المخفي عن عيون الانام والأزلام، بقدر ما كانت تكمن في تعرض الدور التأسيسي لفكرة الحق الشرعي والاجتهاد الحر والنزعة الاخلاقية الصارمة إلى مهانة قاسية من جانب السلطة. فالروايات المحققة بهذا الصدد تقول، بأنه حالما مات سفيان جرى دفنه بالليل خوفا من تتبع عيون السلطان . ليس ذلك فحسب، بل وجرى دفنه بسرعة بحيث لم يشهد دفنه بالصلاة عليه!! . وقد كانت تلك خاتمة العلاقة التي اختتم بها حياته الفردية والعامة، أي حياته الشخصية وعلاقته بالدولة وسلطانها واعوانها. فقد هرب اخر حياته إلى البصرة وعمل بالبساتين. وتنقل إحدى الروايات كيف إن الطبيب الذي فحصه وهو في مرضه قائلا: "أرى بول رجل قد احرّ الخوف كبده والحزن جوفه" ، وفي رواية اخرى عن أحد المقربين منه قال فيها: "مرض سفيان فذهبت بمائه إلى الطبيب، فقال: "هذا بول راهب. هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما له دواء".
لقد اختفى وتخفى سفيان الثوري أواخر حياته نحو سنة هربا من السلطة. وتنقل لنا الروايات المحققة بهذا الصدد الحالة المحزنة والفريدة في غياب الشخصية الفكرية الرفيعة التي أبت الخنوع والانكسار، وفّضلت الاختفاء بالجسد والبقاء بالروح. بمعنى البقاء والمواقف مع النفس والعالم بمعايير الإخلاص للحق. وتنقل لنا الراوية المشهد التالي: غدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم، وسلام بن مسكين من أئمة العلم. فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:
إذا بكيت على ميت لمكرمة فابك غداة على الثوري سفيان
وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:
أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفـــضله ناظر كالغســل ريان
لقد بكاه ذوي الإخلاص وطير الخلاص، كما نعثر عليه في إحدى الصور الواقعية التي قد لا تخلو من الخيال المرهف والرمزية المتسامية، التي تحكي كيف انه شاهد بلبلا محبوسا لابن صاحبه فقال له:
- لو خلى عنه!
- هو لابني. وهو يهبه لك
- لا! ولكن اعطيه دينارا
فأخذه وخلى عنه. فكان البلبل يذهب فيرعى ويجيئ بالعشى. فيكون في ناحية البيت. فلما مات سفيان تبع جنازته فكان يضطرب على قبره. ثم اختلف إليه بعد ذلك ليالي إلى قبره. فكان ربما بات عليه وربما رجع إلى البيت. ثم وجوده ميتا عند قبره فدفن الى جنبه وقيل معه في القبر .
اننا نعثر في هذه الصورة الواقعية - الخيالية على رمزية الحرية والأنا المتسامية، أي كل ما لازم شخصيته. أما لماذا جرت هذه الحالة التي تبدو في كل مكوناتها سلوكا معارضا ومضادا لعلاقة الإسلام ومنطق الحق، فإن سببها يكمن أولا وقبل كل شيء في طبيعة السلطة ونوعية تبلورها في ظل الهيمنة الأموية التي حرفت مسار التاريخ المحتمل للخلافة بكل ما فيه، مع ما ترتب عليه من حالة وضعها سفيان الثوري في عبارة تقول "هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان!"
أرست الأموية قاعدة "حق التسلط". من هنا يمكن فهم موقفه القائل، بأن "الائمة خمسة فقط" (الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز)، ومن ثم أزال الشرعية عن كل خلفاء بني أمية وبني العباس. الأمر الذي يفسر سبب عدم ادراج مدرسته الفقهية ضمن ما يسمى بالمدارس الكبرى كالمالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، مع انه يتفوق عليهم جميعا. غير أن ذلك لا يقلل من القيمة الروحية والأخلاقية لفقهاء الإسلام الكبار، بقدر ما يشير إلى النوعية التي ميزت شخصية سفيان الثوري. فقد كانت حياة ائمة الفقه متعرجة من حيث الامكانية والكفاءة والمنهج، لكنهم جميعا كانوا يشتركون بالمناقب العالية. ولكل منهم تاريخ الخاص والشخصي في مواجهة محنة السلطة. وإذا كان أشهرها بهذا الصدد هي محنة ابن حنبل، فبسبب بساطته وسهولة ما فيه واستجابته لمعنى العوام وخشونة اللسان وجسد الأمة. بينما يختلف الحال بالنسبة لسفيان الثوري. انه كان يمثل فكرة العقل والروح والإرادة المتسامية.
فقد وجد البعض فيه "أمير المؤمنين في الحديث"، و"إمام الناس في زمانه" و"عالم الأمة وعابدها" و"أفقه الناس" . وتنوعت فيه الأحكام بما يتوافق مع اذواق قائليها ووعيهم الشخصي وتجاربهم الذاتية. فقد قال الأوزاعي عنه مرة "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنّة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري". وفي حالة أخرى قال عنه "ما رأيت عالما يعمل بعلمه الا سفيان" . بينما قال ابن المبارك فيه: "ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته، إلا سفيان الثوري". ومقارنة برجال الحديث الفقه الكبار آنذاك، جرى الاقرار بأفضليته في العلم ومعرفة الحديث والورع. فقد قال عنه يحيى بن سعيد القطان: "سفيان أشد من شعبة وأعلم بالرجال"، وانه ليس أحد أحب إليه من شعبة، ولا يعدله أحد عنده. وضمن هذا السياق قال أبو حاتم الرازي عنه: "سفيان فقيه، حافظ، زاهد، إمام، هو أحفظ من شعبة". بل ان شعبة نفسه قال: "سفيان أحفظ مني". بينما قال عبد الرحمن بن مهدي: "كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ على مالك"، وفي موقف آخر قال عنه: "ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك بن أنس، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك". وقال علي بن الحسن بن شقيق عنه: "ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان".
جمع سفيان الثوري بإقرار الاغلبية "بين العلم والورع والعفة والزهد". فقد قال شعبة عنه "ساد سفيان الناس بالورع والعلم". بينما قال آخرون "لا اعقل من مالك ولا أعلم من سفيان". في حين قال آخر عنه: "لولا الله ثم سفيان لمات الورع".
وقد يكون وصف المتأخرين له وبالأخص عند الذهبي من بين أكثرها تعميما لتجارب الأسلاف كما هو الحال في وصفه سفيان الثوري قائلا: "هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، المجتهد، مصّنف كتاب الجامع".
اما الصيغة العميقة والدقيقة عن شخصيته، فهي تلك التي بلور معالمها الزهاد والمتصوفة. فقد قال فيه الزهاد امثال ابن المبارك: "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان". بينما قال عنه ابن عيينة: "ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري". وفي معرض مخاطبته لابن حنبل حول شخصية سفيان الثوري قال له: "لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت". في حين كان يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه في الفقه والحديث والزهد، بل وكل شيء. أما ايوب السختياني فقد قال عنه: "ما قدم علينا من الكوفة أفضل من سفيان الثوري". في حين قالت عنه المتصوفة بما يتوافق مع تجارب افرادها وتأثرهم به. إذ ينقل عن بشر الحافي قوله: "كان الثوري عندنا إمام الناس". في حين اعتبره الفضيل بن عياض "اعلم من ابي حنيفة". وعندما قيل له من هو إمامك فيما تذهب إليه من بعض الورع؟ أجاب: "سفيان الثوري". وينقل عن أبي سليمان الداراني قوله "دخلنا على سفيان الثوري وهو في بيت بمكة جالس في الزاوية على جلد فقال لنا:
- ما جاء بكم؟ فو الله لأنا إذا لم أركم خير مني إذا رأيتكم".
بعدها قال أبو سليمان "ثم لم نبرح حتى تبّسم". ينما قال أحمد الحواري المرافق آنذاك لأبي سليمان الداراني "لما جاءه الناس جاءته الغفلة". بمعنى أن سفيان الثوري كان حينذاك شديد التحفظ من الشهرة وما شابها، لأنه كان يجد فيها صيغة من صيغ الرياء. أما يوسف بن اسباط فقد قال عنه: "الناس سيعاقبون، أنه لا يوجد بينهم مثل سفيان". وهذه من بين الأفكار الرفيعة والدقيقة والعميقة التي تشير إلى جوهرية العالم العامل بالنسبة لكينونة الإنسان والجماعة والأمة. وذلك لأن انعدام وجود شخصيات مرجعية بمعايير الروح المخلص للحق والحقيقة سوف يؤدي بالضرورة إلى تحلل الإنسان والقيم الرفيعة. بمعنى تعرّض الانسان والجماعة والأمة إلى عقوبة ذاتية بكافة المعايير والنتائج.
إن هذه الحصيلة التي توصلت اليها الرؤية النقدية المتفحصة لحقيقة الشخصية الفكرية والعلمية والأخلاقية لسفيان الثوري قد ظلت عائمة في سماء الرؤية الثقافية النقية، بينما كانت تعاني من حيث وجودها الواقعي من إثم الوجود نفسه بوصفه صيرورة قاسية. وهو أمر يلازم في الأغلب صيرورة الروح الثقافي والشخصية الكبرى. فالصيرورة القاسية هي الوحيدة القادرة على سنّ معالم الروح والجسد، شأن كل إبداع عظيم. فنحت الهيكل الجميل في الصخر هو الوجه الآخر لتذليل قبح الواقع أو أنها العملية التي لابد منها لكي يكون المثال تجسيدا للصورة المرّكبة من تفاعل العقل والوجدان والإرادة الحية.
كانت حياة وممات سفيان الثوري صيرورة قاسية شحذت ملامحها على مسّن الوجود الآثم للسلطة، أي على مسّن الوعي المتراكم في شخصيته من أجل إحقاق الحق والعمل بموجبه. ونعثر على بعض مظاهر هذه الحالة والصيرورة الشخصية لسفيان الثوري في الرؤية والاحساس الشخصي لمن حوله ومعرفة به. ففي مجال الفقه والفتيا جرى ملاحظة شخصيته منذ مراحل مبكرة حتى أخر أيامه. إذ ينقل لنا الوليد بن مسلم ملاحظته التي قال فيها: "رأيت سفيان الثوري بمكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد". بينما ينقل لنا محمد بن عبيد الطنافسي ملاحظته التالية: "لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي. أذكره منذ سبعين سنة ونحن في الكتَّاب، تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم". في حين ينقل أحدهم ما يلي: "سمعت الناس بمرو يقولون: قد جاء الثوري! قد جاء الثوري! فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه".
بينما يلاحظ البعض سلوكه ومواقفه التي لا تصّنع فيها، كما في قول مروان بن معاوية: "شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج". والمقصود بذلك انه يخاف الإفتاء بها بالحلّ وهي محرمة عليه، مما يتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحلّ له. بينما ينقل لنا ابن أسباط الحالة التالية: سئل الثوري، وهو يشتري، عن مسألة فقال للسائل: "دعني! فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء". بمعنى إن الإفتاء ينبغي أن يستند إلى تفرّغ القلب وصحة الدراية. فالإفتاء بالنسبة له عقل ودراية وإخلاص.
وليست هذه المظاهر الجزئية سوى الصيغة العابرة والمتذبذبة لاستقامة الروح المعنوي المميز لشخصية سفيان الثوري. اذ ينقل لنا عطاء الخفاف ملامح هذه الشخصية في قوله: "ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيا! فقلت: ما شأنك؟ فقال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا!". بينما ينقل لنا أحدهم مشاهدته لسفيان الثوري واستماعه له قائلا: "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه". وينطبق هذا على سلوكه في العبادات. إذ ينقل لنا علي بن فضيل: "رأيت سفيان الثوري ساجدا حول البيت، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه". في حين قال مؤمل بن إسماعيل عنه: "أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب. كان يجلس مع أصحاب الحديث، وذلك عبادة". في حين قال أحدهم عنه: "كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات". كما ينقل لنا آخر حالة الثوري بقوله: "رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب، صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودى لصلاة العشاء". وهي الحالة التي يصورها لنا يوسف بن أسباط في قوله: "قال سفيان الثوري وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة! فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على نحره ونمت. فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي. فقلت له: "هذا الفجر قد طلع!"، فأجاب: "لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة". من هنا قول قبيصة بن عقبة: "ما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه". بينما وصفه آخر بعبارة تقول: "كنا نكون عند سفيان الثوري، فكأنه قد اوقف للحساب" .
من هنا الانطباع الظاهري الذي خلفته شخصيته المتماسكة في أعماقها بحيث اعتقدوا بجنونه. من هنا قول احدهم عنه: ربما كان يأخذ سفيان في التفكر، فينظر اليه الناظر فيقول "مجنون" . كما نعثر على هذه الحالة في قوله عن نفسه: "امرّ بالحائك يغّني، فأسدّ اذني". وليس المقصود بذلك كره الغناء وما شابه ذلك، بقدر ما يعني التعبير عن صمت الأصوات الخارجية من أجل استرقاق السمع إلى معزوفة الباطن! فهي الحالة المميزة والملازمة للشخصية المتماسكة في كلّها، ومن ثم القائمة في وجدها ووجودها وعلمها وعملها بحالة التفكر العميق والخروج به إلى عوالم الكينونة الحرة. إذ كل حر عظيم مجنون، بينما ليس كل مجنون عظيم! فالجنون كما يقال فنون! وما كان مميزا لسفيان الثوري العالم المجتهد هو الانغماس في المعرفة والذوبان في تأمل حقائقها. الأمر الذي يجعله غريبا. والغريب مجنون!
وليس مصادفة أن تبتدع الثقافة الإسلامية الفكرة القائلة بغرابة وغربة الأنبياء والمصلحين لمن حولهم، وبالتالي رفعت هذه الحالة إلى مصاف المثل الأعلى كما في قولها "طوبى للغرباء!". أما في الواقع، فإن الغريب هنا قريب من دبيب الوجود وإشكالاته. ونعثر على هذه الحالة في الوصف الذي قال به أحدهم: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفترّ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا" . في حين قال آخر عنه بهذا الصدد: "ما رأيت أحدا أصفق وجها في ذات الله من سفيان الثوري" . لهذا نراه يقول مرة: "اذا رأيتموني قد تغيرت عن الحال الذي أنا فيه، فاعلموا أني قد بدلت" . وأن يقول في موقف آخر: "مثل المتعبد ببغداد كمثل المتعبد في الكنيف!" .
لقد بحث سفيان الثوري عن الحقيقة في أعماقه وأعماقها فوجدها فيما اسميته بكوفة الحقيقة والمعنى، التي وجدت تعبيرها في توليف المعرفة بتحقيقها الذاتي. وقد يكون الزهد المتسامي بالعلم والمعرفة هو مظهرها الخاص عنده. ولعل الوصف الذي قدمه البعض عنه بهذا الصدد نموذجيا لكل ما فيه، كما في قوله: "رأيت سفيان الثوري في طريق مكة، قوّمت كل شيء عليه حتى نعله: درهما وأربع دوانق!".
توّج سفيان الثوري في شخصيته العلمية والعملية الحالة الثقافية والروحية التي جمعت بين الزهد والمعرفة. الأمر الذي جعل منه الممثل النموذجي الأول في الثقافة الإسلامية لوحدة الزهد والمعرفة، أي وحدة العلم والعمل. وهي ذاتها وحدة المعرفة والعمل بموجبها. اذ ليس هناك أكثر من حقائق المعرفة المسبوكة بمبادئ السلوك الأخلاقي الرفيع ممن صَنع وحدة الشخصية المتماسكة وإبداعها الحر. ذلك يعني، إن الزهد بالنسبة له هو أداة السمو الأخلاقي والمعرفة العملية. بل وارتقى في بعض الحالات إلى مصاف الاختبار الفعلي لحقيقة الشخصية. من هنا فكرته عن أن حقيقة الزهد ليست "أكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل، وارتقاب الموت". وذلك لأن الشيء الجوهري هنا يقوم فيما اصطلح عليه سفيان الثوري بعبارة الكسب الطيب والعناية بالروح والجسد بما يتوافق مع حقيقة العمل وغايته. اذ ينقل أحدهم كيفية لقاءه بسفيان الثوري حالما قدم عليه. حينذاك طبخ له قدر سِكْباج (اللحم المطبوخ بالخل) فأكلَ، ثم أتاه بزبيبِ الطائف فأكلَ. بعدها قال له سفيان "اعْلِف الحمار". ثم قام يصلي حتى الصباح. سكباج وحمار وصلاة(!) كلهم واحد بالنسبة له، لأن لكل منهم موقعه وأهميته بالنسبة للروح والجسد. بينما يخبرنا آخر عنه كيفية دخوله على سفيان الثوري وهو يأكل طباهج (اللحم المشرّحُ بالبيض)، فكلّمه في ذلك، فأجابه سفيان: "لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً. اكتسبوا طيباً وكلوا!". وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه القائل "لأن أخلِّف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليّ من أن أحتاج إلى الناس". وهذا الموقف يستند بدوره إلى إدراكه الحر والواقعي لأهمية وقيمة المال بالنسبة للحرية الفردية والفكرية في عالم أخذ المال يتحول فيه الى قوة حاكمة وفاعلة في كل شيء! من هنا قوله "كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن" . وضمن هذا السياق يمكن فهم مضمون موقفه السابق. إذ اعتبر "المال داء هذه الأمة". من هنا قوله "لا تقتدوا بصاحب عيال لأنه دوما يتعلل بعياله". بينما نسمعه يخاطب في حالة أخرى أحدهم قائلا: "عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال والإنفاق على العيال" . وفي نادرة أخرى تنقل عنه وقد نظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال:
- يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟!
- اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك"، أي لجعلونا كالمنديل يمسحون به أرجلهم.
ورفع تجاربه الشخصية بهذا الصدد إلى فكرة عامة تقول، بأن "الزهد زهدان، زهد فريضة وزهد نافلة. فالفريضة أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرياء والسُّمعة، والتزيُّن للناس. أما زهد النافلة فهو أن تدع ما أعطاك الله من الحلال. فإذا تركت شيئا من ذلك صار فريضة عليكَ ألا تتركه إلا لله". وأن يتوصل في حالة أخرى إلى أن "الزهد هو سقوط المنزلة" . ولا يعني "سقوط المنزلة" هنا سوى الرجوع إلى الحقائق الأولية المتعلقة بحقيقة المعنى في كل شيء. وكل شيء في الإنسان هو الإنسان نفسه بمختلف مواقفه العلنية والمستترة. وبالتالي، فإن اسقاط المنزلة يعادل معنى التحرر والتخلص من شوائب الزيف السائد في مختلف مظاهر الوجود والحياة. لهذا شدد في أحد مواقفه بهذا الصدد عن أنه لم ير أشد صعوبة للتحقق بحقيقة الزهد أكثر مما في حب الرياسة. وأوصله ذلك إلى فكرة عميقة تقول بأن "الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس"، وأوله الزهد في النفس . فبالزهد تبصر عورات الدنيا ، أي نواقصها وخللها. ذلك يعني أن الزهد هو المنفذ الى عوالم المعرفة الدقيقة وبلوغ حقيقتها كما هي. من هنا قوله، بأن الإنسان حالما يزهد في الدنيا، فإن الله ينبت الحكمة في قلبه، ويطلق لسانه، ويبّصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها" . بل وتوصل إلى فكرة عميقة تقول، بأنه "لا تصلح القراءة الا بالزهد".
لقد حوّل سفيان الثوري الزهد العملي المرتبط بتقاليد الورع الإسلامي الأول إلى فكرة وأسلوب تتناغم فيهما وحدة المعرفة النظرية والعملية. إذ حدّه من حيث هو فكرة بما اسماه بزهد الفريضة والنوافل. وكلاهما بالنسبة له كلّ واحد. وذلك لأن حقيقة الزهد تبتدأ بالزهد بالنفس وتنتهي بتحقيقه في العلم والعمل. وليس تحقيقه سوى النتيجة المترتبة عليه بوصفه أسلوبا في إدراك حقيقة الأشياء كما هي، وكذلك بما اسماه أثره في إنبات الحكمة في القلب وطلاقة اللسان بالحق ورؤية اسباب العيوب والنواقص وكيفية علاجها. ذلك يعني، إن حقيقة الزهد هي علم وعمل بقدر واحد. من هنا أهمية ماهية المعرفة وحقيقتها.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحركة الصدرية والمستقبل: من الطائفة إلى الأمة، ومن المدينة ...
- أيديولوجيا الحركة الصدرية – اللاهوت الشيعي والناسوت العراقي
- الحركة الصدرية - الأنا والتاريخ أو اليوطوبيا والمستقبل
- الحركة الصدرية – تيار الداخل وصعود الباطن العراقي
- مقدمات المعترك السياسي والأيديولوجي للحركة الصدرية
- الحركة الصدرية- غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي
- مقتدى الصدر: ميتافيزيقيا -الثورة- الصدرية
- تقييم تجربة بناء الدولة العراقية (2003-2018)
- غاندي وعقدة -القادة العرب-
- إبراهيم بن ادهم - شخصية ومصير
- آفاق الصراع الديني في المشرق العربي المعاصر
- تصوف ومتصوفة
- إيران وسوريا في ميدان الصراع الروسي - الأمريكي (2-2)
- إيران وسوريا في ميدان الصراع الروسي - الأمريكي(2-1)
- الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي(3-3)
- الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي (2)
- الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي(1-3)
- فلسفة البديل العقلاني العراقي
- الطريق المسدود للطائفية السياسية
- الطائفية السياسية: عقيدة الأفق المسدود


المزيد.....




- استهداف أصفهان تحديدا -رسالة محسوبة- إلى إيران.. توضيح من جن ...
- هي الأضخم في العالم... بدء الاقتراع في الانتخابات العامة في ...
- بولندا تطلق مقاتلاتها بسبب -نشاط الطيران الروسي بعيد المدى- ...
- بريطانيا.. إدانة مسلح أطلق النار في شارع مزدحم (فيديو)
- على خلفية التصعيد في المنطقة.. اتصال هاتفي بين وزيري خارجية ...
- -رأسنا مرفوع-.. نائبة في الكنيست تلمح إلى هجوم إسرائيل على إ ...
- هواوي تكشف عن أفضل هواتفها الذكية (فيديو)
- مواد دقيقة في البيئة المحيطة يمكن أن تتسلل إلى أدمغتنا وأعضا ...
- خبراء: الذكاء الاصطناعي يسرع عمليات البحث عن الهجمات السيبرا ...
- علماء الوراثة الروس يثبتون العلاقة الجينية بين شعوب القوقاز ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)