حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 5908 - 2018 / 6 / 19 - 09:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نبحث في هذا المقال قضية ارتباط العقل بالواقع و كيف تتشكّل المعرفة. فنناقش بعض النظريات الأساسية في الفلسفات العقلانية و التجريبية و المتعالية و إمكانية تخطيها اعتمادا ً على العلم المعاصر.
العقلانية و التجريبية
تتجلّى الفلسفة العقلانية في فلسفات عدة منها فلسفة رينيه ديكارت. يعتبر ديكارت أنه توجد أفكار مُسبَقة توجد في العقل مع ولادته و من غير الممكن الشك بهذه الأفكار بل هي أفكار يقينية يقبلها العقل تلقائيا ً لكونها واضحة و يقينية. هذه الأفكار يقبلها العقل لشدة وضوحها و يقينيتها ما يمكّن كل عقل منطقي من الاعتراف بصدقها رغم أنها ليست نتيجة اختبار الواقع المادي بحواسنا. لذا يؤكّد ديكارت معبِّرا ً عن الفلسفة العقلانية على أنَّ الحواس ليست مصادر المعرفة بل التفكير العقلي المجرّد المعتمد على اليقينيات المُسبَقة التي تولد في عقولنا بمجرّد أن نولد هو المصدر الحق لمعارفنا. هذه الأفكار المُسبَقة التي نمتلكها بمجرّد أن نولد هي أفكار مشتركة بين كل عقول البشر و من خلالها لا بد من استنتاج الأفكار الصادقة الأخرى. بذلك , بالنسبة إلى فلسفة ديكارت , المعرفة كامنة في هذه الأفكار المُسبَقة و في ما يمكن بحق الاستنتاج منها.
هكذا تصوّر فلسفة ديكارت العقل على أنه حائز على بنية منطقية تطابق منطق الكون نفسه ما يمكِّن العقل البشري من فهم الواقع و معرفته. تُعتبَر فلسفة ديكارت فلسفة عقلانية لكونها تُعقلِن العقل و الكون معا ً من خلال إصرارها على أنَّ العقل بنية منطقية تطابق بنية الكون المنطقية ما يحتِّم نشوء المعرفة على ضوء التفكير العقلي المجرّد الخالي من الاعتماد على الحواس و اختبار الواقع المادي. من تلك الأفكار أو المعتقدات المُسبَقة و اليقينية التي تولد فينا بمجرّد أن نولد الاعتقاد التالي : من المستحيل أن يوجد الشيء و أن لا يوجد في الوقت عينه. إذا رفضنا هذا الاعتقاد سنقع في التناقض. لذلك هذا الاعتقاد يقيني و كل عقول البشر تقبله بلا شك فيه ما يشير إلى أنه اعتقاد يولد فينا بمجرّد أن نولد و يقينيته تستدعي الاعتماد عليه لصياغة معارفنا الأخرى.
لكن الفلسفة التجريبية كفلسفة جون لوك ترفض كل ما جاء في الفلسفة العقلانية. لذا فلسفة جون لوك ترفض بشدة ما ورد في فلسفة رينيه ديكارت. بالنسبة إلى الفيلسوف جون لوك , العقل لا يولد بأفكار مُسبَقة تولد في عقولنا بمجرّد أن نولد بل العقل صفحة بيضاء بمعنى أنه لوح فارغ خال ٍ من أية أفكار أو معتقدات مُسبَقة و يقينية. من هنا يعتبر لوك أنَّ كل أفكارنا و معتقداتنا مصادرها الحواس كالبصر المرتبطة بالواقع المادي و اختباره. هذا هو جوهر الفلسفة التجريبية القائلة بأنَّ كل معتقداتنا و معارفنا معتمدة على الحواس و اختبار الواقع من خلال حواسنا. تصرّ الفلسفة التجريبية على أنَّ التفكير العقلي المجرّد الخالي من الاعتماد على الحواس لا يؤدي إلى أية معرفة على نقيض مما تقول الفلسفة العقلانية كفلسفة ديكارت. يُقدِّم لوك الحجة التالية ضد الفلسفة العقلانية و كدعم لموقفه الفلسفي : إن وجدت معتقدات يقينية و مُسبَقة تمتلكها عقولنا بمجرّد أن نولد , إذن لا بد من أنَّ كل البشر يقبلون تلك المعتقدات. لكن البشر غير متفقين على قبول أية مجموعة من المعتقدات (فالأطفال مثلا ً قد يرفضون قبول أنه من المستحيل أن يوجد الشيء و أن لا يوجد في آن). من هنا , بالنسبة إلى لوك , لا توجد معتقدات أو أفكار يقينية مُسبَقة تمتلكها عقولنا بمجرّد أن نولد. و بذلك كل معتقداتنا و أفكارنا مصادرها اختبارنا للواقع من خلال حواسنا.
الفلسفة الكانطية
تتخطى فلسفة كانط كلا ً من الفلسفة العقلانية و الفلسفة التجريبية من خلال رفض كانط لفكرة أنَّ العقل يولد بمعتقدات مُحدَّدة مُسبَقا ً و رفضها في آن لفكرة أنَّ كل معتقداتنا و معارفنا مصادرها الحواس فقط. ينجح كانط في تخطي الفلسفتيْن العقلانية و التجريبية من خلال قوله بأنَّ عقولنا تمتلك مفاهيم مُسبَقة (بدلا ً من معتقدات أو أفكار مُسبَقة) و تضفي عقولنا تلك المفاهيم المُسبَقة على الواقع ما يسمح لنا بتشكيل المعرفة و امتلاكها. مثل ذلك أنَّ بالنسبة إلى كانط , مفاهيم الزمان و المكان و العلاقات السببية بين الظواهر هي مفاهيم يمتلكها العقل مُسبَقا ً (قبل اختبار الواقع) و من ثم يضفيها العقل على الواقع فينظّم تجاربه الحسية للواقع ما يمكّن العقل من تكوين المعرفة. فلسفة كانط فلسفة متعالية لأنَّ عملية التفلسف لديه تبدأ من المفاهيم العقلية المُسبَقة بدلا ً من أن تبدأ من الواقع كما هو.
هذا ما سمّاه كانط بالثورة الكوبرنيكية في ميدان البحث الفلسفي التي مفادها البحث عما إذا كانت تجاربنا الحسية للواقع متفقة مع مفاهيمنا المُسبَقة بدلا ً من محاولة البرهنة على صدق مفاهيمنا المُسبَقة و مطابقتها للواقع كما هو. و بالفعل , كما يقول كانط , تجاربنا الحسية للواقع منسجمة مع مفاهيمنا المُسبَقة لأننا نختبر ظواهر الواقع على أنها موجودة في أزمنة و أمكنة معيّنة كما نختبرها على أنها مرتبطة بعلاقات سببية. و هذا برأيه يبرهن على صدق فلسفته. من منطلق فلسفة كانط , المعرفة مصدرها إضفاء العقل للمفاهيم المُسبَقة على الواقع فاختبار الواقع حسيا ً على ضوء ما يضفي العقل من مفاهيم على الواقع المحسوس. لذلك يعتبر كانط أننا نستطيع فقط معرفة الواقع المحسوس و ليس الواقع كما هو بمعزل عما نختبره بحواسنا و مفاهيمنا المُسبَقة. على هذا الأساس يؤكّد كانط على أنَّ المعرفة ممكنة لكنها محدودة.
مشكلة فلسفية و حلولها الممكنة
إحدى المشاكل الفلسفية الأساسية هي كيف يرتبط العقل بالواقع ما يجعل العقل يتمكّن من تشكيل المعرفة. يجيب ديكارت قائلا ً إنَّ المعتقدات اليقينية المنطقية و المُسبَقة التي تولد في عقولنا بمجرّد أن نولد تمكّننا من الارتباط بالواقع فالحصول على المعرفة (لكون العقل بمنطقيته يطابق الواقع بمنطقيته) بينما يجيب لوك قائلا ً إنَّ العقل يشكّل المعرفة اعتمادا ً على الحواس و اختبار الواقع من خلال حواسنا فالوقائع تسبِّب إحساساتنا التي على ضوئها نكوِّن أفكارنا و معتقداتنا و معارفنا. بذلك , بالنسبة إلى ديكارت , العقل يرتبط بالواقع من خلال المعتقدات اليقينية المُسبَقة بينما بالنسبة إلى لوك , العقل يرتبط بالواقع من خلال الحواس. لكن كانط يرفض الاتجاهيْن السابقيْن و يقول إنَّ العقل يرتبط بالواقع (ما يسمح بتشكيل المعرفة) من خلال المفاهيم العقلية المُسبَقة و إضافتها على الواقع ما يؤدي إلى إدراك الواقع حسيا ً و معرفته لكن على ضوء المفاهيم العقلية المُسبَقة كالزمن و المكان و السببية.
تخطي الفلسفات السابقة
من الممكن تخطي الفلسفات السابقة كافة من خلال الاعتماد على نموذج علمي معاصر. إحدى النظريات العلمية تعتبر أنَّ كل ظواهر الكون و حقائقه ليست سوى معلومات أما العلاقات السببية بين الظواهر فليست سوى عمليات تدفق و تبادل للمعلومات. هكذا أصبح الكون كمبيوترا ً متطوّرا ً يحسب معلوماته بالذات. لكن إن كان الكون المادي مجرّد معلومات و تدفق للمعلومات و تبادلها , و علما ً بأنَّ العقل أيضا ً يتكوّن من معلومات و يتصف بالحفاظ على المعلومات و تبادلها مع عقول أخرى , إذن الكون المادي غير مختلف عن العقل ما يجعل ارتباط العقل بالواقع أمرا ً طبيعيا ً فيسمح بتشكّل المعرفة تلقائيا ً بفضل أنَّ العقل مطابق للواقع لكونهما معلومات و تبادلها. بكلام ٍ آخر , بما أنَّ العقل و الواقع المادي معلومات و تبادل للمعلومات , إذن من المتوقع أن يتبادل العقل و الواقع المعلومات ما يمكّننا من الحصول على معرفة الواقع. هكذا المعرفة ليست من الحواس فقط و لا من العقل فقط و ليست فقط نتيجة الحواس و العقل بل المعرفة نتيجة أنَّ العقول و الوقائع المادية ذات طبيعة واحدة ألا و هي المعلومات و تبادلها.
المراجع
1- Rene Descartes: Discourse on Method and Meditations on First Philosophy. 4th Ed. 1999. Hackett Publishing Company.
2- John Locke: An Essay Concerning Human Understanding. 1998. Penguin Classics.
3- Immanuel Kant: Critique of Pure Reason. 1999. Cambridge University Press.
4- Paul Davies & Niels Henrik Gregersen: Information and the nature of Reality. 2010. Cambridge University Press.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟