أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كمال طيرشي - قراءات فلسفية في الإستيطيقا المعاصرة















المزيد.....



قراءات فلسفية في الإستيطيقا المعاصرة


كمال طيرشي

الحوار المتمدن-العدد: 5889 - 2018 / 5 / 31 - 15:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قراءات فلسفية في الإستيطيقا المعاصرة
بقلم: كمال طيرشي
باحث مساعد بالمركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات

1-الاستطيقا عند الانطولوجي "مارتن هيدجر"
حقيق بنا الإعتراف أن الانطولوجي الألماني "مارتن هيدجر " لم يطرق باب " الإستطيقا " و المساءلة الفنية بشكل مباشر كونها لم تكن "دأبه و ديدنه " في أولى كتاباته الشبابية ، و مرد ذلك إلى ما كان يحوم في مخياله من إشكاليات أنطولوجية عميقة و غياهبية الطابع ، و التي على رأسها "إشكالية الكينونة و الزمان" ، فكان همه و انهمامه الأكبري مسلطان على الوجود العام ،من خلال أسئلة : ماهو الوجود؟ ، ما معنى الوجود ؟ ، و تربصته عديد احالات فلسفية حتمت عليه تعديل المطارحة الفلسفية و الاستعاضة عن سؤال " ما معنى الكينونة ؟" ، ب " ما حقيقة الكينونة ؟" ، ففيلسوف الغابة السوداء لم يبدأ معالجة مسألة الفن و الجمالية إلا بعد المنعرج أو الإنعطافة ، فلما فرغ من همّ حقيقة الكينونة ، نهج مسلكه تباعا بمنحى العملية الفنية كنمط من أنماط ادراك الكينونة أو بالأحرى كنمط من أنماط "الكشف عن الكينونة " المتوارية بالحجب ، المتدثرة ، المستورة ، المتخفية وتعتبر الإسهامة الأولى التي قدمها "فيلسوف الانطولوجيا مارتن هيدجر " كانت عن طريق محاضرة ألقاها سنة 1935 ، بعنوان " أصل العمل الفني " .لكن السؤال الذي يؤرق جمهور "الهيدجريين " و كبار شراح فلسفته هو : ما الذي جعل مارتن هيدجر يهتم بالفن سنة 1935 ؟
ففي الفقرة 42 من كتاب "الكينونة و الزمان "(1927م)، ذكر الفن ، ولكن لم يعن به كثير عناية ، لأنه كان في مرحلة البحث عن "اليثيا" (الحقيقة) ، اهتمام هيدجر الأكبر بسؤال الاستطيقا كان من وراء اعتقاده بأن الفن ليس انتاجا فقط ، بل هو يبحث الفن من حيث أصله ، و يعتبره بابا من أبواب "انكشاف الكينونة " "انفتاحتها " ، "تكشفها ، انبجاسيتها و تخارجيتها ، و همه الكبير هو أن يربط بين " الفن و الحقيقة " ، فعند فيلسوف" الكتاب الواحد " المسألة ليست بالجديدة ، لأن هناك عدد مهيب من الفلاسفة الذين سبقوه تعالقوا بالمطارحة الاستطيقية في فلسفاتهم و على رأسهم متفلسفة العصر الهيلينستي الاغريقي ، لكن الأدهى هو الطريقة الجديدة في تناوله للقضية .فما الذي يمكن أن يقدمه هيدجر بالنسبة للحقيقة ؟
يعتمد هذا الفيلسوف مصطلحا مركزيا هو Représentation ، فحسب اعتقاده أن الفن يعبر عن الحقيقة إذا كان Représentation ، و حينما نستكنه معناها في اللسان العربي من الناحية الابستيمية نجد اللفظ المقارب للمصطلج هو ((التصوير الفني ))، و يضرب لنا هيدجر مثلا على ماهوية التصوير الفني ب((فرانز مارك )) و هو من عمداء المدرسة التعبيرية ، و هي مدرسة فنية ، ظهرت في القرن العشرين بألمانيا ، و تقوم على فكرة أساسية مفادها "أن الإنسان يُعبر عن أحاسيسة و مشاعره و عواطفه و ابداعه بعيدا عن أي قيم سائدة " ، و اعتمد هيدجر على لوحه رسمها "فرانز مارك " و هي عبارة عن لوحة رسم عليها "صورة يحمور " (حيون) ، و نبأنا بلزومية التمييز بين المفهوم النظري و المفهوم التأويلي لهذه اللوحة الفنية . بالنسبة للمفهوم النظري متمثل في كون اليحمور نوع من أنواع الحيوانات ، و العلماء يدرسونه كموضوع علم الأحياء ، أما بالنسبة للمفهوم التأويلي ، فالحيوان هو كائن من كائنات الغابة ، ففي مخيال هيدجر فإن الرسام " فرانز مارك " يقدم لنا النموذجين ، لكن ما يهم مارتن هو النموذج الثاني التأويلي ، لأنه يصور لنا فنيا ((الحيوان)) ،((اليحمور)).
قراءتنا للفن وفق المنظور الهيدجري يحيلنا إلى اعتبار الصورة الفنية همُّها الأكبر في مبلغها و إحقاقها الانطولوجي ، فالفن في كنهه ليس تصويرا بل هو تحقق أو بلوغ الشيء ، و هنا يتعالق الفن بالأنطولوجيا و مباحثاتها الماهوية ، و حينما نتأمل كتاب هيدجر "مدخل إلى الميتافيزيقا" يؤكد لنا الفيلسوف قائلا إن العمل الفني ليس عملا فنيا ، إلا من حيث هو اِحقاق للكينونة في الكائن " .إن كل الفلسفات السباقة (الكلاسيكية ) لم تكن تبحث مسألة الكينونة ، و إنما كانت تسعى لتكنه الكائن ، إنها بايجاز "بحث في الكائن " و لنا في النظرة الأفلاطونية خير دليل على أكادة ذلك ، أما أرسطو فكان حديثه الفلسفي حول المحرك الذي لا يتحرك و الذي هو ""الكائن"" ، و ليس "الكينونة" ، و إذا عدنا إلى فريديريك نيتشه صاحب فلسفة "ارادة القوة " التي هي ارادة الكائن الاعلى و ليس الكينونة .
إذن ووفقا للطرح الهيدجري فان علة الإهتمام بالكينونة كامن في اعتبارها " المقولة الأعم " بل هي "مقولة المقولات " .لكن كيف نصل إلى الكينونة ؟
نقتدر بلوغ "الكينونة" عبر وسيط هو "الدا-زاين" (الإنسان) ، الذي من مؤهلاته المثلى المعينة له على هذا المبلغ الجلل ((اللغة)) ،و بحكم هاته الاخيرة يستطيع هذا الكائن أن يدرك الكينونة بخلاف غيره من الكائنات الأخرى ، و اذا ما رجعنا الى الفن ، فهو بحكم قدرته التأهيلية يمكنه أن يكون وسيطا و سبيلا هاديا للوصول إلى "الكينونة " . كيف له ذلك ؟، كيف يكون الفن أساسا و منطلقا لمعرفة حقيقة الكينونة ؟
أن ما يهم هيدجر في الفن و يبتغيه فيه هو "الأصل" ، و الاصل هو ""الماهية "" أو بالاحرى "الفن من حيث هو مـــــــــــاهية . لكن من له اليد الطولى ليكون أصلا في العمل الفني ؟
طبعا في الادبيات الفنية المعاصرة التي لطالما حذقنا معالمها و درسنا مكنوناتها نجد أن الأصل في الفن دوما هو "الفنان" ، لكن وفقا للرؤية الهيدجرية فإن الفنان ""علة "" ، و ليس "أصلا" ؟
إن ما يهم هيدجر و يثلج صدره ليس العمل الفني النابع من ذاتية الفنان ، و إنما المهم عنده هو تلك "الماهية " المتخفية ، المتحجبة والمتوارية في العمل الفني ، و هاته الرؤية تهدم الطروحات السالفة في فلسفة الأزمة الحديثة "مثل كانط و نيشته " . فكانط مثلا يحايث كل عمل فني بذات متلقية أو ذواقة للعمل الفني ، فالفن متعالق بالذات كفاعلة و منفعلة في الآن عينه ، اذ يقول كانط كما أن الذات تنتج معرفة و أخلاقا فهي كذلك تنتج الجمال و تتذوقه و كل هاته الوظائف متداخلة " .إن الاهم في العمل الفني هو ذاته و ليس الفنان ، و الكينونة تكشف عن نفسها من خلال "الفن" ، و الفن لا يسكن في الفنان بل في العمل الفني عينه . إن "أليثِّيا" (الحقيقة) ، تنحجب و تتوارى ثم تنتظر "الإنبجاسة أو الانفتاحة ، الإنارة ، الإضاءة ’ و الإنكشاف عن طريق "العمل الفني " .و أكثر انكشافات و انبجاسات الفن تكون عن طريق "الشعر" .
لكن لماذا الشعر بالذات ؟ أنه بتعبير موجز أطهر و أسمى و أرقى تمظهرات اللغة تكون في نظم الشعر و الترانيم ، و بحكم اللغة هي "بيت الكائن " ، و لا يكون هناك شيء اقدر و أجل في الكشف عن الحقيقة مثل "الشعر" ، و هنا يستحضر هيدجر أشعار هولدرلين بالخصوص .و ترانيمها الوجدية و أُنْطُولوجيتها الموحية و الأخاذة.إنه مجال مهيب لإنكشاف الحقيقة . و الحقيقة وفق مدلول هيدجر هي في منحى أصلها الماهوي الفينومينولوجي ،إنها تحيلنا إلى ذاتها ، فالفن ليس مظهرا للجميل ، إن الحقيقة ماهية .

2-الإستطيقا عند الفينومينولوجي "موريس ميرلوبونتي "
أنه لمن باب الحصافة اعتبار الفيلسوف الفرنسي "موريس ميرلوبونتي " واحدا من أعمدة فلسفة الفن المعاصرة ، و هذا ما تبدى جليا من خلال مقارباته الإستيطيقية الجليلة ، و كذلك من خلال مقارباته الفينومينولوجية بالدرجة الأولى ، و لنا أن نشيد بذكر اهم اعماله الفلسفية = العين و العقل (كتاب في الجماليات خصصه لفن الرسم) ، المرئي و اللامرئي ، المعنى و اللامعنى ، تقريظ الفلسفة ، فينومينولوجيا الإدراك الحسي . و حقيق بنا كذلك أن نعتبر مقاربة "موريس ميرلوبونتي " في الرسم ، هي "مقاربة فينومينولوجية ،و انطولوجية ".بحكم أن الفيلسوف سيجعل من فن الرسم المنطلق الركيز و المحوري لولوج "حقيقة الوجود " ، و لنا أن نعترف بأنه قلما نجد مقاربات فينومينولوجية ترتبط بالرسم .
لكن ماهو منطلق هاته المقاربة ؟
نحذق معالم هذه المقاربة من خلال قراءتنا لكتاب " العين و العقل " إذ يبدا في هذا الكتاب بالذات بنقد العلم ، قائلا (( إن العلم لا يصل إلى الحقيقة ، فالعلم الحالي هو علم مرتبط بالتقنية )) ، بحكم ان العلم لا يدان له بحذق و تكنه الحقيقة ، كما أنه لا يقدر على نزع الحجاب أو الستار عنها لتنجلي و تنكشف ، إن العالم لا يفكر ، اذ يكتفي بإستخدام الأشياء و لكنه ((لا يسكن الأشياء )) .؟؟؟
فالعلم لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة لأنه مشغول بالاستخدام و بالاشياء .أما الفن فإنه يسعى إلى ((المعنى)) ، بخلاف العلم الذي لا يعنى ((بالمعنى)) ، و لا يسعى لحذقه و تكنهه.
فما يهم العلم طبعا هو "الاستخدام و النجاح " ،أما الفن فهو يهتم بالمعنى .
لكن معنى ماذا ؟ :((إنه معنى العـــــــــــــــــــــــــــالم)).
و في هذه الأطروحة بالذات نتجلى التأثير الهوسرلي "lebenswelt " ((معنى عالم الحياة)) ، خصوصا في كتابه المركزي " أزمة العلوم الأوروبية و الفينومينولوجيا الترانساندانتالية " .
لكن اليس في هذا تناقض صارخ ؟
كيف يعيش العلم في أوروبا أزمة ؟ ، و هو في أوج تطوره و سؤدده ؟
هوسرل يقر بوجود أزمة ، لكن أين هي ؟ إن مكمن مفهومية الأزمة هنا لا ترتبط بالمنحى المنهجي أو الابستمي ، بل إن أزمة العلم المعاصرة هي في (((أنها لا تهتم بالمعنى))). صحيح أنها نهجت مسلكها مهتمة بالفعالية و النجاح و النتائج الباهرة ، ووصولها إلى قوانين حياتية دقيقة تساهم جللا في عقلنة العالم لكنها في مقابل ذلك تغاضت و نأت بنفسها عن ولوج عالم المعنى أو البحث عن المعنى ؟؟؟
إنها لم تنحو سبيلها و لم تكترث لأمر "المعنى" = حيث معنى العالم ، معنى الوجود ، مصير البشرية ، معنى الكون ...الخ ، للأسف شهدت هاته العلوم "أفول المعنى" ، "ضياع المعنى " .
لهذا انبثقت الاستطيقا الهوسرلية منادية بصورة جزومية فائقة بضرورة "تكنه المعنى" ، منتهجا الفينومينولوجيا طريقة و من خلالها نصل إلى المعنى "معنى العالم أو معنى موندا " ، لأن علوم التقنية و الآلية لم تقتدر الولوج الى عالم المعنى و حذقه ، إذ وجد موريس متنفسه و مستقره و مستودعه في "فن الرسم" لان هذا الفن بالذات سيكون اليد الطولى للولوج إلى الحقيقة "أليثيا" ، إن الفن عند ميرلوبونتي و بدرجة أوفى الرسم ، يعبر بجلائية مهيبة و رائقة عن ((إنتمائنا إلى العالم)).
من خلال الفن و الجمالية نعبر بوضاحة عن انتمائنا للعالم ، لكن ماهي واسطة الفن و لبنته للتعبير عن انتمائنا نحن الكيانات البشرية للعالم ؟
إن الفن من حيث تعبير عن انتمائنا للعالم ، يعتمد على وسيط عتيق عريق هو ((الجسد)).
و هنا تتعالق و تتلاحم الفينومينولوجية الميرلوبونتية مع الاستيطيقا الجمالية ، بحكم أنها فينومينولوجيا اعتمدت الجسد مركزها و جوهرها ، و هذا ما نتجلاه بيانا في كتاب ميرلوبونتي المركزي فينومينولوجيا الادراك الحسي " .
لكن ماذا يقصد موريس ب((الجسد)) ؟.
إن من أدبيات النِّحلة الفينومينولوجية -القطائعية جملة و تفصيلا بكل ثنائية ممكنة- ، فكان لها أن تجاوزت كل فلسفة تشيد بالنزعة الثنائية (( نفس// بدن )) ،لأن بغيا الظاهراتية ما يتبدى و يتمظهر للعيان المشاهد ، و لا تكترث بتاتا بمن يقول أن هناك شيء مبطون ،كامن و نوميني خلف الظاهرة ، فما يتوارى خلف الظاهرة ((لا معنى له )).
و لهذا فنحن أمام "الجسد" الظاهر العياني المتبدي ، الذي يمكن أن نقول عنه كل شيء ’،و لا يدان بتخفي أي شيء عنه ، إنه الجسد بمفهومه الفينومينولوجي .و نظر موريس إلى الجسد و مفهوميته وفقا لنمطين أو تصورين هما =
1- الجسد الموضوع (corps-objet) : هذا النمط من الجسد "واقعي" أي أنه "جسد-موضوع" لأن يكون مجال للمعرفة العلمية ككتلة فيزيقية و كيماوية ، يختص بدرسها أهل التشريح و علماء الفيزيولوجيا .
2- الجسد الخاص ) corps-propre ( : في هذا النمط من الجسد لا نكون امام مجرد كتلة نصادفها غفلا في هذا العالم ، بل إنه كما يقول عنه موريس في كتابه "فينومينولوجيا الادراك الحسي " (( إن جسدي هو "محور" أو "قوَّام العالم" ، و هذا يعني أنّي أعي وجود العالم بوسيط "جســــــــــدي .)) ، و يقول في كتابه المثير "المرئي و اللامرئي" (( إن جســــدي المرئي ، و المتحرك يتشابك في نسيج العالم ، و تماسكه هو تماسك شيء ما ، و بما أنه يرى و يتحرك فهو يمسك الاشياء الدائرة من حوله ، و هي بذلك ملحقة به ، إنها مغروزة في لحمه ، و هي جزء من تعريفه الكامل الأتمي ، و العالم مصنوع من نفس نسيج جسدي )).، و نفهم من ذلك أن الجسد وسيط إحقاق وجود الإنسان في العالم ، إذ من خلاله تتبلور "الحضورية في العالم " حضوري أنا كجسد في العالم ، لكن هاته الانتمائية التي يكسبنا إياها جسدنا ، يعبر عنها فن الرسم بصورة رمزية أو بطريقة رمزية .
لكن لماذا كل هاته الاشادة و التبجيل و الإهابة بفن الرسم ؟
اهتم موريس بفن الرسم اهتماما كبيرا و محوريا ، و من بين اهم الرسامين الذين عشقهم هذا الفيلسوف نجد "الرسام السويسري بول كلي " ، "و الرسام الفرنسي سيزان " إذ كان يذكرهما كثيرا و يستشهد بهما في كتاباته الظاهراتية .
1-""بول كلي"" : ينتمي إلى المدرسة الإنطباعية ، التي جاءت كرد فعل ضد التيارات السائدة في عهدهم ، و الشيء الأميز عند هؤلاء الانطباعيون هو التركيز على "الانطباعات" ، أي أن الرسام لما ينهمك في الرسم فهو يعبر عن انطباعاته ، و من بين أهم لوحاته الفنية " الملاك الجديد " .
3-""سيزان"": (cezanne) الذي ينتمي هو الآخر إلى المدرسة الانطباعية الجديدة ، وهو من الرسامين الذين نادو بضرورة اضفاء الدقة و الضبطنة على رسوماتهم ، و ذلك باستعمال الخطوط و الدوائر ، و هي التي مهدت فيما عبد لظهور المدرسة التكعيبية .
إذ يقول "بول كلي" ((إن الفن لا ينتج المرئي ، و لكنه يجعل الأشياء مرئية )) .، فقديما في غوابر الفلسفات و منها الافلاطونية ساد اعتقاد جزومي مفاده "" التفسير وفقا لنظرية المحاكاة " ، فالفنان حينما ينتج عملا فنيا معينا فهو يحاكي الحسي الماثل في الطبيعة ، و كذلك الأمر عند أرسطو الذي أقر بالمحاكاة معتبرا إياها سبيلا للتعلم أي بالمحاكاة نتعلم .
أما في فلسفات الأزمنة الحديثة انبجست مسألة الذاتية ، و أصبح الفن يتأسس في كنهه على "الذاتية " ، فمثلا ايمانويل كانط حينما يتطرق إلى العبقرية التي تقتضي الموهبة ، يعتبر الفنان هنا ليس فقط شخصية محاكية و ماثلية و إنما كذلك "مبدعة" ، أما هيجل فالفن يكتسي عنده طابعا تاريخانيا وفقا لمنظور تطورية الروح عبر التاريخ .
إن الفن وفق الاعتقاد "البول كلي " ليس محاكاة ، غذ أنه ليس مجرد إعادة انتاج الواقع ، و في هذا دحض و تفنيد لنظرية المحاكاة ، لأن نظرية المحاكاة هي في حقانيتها عبارة عن عرض للأشياء الموجودة في العالم ، أو بالاحرى مرآة عاكسة لماهو موجود في العالم ، إن ذات الفنان سالفا كانت تكتفي بعرض العالم كما هوموجود ليس إلا ؟؟؟.
لكن هل الفن بجمالياته الاستيطيقية هو مجرد عرض لما يحدث في العالم فقط ؟
إن الفن ليس عبارة عن عرض لما يحدث في العالم ، و إنما بغياه المثلى هي "التأسيس للمعنى"" . أي تأسيس لمعنى و حقيقة العالم .
إن الفنان ينتج الحقيقة و يعمد إلى صياغة أليثيا ، و لا يكتفي بعرضها فقط . إذ يتحدث موريس عن الرسام "سيزان " واصفا إياه قائلا (( إن الفنان لا يُحاكي المظهر ، و لكن سيزان يبحث عن "العمق السحيق " المنحجب المتواري ، إنه صورة لإنفجار الكائن و تخارجيته))و نفهم من كلام موريس أن الفنان ينقِّبُ عن "اللاتحجب" ، التواري ، التستر ، التدثر ، ...إنه يسعى للكشف عن الحقيقة المحجوبة المتخفية .، لكن يجب أن لا نفهم بان الكينونة المقصودة هنا هي على الشاكلة الهيدجرية ؟؟. بل هي كينونة ذات مدرج جمالي –استطيقي .
علينا الاقرار في النهاية ان الفن هو انتاج و ادراك و حذق للحقيقة ، و لهذا يصبح الفن مشاركا للفلسفة و مجانبا لها ، و تصير وظيفته من وظيفة الفلسفة .

3-الإستطيقا عند آرنيست كاسيرر
كانت لهذا الفيلسوف مكانة و حظوة جليلة في الفلسفة الألمانية المعاصرة ، إذ كان له السبق في اجراء حوار مع الأنطولوجي الكبير "مارتن هيدجر" في الثلاثينات من القرن العشرين ، وهو سليل أسرة يهودية ، و لما تملكت النازية زمام الحكم ، ارتحلوا إلى بلدان أخرى و على رأسها (و-م-أ)، و ينتمي هذا الفيلسوف إلى ما يطلق عليه "الكانطية الجديدة " (New Kantisme)، و كان من كبار شراح و حُذّاق الفلسفة الكانطية ، و لنا أن نذكر بأن هاته الكانطية الجديدة كان لها فرعان :
1-فرع مدرسة مـــــــــــــــــاربورغ .
2-فرع مدرسة هــــــــــــــــايد لبرغ .
و مدرسة "ماربورغ" كانت مصدر اشعاع فلسفي كبير ، اذ كان هيدجر من اعضاء المدرسة .
و كان للكانطية الجديدة حضور قوي في هذه الفترة . بالاضافة إلى فينومينولوجيا هوسرل ، و النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ، إذ كان هناك خلاف فلسفي كبير و نقاشات فلسفية حادة مع مدرسة فرانكفورت .
اهتم ارنست كاسيرر بالمسألة الفنية الجمالية ، و له مؤلفات كثيرة اهمها كتاب ظهر له عام 1923 ، بعنوان (( فلسفة الأشكال الرّمزيّة )) ، مكون من ثلاث اجزاء ، و لخصه في كتاب يحمل عنوان "Essai sur l’homme " .
يرتكز نمط كاسيرر في المطارحة الاستيطيقة على مفهومية ((Symbole)) أو "الرمزية" ((symbolisme)) ، و يعتقد ارنست كاسيرر بان كانط في جل مؤلفاته تطرق إلى مسائل مختلفة و لكن هذه المجالات تنصب في (( الرمزية )) ، لها تاريخ و بداية هي الميثولوجيا والاسطورة ، و يعتبر الفن شكل من أشكال الرمزية بالاضافة إلى الدين و الاسطورة و العلم ، و اللغة ، و الفن . و هاته الأشكال الرمزية بغيتها فهم العالم " ، و يكون فهمه بالأشكال الرمزية جميعها ((بالفن ، اللغة ، الدين ،’ الاسطورة ، العلم )).
فالفن وفقا للمنظور الارنستي هو ""رمزية "" ، اذ اقتنع كاسيرر بفكرة أن العالم "عبارة عن رموز " فحتى الرياضيات و العلوم هي عبارة عن رموز ، فالإنسان هو عبارة عن حيوان رمزي ، اذ تبدأ الرمزية باللغة و العلم و الدين و الفن .
لذلك ففعاليات الانسان هي عبارة عن نشاطات رمزية ، و هذا الكائن لا يتحدد في مقدراته الميتافيزيقية بل في بعده الرمزي ، معتبرا ان تعريف الانسان بأنه حيوان عاقل ، هو في الحقيقة تعريف ميتافيزيقي مرفوض رفضا مطلقا ، ليميل ميلا وضّاحا إلى تعريف الانسان بالحيوان الرمزي ، لأن سمة الرمزية تتضمن الفاعلية الإنسية .
و يقسم كاسيرر الفن إلى ثلاث مراحل هي =
1- الفن الأسطــــــــــــــــــــــــوري .
2- الفن التمـــــــــــاثـــــــــلــــــــي .
3- الفن الــــــــــــــرمـــــــــــــــزي .
* ساد الفن الاسطوري عندما كانت الاساطير تفهم العالم ، و هذا ما نجده عند اليونانيين ، و في هذه المرحلة لم يكن الفن مكتملا بذاته و إنما كان تابعا للأسطورة ، لأن الصورة الأسطورية سبقت الصورة الفنية ،إذ أنّ وظيفة الفن هو تمثيل الصورة الأسطورية .ثم جاءت مرحلة "الفن التماثلي " إذ لم يعد الفن تابعا للأسطورة و إنما قائم في لبه على محاكاة الطبيعة ، و إعادة انتاج ماهو قائم ، و هذا ما نتكنهه عند أفلاطون و أرسطو ، (الفنان يحاكي الطبيعة) ، ثم جاءت المرحلة الثالثة "الفن الرمزي" الذي يمثل اكتمالا للفن و بلوغه مرحلة يتجاوز فيها المحاكاة ، أو إعادة انتاج العالم الحسي ، و انما يستعمل الرموز في التعبير عن الصورة الفنية ، إنها مرحلة الترميز (Symbolisme)، و هنا يصل إلى معنى العالم ، و هذه الرمزية لا تنفصل عن الحرية ، و تبدأ هذه المرحلة مع ايمانويل كانط لأنه جاء بفكرة الذاتية .إذ ان الكانطية لها موقف من الجمالية و الفن ، و مكانة كانط مركزية . و قد تجلى كاسيرر هذا الجانب ، الفن كما كان سائدا في الرؤى القديمة ، و بعد مقدمات مع ديكارت و بومغارتن و حين نصل إلى كانط نعتبر المرحلة حاسمة بحكم النظرية القديمة كانت مرتبطة بالمحاكاة في الفن و هي التي نجدها عند أفلاطون و أرسطو اللذين يرتبطان بفضاء معرفي واحد هو الاغريقي .فالنظرة السائدة عند اليونان تروي هي تعبير عن الكون من حيث انسجامه بمعنى ان الكون متكامل ، و منسجم و ما على الكون إلا أن يعبر عن هذا الانسجام سواءا في كيانه المصغر أو المكبر ، كما انه في العهد الاغريقي لم تكن هناك أسماء ألمعية للفنانين لأنه لم يكن مرتبط بالذاتية بل بالنظرة الكليانية الشمولية ، و لم يكن يعبر عن عبقرية معينة و الفن كون صغير في مقابل كون كبير ، و الفنان يعبر عن هذا الانسجام و ليس المطلوب منه أن يبدع بل يحاكم ، فالفن لا يعبر عن ذاتوية معينة بل عن حقيقة متمظهرة في الكون ، اما عند المسيحية تصبح الحقيقة تعبير عن الحقيقة اللاهوتية ، و يصبح الفن محاكاة للحقيقة اللاهوتية الثيولوجية ، و عندما يظهر كانط يصبح الفن تعبير عن ذاتية ((عن ذوق و مشاعر عن أحاسيس ))، و يصبح محاكاة للأشياء الخارجية و هنا تبرز مكانة الذات باعتبارها تنتج الفن من ذاتيتها ، و الفنان لا يعبر عن جمال مرتبط بحقيقة كونبة أو إلهية بل بما يشعر به و ما يتذوقه ، إنه نوع من الإناسة الفنية (أنسنة الفن و جعله يأخذ بعدا ناسوتيا ).
اذن فالفن كان له طابع موضوعي سابقا ، ثم اخذ طابعا ذاتيا .
لهذا تصور ارنست كاسيرر نظريتين لتفسير الفن و الجمالية =
1- نظريات موضوعاتية ( تنتمي للنمط الافلاطوني و الأرسطي المحاكي للأشياء الخارجية)
2- نظريات ذاتوية (تمثل تحولا حاسما في تاريخ الجمالية ، و التي رفضت المنظور الاغريقي الموضوعاتي المحاكاتي ، و قالت بأن العمل الفني مرتبط بالذات و مخيالها ، اذ الفنان لا يحاكي العالم المحسوس بل يعبر عن ذاته و مشاعره .
--و لكن ما استرهب ارنست كاسيرر و توجس منه هو أن ينتقل الفن من محاكاة للعالم الخارجي البراني ، و يستبدل بالعالم الداخلي (الجواني)، برغم كونه من الكانطية الجديدة إلا أنه يتحفظ من المطارحة الكانطية الذاتوية في المسالة الفنية الجمالية .
صحيح أن هناك نقلة من محاكاة العالم الخارجي إلى العالم الداخلي ( اذ ان الذات كانت غائبة عند اليونان ) ، و على النقيض من ذلك عند ارباب النظرية الذاتوية ، فقديما إما أن يتماهى الفنان في الكوسموس أو يتماهى في اللاهوت ((الجداريات في الكنائس)) و لنا في "مايكل انجلو" خير دليل ، بخلاف ما ساد في الازمنة الحديثة أين اصبحنا نتحدث عن الفن من خلال الفنان ، فنحن نعرف اسم الفنان في اللوحة الفنية اذ اصبحنا
أمام الفنانين و لي أمام الفن ، و الفن ارتبط بأسماء ، و كاسيرر ينبهنا قالا "" النظريات الذاتوية التي تعبر عن العواطف و الأحاسيس قد تنتقل من محاكاة العالم الخارجي إلى محاكاة العالم الداخلي .
اذن ما الحل يا ارنست كاسيرر ؟؟
حتى لا نقع في مطبات المحاكاة بنوعيها (محاكاة العالم الخارجي ) ، و(محاكاة العالم الداخلي ) ، يقدم لنا كاسيرر حلا هو ((عالم الأشكال الرمزية)) ، فللتحرر من الأبعاد الداخلية و الخارجية للميتافيزيقا يرى كاسيرر أن الفن يرتبط بالأشكال الرمزية ، و هذه الأشكال ليست من ابداعه هو ، لأن لدينا فنانين معاصرين اقتدروا أن ينقلوا الفن إلى مجاله الرمزي ، و هذا ما جعل كاسيرر يتعلق شديد التعلق بالتجريديين لأنهم اقرب الى الاشكال الرمزية .

4-الإستطيقا عند جيورج لوكاش (1880-1971)
حقيقة لم يحض هذا الفيلسوف المّجَرِّي بكثير دراسة برغم الاهمية البالغة التي يكتسيها في الدراسات الجمالية المعاصرة ، و له تأثير كبير على الكثيرين خصوصا في وقتنا الحالي ، و من أبرز المتأثرين به لوسيان غولدمان ، لنا أن نقر بانه لا يمكن عزل لوكاش عن المجال الساساتي و السوسيولوجي الذي عاش فيه ، فهو فيلسوف ماركسي ، ووصل إلى الماركسية في مرحلة لاحقة، و المجر في تلك الفترة كانت لها صلة وثيقة بالألمان لهذا كانت الثقافة الالمانية و لغتها مسيطرة بصورة كبيرة، درس لوكاش في جامعات المانية ، و هناك ترنيمة خالدة في الذهنية الجرمانية في منحاها التاريخي و السايسي هي ترنيمة ثورة 1917، في الاتحاد السوفياتي ، و صارت براديغما يحتذى به من لدن جمهور المثقفين ، خصوصا الالمان منهم ، و التأثير كان أبلغ عند الفيلسوف
غيورج لوكاش ، بالاضافة الى جماعة مدرسة فرانكفورت ، اذا ما نحن تطارحنا المنحى الفلسفي نجد لوكاش متواجدا في جو "الكانطية الجديدة " ، الفينومينولوجيا ، الهيرمينوطيقا ، الماركسية ..الخ، بالاضافة الى تيارات فلسفية كثيرة سادت في تلك الفترة ، و غيورج لوكاش مرّ بمراحل =
-تأثر بالكانطية الجديدة خصوصا في مرحلة شبابه ، كاسيرر و كوهان ...و حضورهم كانا مدويا في الساحة الفلسفية ، ثم تأتي المرحلة التي تأثر فيها بالفيلسوف "دلتاي" ثم ينحو سالكا نهج الهيجلية ، ثم الماركسية كتتويج أخير ، و حينما نتحدث عن هذه المراحل نتجلى تداخلا ، زد على ذلك هناك انفتاح كبير مقارنة بالماركسيين الارثوذكسيين و بقي فكره متأصلا في الفكر المثالي الألماني ، و أهمية هيجل في كونه مهّد للدياليكتيك ، لكن سرعان ما صحح ماركس مسار الهيجلية الجدلية طبعا .
-لوكاش يقول بأن لهيجل "الجدل" فقط ،بل له أشياء اخرى لابد من الرجوع إليها "هيجل الشاب" ، لكنفكر لوكاش هيجلي-ماركسي ، و لنا أن نعتبر بأن لوكاش ألف الكثير في مجالات مختلفة سواءا في الفن ، السياسة ، الأدب ، و له كتاب مهم و مركزي بعنوان (( الروح و الأشكال )) ، (( نظرية الرواية )) ، ((التاريخ و الوعي الطبقي )) ، (( هيجل الشاب)) ، ((وجودية أو ماركسية *رد على سارتر))، ((معنى الواقعية الجديدة ))، (( بلزاك و الواقعية الفرنسية ))، ((تحطيم العقل)) ، ((الخصوصية كمقولة جمالية ))، لهذا يطلقون عليه ب(( ماركس الجمالية )).

**فهم الجمالية اللوكاشية:
لا يدان لنا بحذق الجمالية اللوكاشية بمنأى عن الماركسية ، لأن كثير من مطارحاته تبدأ من ((كارل ماركس)) ، و حتى لا نتيه في غياهب الكتابات اللوكاشية الكثيرة و المتشعبة فحقيق بنا من باب النباهة أن نعرج لإشكال مركزي عند كارل ماركس والذي حاول لوكاش حلّهُ ، حينما نعود إلى كتاب ماركس "نقد الاقتصاد السياسي" نجده يعرج عن المسألة الجمالية الفنية إذ يقول (( إن نمط انتاج الحياة المادية هو الذي يحدد لنا الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية عموما ، فليس وعي البشر هو الذي يحدد لهم وجودهم ، بل العكس من ذلك ، أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ))، و من ثمة فالفن يتحقق بالواقع المادي ، البنية الفوقية تعني "جملة النشاطات الفكرية و الفنية و القانونية و الاخلاقية و الايديولوجية و الدينية " ، و باعتبار الفن جزء من البنية الفوقية ، يتأسس بالمجال المادي الواقعي الاقتصادي .اذن فكل فن عبر تطوره يرتبط لزوما بسياق اقتصادي ، مادي معيّن، و كل فن يرتبط بمرحلة اقتصادية معينة (فن اقطاعي ، راسمالي ، اشتراكي ...) .
-لكن كارل ماركس انتبه إلى إشكالية مهمة ؟
-هناك فن ينال تقدير البشرية جمعاء . و لكأن هذا الفن لا يتطور بتطور الإقتصاد الاشتراكي فقط ، و الاغريق قديما خلّدوا فنونا رائعة ، التراجيديا ، و نحن إلى اليوم لا زلنا معجبين بالترجيديا اليونانية ، إنها مرتبطة بالتاريخ ، و لكأن هذا الابداع الفني الاغريقي قد تجاوز اطاره و زمانه و انتقل الى الكونية و العالمية .
-عند ماركس كيف نفسر خلود هذا الفن الاغريقي على ممر التاريخ ؟
كان من الاجدر أن لا يخرج الفن الاغريقي عن الاطار الاجتماعي اليوناني ((العمل حيث كان خاصا بالعبيد )) ، البنية اليونانية غير عادلة ، فكيف نفسر فن هذا المجتمع و اكتسائه طابعا فنيا عالميا ؟
كيف له ّأن يتجاوز سياقه التاريخي و قيمته الأبدية ؟و هذه لا نجدها إلا في الفن .
لوكاش يسعى لإيجاد حل ، كيف يمكن للفن أن يكتسب صفة الخلود و الابدية و صارت مخزنة و محفوظة داخل المتاحف .
-من الاصطلاحات التي تطارحها لوكاش في جانب الاستطيقا خاصته "مصطلح الكلية"(التوتاليتي)’la totalité’، و هو مصطلح مركزي عند الفيلسوف ...لكن لماذا ؟
طبعا ...الكلي في مقابل الجزئي ، لكن لماذا هذا المصطلح بالذات ؟ .
لأن هذا المصطلح له تجذرية سباقة في الإرث الفلسفي الألماني المثالي ، فلوكاش لم ينطلق من فراغ ، فقبل ماركس كانت هناك مطارحات مثالية ألمانية ، قبل هذا المنعطف بمنحى الماركسية كانت هناك احالات لمثالية هيجل و فيخته و شلنج...الخ
-مصطلح ((الكلية )) كان له دلالة عند هيجل ، و تعني أنه حينما تتحقق الوحدة بين الذاتي و الموضوعي يزول التناقض ، تتحقق الوحدة ، تتحقق المصالحة في العالم و من ثمة تتحقق " الفكرة في التاريخ"، فالكلية هي وحدة الذاتي و الموضوعي ،.
إن "الكلية" تحققت عند الاغريق "اليونان اقتدرو أن يحققوا الكلية " لكن ماهي الكلية عند الاغريق ؟
إن "الكوسموس" عند الاغريق هو نظام و انسجام الاجزاء ضمن الكلي و الحق و الخير و الجمال يتحقق بهذا الانسجام الكلي ، ومن هنا تنطلق كل عناصر الكون منسجمة مع بعضها البعض في الكل ، ووظيفة الفرد هي أن ينسجم مع الكلي ، و لكن بعد ذلك حصل الانشطار و التمزق ، و نهاية الكلية المنتظمة و المنسجمة .
لكن لماذا فقدت الوحدة الكلية و حصل التشذر ؟
مرد ذلك = إلى الحداثة الغربية الأوروبية ، هاته الاخيرة التي ساهمت في الانشطار ، فعند الاغريق كانت الذات منسجمة مع الكون ، لكن مع الحداثة صارت هي المتحكمة و ليست توافقية ، و صارت الذات تتسلط على الطبيعة ، و ديكارت يعتبر الذات مالكة للطبيعة ، و صارت متجهة بمنحى المنفعة و المصلحة المادية بالدرجة الاولى ، لكن مع الحداثة تشرذمت الكلية و انشطرت .
لنا ان نضرب مثلا بالجسم الاغريقي فهو يعبر عن الانسجامية أما عصرنا فأصبح صورة عن الانقسام و الشتات ، و عبّر لوكاش عن الكلية بالانموذج الاغريقي و أراد أن يعبر عن العلاقة بين الناسوت و اللاهوت .
هناك نوع من النوستالجيا عند لوكاش للبراديغم الاغريقي حيث كانت الذاتية منسجمة و متوافقة و مؤتلفة مع الكلية .، لابد لنا ان نستحضر الكلية الاغريقية لنتجاوز دهمائية التشيؤ ، وبحكم أن لوكاش سيعمد للتعبير عن الشرخ الذي اصاب الازمنة الحديثة ب""الاغتراب"" ، فكان المصطلح الانسب هو ((التشيؤ)) ، و خاصة في جانبها الرأسمالي حيث عُرّضت الانسانية للاختلالات و التصدعات و هذا ما عبر عنه ب"التشيؤ" ، و هاته الكلية ستكون محاولة رائقة جدا لتجاوز التشيؤ و استعادة الكلية الضائعة و بالتالي يتحقق الانسجام بين الانسان و العالم أو بين الذات و الموضوع .

-لكن هل استرجاع هاته الكلية يكون عن طريق الملحمة كالتي نهجتها اليونان ؟.
جواب "لوكاش" كان وضاحا بيّنا =هذه الرؤية غير واردة بتاتا و زمنها قد ولى ؟؟؟
إن استعادة الكلية من الناحية الفنية الجمالية يكون عن طريق "الرواية" فهي الشكل الأمثل الذي من خلاله تستعيد البشرية الكلية، لكن لوكاش يعرج في كتابه " التاريخ و الوعي الطبقي " بأن الكلية لا تتم فقط في الرواية و إنما أيضا في "السياسة" و ذلك عن طريق وعي الطبقة العاملة (( إذ تتحقق الكلية عن طريق البراكسيس الثوري )).
لكن لماذا الرواية بالذات ؟
لوكاش يعتبر بان الملحمة كانت تعبيرا عن الانسجام و الوئام بين الفرد و المجتمع ، بين البشر و الآلهة ، على اعتبار أنه لم تكن هناك هوة بين الفرد و المجتمع ، و بين البشر و الآلهة ، فالكل يشكل وحدة متلاحمة ، لكن في زماننا هذا و خاصة منذ الحداثة أصبح العالم يعرف انشقاقات و شروخات بين الانسان و المجتمع ، بين الانسان و الطبيعة ، فرار اللاهوتيات كالتي عند الاغريق . إن الشكل الروائي هو الاصلح من ناحية كونه انعكاسا لعالم متصدع ، متقطع ، مفتت و مشروخ .
إن الرواية هي تعبير عن تمزق الكلية و في هذا ظهر كتاب "نظرية الرواية " اذ يتحدث فيه عن انماط عديدة من الرواية لكونها مرتبطة بالنقاد الادبيين ، فهناك رواية ذات طابع تجريدي ..الخ ، حقيقة فالشكل الروائي هو الاقدر على التعبير و البوح بأسرار هذا العالم الممزق في وقت أصبح فيه الإنسان عبارة عن ((شيء)) ، فالرواية هي الأقدر فنيا من حيث شكلها الفني على التعبير عن هذا التمزق ، اصبحت اكثر تعبيرا عن مختلف اشكال التراجيديا الممكنة ، فالملحمة فيها عناصر عديدة (الهة ، ابطال ، سحرة ...الخ )، لكن الرواية دائما فيها ((البطل الإشكالي))؟؟؟؟؟؟.
و لس البطل الملحمي ، لأن البطل في الملحمة إنما هو طرف و ليس ملحمي ، لكن في الرواية البطل ""اشكالي"" ؟ ، يصبح هو المركز ، لأنه قادر على التعبير عن القيم التي تتجاوز العالم المشيأ ، فحتى و ان كان ماركس مفتتنا بالملحمة الاغريقية فلوكاش عاشق لها كذلك .
درس لوكاش نماذج عديدة من الروائيين نشيد بالذكر منهم "دوستويفسكي ، دولتسوي ، غوته ، ..الخ.، ثم يطورها حينما سيعرف الانعطافة بمنحى ماركس .ففي وقت كانت فيه البشرية بأمس الحاجة إلى التغيير ، و الدعوة إلى الوحدة و الوئام و الاتفاقية و التلاحم ، كان ينظر حينها للماركسية على أنها مجرد أداة و كان يؤمل أن تكون البديل التغييري ، فلوكاش حذق هاته الانعطافة باعتبار الماركسية هي الصورة المثلى لاحقاق هذه الكلية ، لأنها كلية تحقق الانسجام بين الكل ، و الماركسية كانت تمثل حالة من الكلية ، و النقلة الى الماركسية و كتاب "الوعي الطبقي" مكّنه من تعميق مدلول الكلية ، لأن هذا المفهوم و مصطلح التشيؤ يمكن ان يعبر عن مختلف أشكال و مظاهر الضياع و التشتت و الشرخ الذي اصبحت تعانيه البشرية في ظل المجتمع الرأسمالي و في ظل الحداثة الرأسمالية المتوحشة ، و مدلولاتها المتأزمة ، و حينما يحذق الانعطافة يكتب "التاريخ و الوعي الطبقي" و يبيّن من خلاله امكانية تحقيق "الكلية الاجتماعية" ، لكن لا يمكن تحقيقها على المنحى التكاملي و التصالحي إلا عن طريق ((الذات التاريخية)) التي هي البروليتاريا ، و يتجاوز بذلك هذا الانشطار القائم و يجب ان تساهم الرواية و تلعب هي الاخرى دورها الفاعل ، ثم نثب مع لوكاش بمنحى ((الفن الملتزم)) ، ففي المرحلة السالفة لم يتحدث لوكاش بعد عن الرواية الملتزمة ، بل نظر للرواية على أنها الفن المعبر عن هذا الشرخ ، و لكن في هذه المرحلة لم يعد يعبر بل اصبح يتجاوز هذا الشرخ فكيف تأتى له ذلك ؟
إن الفن لن يستطيع أن يلعب أي دور إلا اذا كان ملتزما . و في هاته المرحلة وجد نفسه بحكم كونه فيلسوفا متخصصا في الجماليات و الرواية نوعا من الاشكال بخصوص الفن الملتزم ؟؟، فالماركسية تحدثت عن الفن الملتزم ، و من منظور الماركسية السوفياتية كانت ترى أن الفنان يسهم في تحقيق هذا التجاوز عن طريق الفنان الذي يعكس في فنه الواقع ، ثم يعبر عن المنحى أو البعد الثوري في فنه .، ((مثلا قيم الاشتراكية المتبلورة في العمل و الانتاج يعمد الفنان إلى تبنيها فنيا )) ، اذ الفن انعكاس لقيم ساساتية و اقتصادية و سوسيولوجية يعبر من خلالها عن فنه و المنهج المطبق هو "الواقعية الاشتراكية " فتكون الماركسية الارثوذكسية سائرة على هذا المنحى .
كما نجد كذلك جانبا متعلقا بالرواية التاريخية و فيه ركز على الرواية ، و لكن ضمن سياقها التاريخي و هذا بغية الاندراج ضمن السياق الماركسي ، اذن لوكاش بقي متشبثا بآرائه السابقة و لكن رغم ذلك إذا ما قارنّا بينه و آدورنو في مسألة الفنية نجد هناك تشابها و تقاربا كبيرين و مع ذلك يختلفان خصوصا فيما يتعلق بالكلية .اذ ان ادورنو يتحدث عن الجزء باعتباره الاهم و ليس الكل .








#كمال_طيرشي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الحرية سالبة أم موجبة؟: تأملات فلسفية حول مفهوم الحرية عن ...
- مراجعة في كتاب: المجمل في فلسفة الفن لكروتشه بقلم الباحث كما ...
- مراجعة نقدية لفيلم : - أم Mother !-
- مفاهيم متشابكة حول المثقف عند المفكر عزمي بشارة
- فلسفة الإيمان عند عزمي بشارة
- قراءة في كتاب :أخلاقيات التواصل في العصر الرقمي – هبرماس أنم ...
- مفاهيم حول الدين و علاقته بالأخلاق عند عزمي بشارة (الجزء الأ ...
- في مفهوم الأسطورة و الأرموزة عند عزمي بشارة
- عزمي بشارة الفيلسوف الثائر (الحلقة الأولى)
- الفضية الفلسطينية فوق كل حاقد و ضد شبيحة الأسد و شرذمة بقايا ...
- قراءة في كتاب : النظام المعرفي عند مشال فوكو


المزيد.....




- رد حازم من ترامب على احتمال إعادة تفعيل إيران لبرنامجها النو ...
- ترامب يرجح التوصل إلى اتفاق بشأن غزة الأسبوع المقبل
- ترامب يعرب عن استيائه بعد مكالمة مع بوتين
- القسام تؤكد قتل جنود إسرائيليين في عملية بخان يونس
- ترامب: إيران لم توافق على التفتيش والتخلي عن تخصيب اليورانيو ...
- تغير المناخ يضاعف موجات الحر.. كيف تتأثر أفريقيا؟
- العمود الزلق.. تقليد إنكليزي سنوي غريب يتحدّى الشجاعة ويُشعل ...
- الإمارات.. مستشار رئاسي يبين ما تحتاجه المنطقة بتدوينة -المن ...
- بعد رد حماس.. ترامب -متفائل- بشأن وقف إطلاق النار في غزة الأ ...
- -لا أعرف من يمكن الوثوق به-، دروز سوريا قلقون من التهميش ما ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كمال طيرشي - قراءات فلسفية في الإستيطيقا المعاصرة