أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مروان عبد الرزاق - صراع المتشابهات في سوريا(الجزء الثاني)















المزيد.....



صراع المتشابهات في سوريا(الجزء الثاني)


مروان عبد الرزاق
كاتب

(Marwan)


الحوار المتمدن-العدد: 5841 - 2018 / 4 / 10 - 16:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صراع المتشابهات في سوريا: (الجزء الثاني)
الجزء الثاني، يتضمن:
- البحث في بنية الطبقة السياسية التي استلمت السلطة بعد الاستقلال، والتوقف عند أهم الصراعات السياسية والعنيفة، بعد سيطرة حزب البعث على السلطة، منذ (١٩٦٣). وصولاً إلى دور هذه الطبقة بعد الثورة. واستنتاج العلاقة بين الفاعل الوطني الديمقراطي، والعامل الطائفي.
- البحث في العوامل التي ساعدت على صعود الأصولية السلفية والجهادية، بعد ثورات الربيع العربي، وسيطرتها على الساحة، وخاصة في سورية وهي المكان المدروس، بشكل خاص.
- ماهي الآفاق للخروج من النفق، والسيناريوهات المتوقعة للمستقبل؟
- كتابة النتائج العامة للبحث.
وسيبقى المنهج التاريخي هو المتبع في دراسة الطبقة السياسية القديمة، بالإضافة إلى المنهج الوصفي التحليلي لتفسير الواقع الراهن، ودراسة دور هذه الطبقة بعد الثورة، والعوامل التي أدت إلى صعود ظاهرة الطائفية، وسيطرة الأصوليات على الساحة.

1- مقدمة-النهضة والقومية
في القرن التاسع عشر وهو الأخير من عمر الخلافة العثمانية، وتدخل الغرب في شؤون الخلافة، برز إلى السطح رواد "النهضة العربية"، كما جرت العادة على تسميتهم، مثل: رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، وجمال الدين الافغاني (1838-1897) في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) في حلب، وبطرس البستاني (1819-1883) في لبنان..إلخ . والذين تأثروا بالحضارة الغربية، واُعجبوا بها، وخاصة الثورة الفرنسية. وقد لعبوا دوراً هاماً في نشر التعليم والثقافة والصحافة، وفي نقدهم للاستبداد.. وقد دفع قسم منهم حياته بسبب نقده لاستبداد الخلافة، مثل الكواكبي الذي مات مسموماً، والافغاني الذي مات منفياً.
إلا أن هذه النهضة لم تكتمل. وكانت تتجاذب رواد النهضة نزعتان: الأولى الإعجاب بالثورة الفرنسية، والدعوة إلى إقامة دولة حديثة تقوم على الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، كما دعا بطرس البستاني وفرح أنطون (1874- 1922)، آنذاك. والاتجاه الآخر، وهو الأغلبية، الذي كانوا مع الخلافة ضد التدخل الأوروبي. كما أنهم بالأساس لم يعتبروا أن العرب تحت الاحتلال العثماني. وكانت دعواتهم موجهة لإصلاح أمور الخلافة، وبالحكم اللامركزي، بالإضافة إلى نقد الاستبداد. وكانت الدعوات التجديدية تهدف إلى تخليص الدين من الجهل والشوائب التي لحقت به، وذلك بالعودة إلى نقاوة الإسلام الأولى. وليس تجديد الدين حتى يتوافق مع العصور الحديثة.
ولذلك لم تكتمل النهضة لأنها لم تعمل على القطع السياسي، مع مؤسسة الخلافة السياسية-كما فعل ورثة الخلافة في تركيا، بإقامة النظام الديمقراطي العلماني- وبذلك تم الحفاظ على البنى التقليدية الاجتماعية الطائفية والقبلية في المجتمع. وبقيت حركة النهضة، نخبوية، لا أهمية لها باستثناء الثورة "العرابية"(1881-1882) في مصر التي دعت إلى "ملكية دستورية"، والتي لم تدم حكومتها لأكثر من عام، وانتهت بالاحتلال البريطاني لمصر.
و"اليقظة" القومية العربية التي جاءت رداً على سياسة "التتريك" للعرب في العقد الأول من القرن العشرين، لم تكن أفضل حالاً من "النهضة"، ولم تحقق أي نقلة نوعية لمستقبل العرب.. ورواد القومية العربية أيضاً لم يخرجوا من عباءة العثمانيين. حيث لم يدعُ رواد القومية إلى الانفصال عن العثمانيين. إنما دعوا إلى حكم ذاتي للولايات العربية، واعتبار العربية لغة رسمية إلى جانب التركية، كما ورد في قرارات "المؤتمر العربي الأول في باريس (1913)".
ولا شك بأن إشكالية العلاقة بين الإسلام والقومية الحديثة، جعلتهم يرتدون الخلف، إلى الإسلام السياسي الممثل في الخلافة، أو التجديد الديني الذي يتمثل بالعودة إلى الأصول النقية للدين. ولم ينجُ من لوثة إشكالية الدين والحكم، أو الدين والدولة القومية الحديثة، سوى بعض الرواد الذين لم يكونوا قادرين على تشكيل ظاهرة اجتماعية-سياسية لافكارهم التنويرية.
وحتى "ساطع الحصري"، وهو أحد مؤسسي القومية العربية، ويوصف بعلمانيته لفصله القومية عن الدين. إلا أنه لم ينجُ من لوثة الطائفية ضد الشيعة العراقيين، حين كان مديراً للتربية في العراق خلال العهد الفيصلي، وكما تشير العديد من الدراسات التاريخية للمفكرين العراقيين. (عبدالخالق الحسين-
ولذلك بالعموم بقيت حركة رواد القومية وجمعياتهم نخبوية، ولم تتشكل حركة قومية سياسية شعبية تعمل على الاستقلال وبناء الدولة القومية الحديثة. والثورة العربية الكبرى (1916)، بقيادة الشريف حسين بن علي، لم تكن ثورة القوميين العرب، كما يتغنى بها الكثير من المؤرخين العرب. لأنها لم تنهض بالأساس بدوافع قومية، حيث الوعي القومي العربي لم يتبلور بعد. ولم تتجاوز مستوى الشعور بالتذمر من الاضطهاد القومي التركي آنذاك. إنما قامت الثورة بتحريض ودعم وهيمنة من بريطانيا، التي كانت تريد طرد العثمانيين من المنطقة، بقصد السيطرة عليها بالاتفاق مع فرنسا.
ومن حيث النتيجة، إن فشل رواد النهضة في التأسيس لثقافة جديدة محورها الحرية وحقوق الإنسان، ثم فشل المشروع القومي العربي، في إقامة كيان سياسي قومي حديث، أدى إلى استمرار البنى الاجتماعية التقليدية، الدينية، والطائفية، والعشائرية، والتي تتغذى جميعها من الأيديولوجيا الدينية، من الموروث التاريخي القديم.
ولا شك بوجود العديد من الأسباب لعدم اكتمال النهضة العربية والمشروع القومي، كما يعرضها الباحثون. وهذا ليس موضوع بحثنا هذا. إنما يجب التأكيد على السبب الرئيس الداخلي، وهو أن البناء الجديد لم يكن متوجهاً نحو هدم القديم إنما إصلاحه، وهو غير قابل للإصلاح. وأقصد بهدم القديم ليس هدم الدين ومؤسساته، إنما إبعاد الدين عن السياسة، والتأسيس لدولة ديمقراطية علمانية كما دعا إليها رواد الأنوار الأوروبيون وتم بناؤها منذ انطلاقة الثورة الفرنسية (1789).
2- الاستقلال
"عندما نالت سوريا استقلالها عام (1946)، كانت دولة في كثير من النواحي، دون أن تكون أمة، وكانت كياناً سياسياً، دون أن تكون مجتمعاً سياسياً"(١). حيث كان الشعب السوري ممزقاً بين ولاءاته الطائفية الداخلية من جهة، والانتماءات القومية والإقليمية من جهة أخرى.
وكانت الطبقة السياسية حديثة الولادة ممزقة بين التيار الوطني التقليدي، أو الكتلة الوطنية بزعامة إبراهيم هنانو التي عملت على الاستقلال، والتي انبثق عنها: (الحزب الوطني-يمثله: شكري القوتلي. وحزب الشعب (1948) -يمثله ناظم القدسي، ورشدي الكيخيا). والتيار القومي ممثلاً بحزب البعث (ميشيل عفلق وصلاح الدين بيطار)، والعربي الاشتراكي (أكرم الحوراني). والإخوان المسلمين –المراقب الأول (١٩٤٥) مصطفى السباعي- الداعين لبناء الدولة الإسلامية . والحزب الشيوعي –ويمثلهم خالد بكداش- الأممي المرتبط بالاتحاد السوفيتي. والحزب السوري القومي الاجتماعي-أسسه أنطوان سعادة في لبنان،١٩٣٢ الداعي إلى وحدة سورية الطبيعية، أو الهلال الخصيب.
ويمكن للدارس لواقع وبرامج هذه الاحزاب أن يلاحظ:
أولا: أن جميع هذه الاحزاب لم تُدرج في برامجها الحرية والعدالة والديمقراطية الليبرالية، سوى حزب الشعب الذي ضم مجموعة من المتنورين الليبراليين، والذي انشق عن الكتلة الوطنية (1948)، ودعا إلى الديمقراطية، وإلى الحرية بكافة أنواعها، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الثروة أو الدين أو المذهب، والفصل بين السلطات، بالإضافة لدعوته للوحدة العربية، وخاصة الوحدة مع العراق، استجابة لمصالح البرجوازية في مدينة حلب (٢). ولكنه لم يكن حاسماً في توجهاته، نحو الانتقال من "دولة-مجتمع" اقطاعي إلى "دولة-مجتمع" برجوازي ديمقراطي. إنما كان يشكل مع الحزب الوطني الواجهة السياسية للإقطاع والتجار والبرجوازية الكولونيالية في مدينتي حلب ودمشق. وقد انحسر وجودهم مع قيام الوحدة وإصدار قانون حل الاحزاب. ثم انتهى وجودهم مع انقلاب البعث (1963).
إن عجز الاحزاب "البرجوازية-الاقطاعية"-الوطني والشعب- وفشلها في الاستجابة إلى أهم الاستحقاقات الوطنية في تلك المرحلة وهي: المسألة الزراعية، وإنهاء دور الاقطاع التاريخي من جهة، والمسألة القومية التي بدأ يتنامى الشعور الشعبي بها بعد هزيمة (1948) مع إسرائيل، من جهة ثانية، هو الذي أفسح المجال أمام تنامي دور الأحزاب الأخرى، على الرغم من أن هذين الحزبين كانا يتصدران المشهد النيابي في جميع الانتخابات. وهذا بدوره أدى إلى انحراف المسار التاريخي الطبيعي لسورية، أي الانتقال من المرحلة الاقطاعية، إلى المرحلة البرجوازية الديمقراطية. وهذا الانحراف تم على يد أنصار الوحدة المصرية السورية (1958-1961)، ثم انقلاب البعث.
ومن المفيد الذكر أن دستور (1950) الذي وضعه ليبراليون درسوا في فرنسا واطلعوا على الكثيرمن الدساتير الأوروبية، كان دستوراً ديمقراطياًحديثاً، إلا أنه لم ير النور على الأرض. كما أنه عبر عن فشل "الطبقة" السياسية-إن صح التعبير-آنذاك في تثبيت مسائل هامة في الدستور وهي: حل المسألة الزراعية وتحديد سقف الملكية لصالح الفلاحين، وعدم تدخل الجيش في الحياة السياسية. وهذا يُشير إلى هشاشة السياسيين الذين رسموا الدستور الديمقراطي، دون أن يكون له حامل سياسي-اجتماعي فعلي. أقصد أحزاباً ديمقراطية برجوازية ويسارية وقومية. إلخ. إنما بالعكس كانت هذه الأحزاب تشترك مع بعضها، سواء كانت قومية، أو إسلامية أو، شيوعية، أو ليبرالية، بأنها انقلابية، وكان الصراع على السلطة هو الهدف، وأن أيديولوجيتها كانت عابرة للوطنية السورية. ولم يكن الهدف بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
وثانياً: إن هشاشة "الطبقة" السياسية، تعود أيضاً إلى أن أغلب الأحزاب كانت تعكس مصالح إقليمية أو محلية، وأن "مؤيدي تلك الأحزاب تركزوا في مناطق معينة." مثل حزب الشعب والذي كان يمثل وجهاء حلب وحمص (ناظم القدسي ورشيد الكيخيا), والحزب الوطني يمثل وجهاء دمشق(شكري القوتلي)، وأكرم الحوراني في ريف حماه، وحزب البعث في ريف اللاذقية، والحزب الشيوعي بين الأكراد.
وكما لاحظ نيقولاوس أن "الجماعات السياسية بغض النظر عن آرائها السياسية غالباً ما تكونت من خلال قنوات اجتماعية تقليدية، وهذا الأخير مسؤول إلى حد كبير عن استمرار وجود الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية في الحياة السياسية السورية"(٣)
وثالثاً: هذه الهشاشة في "الطبقة" السياسية، وفي المجتمع عموماً، والتنافس الإنقلابي على السلطة، هو الذي جعل من الجيش الأداة الأهم في الحياة السياسية، وانقلاباته المستمرة والتي بلغت عشرة انقلابات بين عامي (1946-1970). بمعدل انقلاب كل عامين.
3- المعارضة السورية
محطتان للعنف
يمكن فرز المعارضة في سورية بعد استيلاء حزب البعث على السلطة (1963)، إلى معارضة إسلامية ممثلة بالإخوان المسلمين، ومعارضات غير إسلامية (يسارية وقومية). والحدثان البارزان في تاريخ الصراع المسلح على السلطة في (1964و1980)، كانا من صنع "الإخوان المسلمين" الجهاديين.
والمحطة الأولى للعنف: هي احتجاجات(نيسان-1964).
بعد انقلاب (١٩٦٣)، أصبحت الرموز الاقطاعية-البرجوازية المتمركزة في المدن الكبرى، حلب ودمشق وحماة العدو الأول للنظام الجديد. بسبب فقدانها لثروتها بموجب قوانين التأميم والإصلاح الزراعي، وأيضاً إبعادها عن السلطة السياسية.
ترافق ذلك مع التقاء "الهويات القاتلة" في الساحة. أقصد النظام والذي بدأت اعمدته الطائفية (العلوية) تبرز بوضوح، من جهة، و"الإخوان المسلمين" من جهة ثانية، والذين نصبوا أنفسهم كتعبير سياسي عن الطائفة (السنية)، وقد تم حظر نشاطهم منذ بداية (1964). وبحسب مذكرات "أكرم الحوراني"، فإنه كان يعلم بقدوم الانفجار، وأن "الاشتراكيين العرب" بزعامة الحوراني رفضوا المشاركة في العنف، وكانوا يدعون إلى العودة إلى الحياة البرلمانية الديمقراطية بشكل سلمي" إلا أن الإخوان كانوا جاهزين للحركة المسلحة.
وبدأت الاحداث بشكل عفوي "في إحدى المدارس وكتابة أحد الطلاب على اللوح (لا حكم إلا للبعث). وجاء طالب آخر، شتم البعث وكتب (لا حكم إلا لله). وجاء الأمن واعتقل الطالب، واضرب الطلاب، ثم خرجت مظاهرة من الجامع، وتم قمعها من الجيش بالقوة وسقط قتلى، فأضربت المدينة. تدخل الجيش لفتح المحلات بالقوة، فاصطدمت بمقاومة مسلحة، فدخل الجيش إلى المدينة، وتم إعلان الاضراب العام".
وكان "الإخوان" جاهزين بقيادة (مروان حديد) الذي كان "يبشر بالجهاد للإطاحة بحكم البعث الطائفي" حيث "اعتصم مع بعض أنصاره في جامع السلطان، وجعل من المسجد منطلقاً للدعوة إلى الثورة على حزب البعث". لكن الجيش قصف الجامع، وقصف الأحياء" وأسفر الصراع المسلح عن عشرات الضحايا من الجيش والمدنيين(٤).
وترافق الصراع المسلح بالإضراب العام في مدينة حماه، وساندها التجار في حمص ودمشق (نيسان-1964)، الذين كانوا يطالبون "بإلغاء التأميم، وتخفيف القيود على النقد". وقد استمر الإضراب في حماه (29يوماً)، وثلاثة أيام في دمشق، وانتهى بإصدار الحاكم العرفي، إنذارا يقضي بمصادرة المحلات، بعد التوجيه لفتح المحلات بالقوة.
وبذلك زرع النظام، والإخوان، الأسفين الطائفي الأول في جسد المجتمع السوري، والذي لم تنضج وتترسخ هويته السورية بعد.
والسؤال للتاريخ: لماذا لم تُعد البرجوازية السورية بناء حزبها السياسي الممثل لها، والمؤمن بالديمقراطية والحريات (أقصد حزب الشعب)، واعتمدت على "الإخوان المسلمين"، كرافعة مسلحة للعودة إلى السلطة، وهو حزب طائفي لا علاقة له بالحريات والديمقراطية؟ والجواب بسيط، لأن الحرية والديمقراطية، لم تكن من أهداف هذه البرجوازية. ولم يكن لديها المشروع الوطني لترسيخ الدولة الوطنية الديمقراطية. وهي لم تخرج من إطار مصالحها الاقتصادية الضيقة، ولم تتجاوز الليبرالية الاقتصادية، وهي تتحالف مع "الشيطان للحفاظ على هذه المصالح.
المحطة الثانية: أحداث الثمانينات
تتميز أحداث الثمانينات، بأنها لم تكن بحاجة إلى شرارة عفوية لانطلاقتها. إنما كانت مبرمجة، ومخطط لها من قبل "الإخوان المسلمين" منذ البداية وحتى النهاية. سواء بالاغتيالات لبعض رموز النظام، والمشايخ، والشيوعيين، أو التظاهرات والتي كانت "إخوانية"، والتي استهدفت مؤسسات الدولة، ومن ضمنها المشافي، وصولاً إلى مجزرة مدرسة مدفعية الميدان(حزيران-1979)، وهي مجزرة طائفية بغيضة، عبرت عن العقلية الانتقامية الثأرية بأبشع صورها، والتي لا تختلف عن عقلية النظام.
والبقية يعرفها كل السوريين، كيف إخرج النظام بقيادة عائلة "الأسد-الطاغية"، كل عنفه الطائفي، والقتل على الهوية. وإن فظاعة العنف والتعذيب والاغتصاب والتمثيل بالجثث وقتل السجناء، وسياسة الأرض المحروقة تذكرنا بالحروب الطائفية والقبلية القديمة منذ آلاف السنين، التي كانت ترفع الرؤوس المقطوعة على أسنة الرماح، بعد أن تقتل وتحرق كل ما تواجهه في طريقها. وكانت النتائج مرعبة: تدمير المدينة(حماه)، وعشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، وزرع الأسفين الثاني، في جسد المجتمع السوري، والذي مازال متربعاً في ذاكرته حتى الآن. والعنف ذاته، وبشكل أوسع وأكثر ضراوة، مارسه النظام، ضد الشعب منذ بدايات الثورة السورية (آذار2011). وهذا العنف لا يمكن تفسيره إلا بوجود دافع ثأري، طائفي فلاحي مشحوناً بالخوف من السقوط.
ومن المفيد القول، أن تجار حلب ساندوا الإخوان في أحداث الثمانينات، بالدعوة لإغلاق المحلات، والإضراب العام. وكان مطلبهم الأساسي عندما جاء وفد الحكومة للتفاوض معهم، هو "رفع سقف الاستيراد والتصدير"، والسماح للقطاع الخلاص بالمشاركة الأوسع. وقد استجاب النظام لذلك.
ويجب التوضيح أن أحداث الثمانينات، ليست حرباً أهلية، وهي ليست حرباً طائفية بين "السنة، والشيعة". إنما كان صراع بين نظام طائفي يدعي تمثيله للطائفة العلوية، وحزب إخواني يدعي تمثيله لأهل السنة. وفي التحليل الواقعي لا أحد يمثل الطائفتين. إنه صراع على السلطة بين قوى إرهابية طائفية.
محطتان للسياسة
المحطة الأولى
تعرضت الحياة السياسية في سورية عبر مخاضها الأول، الذي بدأ مع فجر الاستقلال، إلى الضربة الموجعة الأولى، مع إعلان الوحدة السورية-المصرية، وقرار حل الاحزاب السورية والمصرية، ليحل محلها "الاتحاد القومي" الذي أنشأه عبد الناصر عام (1957). وخرج من الحياة السياسية نهائياً (الحزب الوطني، وحزب الشعب)، اللذين كانا يمثلان البرجوازية الليبرالية.
وبعد انقلاب البعث (1963)، الذي بدأت سيطرته بإعلان قانون الطوارئ، ثم حظر "الإخوان المسلمين"(1964). أصبحت الساحة السياسية محصورة بحزب البعث وحلفائه من الأحزاب القومية والاشتراكية، وهي: حزب البعث، والحزب الشيوعي الذي لم يكن رافضاً للانقلاب. والاتحاد الاشتراكي العربي(تموز1964)، الذي ضم عدة قوى قومية وناصرية وهي (حركة القوميين العرب-والجبهة العربية المتحدة-وحركة الوحدويين الاشتراكيين-والاتحاد الاشتراكي). بقيادة "جمال الأتاسي" والذي استمر أميناً عاماً حتى وفاته (2002). لكن لم يكن التحالف بين البعث والقوميين مستقراً، وخاصة بعد تصفية الوحدويين والناصريين في الجيش، إثر انقلاب جاسم علوان (تموز1963). وقد رافق مشاركة الاتحاد الاشتراكي للبعث في السلطة، انشقاقات عديدة، بين مشارك في السلطة، ورافض لهذه المشاركة.
عند الانقلاب الأخير (1970)، توضحت الحياة السياسية أكثر. بعد أن أفرزت مرحلة (963-970)، القوى المؤيدة لانقلاب البعث الأخير، والمعارضة له. وبعد تأسيس "الجبهة الوطنية التقدمية"(1972) التي وافقت على أن "البعث قائد الدولة والمجتمع"، والقائد التاريخي. إلخ . مدعوماً بقانون الطوارئ، وترسخ الشعار الأساس للنظام الجديد: "من ليس معنا، فهو ضدنا".
وخلال السنوات القليلة بدأ الفرز والانشقاقات في أحزاب الجبهة. انشقاق الحزب الشيوعي، وتشكيل "الحزب الشيوعي-المكتب السياسي"(1972) بقيادة رياض الترك، وهو الأهم في الساحة، وأيضاً حزب "الاتحاد الاشتراكي العربي"(1963)، بقيادة جمال الأتاسي، و"الاشتراكيين العرب "بقيادة عبد الغني عياش.
وقد أسست هذه الاحزاب التي خرجت من جبهة النظام، في عام (1979)، "التجمع الوطني الديمقراطي". والذي ضم (الاتحاد الاشتراكي، والحزب الشيوعي-المكتب السياسي، وحركة الاشتراكيين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي، وحزب العمال الثوري)، وهي المحطة الأولى لاجتماع المعارضة السياسية.
والملاحظة الأولى:
إن هذه الأحزاب-أحزاب التجمع- جميعها لم تكن نقيضة للنظام، أو للاستبداد. وكانت تحمل نفس الأيديولوجيات (يسارية وعلمانية وقومية)، الموجودة في جبهة النظام. إنما الخلاف مع النظام كان حول طبيعة المشاركة في الحكم ورفض هيمنة البعث على السلطة. ولذلك كانت المبادئ التي تأسس عليها "التجمع"، عامة وهي (الاعتراف بالتنوع والاختلاف، واعتماد الحوار الديمقراطي، والانطلاق من الوحدة الوطنية والمصلحة العامة والاحتكام اليهما، والثقة بقدرة الشعب، والاعتراف بحقه في اختيار النظام السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي الذي يحقق مصالحه، ونظام الحكم الذي يحمي هذه المصالح ويصونها، ويعبر عن هويته القومية) (٥). وهي مبادئ عامة، لا تشير إلى الحرية والديمقراطية، باعتبارها النقيض الفعلي للنظام الاستبدادي القائم.
والملاحظة الثانية:
إن التجمع جاء ليشكل الواجهة السياسية للمعارضة غير الإسلامية، بعد اندلاع الصراع الطائفي المسلح بين النظام، و"الإخوان المسلمين"، والذي انفجر علانية في المجزرة الطائفية في مدرسة مدفعية الميدان بحلب (16-6-1979). لكن هذه الواجهة في ذلك الوقت، لم تضع لنفسها برنامجاً سياسياً، وآليات عمل، للوصول إلى أهدافها. ومن واقع شعورها بالضعف، بخروجها من السلطة، كان "التمسح" السياسي، أو "التملق" السياسي لحركة "الإخوان المسلمين" المسلحة في الثمانينات، ضمن رؤية سياسية ضيقة، ملخصها إمكانية العودة إلى السلطة برافعة "الإخوان" المسلحة.
ولذلك تم وصف حركة "الإخوان"، بــ "الحركة الشعبية الكبرى.. وأنها ليست ضيقة وسطحية.. ولا يصح نسبتها لهذا التيار أو ذاك، أو لهذه الفئة أو تلك. وليست استجابة لنداء قوة سياسية، أو، اجتماعية معينة.. إنها حركة شعب يأسره.. وهي تعبير عفوي وأصيل عن شعب بأسره"(٦). ويدعو البيان إلى "التغيير الجذري والكامل للنهج القائم حتى تعود السيادة للشعب. في ظل نظام يقوم على أسس الديمقراطية والحرية والمساواة"(المرجع السابق). وقد جاء الرد سريعاً في بيان إصدرته "الطليعة المقاتلة" للإخوان، بقيادة "عدنان عقلة" بقوله "عودوا إلى جحوركم".
وكما ذكرنا سابقاً، فالصراع في الثمانينات كان بين "الإخوان" أو "الطليعة المقاتلة" تحديداً من جهة، وبين النظام من جهة ثانية، وليس بين الشعب والنظام. ولم تكن الحركة عفوية، وشعبية كما وصفها البيان. وتم وصفها من قبل الإخوان بالانتفاضة، أو الثورة الإسلامية، ضد النظام "العلوي"، وإقامة الدولة الإسلامية.
صحيح أن النظام يتحمل المسؤولية الأساسية في صنع الطائفية، والتأسيس لنظام طائفي، والعنف الطائفي الذي مارسه ضد الشعب. لكن أيضاً "العنف المضاد" الطائفي الشبيه الذي مارسه "الإخوان" ينتمي إلى نفس الهوية، ويتشارك مع النظام في تحمل المسؤولية، عن تحطيم الهوية الوطنية، وإعادة أحياء "الهويات القاتلة" المذهبية.
وعندما يأتي بيان "التجمع" ليقدم تغطية سياسية لحركة طائفية عنفيه، فإنه يعبر عن ضعفه، بانغماسه بالوحل الطائفي، للوصول للسلطة. بدلاً من العمل على برنامج سياسي وطني مستقل.
إلى جانب التجمع تشكلت تجمعات يسارية ماركسية عديدة، كانت تدعو إلى إسقاط النظام وبناء الاشتراكيةالحقيقية، وفق مبدأ "الفرقة الناجية" الماركسية. مثل: "حزب العمل الاشتراكي" وهو فرع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سورية، والذي لم يستمر طويلاً (انتهى1977). و"اتحاد الشغيلة" وهو تنظيم ماركسي، وفرع من رابطة الشغيلة في لبنان، وانتهى مع أول الاعتقالات لكافة اعضاء التنظيم في1978.
والتنظيم الماركسي الأكبر هو رابطة العمل الشيوعي، الذي تحول إلى حزب العمل في الثمانينيات، وكان ماركسياً راديكالياً يدعو إلى إسقاط النظام، وإقامة الاشتراكية. ويهمنا هنا موقفه من أحداث الثمانينات. فمع بداية احداث "الإخوان" تم توصيفها كحركة "رجعية ظلامية"، مرتبطة بالبرجوازية التقليدية، والمدعومة من الرجعية العربية (الأردن-العراق) بقيادة السعودية. ولذلك قرر الحزب "تجميد شعار إسقاط النظام حتى لا تنصب الجهود في طاحونة الرجعية"-كموقف تكتيكي مرحلي- واستبداله بشعار "دحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية"(٧). وقد فسر البعض هذا الموقف بالانحياز إلى جانب النظام، ضد الإخوان والرجعية، وهو ما يوحي به شعار تجميد "إسقاط النظام"، في مرحلة الصراع المتفجر بين النظام والإخوان. إلا أن حزب العمل حافظ على عدائه للنظام، واستمر بتوصيفه كنظام لا وطني، ودكتاتوري، واستمرار دعوته لبناء "جبهة شعبية متحدة"، تعبر عن "وحدة العمل الوطني والثوري في سورية على أساس برنامج ثوري". وهذا ما تم تسميته آنذاك بالخط الوطني الثالث ضد النظام والرجعية. وأيضا انتهى الحزب بعد خروجه من السجن، في تسعينيات القرن الماضي، وتشظيه إلى ثلاث مجموعات متناقضة. الأولى: وقفت مع النظام، والثانية: انضمت إلى هيئة التنسيق، بعد انطلاقة الثورة. والثالثة: ضد النظام والتي عملت على تشكيل "تيار مواطنة" مع انطلاقة الثورة، وهو تيار ليبرالي، انضم بعد تأسيسه في (2011) إلى الائتلاف الوطني.
ولأن الطاغية لا يقبل إلا بالرعايا فقط. لذلك بعد المجازر الفظيعة الدموية التي ارتكبها ضد الإخوان، و"السنة" عموماً، وفي حماه وحلب بشكل خاص، لم يترك النظام أيضا أحداً خارج السجون، سواء الداعي لإسقاطه، أو الداعي لدحر دكتاتوريته. ودفعت هذه الأحزاب الثمن غالياً بالسجن لأكثر من عقد ونصف، ثمناً لموقفها ضد الطاغية. ويمكن القول إنه تم تصفية المعارضة بكل أشكالها العنيفة والسلمية بعد أحداث الثمانينات. واقتصر وجودها على رموز قليلة لا حول لها ولا قوة.
والملاحظة الأهم في هذه الحقبة أن المعارضة الإسلامية والقومية والشيوعية، لم تتجاوز الأيديولوجيا المغلقة، التي كانت عليها في الخمسينيات. والمضاف الأهم هو العنف الطائفي. وبالتالي لم تتشكل معارضة ديمقراطية نقيضة للنظام.
ولم تنجُ الأحزاب اليسارية والقومية من لوثة الطائفية، التي كانت تكمن خلف النقاشات الحادة بين أعضاء الحزب الواحد، أو بين الأحزاب المتعددة وحواراتها، وانشقاقاتها، أو انحلالها، وخاصة بعد الخروج من السجن. وهذه ملاحظة مستمدة من تجارب شخصية ولم يتجرأ أحد على الكتابة حولها، أو الخوض في تفاصيلها، حتى بعد أن أصبحت أكثر وضوحاً يلي انطلاقة الثورة.
المحطة الثانية للمعارضة:
بدأت مع مطلع القرن الجديد، ووفاة الطاغية-الأب-المأساة، وتوريث السلطة للابن-المهزلة. وبدلاً من الوقوف بحزم ضد التوريث، بدأت المعارضة تأمل بإصلاحات حقيقية يمكن أن يعمل عليها الابن، حيث ظهر للجميع كأنه المنقذ لسورية. وانتشرت المنتديات الثقافية-السياسية في عموم سورية، بالإضافة إلى الترخيص لجريدة "الدومري" للمعارضة. بموافقة ضمنية من النظام، اعتبرها أشبه ب “فشة خلق" بعد عقود من الصمت، والعمل في الأقبية المظلمة. وأطلقت عليها المعارضة "ربيع دمشق". فبعد إصدار بيان ال (99) في(27-سبتمبر2000)، وبيان ال(1000) في(آذار2001)، إشارة لعدد الموقعين على البيان من المثقفين والمهتمين بالشأن العام، والذي كان الأساس لتأسيس "لجان إحياء المجتمع المدني"، والذي طالب النظام بالعمل على "المقدمات الضرورية للإصلاح السياسي"، والانتقال إلى الدولة الديمقراطية الحديثة. إلا أن هذا الربيع لم يُكمل ربيعه الأول. حيث سارعت السلطة إلى الاعتقالات، وإغلاق المنتديات، خوفاً من أن تتحول إلى ظاهرة مجتمعية-سياسية، وتصبح خارج السيطرة الأمنية.
والخطوات الأولى للمعارضة، كانت بتحولها بقدرة "القدير"، إلى قوى ديمقراطية-ليبرالية. والبدايات كانت مع الاحتلال الأمريكي للعراق في (٢٠٠٣)، والإعجاب بالمنقذ الأمريكي الجديد القادم لاقتلاع الانظمة الاستبدادية، ورسم خريطة المنطقة من جديد. و"أنه علينا استقبالهم ببرنامج جديد"، وأن الأمريكان "نقلوا العراق من تحت الصفر إلى الصفر". وذلك لانسداد أفق التغيير من الداخل.
وجاءت الانتقالات نحو الليبرالية من أفراد وقوى سياسية يسارية. أضاف الاتحاد الاشتراكي العربي، كلمة الديمقراطية إلى الاسم. وعمل مع أحزاب "التجمع الوطني الديمقراطي" على إصدار برنامجه السياسي الديمقراطي الحديث. في (2001)، الذي يرفض صراحة مفهوم الحزب القائد وجبهته التي تحتكر العمل السياسي.. ودعا إلى تعديل الدستور وبناء دولة ديمقراطية حديثة" (٨) والحزب الشيوعي-المكتب السياسي، أصبح اسمه حزب "الشعب"، في (٢٠٠٥) ببرنامج ديمقراطي-ليبرالي حديث. وأيضاً الإخوان المسلمين، أصدروا "المشروع السياسي لسورية المستقبل" في(٢٠٠٤)، الذي يتضمن الدعوة إلى "دولة إسلامية حديثة، تعتمد الشورى، وهي ليست دولة ثيوقراطية، ولا علمانية"(٩).
ولأن المعارضة ضعيفة، لكنها كانت تتلمس الخطر لاستمرار طغيان النظام الأمني. لذلك لجأت إلى دور "المثقف الناصح" للنظام للانتقال إلى الدولة الديمقراطية وإشاعة الحريات. وهذا تم في بيانات المثقفين.
ويعتبر إعلان دمشق (١٦تشرين الأول-٢٠٠٥)، نقلة، أو محطة إيجابية في مسار المعارضة، بدعوته (التغيير الجذري، وليس الإصلاحات الترقيعية) ودعوته (للجميع للمشاركة في عملية التغيير بما فيهم البعثيين عبر مؤتمر وطني). والأهم دعوته لتشكيل (خط ثالث، يقوم على إمكان تقدم شعبنا ليأخذ مصيره بيديه).
وهذا الخط الثالث طرح نفسه كي يكون بديلاً عن السلطة، وعن "التهديدات الأمريكية لتغيير النظام في سورية" دون أن يسميها بشكل واضح. حيث إن المناخ الذي ظهر فيه الإعلان، كان متوتراًللغاية بين أمريكا والنظام بعد اغتيال الحريري(١٤آذار-٢٠٠٥)، وانسحاب الجيش السوري من لبنان بتهديد أمريكي واضح. وكان الجميع ينتظر تقرير "ميليس" لتحديد المسؤول عن الاغتيال. وكل الأنظار متجهة إلى النظام السوري. لكن تقدير فريق الإعلان بأن أمريكا ستتدخل حتماً لإسقاط النظام، دفعهم للإعلان قبل صدور تقرير ميليس ليقولوا لأمريكا (والرأي العام الخارجي ، بأن سورية ليست قوقعة فارغة سياسياً. وتتمتع اليوم بوجود قوى شعبية لها تاريخ طويل في النضال الديمقراطي). وبذلك تنتقل المعارضة من المراهنة على النظام، إلى المراهنة على أمريكا، مستندة إلى رؤية لحظية بأن أمريكا حتماً قادمة لإسقاط النظام على الطريقة العراقية. لكن كل الآمال تبخرت، ولم تتدخل أمريكا لإسقاط النظام. وهذا أولاً.
وثانيا. اشارة الاعلان إلى أن (الاسلام مكون اساسي في ثقافتنا العربية) لا يختلف عن "الاشارة بأن دمشق عاصمة سوريا. لكن الاشارة هذه كانت بقصد التعمية عن مرجعية الدولة المنشودة، بقصد ارضاء، أو التمسح بالإخوان المسلمين، الذين أعلنوا تأييدهم للإعلان بعد ساعات، وارضاء لبعض الليبراليين الجدد المتأمركين الذين يريدون الاختباء وراء الإخوان الذين تحولوا إلى ديمقراطيين برأي هؤلاء.
وقد وقع على البيان (التجمع الوطني الديمقراطي-لجان إحياء المجتمع المدني-حزب المستقبل "الشيخ نواف"- ومجموعة من الأحزاب الكردية- تسعة مستقلين). (١٠).
لكن ضمور الإعلان كان سريعاً بسبب الاعتقالات التي طالت أغلب مؤسسيه، والانسحابات منه، بحيث لم يبق سوى بعض الرموز الفردية والتي لا حول لها ولا قوة.
من حيث النتيجة، يمكن القول بأنه عشية انطلاقة الثورة، لم يكن في داخل سورية أية معارضة فعلية على الأرض. إنما بعض الرموز القديمة-وأغلبها قضى قرابة عقد أو عقدين من الزمان في السجن- التي كانت تأمل بالإصلاح السياسي بقيادة النظام.
4- في الثورة
الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة الإنسانية، هي النقيض الفعلي للنظام الاستبدادي الطائفي. وقد عبَرت الثورة عن ذلك في مرحلتها الأولى، مرحلة الصعود (آذار 2011- وحتى نهأية 2012)، مرحلة تشكلها السياسي والأخلاقي، عن المستقبل المنشود. وعن أهدافها بوضوح تام تحت شعار: إسقاط النظام، وإقامة دولة ديمقراطية، دولة الحرية والكرامة. حيث نلاحظ تسمية أيام الجمعة كانت خلال العام الأول تعبر عن الصفة الأخلاقية والسياسية للثورة، مثل: الكرامة، العزة، الصمود، الغضب، الشهداء، الحرية. إلخ. وأيضاً: الحاجة للتمثيل السياسي والعسكري، كان الدافع لشعار: المجلس الوطني يمثلني، والجيش الحر يمثلني إلخ. وكان المجتمع الإقليمي والدولي مناصراًللمعارضة حين كان الجيش الحر يتقدم على الأرض. حيث تم تجميد عضوية النظام في الجامعة العربية، وسحبت الكثير من الدول الأوروبية والعربية سفراءها، والجميع يطالب النظام بالرحيل.
والثورة فتحت البوابة لفرصة تاريخية لإعادة توحيد الشعب، وصهره في بوتقة واحدة بتنوعه المذهبي والقومي والإثني تحت راية وطنية وقيام دولة ديمقراطية حديثة، دولة الحرية والعدالة.
وهي لم تختر الظروف لانطلاقتها، لأنها لم تكن مرسومة بالمسطرة، ولم تكن مؤامرة محبوكة كما يدعي أعداؤها. ولقد واجه الثوار "ظروفاً لم يختاروها بأنفسهم" إنما واجهتهم تحديات وظروف "معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي". كما توضح ذلك بعد شهور قليلة من انطلاقة الثورة. وأهم هذه التحديات على المستوى الذاتي هي:
أولا: الإشكالية السياسية
منذ انطلاقة الثورة السورية، وخلال الشهور الأولى بدأت تظهر الإشكالية السياسية للثورة. والأساس في الإشكالية السياسية، هو عدم تشكيل البديل السياسي الوطني الديمقراطي الممثل والقائد للثورة. وهذه الإشكالية مازالت قائمة حتى اليوم، بعد ست سنوات من انطلاقتها.
ومع انطلاقة الثورة التي أعادت السياسة إلى المجتمع. حاول شباب الثورة، وغالبيتهم من خريجي الجامعات أو من طلابها خلال المرحلة السلمية، العمل على التأسيس لقيادة التجربة التي لم تنضج، ولم يتم الانتقال من العفوية السياسية التي رافقت بداية الثورة، إلى النضج السياسي، والذي يعني تشكيل الأحزاب السياسية، أو تيار سياسي قائد للثورة. وهذا يعود إلى:
أولاً: حداثة التجربة السياسية في سورية، وعدم وجود إرث تاريخي سياسي ثوري يمكن أن يستفيد منه الشباب، ويبنوا عليه بناءهم الجديد. وبالتالي عدم النضج السياسي جعلهم لم يُعطوا الأهمية الكافية لدور الحزب السياسي في الثورة.
وثانياً: القمع الفظيع للنظام، وملاحقة الناشطين واعتقالهم، وتعذيبهم حتى الموت. وعدم السماح بأي هامش مثل ساحة اعتصام، أو التجمع في أي مكان، يمكن أن يساهم في تطوير الفعل السياسي.
وثالثاً: عدم وجود تواصل بين شباب الثورة، والرموز الثقافية والسياسية من الجيل السابق الذين عملوا ضد النظام منذ صعود الطاغية الأب للسلطة.
ورابعاً: وأخيراً الانتقال من السلمية إلى الثورة المسلحة، أجهض المخاض السياسي والمدني للثورة، وأصبحت راية السلاح فوق الجميع.
من جهة ثانية، استقبلت الرموز المعارضة القديمة الثورة بالارتباك والدهشة. ومصدر الارتباك هو كيفية الانتقال من العقلية الإصلاحية التي كانت تطالب النظام بالإصلاح وقيادة مرحلة الانتقال الوطني الديمقراطي، إلى العقلية الثورية، التي تدعو إلى تحقيق ذلك عبر الثورة الشعبية. ولا شك بأن الانتقال من العقلية الإصلاحية، إلى العقلية الثورية، ثم إلى الفعل الثوري، ليس بالأمر السهل، وخاصة بالنسبة إلى رموز هرمة متكلسة لم تعرف الفعل الشعبي الثوري في تاريخها السياسي.
وكانت الخطوة الأولى لهذه الرموز، بعد نصف عام من انطلاقة الثورة، هي الانقسام إلى تيارين:
الأول: "هيئة التنسيق" وتضم الاتجاه القومي واليساري، مع بعض الليبراليين والأكراد، والتي رفعت شعاراتها "لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي"، واستراحت في الداخل، في أرض النظام.
والثاني: "المجلس الوطني" الذي تشكل في الخارج، وضم الإسلاميين، وبقايا إعلان دمشق، والليبراليين الجدد المقيمين في الخارج، ثم تحوله إلى "الائتلاف الوطني"، ووضع لنفسه مهمة "تأمين الدعم بكافة أشكاله وخاصة الدعم السياسي للثورة"، على المستويين العربي والدولي، كما ورد في وثائقه التأسيسية.
وفي العام الأول من عمر الثورة عمل المجلس ثم الائتلاف على التأسيس لعوامل الفشل في قيادة أو تمثيل الثورة. وهي:
أولها:
التأسيس لإقامته في الخارج. حيث انفردت الثورة السورية من بين ثورات الربيع العربي، بأن الثورة في مكان، والقيادة في مكان آخر. وبدلاً من التأسيس لقيادة في الداخل، تم سحب نشطاء الثورة من الداخل إلى الخارج، كي ينالوا اعتراف الداخل، تحت اسم "الحراك الثوري"، وإفساد من لم يكن فاسداً، وإغرائهم بالإقامة المريحة، وقيادة الثورة عن بعد، "بالريموت كونترول"، أو تحويلهم إلى العمل المدني والإغاثي في أفضل الأحوال.
وثانيها:
الانفصال بين السياسي في الخارج، والعسكري في الداخل. وهذا الانفصال أدى إلى نتائج كارثية على الثورة من أهمها: عدم الالتفات إلى ضرورة إدارة المناطق المحررة وتقديم نموذج للثورة الوطنية الديمقراطية، وتحقيق الأمان والأمن فيها. وكذلك اختلاط الأوراق في ساحة الصراع، بين الثوار، واللصوص، وامراء الحرب. إلخ. مما افسح المجال أمام الاجندات الاقليمية والدولية لتعبث بالثورة على هواها، وأيضا ظهور المنظمات القاعدية التكفيرية في ساحة الصراع.
كذلك عمل الائتلاف خلال السنوات السابقة:
أولا: وضع نفسه تحت تصرف الدول الخارجية (قطر والسعودية وتركيا، وأمريكا)، وهي الأرضية المادية للتحالف الإسلامي-الليبرالي الجديد. وأصبحت الثورة ومصيرها مرهونة بيد هذه الدول، وهي بطبيعة الحال مضادة للثورة. وتاريخ الثورة زاخر بالأمثلة التي تشير إلى تمسح الليبراليين الجدد، بالإسلام السياسي، والإشادة به، الذي شكل مع داعميه السعودية، ودول الخليج، والكتائب العسكرية الإسلامية، القطب الطائفي، المشابه لقطب النظام على المستوى السياسي والاجتماعي.
وثانياً: أعاد من جديد أوهامه السابقة، بمراهنته على أمريكا لإسقاط النظام. ووزع الأوهام بسقوطه السريع عبر التدخل الخارجي على الطريقة الليبية. وللمرة الثانية بعد إعلان دمشق، تبخرت الآمال. وخاصة بعد مرور قرابة عقد من الزمن على التجربة العراقية، ودخولها في حرب أهلية طائفية مازالت مستمرة حتى الآن.
وثالثاً: اشتغل على مصالحه الشخصية، وصراعاته داخل الائتلاف على السلطة والنفوذ.
ورابعاً: أنشأ الحكومة المؤقتة، وهي كما توضح للجميع، ليست أكثر من مستنقع للمحسوبيات والصراعات الشخصية والأيديولوجية، على السلطة والثروة، التي تم تسولها من دول الخليج باسم الثورة. في حين كان المطلوب مجلس ثوري يعمل على إدارة المناطق المحررة، على كافة المستويات.
وخامساً: وهو الأهم، احتكر التمثيل السياسي للثورة، ولكنه لم يعمل بالسياسة. حيث لم يُلحظ للائتلاف وقبله المجلس، أي نشاط سياسي أو ثقافي. باختصار لم يكن لديه أي برنامج وآليات للعمل السياسي.
في حين كان المطلوب تشكيل قيادة سياسية-عسكرية للثورة. عمل "الائتلاف"، وحكومته العتيدة على تشكيل سلطة بديلة، بنفس عقلية النظام، وكانت نسخة هزيلة ومشوهة عن سلطة الطاغية.
وأخيراً، كان الفشل الإعلامي علامة فارقة. حيث اعتمد بالدرجة الأساسية على قنوات مثل "حلب اليوم، والأورينت، والعربية، والجزيرة". وكلها قنوات تبث الخطاب الطائفي بدرجات وأشكال مختلفة، دون أن يمتلك البرنامج لماكينة إعلامية فعلية تبث خطاب الثورة وأهدافها أمام الشعب السوري والعالم كله، رغم كل الأموال التي استهلكوها واعتاشوا عليها.
ثانياً: الإشكالية العسكرية
وكما التقط الشعب بعفويته شرارة انطلاقة الثورة السياسية، كذلك، ومنذ بدايات (٢٠١٢) وبالعفوية ذاتها عرف بأن هذا النظام لا يمكن إسقاطه إلا بالقوة. وكل الذين كانوا ضد هذا الانتقال، هم أنفسهم الذين وقفوا ضد الثورة منذ بداياتها، بحجة أن النظام قوي ومتماسك ولا يمكن إسقاطه، وعلى الشعب أن يبقى خانعاً ومستكيناً، حتى ينهار النظام تلقائياً نتيجة أزماته بدون عنف، أو بواسطة قوة خارجية على الطريقة العراقية.
إن الانتقال إلى الكفاح المسلح هو انتقال موضوعي في مسار الثورة، ولابد من حدوثه، وليس انحرافاً كما يراه البعض، الذين يرون أن هذا الانتقال هو الذي كان النظام يسعى إليه من أجل سحق الثورة عسكرياً، وأن العنف لا يُولد إلا العنف، والعنف لا يجلب إلا الخراب والدمار، وليس الحرية والديمقراطية. وهنا نجد أنفسنا أمام مغالطة واقعية وتاريخية أيضاً.
وبدلاً من الوقوف ضد هذا الانتقال، ووصفه بالعسكرة، والاختباء خلف شعار "لا، للعنف"، كان المطلوب من الديمقراطيين، أن ينظموا هذا الانتقال ويعملوا على تكوين قيادة سياسية-عسكرية مشتركة، وتنظيم جيش وطني ثوري يعمل على إسقاط النظام، لأن هذا النظام لا يمكن إسقاطه إلا بالقوة، بدلاً من الاختباء وراء السلمية المزيفة، واللاعنف البريء! سواء في مكاتب إسطنبول المكيفة، أو في الحديقة الخلفية للنظام.
كان المطلوب الوقوف إلى جانب "حسين الهرموش" و"لواء الضباط الأحرار"، ثم تشكيل "الجيش السوري الحر" بقيادة "رياض الأسعد" في (آب2011)، وتنظيم هذه النواة وتعميمها في كل الأراضي السورية، بإشراف قيادة وطنية سياسية وعسكرية موحدة.
نعم، إن عبارة "كان المطلوب" استفزازية وفوقية ولا معنى لها عندما نقرأ التاريخ الذي قال كلمته بانتهاء الحدث. لكن الاستفزاز وتحميل المسؤولية مطلوبة أحياناً عند مراجعة التاريخ وخاصة للذين تبروظوا في مراكز تمثيل الثورة واحتكار هذا التمثيل، واعتاشوا على أموالها، ويتباكون بعد ست سنوات من عمر الثورة، بأن الثورة انتهت وفقدنا القرار الوطني المستقل!!!
وثالثاً: الانقسام المجتمعي تجاه الثورة.
إن انفجار المجتمع وانقساماته عبر عن صراعات وتحالفات مختلفة. مثل الانقسام الطبقي بين البرجوازية المدينية وخاصة في حلب ودمشق، وانضمامها إلى النظام مقابل باقي فئات الشعب. وحتى الطبقة الوسطى، والتي ضمت الأطباء والمهندسين والمحامين، لم تنضم للثورة. وأغلب المنضمين للثورة كانوا من أصول ريفية. كذلك هناك انقسام وتناحر مناطقي توضح بجلاء مع تشكل الفصائل العسكرية.
وأيضاً انقسام بين المدينة والريف، بشكل عام، بحيث ظهرت الثورة كأنها ثورة أهل الريف. ووصف الثورة السورية بالريفية لعدم اشتراك سكان المدن الكبرى بها، لا ينقص من قيمتها، رغم أن ذلك ساهم في إضعاف عوامل نجاحها.
لكن الانقسام الأخطر الذي واجه الثورة هو الانقسام المجتمعي العمودي، الديني والمذهبي والقومي، وكان هذا الانقسام موجوداً قبل الثورة، إنما كان مستتراً بفعل القمع الأمني، وبانتظار لحظة انفجاره. ومع الثورة انفجر المجتمع إلى مكوناته التاريخية القديمة، ما قبل الوطنية: سنة، وشيعة، وعلويين، ومسيحيين، وآشوريين، وأكراد، وعرب، وتركمان..إلخ . وتحولت الثورة تدريجياً لتصبح ثورة قسم من الشعب، ضد القسم الآخر.
ومع عدم توفر إحصائيات دقيقة لهذا الانقسام، إلا أنه يمكن الاستفادة من بعض الدراسات الأولية كمؤشرات عامة، مثل المسح الاجتماعي الذي يشير إلى ان (٨٥،٩٪ من أهل السنة مؤيدين للثورة، و(٩٣،٧٪) من الشيعة والعلويين معارضين، و(٥٣،٥٪) من المسيحيين مؤيدين، و٥٣،٥٪، و٤٣،٨٪ من الإسماعيليين والدروز معارضين) (١١). وهذه الأرقام عامة لا تتناقض مع رؤيتنا الواقعية المباشرة.
ومن المفيد الإشارة في المسح السابق، أنه من بين الأغلبية المؤيدين للثورة (٥٧،٢٪)، كانوا يرون أن الدافع الرئيسي للثورة هو "استبداد النظام، وسعي المتظاهرين لإقامة دولة مدنية ديمقراطية"، و(٢٨،٧٪) بسبب "التعرض للتمييز الطائفي وسيطرة العلويين على الدولة". ودلالة ذلك أن حوالي ثلث المؤيدين للثورة كانوا مندفعين بالدافع الطائفي، رداً على طائفية النظام، والذين شكلوا الأرض الخصبة لنمو الإسلام السياسي، وسيطرته على المناطق المحررة من النظام. وهذا يؤشر أيضاً إلى أن المجتمع لم يتجاوز الفظائع التي ارتكبها النظام في الثمانينيات من القرن الماضي.
وخطورة الانقسام العربي الكردي تأتي بالمرتبة الثانية، وهو لا يشبه الانقسام الطائفي العدمي. إنما الخطورة في انفصال الكرد عن الثورة، والعمل على مشروعهم القومي الخاص. وهذا بسبب العقلية الشوفينية العربية-الكردية التي تنكر الحقوق القومية للأكراد عند النظام والمعارضة، لكن النظام استطاع تحييد الأكراد، في حين فشلت المعارضة بذلك.
إن تركيز البحث على الصراع الطائفي ليس لأنه الوحيد، أو حتى الأهم. انما لأنه الأخطر. إنه صراع عدمي يجر المجتمع إلى الوراء. وعمل على تشويه وانحراف مسار الثورة. من ثورة حرية ضد الاستبداد، إلى حرب أهلية عدمية مدمرة.
رابعاً- صعود الأصولية المذهبية، وصراع المتشابهات

لم يكن صعود الأصولية المذهبية في المنطقة صدفة أو ظاهرة عارضة في الصراع الدائر. وهناك أسباب تاريخية تعود للماضي البعيد. إلى الموروث الديني القديم، والذي يتضمن تيارات متعددة بداخله، معتدلة وأصولية وسلفية إلخ . فالأيديولوجيا الدينية-مثل أية أيديولوجيا مغلقة- كما تتضمن التسامح، والمحبة، والسلام. كذلك تتضمن أيات القتل والقتال، والفتح والجهاد، تحت شعار العودة للسلف الأوائل.
والتاريخ القريب، خلال القرن الماضي، أفرز ثلاثة منابع للقوى السلفية والجهادية، والتي شكلت الأرضية الأيديولوجية والسياسية لصعود الأصوليات من جديد. وهي: الوهابية السعودية، والإخوان المسلمون، والأيات الشيعية في إيران.
فالوهابية السعودية أرست دعائم دولة "الأمير والشيخ"، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بموجب اتفاق بين الشيخ "محمد عبد الوهاب"(١٧٠٣١٧٩١)، وأمير الدرعية "محمد بن سعود"، منذ (١٧٤١)، وتعاقد علني "بين سلطة زمنية وسلطة روحية، بحيث تمنح السلطة الروحية الشرعية والطاعة للسلطة الزمنية، مقابل أن تقوم السلطة الزمنية، بدعم وتمكين السلطة الروحية".)12(ورداً على شروط الأمير بأنه على الشيخ أن "لا يتركهم ويستبدلهم بغيرهم، وأن يسمح له بالغنائم، فالأمير معتاد على أكل الحرام"، قال الشيخ "أنا أبقيك على ما أنت عليه من أكل الحرام، وأنت تتركني أسكن عندك وأقوّم الدين، فرضي ابن سعود بذلك".)13(
وكان للخطاب الوهابي استراتيجيتان: الأولى في مرحلة الخروج وتأسيس الدولة، ومضمونها: التكفير، والجهاد، والولاء والبراء. والثانية بعد حصول التغلب واستقرار الدولة ومضمونه: شرعية المتغلب، والسمع والطاعة، ووجوب النصيحة السرية")14(
وقد حافظ الشيخ والأمير وأحفادهما على الاتفاق حتى الآن. وحافظ الوهابيون على استراتيجيتهم سواء في الإمارة الأولى التي انتهت على يد العثمانيين في بداية القرن التاسع عشر (١٨١٤١٨١٨)، أو عند تأسيس المملكة السعودية الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى، والمستمرة حتى الآن.
وقد انضوى أحفاد الوهابيين تحت راية عبد العزيز وحرروا مكة والمدينة والعديد من المدن عند تأسيس المملكة الجديدة، للمرة الثانية. ولكن روح الوهابية القديمة كانت حية، وعادت في خضم الفوضى التي نتجت عن انهيار الإمبراطورية العثمانية. ولذلك تمردوا على الآباء، واعترضوا على الملك لعلاقته مع الإنجليز، ورسمه الحدود الجغرافية للدولة الناشئة، بحجة ضرورة استكمال القتال والتوسع لنشر الدين، واحتجاجاً على الآباء الذين يبررون للملك سياسته في بناء الدولة بأسلوب براغماتي مستند إلى استراتيجية "السمع والطاعة".
ومع أنه تم حسم الصراع عسكرياً لصالح الملك مترافقاً مع فتاوى العلماء الوهابيين الكبار-الآباء- في المملكة، ضد المتمردين في ثلاثينيات القرن الماضي، والذين أطلق عليهم اسم "الإخوان الوهابيين" أو "الوهابية الجديدة". إلا أن الصراع بين الوهابيتين القديمة والجديدة بقي مستمراً. "وهابية تؤمن بالواقعية والبراغماتية"، تعمل وفق مبدأ السمع والطاعة للملك، وتتأقلم مع تحديثاته، وتجعل من كل المعارضين، كفارا وزنادقة إلخ . "ووهابية تؤمن بالوفاء لتعاليم العهد القديم"، متمردة على الواقع القائم. والوهابيتان "وجهان لجوهر واحد، وهو إدعاء كل طرف بأنه يمثل الدين الحق، ويملك الحقيقة الدينية المطلقة(١٥)
وفي محاولة لتفسير الازدواجية التي نلاحظها لدى النخبة السعودية في الموقف تجاه "داعش"، قسم مع داعش، وآخر ضدها. يرى "الستير كروك-(Alastair Crooke) أن الحسم العسكري ضد "الإخوان الوهابيين" (لم يؤدِ إلى موت رؤية الإخوان، إنما تراجعت، ولكنها بقيت مسيطرة على بعض مفاصل النظام، وهذا هو مصدر الازدواجية المذكورة".(١٦)

وبعد الحسم العسكري عمل الملك على "تغيير الوهابية بالقوة من كونها حركة جهادية ثورية قائمة على التطهير الديني التكفيري، لتصبح حركة دعوية محافظة اجتماعياً وسياسياً ودينياً وأن تعمل كمؤسسة تبرر الالتزام بالولاء للعائلة ولسلطة الملك المطلقة" وبعد اكتشاف النفط، وللسيطرة الفعلية على منابع البترودولار في سبعينيات القرن الماضي "وبغرض الحصول على مكانة دبلوماسية كدولة قومية إلى جانب أمريكا وبريطانيا، أُبعد التيار الإخواني المتحمس عن البلاد بتصديره للخارج، من خلال نشر ثورة ثقافية بدلاً من الثورة العنيفة في أنحاء العالم الإسلامي ".
"إلا أن هذه "الثورة الثقافية" لم تأخذ منحى إصلاحياً معتدلاً. فقد كانت ثورة قائمة على فكر محمد عبد الوهاب الذي قامت دعوته على تطهير الإسلام من كل ما ارتبط به من بدع ووثنيات" (١٧)(
"وبظهور الثروة النفطية-كما يكتب الباحث) جيل كيبيل-تمثلت الأهداف السعودية في إيصال ونشر الوهابية في جميع أنحاء العالم الإسلامي.. أي العمل على "وهبنة" الإسلام، وبالتالي اختزال الأصوات والآراء الدينية المتنوعة في "عقيدة واحدة"، تتجاوز الحدود القومية، وقد تم-ومازال يحدث-استثمار مليارات الدولارات في هذا الشأن تعبيراً عن القوة الناعمة للسعودية.. وتصاعد هذه القوة الناعمة، والرغبة السعودية في السيطرة على العالم السني، على حد سواء مع العمل على تعزيز مصالح الولايات المتحدة، فقد رسخت بالتزامن، الوهابية دراسيا واجتماعيا وثقافيا في مختلف انحاء العالم الإسلامي" (١٨)
ويرى المالكي "أن معظم منظري القاعدة والجماعات الجهادية التي تتبنى نهج العنف والإكراه ينطلقون في أطروحاتهم وتأصيلاتهم من كتابات العهد الوهابي القديم. وحين يقوم اتباع الوهابية اليوم بما يعرف بالسلفية الحركية بمواجهة تلك الوهابيات المتطرفة ومجادلتها وربما الصراع معها. فهم لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يعيدون نفس الصراع الذي حصل بين الوهابية المتصالحة والمتحالفة مع الدولة، والوهابية المتمردة والمقاتلة"(١٩)
والإخوان المسلمون منذ تشكلهم في مصر (١٩٢٨)، وانتشارهم في سورية ولبنان منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عملوا على التأسيس للسلفية الجهادية، وجر المجتمع إلى الماضي، بدعوتهم لإقامة الدولة الدينية تحت شعار "الإسلام هو الحل"، وفق "الأصول العشرين" التي أرساها "حسن البنا" للجماعة والتي تؤكد في الأصل الأول أن "الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً. فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة". وكذلك الدعوة إلى العودة بالإسلام إلى منبعه الصافي "القرآن والسنة المطهرة.
ويكتمل المشهد مع انتصار الأيات في إيران، وتأسيس دولة "ولي الفقيه" والعمل منذ البداية على تصدير الثورة، والتأسيس لأصولية شيعية مقابلة للأصولية السنية. وبدأت بنشر الحوزات الدينية، وانتعاش الطقوس الشيعية، وتقديم الدعم والتحالف مع النظام السوري، والمعارضة العراقية الشيعية، وإنشاء تنظيمات طائفية في كل المنطقة، مثل حزب الله في لبنان. وأصبحت السعودية وإيران قطبي الطائفية الرئيسيين في المنطقة.
وصعود الأصوليات السنية والشيعية، لا يُفسر فقط بانتشار المنظومة الفقهية الدينية، التي تشكل الحاضنة الأيديولوجية للأصولية الجهادية. إنما هناك عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، ساهمت في هذا الصعود، وعملت على تغذيته وإبرازه من جديد.
والنصف الثاني من القرن الماضي كان مشبعاً بالصراع الطائفي. وأولى الحروب بعد انتصار الأيات في إيران، كانت الحرب الإيرانية-العراقية (١٩٨٠١٩٨٨)، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا وهم "يحملون مفاتيح الجنة". وبغض النظر عن الأسباب الفعلية للحرب، والتي تتلخص في مجملها بالسيطرة على الشرق الأوسط والخليج، إلا إنه كان للتجييش الطائفي دور بارز في تعبئة المقاتلين، والشعبين الإيراني والعراقي. وهذا ساهم في الفرز والتخندق المذهبي الطائفي السني-الشيعي في المنطقة ككل. حيث وقف النظام السوري إلى جانب إيران، ودول الخليج والسعودية إلى جانب العراق.
وترافق ذلك مع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989)، والتي انتهت بشرعنة الطائفية السياسية في لبنان، وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية على يد النظام السوري، ثم تصفية المقاومة الفلسطينية وإخراجها من لبنان، بمشاركة إسرائيل، وتصفية بقايا المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب اللبناني، على يد حزب الله.
لكن الحدث الأبرز في التاريخ الراهن للمنطقة، هو الاحتلال الأمريكي للعراق (2003) واستبدال سلطة صدام حسين، بسلطة شيعية موالية لإيران. وانفجار المجتمع وبروز كافة مكوناته بالحقدوالانتقام والثأر من النظام السابق والطائفة السنية. وبذلك أصبحت الأرض خصبة لعودة الصراع الطائفي على المكشوف، وفتح البوابة الكبرى حتى يتصاعد إلى أبشع درجات القتل الطائفي. والمستمر حتى الآن.
وظهور داعش في العراق، هو "نتاج طبيعي لاحتلال أمريكا للعراق.. والانحياز إلى طائفة وإهمال وإذلال أخرى، انطلاقاً من نزعة الانتقام والثأرية. وزادت هذه النزعة بعد تبني بعض أبناء الطائفة السنية نهج المقاومة للاحتلال والعملية السياسية المنبثقة من رحمه"(٢٠)
ويرى "كروك" "أن داعش حركة وهابية بشكل عميق. ومن جانب آخر فهي شديدة التطرف بطريقة مختلفة. ومن الممكن أن ننظر إليها جوهرياً باعتبارها حركة تصحيحية للوهابية المعاصرة". "وقد تمتعت "رؤية الإخوان"- ولاتزال تتمتع- بدعم العديد من الرجال والنساء والمشايخ البارزين. وبمعنى من المعاني، كان أسامة بن لادن تمثيلاً دقيقاً للازدهار الذي حدث مؤخراً لدعوة الإخوان"(٢١).
وتتشابه الوهابية الأولى عند تأسيس المملكة وخلال مسيرتها، مع داعش وتأسيسها "للدولة الإسلامية "، في كثير من النقاط، وأهمها: الجهاد والعودة للسلف الصالح، والتكفير، والتوحش، وطاعة الخليفة-الأمير. والكثير من الحدود التي فرضت على المجتمع، مثل: قطع الرؤوس، والجلد، والرجم،،إلخ
ومقابل داعش ومشتقاتها، تشكلت المتشابهات عند الطائفة الشيعية مثل: فيلق بدر وعصائب أهل الحق، والنجباء، ولواء أبو الفضل العباس، وجيش المهدي، وجيش المختار. إلخ.
فابن لادن، والظواهري، والقرضاوي، والخميني، والأيات الشيعية، والفصائل العسكرية الجهادية، لم يهبطوا علينا من المجهول، ولم يخرجوا من أقبية المخابرات المحلية أو الأجنبية، إنما هم نتاج التراث والثقافة الدينية المسيطرة. وصراعها الراهن هو استمرار للصراعات الطائفية التاريخية، وإن اتخذت أشكالاً وآليات جديدة، على أيدي أقطاب الطائفية الكبرى، السعودية وإيران، وصراعهم للسيطرة على المنطقة. والبحث عن الدين الصحيح، هو طريق شائك ولانهاية له. لأنه بالأساس ليس هناك دين صحيح ودين خاطئ. إنما هناك دين واحد يتم تأويله وتوظيفه من مواقع ومصالح دنيوية مختلفة أو متناقضة، وكل فرد أو مجموعة تفسره وفق هذه المصالح.
وبالتالي لن يصمد طويلاً التفسير المؤامراتي السهل لصعود الأصولية السلفية والجهادية التي سيطرت على الساحة. كالقول بأن "داعش" والنصرة ومشتقاتهم صناعة أمريكية، أو أنها صناعة النظام وإيران. لأن هذه التفاسير لم تقرب بنية هذه الأصوليات، ومصادرها الأيديولوجية والاجتماعية والتمويلية. واللجوء إلى العوارض الجزئية للظاهرة مثل: الدعم الأمريكي للقاعدة في أفغانستان، ودعم النظام السوري للفصائل الجهادية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وإخراج الجهاديين من السجون بعد الثورة، والذين أصبح بعضهم قادة لهذه الفصائل، إلخ . لا يفسر صعود الأصولية في المرحلة الراهنة وخاصة بعد ثورات الربيع العربي. إنما تبقى هذه العوامل مساعدة لتقوية الأصوليات واستمرارها.
ضمن هذا المناخ جاءت الثورة السورية، تطالب بالحرية. وللأسباب المتعددة التي تم ذكرها سابقاً، بدأت لوثة الطائفية تلوح في الأفق منذ نهاية العام الأول من عمر الثورة
وكنتيجة أولى للفشل في الاستجابة للإشكاليتين السياسية والعسكرية خلال المرحلة التأسيسية. بدأت تبرز إلى السطح مؤشرات الانحراف للثورة منذ بدأية (2012). والتي بدأها النظام بالتجييش الطائفي ووصف الثوار بالإرهاب والمؤامرة الوهابية الخارجية الذين يريدون قتل الأقليات. وحصر التظاهرات وانطلاقتها من الجوامع.
وفي مواجهة ذلك استمرار العفوية السياسية عند شباب الثورة الممثلين في "الهيئة العامة للثورة، واتحاد التنسيقيات"، والذين كانوا مسؤولين عن تنظيم المظاهرات واستمراريتها. وبداية سيطرة الإسلام السياسي على الثورة ومنذ الأشهر الأولى، (العرعور مثلاً، ودعوة الظواهري للجهاد في سورية في "حزيران2011"، والإخوان المسلمين في المجلس الوطني). حيث بدأ "المجلس الوطني" منذ تأسيسه (تشرين الأول-2011) باستجداء التدخل الخارجي على الطريقة العراقية والليبية. وبدأت تبرز الشعارات الدينية في المظاهرات وعبر تسمية أيام الجمعة. حيث يُلاحظ العفوية والإسلاموية في دعوة فئات المجتمع المختلفة للانضمام للثورة، عبر تسمية أيام الجمعة مثل: الجمعة العظيمة، آزادي، العشائر، الشيخ صالح العلي. وهنا نلاحظ أن استحضار أرواح الشهداء لم يتم بصفتهم الوطنية، إنما بصفتهم الدينية والمذهبية (العلويين والمسيحيين. إلخ)، أو بوصفهم كتلاً أو كانتونات بشرية خاصة في المجتمع مثل: الأكراد والعشائر. وكأنها دعوة للانضمام لأهل الثورة وهم "السنة". في الوقت الذي كان فيه "العرعور" وغيره، يعملون علانية على أبشع أنواع التحريض المذهبي ضد النظام، رداً على تجييش النظام للطائفة العلوية وباقي الطوائف، ضد الثورة باعتبارها إرهاباً سلفياً سنياً سيقذفون بالعلويين في البحر!
وهذا بدوره أفسح المجال لبروز منظمة القاعدة (النصرة، والدولة الإسلامية)، واستيلائهما على مساحات واسعة من الأرض، وتكاثر الفصائل العسكرية الإسلامية، على الأرض السورية كالفطر، والتي بلغ تعدادها بالمئات. والتبدلات التي طرأت على الجيش الحر وقياداته الذين تحولوا إلى "أمراء حرب" وارتباطهم بالممولين السلفيين من السعودية وقطر وتركيا، والنزوع نحو التشدد الديني، وتصفية الطليعة الأولى من شباب الثورة، إما بالاعتقال والتصفية من قبل النظام، أو من قبل التنظيمات التكفيرية الجديدة. وأصبحت الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية، والعلمانية، والجيش الحر تهمة عقوبتها الإعدام، عند النظام والفصائل الجهادية التكفيرية المعارضة.
ومن المفيد التوقف عند بعض العوامل الموضوعية لبروز الأصولية.

الجهل المقدس، والتأخر التاريخي
الجهل المقدس هنا ليس "عدم المعرفة" بالمعنى القاموسي. (أو الجهل بالمعنى الإيجابي الذي يكون دافعاً لأسئلة جديدة، لاكتشاف ظواهر جديدة لم تكن معروفة من قبل. وبذلك يكون "محرك مقدمات المعرفة جميعاً". أو الجهل بالمعنى السلبي، أو الجهل الواهم، "الذي يوهم بأننا نفهم، في حين إننا لا نفهم". " وإنك لا تجهل الأشياء الأهم وحسب، وإنما تظن أنك تعرفها أيضاً" والذي أطلق عيه أفلاطون تسمية "الجهل المزدوج").(٢٢).
وإذا تجاوزنا الجهل بالمعنى العام. فإن الجهل بالمعنى الإيجابي غير موجود في منطقتنا. إنما السائد عندنا هو الجهل الواهم، أو الجهل المزدوج، والمنتشر بشكل واسع عند الطبقة السياسية أو المثقفين بشكل عام، وكذلك الجهل المقدس عند الأصولية الدينية بشكل خاص.
ويعمل (Olivier Roy -أوليفييه روا)-وهو باحث فرنسي مختص في الأصوليات- في كتابه "الجهل المقس" على تفسير صعود الأصوليات خلال النصف الثاني من القرن العشرين، استناداً إلى علاقة الديني بالثقافة، وانسحاب الديني من الثقافة واعتبارها دنيوية وثنية من جهة، ودور العولمة من جهة أخرى.
وعند الديني (يثير مفهوم الثقافة مشكلة لدى الإنجيليين والسلفيين، ولابد من التخلص من الثقافة المهيمنة، وتجاهل الثقافة الوثنية لإنقاذ صفاء الأيمان، والخلاص عند الديني لا يتطلب معرفة بل إيماناً، وهذا هو الجهل المقدس (٢٣). و(المقصود عند الديني ليس معارضة ثقافة رديئة بثقافة جيدة، إنما معارضة الثقافة بالإيمان، والعودة إلى الأزمنة الأولى للأنبياء)( ٢٤) لأن المعرفة برأي الديني لن تضيف شيئاً إلى الإيمان وكتاب الله. وبذلك يكون الجهل المقدس هو تقديس للجهل بالمعرفة والفلسفة والفنون والأفكار التنويرية والثقافة عموماً. إلخ
وإذا كانت الدولة الديمقراطية العلمانية-الأوروبية- التي فصلت الدين عن الدولة وعن البنية الثقافية، إلا أنها (لم تُزل الديني. إنما أظهرته كديني محض) (٢٥). وهذا ساهم في ظهور الأصوليات مثل الخمسينية البروتستانتية وانقلابها عل الثقافة المحيطة بها(٢٦).
وفي تاريخنا العربي الإسلامي وُصفت ثقافة ما قبل الوحي بالجاهلية أو الوثنية. وحين تم الانتقال من الجماعة الدينية إلى المجتمع السياسي (اقليم ودولة) اندرج الديني في المنظومة الثقافية، وانزلق ليتم (تدجينه)، ويعمل على تبرير النظام السياسي والاجتماعي، وامتلك بذلك حق الرقابة على الإنتاج الثقافي، ومازال يحتكر هذا الحق حتى الآن، كما هو حال الأزهر، والمراجع الشيعية، وتكفيرهم، وحتى قتلهم لكل مفكر متنور.
ويرى أوليفييه أن (ثمة ظاهرتان تلعبان دوراً رئيسياً في طفرة الديني اليوم هما: زوال الصفة الإقليمية، وفقدان الهوية الثقافية. وزوال الصفة الإقليمية تتم بانتقال الاشخاص، وخاصة انتقال الأفكار والمواد الثقافية والإعلام وأنماط الاستهلاك عامة في فضاء غير اقليمي) (٢٧).
و(إن انسحاب الديني من الثقافة ظاهرة جوهرية لتطور الديني في الحقبة المعاصرة، وهو نتيجة للعولمة ووسيلة لها في آن. وتفسر نجاح الإشكال الأصولية للديني) (٢٨). وأن (عودة الديني المعاصرة هي نتيجة للعولمة..والعولمة خلقت سوقاً عالمياً للديني)(٢٩).
فالتطور في وسائل الاتصال، وانتشار الفضائيات الدينية المذهبية بالمئات ساهم إلى حد كبير في انتشار الديني من جديد، والتي عملت على تكريس خطاب الكراهية الديني والمذهبي. وتؤجج الصراع الديني والطائفي بالإضافة إلى دوره في تجنيد الإرهاب الديني وانتقاله بسهولة من بلد إلى آخر.
ويشير تقرير البث الفضائي العربي، إلى تنامي القنوات الفضائية العربية الدينية بنسبة (٥٠٪) خلال الفترة(٢٠١١٢٠١٤)، حيث بلغ عددها (٩٥) قناة، والقنوات الإخبارية (٦٨).(٣٠). ويشير تقرير أصدرته جامعة نورثويسترن في قطر، حول نفس الفترة بأن عدد القنوات الدينية السنية وصل إلى (٥٥)، وتضاعفت القنوات الشيعيية من (٥) إلى (١١)، والمسيحية من (٢)، إلى (٩)(٣١).. ويمول هذه القنوات: السعودية، والإمارات العربية، وقطر، وإيران.(٣٢).
وبالتأكيد الانسحاب الراهن من الثقافة يُحدث عدوانية مزدوجة داخلية وخارجية تتمثل في إصدار الفتاوي التكفيرية، وإجراءات ضد اللاديني أو الرماديين وتكفيرهم وحتى اغتيالهم، مثل فرج فودة، حسين مروة...إلخ . وتتحول المسافة بين المؤمن وغير المؤمن إلى حاجز (ويرى المؤمنون فاتري الأيمان والخامدين جزء من العالم الدنيوي والوثني) (٣٣). ولذلك تضع الحركات الدينية قواعد متزمتة مثل: التدخين وشرب الكحول ومراقبة السلوك الجنسي، والسينما والتلفزيون والمسرح والرقص..إلخ .
وتتشارك الأصولية المسيحية مع الإسلامية بالدعوة إلى العودة إلى الأزمنة الأولى للرسل، أي للمسيح ومحمد. لكن الفرق جوهري بين عودة الأصولية الدينية في الدول العلمانية مثل الخمسينية البروتستانتية، والأصولية السلفية الشيعية والسنية مثل: زينبيون، وفصائل أهل الحق، وطالبان وداعش والنصرة، أن الأولى مجموعات مغلقة، سلمية، تمارس طقوسها ضمن القانون العام ولا تفرض نفسها على أحد، ولا تسعى للسلطة. أما التنظيمات السلفية والجهادية، فهي سياسية عسكرية عنيفة، تسعي لفرض نفسها على الجميع بالسعي للسيطرة على السلطة، وأن تُعيد المجتمع كله إلى العيش كما كان أيام الرسول. والسبب أن الدول المتقدمة أقامت دولتها الديمقراطية الحديثة، ونحن فشلنا حتى الآن في ذلك وما زلنا خاضعين لأنظمة استبدادية، وأيديولوجيات مذهبية قاتلة.
وهذا ينقلنا إلى مفهوم أشمل وهو مفهوم (التأخر التاريخي)، عند ياسين الحافظ. وكما يوجزه أحد دارسيه بأنه (تأخر سياسي في المقام الأول. وهو تأخر في الذهنية ثانياً. وتأخر في النسيج السوسيولوجي الذي يحكم العمارة المجتمعية ثالثاً. وهو أبعد وأعمق من مسألة التخلف الاقتصادي، والتأخر التقني والتكنولوجي رابعاً. وخامساً هو منجدل مع أساطير ألهوية السرمدية والرسالة الخالدة (للأمة) التي لم تنوجد بعد. وسادساً التأخر التاريخي متراكب مع وضعية السديم البشري والاختلاط والظاهرة القطيعية التي تمنع التشكل الطبقي من جهة، ومن جهة ثانية تسحق الفردانية وتذوب الفرد في سديم القطيع إضافة لترسيخ العقلية الذكورية وتعميقها) (٣٤).
فالتأخر التاريخي والجهل المقدس كمعطى موضوعي عام هو الذي أفرز الأنظمة الاستبدادية-العائلية والقبلية والطائفية، في المنطقة عموماً، والتي لا تختلف من حيث الجوهر عن السلطنة العثمانية، والسلوكية التي كانت سائد في تاريخنا القديم. وتحالفت مع المؤسسات الدينية التي قدمت الشرعية، وعملت على إبقاء المجتمع كرعية مهمتها تمجيد السلطان والتسليم بالقضاء والقدر، ومحافظاً على بنيته كمجموعات مذهبية أو عشائرية منغلقة على نفسها.
والجذر الأساس لصعود الأصوليات في الشرق الأوسط، هو الفشل في إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة أو "الدولة-الشعب" التي تعبر عن كل مكونات المجتمع، هو الذي أفسح المجال لاستمرار البنى الاجتماعية التقليدية وأيديولوجياتها، منذ عهد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي. وهذه الأنظمة التي استولت على السلطة في منطقة الشرق الأوسط-العالم العربي- كانت ذات بنية طائفية مذهبية وعائلية وقبلية، حتى لو اكتست بقشرة قومية أو علمانية كما هو في سورية والعراق. فالبنية المذهبية للنظامين في سورية والعراق، حيث المجتمع متعدد المذاهب والقوميات، هي التي استدرجت إلى الساحة المذهبيات الأصولية الشبيهة والمتعاكسة، لتدخل البلاد في صراعات مدمرة للوطن.
ومن الطبيعي، والموضوعي أيضاً، "أن ينفجر المكبوت والمحتقن تاريخياً بكل قيمه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجاراً"(٣٥). ويفرز مكوناته، ويعيد صراعاته التاريخية التقليدية، وأخطرها صراع المتشابهات الطائفي والممتد في تاريخنا القديم، وكأننا لم نخرج منه، والذي عاد إلينا بكل أشباحه ليسيطر على الحاضر من جديد.
والاستبداد المترافق مع الجهل، والتأخر التاريخي، لا يشمل فقط النظام السياسي الحاكم، إنما يشمل كل البنى المجتمعية والسياسية والعائلية. ومع أن الأنظمة أوجدت مؤسسات حديثة، وتعليم، وجامعات. إلخ . واستوردت التقنيات الحديثة، إلا أنها لم تستورد، أو لم تنشئ الأسس المعرفية والعلمية لمنتجات الحداثة، إنما حافظت على بنيتها التقليدية. وأحد المؤشرات على ذلك هو نسبة إنفاقها على البحث العلمي، والتي لا تتجاوز (0,1%) من الناتج المحلي الإجمالي، في حين نسبة الانفاق في إسرائيل تبلغ ( 3,9%)، وهذا يعادل ضعف الانفاق في البلدان العربية مجتمعة(٣٦).
ويقابل الأنظمة الإسلام السياسي الذي يقدس الجهل، بدعوته للانسحاب من المعرفة والثقافة بأنواعها المتعددة، ويعمل على إعلاء شأن وقيمة العلوم الدينية والشرعية، ويقلل من أهمية العلوم الدنيوية، ويضيف إلى ذلك احتقاره للمجتمعات الأوروبية وانظمتها السياسية، والاجتماعية، ويعتبر أن المجتمع الإسلامي هو الأفضل وفق قاعدة " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ". ولذلك يرفض الإسلام السياسي الديمقراطية ويستبدلها بالشورى، أو يختزلها إلى صناديق الاقتراع كوسيلة للوصول إلى السلطة، ويرفض الدولة الديمقراطية العلمانية، ويستبدلها بمفهوم متلبّس مثل الدولة المدنية بمرجعية دينية. وضد العلمانية باعتبارها كفر. ورفض الحرية عموماً وحدها بحدود الشريعة. إلخ
والقوى الوطنية الديمقراطية ليست بأفضل حال. ولم تشكل بعد فضاءها الخاص بها. إنما بقيت إما ملحقة بالأنظمة الاستبدادية، أو ملحقة، أو تتمسح بالإسلام السياسي، وداعميه. كما حصل في المجلس الوطني ثم الائتلاف. والقبول بصيغة الدولة المدنية "التعددية" والتي تم تعميمها ليرددها الجميع بدون أي تعليق. والقبول بالإقامة في أحضان الدول الإخوانية والانصياع لأوامرها.
وبعد أن تم تصفية جيل الشباب الثوري الأول الذي أشعل الثورة، سواء على يد النظام أو الكتائب العسكرية المعارضة. نلاحظ: أولا: أن كل التيارات السياسية في المعارضة لم تخرج من عباءة الذهنية الثقافية الاستبدادية، التي تسيطر على عقولنا وسلوكنا منذ مئات السنين. وثانيا: أن الانتقال منذ بدايات القرن الحالي، من الأيديولوجيات الضيقة الاستبدادية-الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية- إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم يكن انتقالاً حقيقياً، لأنه لم يستند إلى حامل سياسي واجتماعي فعلي لأفكار التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأن القشرة الديمقراطية التي ألصقها السياسيون على وجوههم لم تكن كافية لتستر عورات الأيديولوجيات القابعة في العقول القديمة. ويبدو صحيحاً القول " بأن الأفكار الجديدة تعيش طويلاً في كهوف المنظومة الفكرية القديمة قبل أن تخرج إلى الوجود". ومما سبق من الطبيعي أن تملأ أشباح الماضي الأرض والفضاء.


ماركس وأشباح الماضي
كتب ماركس في بداية كتابه (الثامن عشر من برومير "لويس بونابرت")، وفي تحليله للثورة البرجوازية الفرنسية (1848)، وإقامة الجمهورية الثانية (1848-1852)، ثم انقلاب لويس بونابرت (ابن اخ نابليون) في (1851)، والذي وصفه "بالنصاب الماكر" وإعلان نفسه بعد عام إمبراطوراً لفرنسا.
"يقول هيجل في مكان ما، إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم، إذا جاز القول، تظهر مرتين. وقد نسي أن يُضيف المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة"(٣٧). في اشارة إلى "لويس بونابرت" –المسخرة- الذي حاول إعادة مجد الامبراطورية البونابرتية.
ويتابع ماركس:
"إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم. ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يُواجهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط بتحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل. عند ذلك بالضبط في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجؤون في وجل وسحر إلى استحضار ارواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة"(٣٨).
وفي سورية كانت "المأساة" على يد الطاغية-الأب. لكن "المسخرة"، وهو الطاغية ذاته، إنما بصورة كاريكاتورية. ولم تأتنا على الطريقة الفرنسية، إنما على الطريقة "الخلدونية"، أي التوريث للسلطة اعتماداً على "العصبية" العائلية والطائفية، وهي أخطر واكثر دموية من العصبية البدوية الخلدونية. ولم ينتظر الشعب أربعة اجيال-بحسب ابن خلدون-لانهيار الدولة. انما جيلين فقط أو نصف قرن كانت كافية لوضع حد للنظام الاستبدادي، وانطلاقة ثورة الحرية والكرامة الإنسانية.
وإذا عدنا إلى ماركس، واستمرار شبح الماضي في الحاضر. يقول: "إن ثورة 1789 اكتست بثوب الجمهورية الرومانية تارة، وثوب الإمبراطورية الرومانية تارة أخرى، ولم تجد ثورة 1848 (البرجوازية) شيئاً أفضل من التقليد الساخر لثورة 1789(٣٩).
أما الثورة السورية، فلم تجد ثوباً تاريخياً تكتسي به ويعبر عنها، لأنها أول ثورة للحرية في تاريخنا منذ آلاف السنين. ولم تجد ثورة تشبهها كي تقلدها. وليس في وعي شباب الثورة، من الثورات الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، والزعامات الوطنية التي تربعت على كرسي السلطة خلال مرحلة الاستقلال. سوى علم الاستقلال الأول. والذي تم استعارته كرمز للتمييز عن علم النظام.
ولذلك اكتست في مرحلتها الأولى بثوب المستقبل واستمدت شعاراتها من هذا المستقبل المنشود الذي سيسوده الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.
لكن أشباحاً من العهود القديمة كانت تحوم في فضاء الصراع بين النظام والثوار.
فاستعار النظام ببذلته الحديثة شعار الاستعمار التاريخي وهو "حماية الأقليات"، واستجلب الميليشيات الشيعية المذهبية وعماماتها لتستمر ف ي اللطم والنوح على المظلومية التاريخية، واستعارت لها الأسماء والشعارات من جعبتها الدينية المذهبية مثل: حزب الله، فيلق بدر، ذو الفقار، زينبيون، أبو الفضل العباس..إلخ . وكأننا لم نغادر معركة كربلاء والتي مر عليها أربعة عشر قرناً. وإنها قادمة لحماية الموتى في "المراقد المقدسة"، من أجل تمجيد وإضفاء صفة القداسة على معركتها، تحت شعار "لبيك يا حسين"، ولإخفاء المحتوى الفعلي لأهدافهم المتمثلة باستمرار السيطرة والتسلط على المجتمع، وعلى المنطقة بأسرها.
وبالمقابل، كادت الثورة أن تنتصر في عامها الأول وبعد تحريرها للكثير من الأراضي السورية. إلا أنها فشلت في إقامة مناطق محررة بالفعل، وفق شعاراتها: الحرية والعدالة والكرامة، وتقديمها للمجتمع كنموذج للثورة ولدولة المستقبل التي ستكون أكثر تطوراً وبشكل جذري من سلطة النظام.
وهذا الفشل أفسح المجال لأشباح الماضي أن تحط على الأرض وتسيطر عليها، واكتسى بها "الحجي"، و"الشيخ"، الذين حكموا بالسيف والعمامة، وعملوا على إعادة المجتمع نحو الماضي البعيد، واستعاروا أسماء الكتائب ورموزها من التاريخ القديم، وبالضبط من التاريخ الإسلامي المذهبي القديم. مثل: الكتيبة الخضراء، المهاجرين والأنصار، أنصار الدين، التوحيد والجهاد، جند الأقصى.. سرايا مروان حديد، كتيبة الإمام البخاري. إلخ . وتحت شعار "الله أكبر". وإزاحة الرايات السوداء، رمز الثورة الأخضر
وتوضح كيف "تجثم الأجيال الغابرة كالكابوس على أدمغة الأحياء". وكأننا لم نغادر مرحلة الثمانينيات. فالنظام استعاد العنف الطائفي ضد المتظاهرين، وخرج المكبوت من الصدور التي لم تتجاوز أيضا آلام الجيل السابق.
في اللحظات الثورية التي شعر فيها السوريون بأنهم "منشغلين بتحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل" أي أن يكونوا أحراراً ويشعرون بالكرامة الإنسانية، ويقيمون دولتهم الديمقراطية الحرة. لم يجدوا في جعبتهم من الماضي إلا أرواح القديسين والملائكة و"طيور الأبابيل" لتقاتل معهم، وأيضاً الشخصيات التاريخية الدينية المذهبية، والشعارات المذهبية، وحتى الأزياء.
وقد حمل الطاغية ببذلته الحديثة على كتفيه، "حسن نصر الله"، بجبته السوداء، و"الخامنئي" بلحيته البيضاء، وهم يصرخون: "تحرير القدس يمر من حلب". وعلى المنصة المقابلة، يتربع "الحجي" والخنجر، و" الشيخ" بعمامته البيضاء وجلبابه القصير. والبغدادي والجولاني والسليماني ممسكين بأول الدبكة ويلوحون بسيوفهم، ومن خلفهم الملوك والشيوخ العرب بجلابيبهم الناصعة البياض. وفي الساحة السورية، اجتمع المتشابهون، "كي يمثلوا مسرحية جديدة، في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم"، على أنغام اللطم والنواح، وصليل السيوف، في صراع دموي عنوانه الرئيس: من يحكم من؟ والهدف السلطة والثروة.
وأما الجمهور الذي فقد الملايين من أبنائه بين قتيل، ونازح، ومشرد، ومهاجر، أصبح يلعن الإله والشيطان، الثوار والنظام، الثورة والحرية، وبدأ يحن للعودة إلى الأيام الخوالي حتى بوجود الطاغية.

المجتمع والتأخر
لكن التوصيف العام، بأننا نقدس جهلنا، ونعاني من التأخر التاريخي، يجعلنا نقف أمام إشكالية كبيرة، وسنجد أنفسنا أمام أرضية لجلد الذات وتبرير اللافعل. وباعتبارنا شعباً متخلفاً أو متأخراً، تدفع الكثيرين إلى الانتظار حتى يتقدم هذا المجتمع بقدرة "القدير"، وتبرير الجهل، وبالتالي تبرير للاستبداد وكل آلياته وأشكاله ووسائله. وبذلك يصبح التوصيف العام لا يخدم المقاصد المعرفية بدون العمل على مقاربة الإشكالية المطروحة.
وعموماً يتم توظيف مفهوم الجهل، أو التأخر التاريخي من قبل المثقفين والسياسيين بشكل دوغمائي، وجعله منحصراً بالشعب، أو "الجماهير"، وجلد هذا الشعب لأنه متخلف، بقصد الترفع، وتبرير الأمر الواقع، والتهرب من المسؤولية. مثل إرجاع الطائفية السياسية، واعتبارها موضوعية، لأنها انعكاس لمجتمع متخلف منقسم إلى طوائف. وأن المجتمع المتخلف يفرز نظاماً ومعارضة متخلفين واستبداديين.. فالنظام والمعارضة من الشعب، والشعب متخلف، وبالتالي "كما أنتم يُولى عليكم". ويكون الحل برأي هؤلاء أن "الثورة الفكرية يجب ان تسبق الثورة السياسية". والثورة الفكرية المعرفية تحتاج إلى زمن طويل قد يستغرق عدة قرون. وبالتالي في هذه الحالة يتم ترحيل الثورة، أو الثورة السياسية إلى المستقبل غير المنظور.
وتبرز هذه المسالة بوضوح في المرحلة الراهنة، عند الطبقة السياسية عموماً، وخاصة حين وضع تصوراتها لسورية المستقبل، وتناولها مفاهيم الحداثة والتنوير للتعبير عن شكل وبنية الدولة القادمة المنشودة.
وكمثال، مفهوم الديمقراطية. وهو مفهوم إشكالي. وذلك إما رفضها للديمقراطية كلياً، لأنها نتاج "الغرب" الكافر!، كما هو عند الإسلاميين عموماً، أو رفض العلمانية التوأم الذي لابد منه للديمقراطية. والحجة دائماً إن مجتمعنا متخلف، متدين، غير مؤهل للديمقراطية بعد، وإن العلمانية هي ضد الدين، وبالتالي أي دولة ديمقراطية برأيهم يجب أن يكون تشريعها الفقه الديني.
هذه الرؤية الشعبوية القدرية تكمن خلفها الأيديولوجيا الاستبدادية، ومحاولة استمرار سيطرتها، والإبقاء على المجتمع متخلفاً، وتقدم التبرير للاضطهاد وأن هذا الشعب لا يكون مطيعاً لولي الأمر إلا بالقمع و"البوط العسكري" فوق رأسه كما تمارس كل الأنظمة الاستبدادية في العالم.
ويقابلها الرؤية الارستقراطية-أن صحت التسمية- في مقاربتها لإشكالية الديمقراطية، كما هي عند "جورج طرابيشي" الذي يوزع المسؤولية بين "الأنظمة الإستبدادية، التي لا تتحمل الانتخاب الحر، والمجتمع الذي لا يتحمل الرأي الحر". وأن "الديمقراطية بذرة برسم الزرع، أم ثمرة برسم القطف". والتفصيلات هامة وطويلة لكنها خارج موضوعنا.(٤٠).
وعبر التاريخ لم يختر الشعب المستبد الذي يحكمه. إنما كان دائماً الضحية لمستبد يغتصب السلطة ويحكم بالقوة. والشعب دائماً هو ضحية للحروب الداخلية والخارجية. ضحية حروب السياسيين. وهو لا يعرف وليس المطلوب منه أن يعرف عن كيفية الخروج من الأزمات التي تواجهه، أو كيف يتقدم المجتمع. وليس المطلوب منه أن يدرس الفلسفة، وعلم الاجتماع..إلخ
الطبقة السياسية التي تحكم هي التي يجب أن تمتلك الشجاعة وتتحمل المسؤولية في الانتصارات والهزائم، وليس المجتمع أو الشعب المغلوب على أمره. لا أن توزع المسؤولية على الجميع، كمن ينثر أوساخه بقصد التنظيف.
في الخميسنيات الطبقة السياسية هي التي فشلت في إقامة الدولة الوطنية، ليس لأنها جاءت من مجتمع متخلف أو لأن تركيب المجتمع متخلف ومنقسم. وليس أيضاً بسبب عدم الفهم وخاصة أن أغلبهم اطلعوا على المبادئ العامة لفلسفة التنوير.. إنما بالضبط نتيجة الأيديولوجيات المنغلقة، مثل: (حزب الشعب، والحزب الوطني) الذين سيطروا على أغلب الحكومات المتعاقبة، والذين لم يخرجوا عن إطار مصالحهم الشخصية (الاقطاعية-البرجوازية)، باتجاه الوطنية السورية.
والأنظمة العربية هي التي انهزمت في كل الحروب مع إسرائيل وخاصة (١٩٤٨١٩٦٧)، وليس الشعب العربي هو الذي انهزم، أو لأن هذا الشعب كان متخلفاً. والنظام السوري الذي تم بناؤه كنظام طائفي، لم يتم تفويضه من الطائفة العلوية، وكذلك "الإخوان المسلمون" ومشتقاتهم المتنوعة وصولاً إلى "داعش والنصرة"، لم يتم تفويضهم من "أهل السنة".
والشعب الفرنسي عند ثورة (١٧٨٩) لم يكن أكثر تقدماً من الشعب السوري عندما نهض بثورة (٢٠١١). ولم يكن الشعب التركي أيضاً أفضل حين أعلن أتاتورك بجرأة وشجاعة إلغاء الخلافة وإعلان تركيا دولة ديمقراطية علمانية منذ ١٩٢٣. وكان الشعب في ثورات الربيع العربي أكثر تقدماً من كل الطبقة السياسة المعارضة. لكن الثورات الشعبية، والعفوية خاصة لا تدوم طويلاً، ولا تستمر إذا لم تتوفر طبقة سياسية على مستوى تحدياتها وأهدافها، تقودها إلى بر الأمان. وهذا لم يتوفر في ثورات الربيع العربي إلا جزئياً في تونس، وهي أفضل النماذج حتى الآن.
صحيح أن كل مفاهيم التنوير الحديثة مثل الديمقراطية، والعلمانية، والمساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة. إلخ ، ضرورية لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة والتي تحتاج إلى ظروف موضوعية ناضجة، وتبني المجتمع لهذه المفاهيم وقيم الحداثة، وهي عملية تاريخية طويلة. لكن ذلك لن يحدث بدون وجود طبقة سياسية، تكون قد انزرعت في رؤوسها هذه المفاهيم أولا، وتمتلك إرادة سياسية حاملة للمشروع الوطني. واحد العوامل لظهور المتشابهات هو غياب هذه الطبقة في الثورة السورية وعموم ثورات الربيع العربي. بمعنى آخر، البوابة السياسية هي المقدمة الأولى لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، وخاصة نحن في القرن الواحد والعشرين، والمعرفة متاحة للجميع في عصر العولمة. ولا أعتقد أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية على الطريقة الماوية، حتى نبني دولتنا المنشودة.

٥ هل من آفاق للخروج من النفق؟

الحديث عن آفاق للخروج يدفعنا لمقاربة الواقع الراهن، ومحاولة أن نعقل واقع سورية-الآن.
والواقع المنظور يشير إلى أن سورية أصبحت في قبضة الفاعلين الدوليين الكبار، أي روسيا وأمريكا، وتراجع دور القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران والسعودية، وبنسب مختلفة. وأيضاً قوى النظام والمعارضة. وغياب شبه كامل لقوى الثورة.
ولم تنضج الظروف بعد لأي حل سياسي، أو تسوية سياسية. وجولات جنيف ليست أكثر من تعبئة فراغات دولية، كتغطية وهمية لما يجري على الأرض. ويبدو أن إهمال جنيف، أو التسوية السياسية، في المرحلة الراهنة لم يكن عفوياً أو تكتيكياً، أو خطة روسية منفردة، إنما الخطة الروسية منسجمة مع الرؤية الأمريكية للحل في سورية، والتي تستند إلى العمل على مسار "وقف فوري لإطلاق النار، ويعقب ذلك مفاوضات حول شكل الدولة القادمة وحكومتها المستقبلية"، وليس العكس، أي تسوية سياسية أولاَ -كما يحصل في جنيف- وإصلاح مؤسسات الدولة وحكومة جديدة، وانتخابات إلخ ، يعقبه وقف لإطلاق النار، إذ سرعان ما تنهار المفاوضات وتعود الحرب من جديد، وبالتالي، "إن وضع التسوية السياسية كشرط مسبق للسلام هو وصفة لمواصلة الحرب". وهذه الرؤية ليست جديدة، إنما تعود إلى عهد أوباما، ونشرتها مؤسسة راند (Rand Corporation)، بعنوان "خطة سلام من اجل سوريا" في ديسمبر (٢٠١٥)، وهي "منظمة بحثية غير ربحية، وغير حزبية" كما تعرف بنفسها، ومقربه من الاستخبارات الأمريكية وصناع القرار (٤١).
وجاء ترامب ليعزز التواجد الأمريكي على الأرض مقابل روسيا، والتفاهم معها باتجاه فرض خطة سلام على الجميع في سورية. وكانت البداية الموافقة على إعطاء الاهتمام لمؤتمرات "أستانا"، ودعم مسار إيجاد مناطق "خفض التوتر"، كمقدمة لوقف إطلاق النار. والخطوة الفعلية الأولى- ولأجل إسرائيل أولا- هو اتفاق ترامب-بوتين في هامبورغ على وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، ويشمل القنيطرة ودرعا، وتم تنفيذه بدءاَ من (٩تموز٢٠١٧)، ويهدف إلى "تأمين حدود الأردن وإسرائيل ومنع النظام، وإيران، وداعش، التواجد في تلك المنطقة" كما ورد في نص الاتفاق(٤٢).
وسورية الآن تتقاطع إلى حد كبير مع الخطة المذكورة. والتي تتضمن: أولاً، "وقف شامل لإطلاق النار". وثانياً، "تقسيم سورية إلى ثلاث مناطق آمنة: النظام وميليشياته في المنطقة الغربية والمدن الكبرى، والمعارضة المسلحة في الشمال والجنوب السوري، والأكراد في الشمال. "والمنطقة الرابعة في الشرق لداعش، والتي ستتعاون الأطراف الخارجية لطردها منها". "ومسؤولية وقف إطلاق النار ستقع على القوى الدولية التي تدعم أطراف النزاع الآن. وهو ما يحتم على الولايات المتحدة وروسيا وإيران ضمان التزام النظام بالاتفاق، فيما ستحافظ الولايات المتحدة على إلتزامات الأكراد، وستضغط كل من تركيا والأردن على المعارضة السنية للالتزام بهذا الاتفاق وتطبيقه".
ويستند التفاهم الروسي-الأمريكي إلى وقف الدعم العسكري لفصائل المعارضة، ويقابل ذلك الضغط الروسي على النظام كي يلتزم بوقف إطلاق النار، بعد تعهد أمريكي بعدم السعي لإسقاط النظام، وإقناع السعودية وتركيا بذلك. و"لرصد وضمان الحفاظ على وقف النار، من الضروري انتشار القوات الخارجية في أماكن الأصدقاء، قوات تركية في الشمال، وأردنية في الجنوب، وقوات أمريكية في مناطق الأكراد، وقوات روسية في مناطق النظام ".
- إلا أن تنفيذ هذه الترسيمة النظرية مرهون بالتفاهم الأمريكي الروسي، وهذا غير متوفر حتى الآن، وقد لا يتكرر اتفاق هامبورغ في المناطق الأخرى. وذلك بسبب الموقف الأمريكي الملتبس من النظام، وتركيزه على محاربة داعش ودعم الأكراد. في حين الموقف الروسي أكثر وضوحاً في دعمه للنظام، والاستفادة من خطة مناطق "خفض التوتر"، بحيث يمكن للنظام استعادة المناطق المتبقية تدريجياً، بدعم روسي إيراني. ولن يكتفي النظام بالحدود الراهنة. وبالمقابل حصار الكتائب العسكرية المعارضة، بحيث لا يمكنها التقدم خطوة واحدة على الأرض.
- وبالتالي على الأرجح لن يحصل وقف كامل لإطلاق النار في عموم سورية،إلا بعد القضاء على داعش، وهذا قد يستغرق العامين القادمين. وستكون المنطقة الشرقية الأكثر توتراً ودموية، سواء خلال تحريرها من داعش، أو بعد ذلك والصراع على السيطرة عليها، بين النظام وإيران، والأكراد، والمعارضة، إذا لم "تصل إلى إدارة دولية، وقوة دولية برعاية الامم المتحدة" تراقب وتضبط وقف إطلاق النار. وليست هناك أية مؤشرات حول مصير إدلب. لكن الدول الإقليمية ستحاول برعاية روسية، تفتيت الفصائل العسكرية وإخضاعها لتركيا، أو روسيا مباشرة، وليس النظام.
- والإشكالية الأهم في مستقبل الصراع، هو النظام السوري وإيران، واللذين أصبحا يتمتعان بموقف أقوى من السابق. فالكتلة العسكرية الصلبة للنظام لم تنهر، ومازال قادراً على استخدامها بفعالية ضد المعارضة، وإيران مع حزب الله أصبحوا يشكلون رقماً صعباً على الأرض.
وكل الوقائع خلال السنوات السابقة تؤكد أن النظام لا يمكن أن يقبل أي نوع من التسوية يمكن أن تؤدي إلى مشاركته في السلطة. وتصوره للتسوية لا يتعدى صنع "جبهة تقدمية" جديدة، كما صنعها الأب. ومازال الرأي صحيحاً، إن رحيل هذا النظام لا يمكن أن يتم إلا بالقوة العسكرية، وقد فشلت المعارضة وحلفاؤها بذلك. وليس في الأجندة الأمريكية ما يشير إلى اسقاط النظام، عسكرياً، إنما يعمل الأمريكان وفق مقولة "اتركوا مشكلة الأسد للروس"، ويسعون لإضعافه بتثبيت التقسيمات الجغرافية على الأرض، ودعم المناطق ومجالسها المحلية التي يتواجدون فيها، في الجنوب. ومع الأكراد في الشمال، وبالتالي لم يعد النظام قادراً على السيطرة على كامل سورية كما كان في السابق، كما يلاحظ بعض الخبراء الأمريكيين.
وبالتالي نحن أمام مرحلة انتقالية، يرسمها الروس والأمريكان، متفاهمين، أو منفصلين، بإنشاء مناطق جغرافية متعددة، يحكمها الفاعلون الإقليميون برعاية روسية أمريكية، وإضعاف النظام المركزي، واستمراره يحكم وفق اللامركزية الإدارية، والسياسية، كأمر واقع، إلى أن يتم الحسم والوصول إلى سيناريو واضح لكيفية رحيل هذا النظام، أو إ عادة تجديده. وقد تستغرق هذ الفترة السنوات الأربع القادمة، واستحقاق الانتخابات الرئاسية، الذي قد يشكل فرصة دستورية للبحث العملي حول مصير النظام.
وخلال هذه المرحلة الانتقالية، سيستمر النظام بالعمل على كسب مزيد من الأراضي، وعدم قبوله بالحدود الراهنة. وبالمقابل تعمل القوى التكفيرية، والمعتدلة أيضاً على ترتيب أوراق الهزيمة، إذا أحسنت ترتيبها، للعود لساحة الصراع من جديد.
-

ضمن الرؤية السابقة، وبالعودة إلى العامل الطائفي ودوره في مستقبل الصراع في سورية. "ليس محتوماً أن الطائفية سوف تزيد أو تنقص خلال العقد المقبل. وذلك لأن شدة الطائفية تعتمد على مجموعة من الدوافع" أو العوامل التي يمكن أن "تزيد أو تقلل من خطر الصراع الطائفي"، كما استنتج عدد من الباحثين في بحث هام نشرته مؤسسة راند (Rand Corporation) بعنوان "مستقبل العلاقات الطائفية في الشرق الأوسط"(٤٣).
وقد عمل الباحثون على فرز ثمانية عوامل/ دوافع تزيد أو تقلل من خطر الصراع الطائفي- [في منطقة " الصدع الطائفي" كما يسمونها، والتي تشمل (البحرين، وإيران، والعراق، والأردن، والكويت، ولبنان، وعمان، وقطر، والسعودية)، حيث نسبة الشيعة إلى السنة تقريباً (١:١) ويشكل الشيعة ٥٤٪ والسنة ٤٦٪] - وذلك من اجل استنتاج أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل الصراع الطائفي خلال العقد القادم حتى (٢٠٢٦).
والعوامل الثمانية هي: الهوية الذاتية، والخطاب الديني، والجهات الفاعلة غير الحكومية، ودور الدول الإقليمية، ونوعية/جودة الحكومة. والظروف الاقتصادية، واتجاهات النزاع، والفاعلون الخارجيون.
وتوصل الباحثون لأربعة سيناريوهات محتملة:
الأول: صعود النزعة المحلية والتي هي رد فعل على الأحزاب الإسلامية وفشلها في إدارة المناطق.
والثاني: معسكر شيعي موحد وسط الفوضى السنية. حيث سيتراجع المعسكر السني لانشطاراته وتفككه، مقابل معسكر شيعي متماسك وقوي، وعودة للنظام للسيطرة على المدن الكبيرة، وإيران ستكون أكثر استقراراً.
والثالث: مجازفة سياسية تجلب الانفراج. حيث يتصاعد النزاع الإقليمي من شانه أن يهيئ السعودية وإيران لمواجهة عسكرية مباشرة. وتمويل للأقليات في كل بلد. ووصول النزاع الطائفي بين السعودية وإيران للذروة.
والرابع: النزاع العرقي وإزاحة دافع الانعزال الذاتي.
حيث يتخامد العنف النشط تحت راية الطائفية، بسبب أن الصراع العرقي والتشرد والنزوح قد أديا إلى الفصل الفعلي بين المجتمعات المحلية، علي أساس طائفي أو عرقي. وتضع المجتمعات في خطر فيزيائي يستند على الانفصال وليس القبول. وتظهر الانقسامات الطائفية الجغرافية كأمر واقع، مترافقة مع التطهير الطائفي والعرقي. وهذا الفصل أو الانقسام يعمق التخندق الطائفي، وينذر بصراع يختمر، ويُؤسس له للانطلاق من جديد.
ويمكن مقاربة هذه العوامل في سورية خاصة، كما هي في الواقع المنظور، ومحاولة استشراف المستقبل:
- إذا افترضنا أن الحرب ضد داعش والنصرة، ستستغرق العامين القادمين، و إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار. فإن النتيجة الأولى، لن يكون البديل إقامة "الحكم الرشيد". وعلى الأرجح سيكون البديل حكومة تسووية انتقالية فاشلة، وفاسدة، بغض النظر عن الشكل الذي سيتم ترتيبه، وبالتالي عدم توفر الحكم الرشيد، والظروف الاقتصادية المنهارة، وعدم توزيع الثروات بشكل عادل، سيجعل الصراع الطائفي مستمراً.
- و"الفاعلون غير الحكوميين" مثل منظمات المجتمع المدني، والوجهاء والمشايخ، والجمعيات الخيرية، على الأرجح لن يشكلوا جسراً بين الطوائف، لأنه لم يتشكل حتى الآن هؤلاء الفاعلون على المستوى الوطني، والمتحررون من الأجندات السياسية الطائفية. كما يمكن أن نلاحظه في بنية هذه المنظمات المنتشرة كالفطر، والتي تنخرها العائلية والمناطقية، والطائفية، والفساد والافساد.
- ودور "الدول ذات الثقل الإقليمي مثل السعودية وإيران في التأثير على العلاقات الطائفية سيدوم على مدى عشر سنوات". وهذا يعني استمرار التغذية لاستمرار الصراع الطائفي. والخطاب الطائفي، سيظل مستمراً طالما تقف وراءه دول طائفية، وأموال، وفضائيات، وجوامع، وحسينيات، تعمل يومياً على التجييش الطائفي، والتكفير المتبادل، والانتقام، والثأر. وخاصة أن الحرب لم تتوقف حتى الآن، والدماء لم تجف بعد.
- ورغم تماسك المعسكر الشيعي، مقابل المعسكر السني المتشتت، والذي يزداد تمزقاً، إلا أن الصراع الطائفي بين السعودية وإيران لن يصل الي مواجهة عسكرية مباشرة-كما هو السيناريو الثالث- بسبب عدم استعداد السعودية لذلك، وانشغالها في اليمن، بالإضافة إلى أن أمريكا على الأرجح لن تدفع بالصراع إلى هذه الدرجة القصوى. وسيقتصر الأمر على استمرار إيران بدعم الأقليات الشيعية في سورية ولبنان واليمن، والسعودية والخليج عموماً، بانتظار الفرصة المناسبة، لتفجير الأوضاع الداخلية لهذه الدول الأخيرة.
- وتماسك المعسكر الشيعي، مع الدعم الروسي، أدى إلى تحقق السيناريو الثاني، بعد عام من التنبؤ به، وهو سيطرة النظام على أهم المدن الكبرى. لكنه سيظل عاجزاًعن السيطرة على كل سورية. فالمنطقة الجنوبية، والكردية في الشمال، والريف الحموي والحمصي، وإدلب، والمناطق الشرقية التي سيتم تحريرها من داعش، جميعها لن يكون النظام قادراً على العودة إليها، بسبب الفيتو الأمريكي. وأمريكا لن تضحي كلياً بعلاقاتها مع تركيا والسعودية والخليج، من أجل إعادة إنتاج النظام كما تريد روسيا وإيران.

- يبقى السيناريو الأكثر احتمالاً، وهو السيناريو الأول أي "صعود النزعة المحلية والتي هي رد فعل على الأحزاب الإسلامية وفشلها في إدارة المناطق". وكما يجري العمل عليه منذ الآن، بتشكيل المجالس المحلية حتى تحكم وتدير المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. بالإضافة إلى السيناريو الرابع، جزئياً "حيث يتخامد العنف الطائفي النشط"، مترافقاً مع الانعزال الذاتي للهويات الطائفية، والتي يغذيها النزوح الداخلي، مما يؤدي الي القضاء على المجتمعات المتعددة طائفياً وعرقياً، وهذا "الفصل بين المجتمعات يعمق التحامل وينذر بصراع يختمر ويؤسس له ببطء نحو الاطلاق"، في المستقبل.
- لكن الفصل العرقي والطائفي في سورية لم يتحقق حتى الآن. فالتخندق الطائفي والعرقي والقومي، الذي حفرته الطائفية السياسية الشيعية-السنية، والأيديولوجيا الشوفينية العربية-الكردية، رسم حدوداً جغرافية طائفية وعرقية جديدة بشكل عام، مثل: حصر العلويين في الساحل، مع استمرار تواجدهم كرموز في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وانكفاء الدروز في مناطقهم، والأكراد في الشمال. لكن هذا التخندق لم يصل إلى مرحلة التطهير الكامل، كما حصل في القصير، واتفاق المدن الأربع "كفريا والفوعة ومضايا والزبداني"، وذلك لأسباب موضوعية وأهمها أن "السنة" يشكلون الأغلبية في المجتمع السوري، منتشرون في كل المحافظات السورية. ولا يمكن تشييع المدن الكبرى وأهمها دمشق وحماه وحلب. كما أن التداخل التاريخي يمنع إلى حد كبير التطهير، مثل حمص التي يعمل النظام على تطهيرها، محاطة بريف سني، وحماه السنية محاطة بريف إسماعيلي وعلوي ومسيحي. إلخ . والتهجير القسري، الذي يمارسه النظام وإيران وهو مقدمة للتطهير الكامل يحتاج إلى فترة زمنية طويلة لكي يتحقق على الأرض. إن إيران تعمل على نقل تجربتها في التطهير الطائفي من العراق ذي الأغلبية الشيعية إلى سورية ذات الأغلبية السنية، ولكن على الأرجح لن يساعدها الواقع الموضوعي في سورية لذلك.
- وأيضا الواقع في الشمال السوري، والذي يتخذ صورة الصراع القومي بالدرجة الأولى بين العرب والأكراد، وهو يتميز بطابعه التحرري من الاستبداد القومي العربي، لكنه يقترب من صراع المتشابهات بسيطرة العقلية الشوفينية الكردية الممثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي-مقابل الشوفينية العربية عند النظام والمعارضة-الذي يسعى لإقامة فدرالية جغرافية في الشمال السوري، دون أية مبررات موضوعية لقيام مثل هذه الفدرالية، والتي هي جغرافية شكلاً، وسيطرة كردية مضموناً. و"قوات سوريا الديمقراطية-قسد"، شبيهة "بالجبهة الوطنية" للنظام. وعلى الأرجح ستفشل فدرالية كهذه-رغم كل التهجير القسري بحق العرب المعارضين الذي يمارسه ال(ب ي د)- لأنها ستواجه موضوعياً أغلبية عربية، وموقفاً أمريكياً-تركياً، ودولياً معارضاً. وعلى الأرجح سيكتفي ال (ب ي د)، بعد أن أصبح رقماً صعباً علي المستوى العسكري في الساحة، أن يقيم حكماً ذاتياً في المناطق الثلاث المنفصلة وهي (عفرين، وكوباني، وبعض المناطق في الجزيرة)، ضمن الدولة السورية القادمة.
- وتبقى إدارة "الفاعلون الخارجيون"، وهم أمريكا وروسيا للصراع، وكيفية توجيهه، سيكون له آثار هامة في تخفيف أو زيادة العامل الطائفي في الصراع. وإذا استمرت روسيا في دعم النظام وإيران، وتنامى الوجود الإيراني في سورية -كما هو في العراق-، فإننا سنكون أمام موجات متتالية من الدموية الطائفية.
وإذا لم يتم التفاهم الأمريكي-الروسي حول سورية، وعنوانه الحسم العسكري ضد المنظمات الإرهابية "السنية"، وترحيل النظام وإبعاد إيران وميليشياتها "الشيعية"، فالمتوقع تزايد دور العامل الطائفي في المستقبل، وحتى وصول القوى المتصارعة لحدود الإنهاك الكلي. دون أن يستطيع أي محور على إبادة الآخر كلياً.
- إن استمرار النظام والوجود الإيراني في سورية يشكل المنبع الدائم لتغذية العامل الطائفي في الصراع. وأيضاً ترحيل الرئيس، وعائلة الأسد، سيفتح بوابة جديدة للصراع، حيث سيبدأ انفراط عقد النظام ككل، وخاصة القوى العسكرية. وانفراط هذا العقد سيجعل الساحة مليئة بالميليشيات العلوية، والتي تقدر بعشرات الآلاف، أو ربما أكثر من ذلك، والتي ستدافع للنهاية عن مصالحها التي ستفقدها بانهيار النظام. وهي لاتملك من الأوراق إلا السلاح والعصبوية الطائفية. ومع أن هذا المشهد كان من المفترض أن يتحقق خلال الفترة الماضية، إلا أن عدم تحققه، لا يعدم، ضرورة تحققه في المستقبل. لأنه البوابة الرئيسية، والوحيدة، لدخول مرحلة السلم الأهلي في سورية، وهي أيضا ستكون مرحلة انتقالية، قد تشمل العقد القادم بأكمله. وأيضاً ترتيب النظام لأوراق الهزيمة سيرافقة بالتأكيد، انتقامات طائفية دموية، في المناطق المختلطة، وعودة من جديد لاطلاق الصراع الطائفي من جديد، الذي استراح قليلاً واختمر في مناطقه المغلقة. وقد نجد من جديد أيضاً داعش ومشتقاتها، في جيلها الثالث، بعد ابن لادن، والبغدادي والجولاني.
- وأخيراً، للمستقبل، ومع صعوبة تصميم مقياس لشدة الطائفية في مكان وزمان محددين. إلا أن الباحثين، يقترحون "تصميماً متغيراً مركباً يجمع بين (١) دراسة استقصائية عن المشاعر العامة. و(٢) تتبع الخطاب الطائفي، و(٣) تتبع الاجراءات الطائفية. وهذا من شأنه أن يوفر أسساً شديدة الضرورة لتحديد مقدار الثقل الذي يمكن ان تتحملها الطائفية عند تصميم التدخلات السياسية لزمان ومكان محددين."(٤٤).
- وإذا حاولنا قراءة مؤشر هذا المقياس في الواقع الراهن، نرى المؤشر في الدرجات العليا. أولا: المشاعر العامة الطائفية في أوجها. العلويون يرون في النظام ممثلاً ومدافعاً عنهم، وأهل السنة في موقع الهزيمة والضياع، ويختزنون من جديد مشاعر الحقد، والانتقام، دون أن يجدوا ممثلاً عنهم. وثانياً: الخطاب الطائفي في أعلى درجاته، كما يعبر عنه الإسلام السياسي عامة، بكل درجاته ومستوياته، عبر الفضائيات، والسلوك العملي في المناطق التي يسيطر عليها. وبنفس الدرجة خطاب الكراهية والعنصرية، العربي والكردي. وثالثاً: مازال الثقل الطائفي كبيراً، ويختمر أكثر، بحيث يمنع أية تدخلات سياسية لتدشين مرحلة السلم الأهلي من جديد.


في مقاربتنا للواقع في الصفحات السابقة، كيف يمكن النظر إليه؟ هل مرحلة الأصوليات المظلمة، طارئة في المرحلة الراهنة. أم إنها مرحلة موضوعية، ولابد من المرور بها؟ وهل هناك آفاق للخروج؟
بحسب مقولة هيجل الشهيرة "كل ما هو واقعي هو عقلاني" سواءً اتفقنا معه بأن "العقل هو الذي يحكم التاريخ" أو أضفنا إليه، الشروط المادية للتطور التاريخي كما هو الحال عند ماركس، والذي أوقف الجدل الهيغلي على قدميه. وبالتالي حتى يمكننا رؤية الواقع كما هو، علينا النظر إلى ان كل ما يتحقق بالفعل، هو عقلاني. والعقلانية هنا لا تعني الأيجابي فقط. إنما كل ما هو متحقق بالفعل على أرض الواقع سواء كان أيجابياً أو سلبياً.
وان حركة التاريخ العميقة تسير دائماً باتجاه الحرية، رغم كل المظاهر السلبية وفظائع الحروب المدمرة التي تبدو على السطح. وبذلك يمكن القول بأن صعود الأصوليات، وصراع المتشابهات وسيطرتها على الساحة بأنها عقلانية. وأن المرحلة الأصولية، ليست انحرافاً لمسار التطور التاريخي. إنما هي مرحلة موضوعية، في تاريخنا المعاصر. ويمكن تعميم مفهوم الأصولية، وأهل السلف، ليشمل، ليس الأصولية الدينية فقط، إنما كل الأيديولوجيات المغلقة مثل الشيوعية والقومية، والليبرالية الاستبدادية، التي جثمت ككابوس على صدور شعوبنا منذ الاستقلال وحتى الآن، وهي بسبب تسلطها، واستبدادها، ورعايتها للتخلف والجهل، والتراث القديم، عادت الأصولية الدينية بكافة مذاهبها "وكأنها تعيد ترتيب الهويات من جديد". بتعبير (أوليفيه روا).
لكن "دخول العرب المرحلة الأصولية السلفية والإخوانية-وكل اشكال الدين السياسي- بفضل الربيع العربي لا يعني انتصار الأصولية، بل بداية انحسارها"(٤٥).. ومع إدراكنا بأنها ليست "ظاهرة صغيرة، إنها عميقة بحجم التاريخ، وهي صلبة تكسرت عليها كل المحاولات التجديدية منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر حتى الآن"(٤٦).

ويبقى السؤال الصعب الذي يشغل بال كل السوريين، وهو كيفية الخروج من النفق المظلم الراهن، وخاصة الخروج من الانقسامات والصراعات الطائفية المدمرة؟
- لقد حكمت الأصولية الجهادية والسلفية المجتمع خلال سنوات الحرب الماضية، بعد أن وجدت من يحتضنها، في البداية للوقوف بوجه طغيان النظام، حتى استكملت عوامل سيطرتها. لكن الشعب عموما اختبرها، وعبر عن رفضه لها، بأشكال متعددة. وعندما سيتوقف وقف إطلاق النار، سيعود الشعب من جديد، وتتشكل الارضية الموضوعية للأطروحة النقيضة للأصوليات، أي المشروع الوطني الديمقراطي.
- وسيبقى الإسلام السياسي، بكل أشكاله ومذاهبه معيقاً أمام المشروع الوطني، إذا لم يتجاوز مسألتين أساسيتين وهما: الجهاد، وأن الإسلام دين ودولة. أي نبذ العنف، والتخلي عن السعي لبناء الدولة الدينية. وأن يتوقف الإسلام السياسي السني، عن الترويج "للكتلة "السنية" ذات العدد الأكبر في سورية، بأنها ستكون المنقذ للوطن. لأن هذه الأخيرة لن تكون سوي استبدال حكم الأقلية الراهن، باستبداد الأغلبية المذهبية، والتي حكمت مجتمعنا عبر التاريخ، والتي كانت تعمل على إبقائه في الماضي، والذي يْوصف ب “الماضي السعيد"!
- لا يمكن لأحد أن يعرف كم ستستغرق هذه المرحلة المظلمة في تاريخنا. كما أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه قادر على تقديم وصفة جاهزة لذلك. ولا يوجد آفاق للخروج في المرحلة الراهنة.

- عموما يتم تقديم الحلول للخروج من الانسداد الراهن بعناوين عامة، مثل: "المواجهة والمصارحة وتصفية الحسابات التاريخية المعلقة والمؤجلة، والجرأة في تسمية الأشياء بأسمائها، وليس المراوغة، والقفز فوق المشاكل والهروب إلى الأمام". ،"وإخضاع الماضي التراثي إلى مبضع النقد التاريخي، كما فعل مفكرو أوروبا، من ديكارت وسبينوزا،،،حتى هيجل وماركس"(٤٧). وإحياء العقلانية، وضرورة الثورة الفكرية، والإصلاح الديني. إلخ . وهي مشاريع تاريخية وضرورية. وقد عمل عليها العديد من المفكرين العرب، لكن كل هذه الدعوات لم تجد طريقها إلى النور، لأنها لم تجد الحامل الاجتماعي والسياسي لها.
- لكن الخروج من النفق بحاجة إلى بوابة رئيسية من المفترض العمل عليها بكثافة. وهي البوابة السياسية والمجتمع المدني. اقصد العمل على تأسيس للفاعل السياسي الوطني الديمقراطي المنظم، ومنظمات المجتمع المدني الوطنية. والمقصود بالوطني أن يكون عابراً للطوائف والأديان. والديمقراطي، أي الليبرالية السياسية التي تحمي الحريات، وتعبر عن التنوع الاجتماعي، وتؤسس لمجتمع حر على كافة الأصعدة. وأن يتم الدفاع بشجاعة وبدون لف أو دوران عن علمانية الدولة القادمة، وعلمانية الطبقة السياسية التي ستعمل في إطارها. واختيارنا للديمقراطية يعني بالضرورة اختيارنا لتوأمها أي العلمانية. وألا تكون ديمقراطيتنا شبيهة "بالديمقراطية" الإيرانية، أو اللبنانية. وهي أشكال مشوهة للديمقراطية، تعزز الصراعات الطائفية، بدلاً من أن تضع حداً لها.
- والإشكالية تتمحور حول تشكيل ونمو هذا الفاعل السياسي الديمقراطي، الذي سيواجه كافة أشكال الاستبداد. وسيكون له الدور الأساسي في تخفيض حدة الصراع الطائفي.
ومن دروس الثورة ان الأحزاب القديمة وأيديولوجياتها لم يعد لديها ما تقدمه. وتشكيل طبقة سياسية جديدة، يحتاج إلى فترة طويلة، ومع ذلك لابد من العمل عليه منذ الآن. رغم أن التجارب الجديدة لإنشاء أحزاب، أو تيارات سياسية جديدة، والتي لم تتجاوز اللقاءات الفندقية، أو أشبه بالدكاكين المغلقة، ونشاطاتها مازالت افتراضية عبر غرف الواتس والسكايب. ومع ذلك في ظل ظروف التهجير والتشرد والنزوح، لأغلبية الشعب السوري، ستتشكل الأنوية السياسية الديمقراطية، والتي يمكن أن تشكل في المستقبل، الفاعل السياسي الديمقراطي، والذي سيكون الكتلة الصلبة للمشروع الوطني السوري، الذي يجمع كل السوريين، في أرض النظام، وأرض المعارضة. وهذه هي الأطروحة النقيضة للأطروحة الأصولية بأشكالها وأيديولوجياتها المتعددة، التي ستقيم "الحكم الرشيد"، والذي لن يكون سوى الدولة الديمقراطية العلمانية. ولذلك نحتاج إلى ديمقراطيين أحرار فعلاً، وليس أصحاب اللصاقات الديمقراطية، حتى يمكن أن ينجزوا هذه المهمة التاريخية، وليس المراهنة على الخارج وأمواله وأجنداته الخاصة.
والأمر ذاته ينطبق على منظمات المجتمع المدني، وتجاوز المنظمات الراهنة اللاهثة وراء الأموال لمصالحها الخاصة باسم المجتمع والثورة، نحو منظمات مدنية وطنية، يمكن أن تبني الجسور بين التنوعات المتعددة في المجتمع، وتشكل حاضنة، ومراقبة للطبقة السياسية الحاكمة أو المعارضة.
إنها صورة معتمة حقاً، ونفق مظلم طويل. لكن من المؤكد أن التاريخ لا يسجل الرغبات والتأملات المشرقة، بقدر مايسجل الصراعات العنيفة، كبوابات لخروج المنتصر الذي سيكتب التاريخ من جديد. وخاصة في مجتمعاتنا التي مازالت تعيش في كهوف الماضي، وتختزن في بنيتها، العنف المتراكم الذي كرسه الاستبداد عبر التاريخ الطويل الممتد لعشرات القرون، ولابد له من التفريغ حتى يستطيع تحطيم، وهدم القديم، للدخول عبر بوابة الحرية والحداثة، وتدشين عصر جديد. والتاريخ الإنساني كتب أن " ولادة الانجازات العظيمة، دائماً تكون مصحوبة بآلام عظيمة" وبحاجة إلى تضحيات عظيمة، كما يقول هيجل. وليس هناك أعظم من الحرية، التي قدمت ومازالت تقدم كل شعوب الأرض التضحيات الكبرى لنيلها. ومن ضمنها الشعب السوري، والمنطقة العربية بأكملها.
٦ الاستنتاجات
يمكن أن نوجز الاستنتاجات من الجزء الثاني كما يلي:
1 تشكلت الطبقة السياسية بعد الاستقلال، من أحزاب وأيديولوجيات مغلقة، إسلامية، وقومية، واشتراكية، وليبرالية. وكانت جميعها عابرة للوطنية السورية، باتجاه القومية العربية، أو الأممية الشيوعية والإسلامية. وكانت هشة غير قادرة على الاستجابة للتحديات الداخلية (الإصلاح الزراعي، وتعبئة الفراغ الاقتصادي والسياسي) الذي تركه الاستعمار. وكانت جميعها انقلابية تسعى لفرض أيديولوجيتها على المجتمع. وهشاشة هذه الطبقة أفسحت المجال للانقلابات العسكرية المتكررة، إلى ان استقرت الأوضاع مع انقلاب حزب البعث (١٩٦٣). ويلاحظ أيضاً غياب العامل الطائفي في برامج وسلوك الطبقة السياسية، عدا "الاخوان"، والذين لم يترسخ وجودهم في الساحة بعد.
2 وكان حزب البعث السباق في السيطرة على سورية وأقام نظاماً شمولياً-وطائفياً- وأغلق الحياة السياسية بالكامل، بعد أن انقسمت الأحزاب القومية واليسارية بين مؤيد، ومعارض، وتجريم الإسلام السياسي، واضمحلال الأحزاب الليبرالية.
3 وعملت المعارضة السياسية في الاقبية، وتم الزج بها في السجون لعشرات السنين، بحيث يمكن القول بأنه لم تكن في سورية طبقة سياسية فعلية عشية الثورة. وبالمقابل كان للصراعات العنيفة بين النظام والإخوان المسلمون، في (١٩٦٤، و١٩٨٠)، آثاراً مدمرة على المجتمع السوري، بزرعها أسفين الطائفية في نسيج المجتمع على كافة المستويات.
4 وقد واجهت الثورة إشكاليات عديدة، فشلت في الاستجابة لها وتجاوزها، أهمها: الإشكالية السياسية، والعسكرية، وانقسام المجتمع العمودي، إلى طوائف، وأعراق، وقوميات. وهذا الفشل فتح الباب واسعاً أمام صعود الأصوليات الطائفية، والسيطرة على الساحة.
5 والعوامل التي ساعدت على صعود الأصوليات عديدة. وقد شكلت الوهابية، والأيات الإيرانية، والإسلام السياسي عموما، المنابع الأيديولوجية للاصوليات الشيعية والسنية، إضافة إلى عوامل سياسية أهمها: غياب الفاعل الوطني الديمقراطي، وسيطرة أنظمة طائفية في سورية والعراق ولبنان، ومعارضة طائفية شبيهة بهذه الانظمة، وصراعات طائفية إقليمية، شكلت الحاضنة الإقليمية لصعود الأصوليات مثل: الحرب الإيرانية-العراقية، والحرب الأهلية في لبنان، والحرب الأهلية في العراق، بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط بغداد. بالإضافة إلى عوامل تاريخية وراهنة تتعلق بالتأخر التاريخي لمجتمعنا، والجهل المقدس الذي يغذي هذا التأخر، وبالتالي لابد من أن تستمر أشباح الماضي بملء فضاء الحاضر.
6 وإن القول أن "أهل السنة"، باعتبارهم الأكثرية الدينية في سورية، هم حاملو المشروع الوطني في سورية هو نكوص للوراء، واستمرار صراع المتشابهات العدمي. إنما الأكثرية السياسية التي تضم كل التنوعات الدينية والمذهبية، هي الحامل الفعلي للمشروع الوطني السوري، والذي بتحققه سيتم نزع فتيل التكفير، والتكفير المعاكس بين الطوائف، وصراع المتشابهات التدميري للوطن.
7 ويُستنتج من الصفحات السابقة، أن الأيديولوجيا المذهبية، غلاف للصراع السياسي تغذيه الطائفية السياسية للوصول إلى السلطة. وليست المسألة خلافاً عقائدياً، والمشروعية الدينية والمذهبية. وكان اعتراف الأزهر "بالجعفرية المعروف بمذهب الإمامية الاثني عشرية الشيعية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة"، كما وردت في فتوى شيخ الازهر (محمود شلتوت) في عام (1959)، هي مقدمة لخروج أهل السنة من عصبويتهم، وتكفيرهم لباقي الفرق والمذاهب، وانهم ليسوا بمفردهم "الفرقة الناجية"، أو أنهم بمفردهم يمثلون "الإسلام الصحيح". وأن تكف الشيعية السياسية عن تغذية اللطم والنواح والاختباء خلف المظلومية الشيعية.
وبالتالي تصبح الآفاق مفتوحة أمام تسوية تاريخية بين السنة والشيعة، وبشرط تخلي الإسلام السياسي عن سعيه لإقامة الدولة الدينية، مهما كانت أسسها "الحاكمية"، أو "ولاية الفقيه". لكن استمرار الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، في سعيه للتجييش الطائفي، يشير بوضوح إلى أن المعضلة ليست في وجود الطوائف وإمكانية تعايشها، إنما في الطبقة السياسية الطائفية التي تحكمها.

هوامش الجزء الثاني
1- (فان دام, نيقولاوس-الصراع على السلطة في سوريا- الطبعة الالكترونية الأولى-2006-ص21).
2- الزيبق, مسلم-الاحزاب والهيئات السياسية السورية خلال القرن العشرين- نون للنشر والطباعة-حلب-ط١ ص122.
3- (الصراع على السلطة-المرجع السابق ص43)
4- (موسوعة الإخوان المسلمين-من مذكرات أكرم الحوراني).
5- (من منشورات التجمع- القيادة المركزية-20-12-2001-الحوار المتمدن-العدد22-2001).
6- (بيان إلى الشعب-التجمع الوطني الديمقراطي-منتصف آذار-1980).
7- (المقتطفات من وثائق المؤتمر التاسيسي الأول لحزب العمل الشيوعي-آب1981).
8- (من منشورات التجمع- القيادة المركزية-20-12-2001-الحوار المتمدن-العدد22-2001).).
9- (المشروع السياسي لسوريا المستقبل-رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سوريا-٢٠٠٤).
10- الحوار المتمدن- مروان عبد الرزاق- العدد ٣٦٢٢٩٦٢٠٠٥اعلان دمشق: هل يشكل خطوة الى الامام؟
11- (المسألة الطائفية في سوريا-مسح اجتماعي للتوجهات-اليوم التالي-ص٢٠
12- (عبدالله المالكي- دولة الأمير والشيخ-الوهابية والسلفية (الأفكار والآثار-الشبكة العربية للأبحاث والنشر-مجموعة باحثين-ط١بيروت—٢٠١٦ص٤٩٨).
13- (الوهابية والسلفية-المرجع السابق-ص٤٩٣).
14- (عبدالله المالكي -المرجع السابق-ص ٥٠٠٥٠٨).
15- عبدالله المالكي .المرجع السابق-ص٥١٢)
16- (Alastair Crooke – مقالة-لا يمكنك فهم داعش، اذا لم تكن تعرف تاريخ الوهابية في السعودية- ترجمة موقع راقب "RaQeb"- http://raqeb.co/2014/08/%D9%84%D8%A7)
17- Alastair Crooke-المرجع السابق.
18- (Alastair Crooke-المرجع السابق).
19- (الوهابية والسلفية-المرجع السابق- ص٥١٢)
20- عبد الباري عطوان-الدولة الإسلامية "الجذور، التوحش، المستقبل"-دار الساقي-بيروت-ط١٢٠١٥ص١١)
21- (Alastair Crooke-المرجع السابق)
22- (توما دوكونانك-الجهل الجديد ومشكلة الثقافة-ترجمة منصور القاضي-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر-بيروت ط١٢٠٠٤ص٥٦)
23- ) (أوليفييه روا- الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة- ترجمة صالح الاشتر-دار الساقي- بيروت- الطبعة الأولى-٢٠١٢ ص28).
24- ) (اوليفيه روا-المرجع السابق-ص٢٢٨).
25- (الجهل المقدس-المرجع السابق- ص21).
26- (المرجع السابق-ص٢٢ الخمسينيون أو العنصريون، نسبة إلى عيد الخمسين، أو عيد العَنصَرة. اتباع حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولأيات المتحدة في بداية القرن العشرين. تُولي الروح القدس أهمية كبيرة. وتشدد على ضرورة تجديد الصلة بالكنيسة البدائية، وعمادة الروح القدس، ومواهب الشفاء، والتكلم بعدة لغات. ويتميزون بالأصولية الدينية والأجواء الحماسية لاجتماعاتهم. يقدر عددهم بنحو (٦٠) مليون مؤمن معظمهم في الولايات المتحدة).
27- (الجهل المقدس-المرجع السابق-ص٢٨).
28- (الجهل المقدس-المرجع السابق-ص١٨٠)
29- (المرجع السابق- ص ٢٤٨٢٥٣).
30- (http://alarab.co.uk/?id=46571
31- (http://alarab.co.uk/?id=46571
32- http://www.al-masdar.net
33- ).(الجهل المقدس-المرجع السابق ص٣٨
34- (منير الخطيب-مفهوم التأخر التاريخي في ترسيمة ياسين الحافظ النظرية-http://republicdialogue.blogspot.com.tr/2015/03/blog-post_95.html
35- (هاشم صالح-الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ- دار الساقي-بيروت-2015-ص24)
36- (عفيف رحمة-البحث العلمي في سوريا-حقائق ومؤشرات-http://thevoiceofreason.de/article/6220
37- (كارل ماركس-الثامن عشر من برومير-ص-6)
38- (كارل ماركس-المرجع السابق-ص-6)
39- "(ماركس-المرجع السابق-ص-6).
40- (للتفصيل. جورج طرابيشي-هرطقات-عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية-ج١دار الساقي-بيروت-٢٠٠٦)
41- (خطة سلام من اجل سوريا-جيمس دوبنز، فيليب غوردون، جيفيري مارتيني- ترجمة مركز إدراك للدراسات والاستشارات-فبرأير٢٠١٦ http://idraksy.net/a-peace-plan-for-syria/)
42- ). ( https://www.dohainstitute.org/ar/lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/document_24A0A20C.pdf
43- (مستقبل العلاقات الطائفية في الشرق الأوسط-جيفري مارتيني، هيثر ويليامز، ويليام يونغ-ترجمة احمد عيشة- http://harmoon.org/archives/4853)
44- (المرجع السابق- مستقبل العلاقات الطائفية في الشرق الأوسط).
45- (هاشم الصالح-المرجع السابق-ص٢٤)
46- ).(هاشم الصالح-المرجع السابق-ص٥٦).
47- هاشم الصالح، المرجع السابق-ص٢٥).
----------------------------------
انتهى؛



#مروان_عبد_الرزاق (هاشتاغ)       Marwan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع المتشابهات في سوريا)الجزء الاول)
- لن اتهم احدا
- بين وثائق القاهرة وخطة الخبراء للانتقال السياسي في سوريا
- ملاحظات اولية:رسالة من مثقفين سوريين للجمعية العامة
- ملاحظات اولية حول مسار الثورة السورية-لماذا لم تنتصر الثورة؟
- العراق, سوريا. إلى أين؟
- الثورة السورية والسلم الاهلي
- هروب المثقف من الثورة السورية
- مؤتمر جنيف(2) والسلام المفقود في سوريا
- الثورة السورية-غياب السياسة
- الانقلاب العسكري في مصر وعودة النظام السابق
- من أحاديث الثورة السورية(1) طبيعة الثورة– العسكرة والاسلام- ...
- هل يمكن تفادي الحرب الأهلية القادمة في سوريا
- مسقبل الثورة السورية
- آفاق الثورة السورية
- عودة السياسة الى المجتمع السوري والحوار الوطني
- ربيع الحرية العربي(2)-محاولة للفهم
- ربيع الحرية العربي(1)-محاولة للفهم
- ثقافة الهزيمة والحرب الإسرائيلية السادسة
- ثنائية الدولة والمقاومة في لبنان


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مروان عبد الرزاق - صراع المتشابهات في سوريا(الجزء الثاني)