|
-من الصوت أصنع لوحة، ومن اللوحة أصنع صوتا- رواية -وحي الغرق قراءة في اللوحة والرواية
قحطان الفرج الله
الحوار المتمدن-العدد: 5813 - 2018 / 3 / 12 - 22:07
المحور:
الادب والفن
" ثم دافعان لقراءة كتاب ما: الأول الاستمتاع به والثاني التباهي بقراءته" برتراند رسل
يقوم النص السردي على عناصر تشكل مجتمعة البنية الأساسية تستجيب لمتطلبات الرؤية السردية التي ينطلق منها مبدع النص، وأي نص سردي لا يقوم إلا بوجودها، وهذه العناصر تؤدي دورها في النص الروائي مجتمعة، إذ لا يمكن فصل عنصر عن آخر، ففي الوقت الذي تخلق فيه الشخصيات تحتاج إلى حدث، وإلى مكان وإلى فضاء زماني تتحرك فيه. تعد رواية (وحي الغرق للروائي ساطع اليزن) التي صدرت عن دار سطور هذا العام من الروايات التي يجب التوقف عندها حيث تسلط الرواية الضوء على منطقة مهمة من تاريخ العراق القريب، ما بين فترة سقوط نظام وقيام نظام جديد، ما بين انهيار سلطة وقيام سلطة، فهي تمهد لبدايات انهيار البعث الدكتاتوري عام 2001 الى بداية قيام دولة الأحزاب الدينية ورجال الدين عام 2003. ما يلفت النظر في هذه الرواية قدرت الكاتب على تسلسل الاحداث بشكل انسيابي معتمدا على رسم صورة أولية في مخيلة القارئ تقوم على عدة لوحات ذهنية، أو حقيقية لكائنات مائية غريبة الشكل وصفتها السلطة "بالمعادية للحزب والثورة" ووصفها الناس ب "بالحورية التي انقذت عادل" بطل الرواية بعد ما سلبه أحد أبناء البعثيين حبيبته (شهد). يسير السرد بصوت الراوي العليم حتى يغادر البطل عادل مدينته الحلة للعيش في بغداد بعد قبوله في معهد الفنون الجميلة قسم الموسيقى ليشاهد في المعهد لوحة من رسومات احدى الطالبات التي تصبح وحي لأغلب العقد الفنية في الرواية ألا وهي (بلقيس)، ففي دخوله الأول للمعهد يذهب(عادل) بطل الرواية الى لوحة الإعلانات باحثـًا عن اسمه في قوائم المقبولين لتستوقفه لوحة "عبارة عن ثعبان برأس رجل يشبه المسخ تضع بين فكيه كائنًا غريبًا برأس سمكة، لكن ملامحه بشرية، بيدين مستسلمتين شفافتين، وعينين تبتسمان لمن ينظر إليهما، كانت تحيطها مياه البحر، بينما تتناثر الصخور حول الثعبان" هذه أول لوحة يشاهدها البطل لتصبح هي وصاحبتها (بلقيس) وحي ينذر بالحياة المأساوية التي تصادفها أبطل الرواية، وليس هذا فحسب لتتكرر مشاهد أخرى مرتبطة بهذه الثيمة أعني استخدام اللوحات والرسومات في اذكاء الحدث الروائي. وفي عملية تصاعدية لمسار السرد يرسم الروائي لوحة أخرى من مخيلة البطل (عادل) بعد أن يُفصل من المعهد بسبب انتماء والده السابق إلى الحزب الشيوعي؛ وهو يسير بالقرب من دجلة تتمثل له "فتاة نصف عارية على حافة النهر تجلس فوق مجموعة من الصدف والحصى الناعم، تمسك بمشط عاجي وتسرح شعرها، تناظر الماء ووجها صوب النهر بينما يظهر له ظهرها مغطى بشعرها المنسدل براحة كبيرة" فيدور حوار اخر بين هذه الشخصية المائية التي يطلق عليها عادل اسم (بلقيس) يوصلهم إلى تحليل بعض أجزاء اللوحة الموجودة على جدار المعهد، وكذلك بين أهمية الغرق بعيدا عن وحل هذه الحياة، فالخلاص ليس بقتل هذه الافعى غريبة الشكل لأنها لا تقوم بذاتها حسب بلقيس بل هي تشبه افعى (الهيدرا) الأسطورية ذات السبعة رؤوس، ففي اللوحة أنت "ترى ثعبانا واحدًا، هناك رؤوس كثيرة تساعد هذا الثعبان على افتراسنا، الظلم يتجدد بنا، بدل أن نقطع الرؤوس نكاثرها". تسلمنا هذه اللوحة في القسم الأول من الرواية (فوق الغرق) إلى لوحة أهم في القسم الثاني (تحت الغرق) يرسمها أحد أبطال الرواية وهو (صلاح) القادم من مدينة النجف ابن شيخ العشيرة الذي رفض والده دخوله إلى كلية الفنون لأنها كلية للرقص لا تليق بمقام عشيرته فيقرر الدراسة في كلية الآداب قسم علم النفس، وفي خضم سقوط النظام على يد الاحتلال وهيمنة الفوضى وانتشار اللافتات والداعيات الحزبية المروجة للنظام الجديد يدخل صلاح الكلية ليشاهد ويلفت انتباهه "إزالة الصورة الكبيرة لرئيس الجمهورية المخلوع، ووضع مكانها أكثر من صورة وبشكل مزدحم، أغلبها لرجال الدين، وكأن المشهد امام عينيه يوحي إلى التنافس بين العمائم من اجل الحصول على المساحة الأبرز التي خلفتا الصورة السابقة... ثم حاول جعلها صورة واحدة في مخيلته" هذه لفتة خطيرة وبارعة من المؤلف، فقد حول صور رجال الدين إلى قطع فسيفساء صغيرة تشكل في مجملها وتجمعها صورة الطاغية من جديد في ربط غاية في البراعة بين اللوحة الأولى في المعهد وصورة الهيدرا، ولكنه في اللوحة الأولى جعل الافعى برأس واحد والرؤوس الأخرى مخفية!! وقد ظهرت بجلاء ووضوح في صورة الرئيس في مدخل كلية الآداب هذه لوحة ذهنية مرسومة في خيال البطل. ولو نظرنا إلى اللوحة الأخيرة التي شاهدها عادل عند عودته إلى الحلة باحثا عن والديه بعد 6 أشهر من الغياب، ليجد بيته مطوقـًا بالكتل الكونكريتية ومكتوبـًا عليه "حزب الرغبة الإسلامي" وعندما يكتشف من أحد الجيران الذي يستضيفه أن أبويه قتلا على يد الامريكان يعيش صراع الانتقام حتى تأول به الحالة للبحث عن الجماعات المسلحة من أجل الانتماء إليها لمقاتلة هذا الاحتلال واعوانه. المهم إن حتمية النهاية تركزها تلك اللوحة المركونة على الجدار "فانتبه إلى لوحة معلقة من رقبتها على الجدار وكأنها شنقت مذ أن خلقها الرسام، ...طوف نجاة وسط البحر والعواصف والغيوم التي تتعانق من غضب الماء وكان السماء والبحر تتحالفان على الجموع البشرية المتهالكة التي تزدحم فوق الطوف، كان هناك فيهم من استسلم للموت وهناك من يتشبث بصاحبه وهنك من لازال يقف وهو يلوح بملابسه متأملين أن يراهم أحد فينقذهم" رسم هنا ساطع اليزن بكل دقة ملامح النهاية لروايته ملامح البداية لعوالم الصراع التي قادت العراق إلى الحرب الطائفية والمذهبية، ملامح التشظي التي جعلت من "عادل" يقتل صديق عمره "صلاح" ويموت معه ويغرق في نهاية المطاف. إن مثل هذه الاعمال التي توثق صلة الفنون وعلاقتنا الوثيقة ببعضها تشكل محورًا أساسيـًا في أدبنا اليوم لبناء اعمال روائية وقصصية ناضجة "بحيث يغدو مقدار الوعي بالعمل الفني لب الرواية مما يساعدها على إضفاء بعد اخر للشخصية داخل الرواية للكشف عن خفايا اعماقها، فالروائي بعد أن يريدنا أن نرى كما تقول "فرجينا وولف" عبر هذا التواصل مع الفن يشكل الكاتب رويته الخاصة" ولعلي قد اطلعت على روايات كتبت بهذه التقنية كرواية "شغف" للصديقة رشا عدلي التي رشحت للبوكر هذا العام. "إن مقدرة الكاتب على الوصف، تحول أحيانا اللغة إلى ألوان لوحة بيد فنان قدير، وتجعل القارئ يرى الحياة وكأنها واقع يخرج من بين ثنايا الكلمات" حسب سليمان العطار لكننا أمام عمل استخدم لغة موحية ولوحة مركزه وعالية الترميز ايضًا. لا أريد أن أحلل تقنيات الرواية الأخرى واحاول أن اتناولها في مقال آخر، ولكن من أهم التقنيات التي وظفتها الرواية تقنية البنية التكرارية، فقد حفل النص بالعديد من الشخصيات التي تمارس وظيفة التكرار وذلك لطبيعة الشخصيات التي أقل ما توصف بأنها شخصيات مأزومة أو على رأي الناقد فاضل ثامر "موسوم بنسق بنية الاخفاق على المستوى الاجتماعي إضافة إلى المستوى الفردي" فمن خلال استخدام تقنيات المنولوج والحوار النفسي مع الذات أو من خلال استدعاء شخصيات غادرت محور السرد الحقيقي ولم ترسخ إلا في ذاكرة الشخصيات كشخصية "شهد، وبلقيس، و سارة" كذلك طرح النص السردي العديد من الشخصيات التي تحمل صوراً متباينة كشخصية "الشيخ فتحي البصري – إمام المسجد الشاذ جنسيا والبعثي المتآمر في القسم الأول من الرواية وفي القسم الثاني الأمير أبو تبارك البصري الإرهابي والشاذ ومن ثمة امير المصالحة الواهنة، وشخصية رعد صاحب الفندق الذي قتل بسبب أحد نزلاء الفندق لأنه تأثر بخيانة زوجته وفي القسم الثاني يتحول رعد إلى معالجا روحانيا بالقران، وشخصية الدكتور يوسف الفيلسوف والشاذ والبعثي في القسم الأول ليتحول في القسم الثاني إلى الإرهابي، وأمير الجماعة المسلحة ومن ثم إلى أحد أهم قيادات المصالحة المزعومة وفلورا التي تتزوج قاتل أبيها"، والعديد من الشخصيات البعثية التي تنقلب إلى شخصيات وقيادات دينية تقود المرحلة عنوانها الأبرز (حزب((الرغبة)) الإسلامي) في عنوان شبه مباشر لكل مشاهد الجنس والشذوذ التي تخللت الرواية. والواقع أن هذه الشخصيات قد افادت الحدث الروائي بشكل كبير لأن آلية استدعائها في أذهان الشخصيات تخضعها لعنصر التعليل والتفسير، المعتمد على الفكرة ونقيضها وبالتالي قد منحت النص والشخصية معـًا سمة التجارب الإنسانية المتكاملة التي بنيت على رؤية جدلية للواقع0
وعلى مستوى تصنيف الشخصيات لا شك أن الروائي استطاع مراعاة عامل الموازنة بين الحقيقة الفنية والحقيقة الاجتماعية عندما وازن في حدة الصراع بين ما كان يحدث فعلاً في تلك الفترة، وبين ما صورته احداثه وشخصياته داخل العمل الروائي، من صيغ متعدد في المواجهة فزرع أشكالاً متنوعة بين الشخصيات المركزية والثانوية والايجابية والسلبية، والشخصيات الناجحة والفاشلة، المهزومة والمنتصرة، والبسيطة والمركبة، "إن الشخصية هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكّلات الاخرى؛ حيث أنها هي التي تصنع اللغة، وهي التي تبث وتستقبل الحوار، وهي التي تصنع المناجاة... وهي التي تصف معظم المناظر" إذا كانت الرواية رفيعة المستوى من حيث تقنياتها، فإن الوصف نفسه لا يتدخل فيه الكاتب؛ بل يترك لإحدى شخصياته إنجازه..." التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب، أو تتشارك النتائج، وهي التي تتحمل كل العقد والشرور وأنواع الحقد واللؤم فتنوء بها، ولا تشكو منها، وهي التي تعمر المكان وهي التي تملأ الوجود صياحـًا وضجيجـًا، وحركة وعجيجـًا، وهي التي تتفاعل مع الزمن فتمنحه معنى جديدًا... لا تنتمي رواية اليزن هذه الى رواية الأصوات او الرواية متعددة الأصوات بل هي رواية الأجيال رواية تمثل جيل عاش صراعا مرا نقله بين محاولة غرق ونجاة بين امل الخلاص وتشظي الشر وانتشاره كمرض ينهش الضمير ويقتل الابتسامة وكالعادة لابد لي أن أقول عليه أن أعود لهذه الرواية مرة أخرى باحثا عن عمودها الفقري الذي هيكل كل هذا التاريخ بكل هذه الاستقامة الفنية البارعة.
#قحطان_الفرج_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوميات مفكر... (في مديح الألم لسيد البحراوي)
-
بين أزمة الكتابة ومحنة المثقف قامت العشائر الثقافية.
المزيد.....
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
-
”أحـــداث شيقـــة وممتعـــة” متـــابعـــة مسلسل المؤسس عثمان
...
-
الشمبانزي يطور مثل البشر ثقافة تراكمية تنتقل عبر الأجيال
-
-رقصة الغرانيق البيضاء- تفتتح مهرجان السينما الروسية في باري
...
-
فنانون يتخطون الحدود في معرض ساتلايت في ميامي
-
الحكم بسجن المخرج المصري عمر زهران عامين بتهمة سرقة مجوهرات
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|