أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي طالب جواد - تمايلي















المزيد.....

تمايلي


علي طالب جواد

الحوار المتمدن-العدد: 5736 - 2017 / 12 / 23 - 02:39
المحور: الادب والفن
    


ما ان بلغت الخامسة عشرة حتى ارسلتني أمي لمرافقة شيخ العارفين ابو محمد البغدادي بغية ان اتعلم منه لقاء ان اخدمه، و اذكر خلال السنوات التي قضيتها الى جواره انه دعي مرة الى مجلس الامير ابن ياسين، جنبا الى جنب مع رفيقه منصور ابن ايوب الجوراني و الذي التقينا به في الطريق الى مجلس الامير و دار بين الاثنين حوار عن هدف الحياة و معوقاته و السبل الى بلوغه و كنت انصت الى هذه الاحاديث التي من اجلها ارسلتني امي، و اذكر ان قال الجوراني لمعلمي البغدادي:
.
"قد رأيت مما مر بي من زمن أن ما تقبل عليه النفس من رغبات تبعدنا كلما استجبنا لها عن رسالتنا في هذه الدنيا، اذ اننا ما ان نتمكن من المعرفة حتى يتنبه لنا الموت فيسارع الى قطافنا، فان ملنا الى رغباتنا على حساب بحثنا و تمحيصنا و مطالعة ما جاد به من سبقونا في بحور العلم و المعرفة فقد اضعنا من وقتنا بجانب ما اضعناه في صغرنا و نحن نتعلم بدائيات ما نحتاجه للعيش، نمضي سنوات نتعلم فيها بديهيات المعارف البسيطة و ما ان نتقنها حتى نبدأ في تتبع ما انتجه من سبقونا لنعرف اين انتهوا و من اين نبدأ و عندها نتسابق مع الزمن محاولين ان نضع شيئا بين ما انتهى اليه سابقينا و ما سيبدأ به لاحقينا قبل ان ينال الموت منا فنخلد، و كما كل شيء في هذه الحياة هناك معوقات تحول دون هدفنا هذا، اذ ان رغباتنا في الثراء و النساء و الذرية و اللهو تصرفنا عن هدفنا، لا افهم كيف ينزوي اغلب العامة الى رغباتهم دون ان ينصرفوا الى ما يحقق هدف وجودهم؟ كيف لهم ان لا يستشعروا اهمية ما يضيعونه من وقت في تلبية لذاتهم".....
هنا قاطعه معلمي.... وكان ان غمرتني نشوة هزت فرائصي لما جاء من كلام الجوراني، إذ كأنه شق عن قلبي و نقل ما نقل لكني ما كنت لأجيد ترتيب الخطاب كما فعل و ألا لوددت أن أتصدر له، إعتراني الفرح إذ شعرت أن أصبح لي رأي يطابق رأي الجوراني فقلت في نفسي ها قد أصبت ما بعثتتني من أجله أمي وصار ما يدور في خلدي من أفكار هو ذاك ذاته الذي يتناوله الحكماء، ها قد اقتربت و في فترة قصيرة من غايتي، بلا شك، ان جزءا كبيرا من رأيي الصائب هذا نابع عن فطرتي و ما جبلت عليه و لربما استعطت عن قريب ان اطارحهما الرأي ... لما تنبهت لنفسي و شرودها عن حديث معلمي عاودت الإنصات فألفيته قائلا مقاطعا للجوراني:
.
"قد اتفق معك جزئيا و اتخذ موقفا معاكسا لموقفك اذ اراك قد تطرفت في رأيك و لا بد من ان اكون مدافعا عن هذه الرغبات ان لم يكن هناك من يدافع عنها في حوارنا هذا، ها انا اراك كأنك تدعو الى أن تنبذ هذه الرغبات من أجل ما تعتقده انت هدفا للحياة متناسيا ان الأشياء تكمل بعضها، فانت تحب ان يحتجب الناس عن كل شيء الا البحث و التمحيص و التفكر، اما علمت ان جهد البحث بحاجة الى ما يقابله من الراحة و الإسترخاء و الغذاء؟ فان قصرت في هذا قصرت مجبرا في ذاك، افلا تنتابك حاجة ماسة الى ورود الماء اذا ما امتنعت عنه فترة؟ افلا تكن ثمة هناك رغبة للإرتواء تدفعك الى ان تشرب؟ فان فقدت هذا الشعور او قاومت هذه الرغبة افلن تصاب بالجفاف؟ ثم قل لي إن ابتعد الناس عن كل شيء ألا عن "هدف وجودهم" الذي تختصره في طلب العلم كما تحب انت فكيف لك ان تعيش؟ الا يقوم كل منا بدوره؟ فالنجار و البناء و البقال و غيرهم هم من يكملون حياتنا فان انزووا كلهم الى البحث و التمحيص ما بقت لنا حياة، و ان كبحت تلك الرغبة الى النساء و رغبة النساء الى الرجال فكيف لنا ان نفكر في تقديم شيء لمن يأتي من بعدنا ان لم يكن هناك احد بعدنا؟ لا تقل لي أنك لرأيك هذا لم تتزوج بعد؟"....
.
نعم، هذا صحيح، لم أنظر في الأمر كما نظر اليه معلمي، انتابني شعور بالضيق و الخسران، كيف فاتني ذلك، نال مني الخجل و حمدت الله أني لم أتجرأ و أتصدر القول و لم أثنِ على كلام الجوراني أمام معلمي، لكن في ذات الوقت نمت لدي رغبة في أن ينتصر الجوراني لرأيه او بالأحرى لرأيي حتى اتثبت عليه و اكون على صواب، استجمعت ما تبقى عندي من أمل لأتجرأ على رغبة النصر على معلمي بالرأي فعدت متفرسا وجه الجوراني الذي ألفيته متبسما لما انتهى اليه حديث معلمي و قال مجيبا:
.
" بلا شك انا لا أقصد الامر بهذا التطرف و إلا ما لازمتني، لكن اقول، تطرف الناس في لهوهم و رغباتهم حتى انصرفوا عن وجهتهم و غايات وجودهم خذ مقصدنا هذا الا يمتهن كل منا الدرس و الفلسفة ألا ندعو طلابنا الى ترك اللهو و إضاعة الوقت في غير القراءة و السعي لنيل الحكمة؟ فكيف لنا اليوم ان نستجيب الى مجلس لهو الامير هذا؟ "
.
ها قد ثبت بطلان رأيي إذ اتفق الإثنان على فساد ما اعتقدت به، ما اثار استغرابي اني رأيتني في كل مرة موافقا لإحداهما ناكرا ما آمنت به قبل هنيهة، سخرت من نفسي و اعترفت بعجزي و بدا لي الطريق طويلاً..... ولكن فعلا كيف يستجيب معلمي لمجلس لهو الامير؟
.
قال معلمي مجيبا بينما ندخل مجلس الامير الذي مازال يقتبل اليه الناس قبل وصول الامير:
.
" يا بن ايوب الم تشتك قبل قليل من قصر الحياة و عدم كفاية وقتها؟ لابد لك أحيانا من المهادنة حفاظا عليها، ألا تتفق؟ يجب ان تكون للمعلم وسائل يوصل بها صوته، لربما كان من الأفضل ان يكون لك حظوة في مجلس الامير إذ من شأن الحظوة ان توفر مثل تلك الوسائل. فضلا عن ان اميرنا ليس بظالم أو جبار فيعيبنا حضور مجلسه، أم ترى أن نعتزل القوم و ننزوي الى صومعنا فلا يرانا احد و لا نسمع أحد و ندور في دوائرنا و نجتر احاديثنا نلوم الزمان و نأسف على حال البلاد و العباد بعيدا عنهما فلا يفيدانا و لانفيدهم؟ ألا يجدر بنا ان نخالط العامة و الخاصة فنشاركهم ما نعتقد و نسمع ما يعلهم فنفهمهم و نسعى في حل مشاكلهم؟ هم شغلنا الشاغل ولهم نسعى نحو هدفنا افلم يكن مفتاح حديثك هو ذاك الهدف الذي تسعى نحوه فتصنع ما يخلدك بين الناس؟ افليس من شأن ما تصنعه ان يفيد الناس و يمس واقعهم ....."
.
يقطع معلمي كلامه اذ دخل الامير المجلس و وقف الجميع محييا الامير و يشير اليهم ليعودوا الى مجالسهم، ينتهز الجوراني هذه الفرصة ليرد على معلمي فيقول:
.
" حسبك يا ابا محمد، اراك ابتعدت في قولك عن مقصدي، ما كنت لاعني ذاك يوما، كان مجمل ما عنيته ان كيف لنا ان ندعوا مريدينا الى ترك مجالس اللهو و نقصدها نحن؟ الم تقل ان للمعلم وسائل، افليس من تلك الوسائل ان يحافظ المعلم على وقاره و صورته امام مريديه؟ فإن تشوهت تلك الصورة خسر احترامهم و فقد تأثيره عليهم و انفضوا عن مجلسه"
.
" يا بن ايوب لم ابتعد لكن الامر يكمل بعضه. الآن، اراك تخشى ما يظنه الناس بك، ان كنت معترضا على حضورنا مجلس الأمير خوفا من رأي مريدينا و صورتنا عندهم و في قرارة نفسك تود الحضور فانت تغشهم و ان احتجت ان تغش مريديك حتى و إن كان من اجل ان تنفعهم فلا يجوز لك ذلك و ان كانوا يرون في تحقيقك لرغباتك انتقاص منك فبئس المريدين هم، يابن ايوب ليس للأمور ان تكون بهذا التعقيد و لا على المريد ان يفخد ثخته بمعنمه يتب أي يتبيل ليتاينـ ..............................................

.
تناهى الى مسامعي نقر دف و ضرب عود بعيد راح يختلط بصوت معلمي حتى غلب عليه بعد ان تنامى شيئا فشيئا فما عدت اسمع من حوارهما سوى غمغمة مخنوقة، شعرت بالأنغام ترطم صيوان اذني اليمنى و تدور كما الماء اذ اصطدم بقمع حتى استقر في وسطه، عادت الالحان تدغدغ مسامعي حتى أذبلت عيناي و آمالت رأسي الذي استجاب بثقل نحو مصدرها فوقعت عيني عليها فارتخت مفاصلي و تسارعت انفاسي و راح يصدري ينخفض و يرتفع بقوة و اخذ قلبي يضرب الصدر مني، ألقت علي نظرة من عينيها السوداوين فصلتني عن عالمي فاظلم ما حولي، لم اعد أرى احدا في المجلس سواي و ايها محاطة بهالة من نور تلاحقها اينما حلت، رحت ارقبها تتمايل كالأفعى بإعجوبة و تناغم مع ضرب العود و الدف و رأسها ثابت على عامود عاج فرأيت نفسي منشدا
.
تمايلي تمايلي.......... يا بهجة النظر
يا مرقص الشمس . ويا أرجوحة القمر
يا نغمة الليل ..... و يا قيثارة السحر
تعانقي و عانقي...... أشباح ما مضى
و زودي أنظاركِ.... من طلعة الفضا
هيهات أم هيهات ....أن يعود ما قضى
سيري بقلب خافق... في موكب القضا
سيري و لا تعاتبي...... لا ينفع العتاب
روحي إذا خاطبتها ..لن تحسن الجواب
و الدهر ذو العجائب .. و باعث النوائب
و خانق الرغائب ...... لا يفهم الخطاب
.
مسني معلمي فصحوت من إغمائتي لأرى المجلس وقد انفض دون ان ادرك فخاطبني قائلا:
.
" يا زيد، ما أجمل ما انشدت؟! "
.
ما ان وقع علي الإدراك و صحوت من سكرتي حتى نال مني الخجل و لم احصي ما اقول فرأيت ان النجاة في الصدق فقلت لمعلمي " يا معلم استميحك العذر إذ نال مني القلب الذي حاولت ان اروضه على ان يستجيب لي فالفيته اقوى من ان يروض"
.
قال: " لا بأس "
.
في الطريق الى دارنا ألحت علي رغبة في ان اعتذر مرة اخرى لأتأكد من ان معلمي قد سامحني على ما بدر مني من عدم إصغائي له و حاولت ان اصل اعتذاري بسؤال ينسيه ما بدر مني قلت:
.
" يا معلم، ما كنت اعتقد ان تختلفا انت و الشيخ الجوراني كل هذا الإختلاف! "
.
أجابني قائلاً: "كل ما سمعته يا زيد كان درسا معدا لك، إذ استشعرت انك تؤمن اولا بوجوب ان يعتزل الناس كل شيء إلا البحث و التمحيص ظنا منك ان هذا هو العمل الوحيد الذي يجعل للانسان قيمة و هنا انت لم تر الصورة الاكبر لهذا العالم، كما و رأيتك متبجحا معتقدا انك نلت من العلم ما يبيح لك ان تصدر الأحكام فاردت لك ان لا تتعجل الحكمة، و رأيتك تكبح رغباتك و تخجل منها ظنا منك ان طالب العلم و الحكمة نابذ للرغبات و هذا غير سوي، و ألفيتك ترى الحكماء فوق الناس و ترسم لهم هالة تعزلهم عن من حولهم فأردت لك ان تتبين ان اهمية وجودك تكمن بقربك من الناس و تأثيرك عليهم بما يمس واقعهم، و آخر درس كان في ان لا تهتم لما يظنه الناس و يعتقدونه فيك فتجعل ذلك عائقا لما تريده فعلا فإن فعلت فقد غششت نفسك و مريديك، اما رأيت كيف فجرت تلك الجارية فيك الشاعر فأسمح بذلك و لا تكبته، تحسس الجمال و افهم القول و خذ ما يمليه عليك قلبك و عقلك"
.
كانت تلك اهم الدروس التي تعلمتها من معلمي ابا محمد البغدادي.



#علي_طالب_جواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمد عفيفي هو أعظم كاتب ساخر أنجبته مصر
- لماذا لا يتم الإحتكام إلى الكتب المقدسة في البحث التاريخي؟
- الديموقراطية مصطلح يوناني ولكن ....
- سرجون الأكدي الملك العلماني... كيف تمكن من توحيد العراق القد ...
- هل كنا فعلا شعبا واحدا قبيل التاسع من نيسان 2003 ؟؟
- وقفتي احتجاج و لكن....
- لماذا يجب الوقوف ضد تمرير قانون الأحوال الجعفري


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي طالب جواد - تمايلي