|
قراءة في رواية كولومينا
أحمد بطاح
الحوار المتمدن-العدد: 5721 - 2017 / 12 / 8 - 05:19
المحور:
الادب والفن
تـــــــــــــــــقديم:
لم تقف دينامية الأدب الحساني عند الحدود التي رسمها الشعراء، بل استمرت هذه الدينامية في التطور والحركة مبدعة أشكالا أدبية جديدة ومنخرطة فيها، ولعل هذا الانخراط سيلقي بظله حتى على الرواية. وفي هذا الإطار ظهرت مجموعة من الروائيين الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية نقل الأدب الصحراوي من أرض الشعر إلى فضاء النثر في أوسع تجلياته وأشكاله. ومن بين هؤلاء الروائيين مصطفى الكتاب وأحمد قاري والباتول المحجوب... ومحمد النعمة بيروك سليل عائلة أهل بيروك المعروفة بأرض وادنون، ترعرع في مدينة العيون ودرس فيها، ثم استكمل دراسته بجامعة ابن زهر بمدينة أكادير، لينتقل إلى مدينة القاهرة بأرض الكنانة حتى حصوله على دبلوم الدراسات العليا من معهد البحوث والدراسات العربية التابع للجامعة العربية. هذا الكاتب الذي جمع بين الشعر والنثر بما جادت به قريحته من كتب متنوعة نحو: النيل لا يضحك كثيرا(أدب الرحلة)، ديوان تراتيل الطلح، ديوان أجمل من الصبر... ورواية كولومينا التي سنعالجها في هذ المقال. أولا: على مستوى الشكل والعتبات: صدرت رواية كولومينا في طبعة أنيقة عن مطبعة RVB Editions ومن منشورات اتحاد كتاب المغرب فرع العيون، وقد وقعت في 138 صفحة من القطع المتوسط، وعمد الكاتب إلى تقسيمها إلى ثمانية عشر فصلا، لكل فصل عنوانه الخاص، وقد خلت هذه الفصول من الترقيم. الغلاف: إن المطلع على غلاف رواية كولومينا سينتبه إلى أن اسم الكاتب اتخذ مكانا وسطا، يقع تحته مباشرة عنوان الرواية بخط بني عريض، ويحمل هذا اللون دلالة كبرى في المخيال الصحراوي، إنه لون الأرض ولون الغدير، ولون الرمال.. وكلها توحي إلى مدى تعلق المكان بفضائه الصحراوي الذي ينتمي إليه. ثم يأتي المؤشر الجنسي الدال على العمل تحت العنوان، ولا نستطيع الجزم في دلالة هذه التراتبية خاصة وأننا لا نعرف هل هي من اقتراح الكاتب أم من اقتراح مصمم الغلاف، لكن حسبنا أن نفترض أن الكاتب سكنه هاجس الكتابة عن كولومينا قبل أن يسكنه الجنس الأدبي الذي سيكتب فيه عن هذا المكان. في حين تقع في النصف العلوي للغلاف صورة تندرج ضمن الصور الفوتوغرافية، وهي تعكس بأمانة زقاقا من أزقة حي كولومينا، هذا الحي الكائن بمدينة العيون. ومما توحي به الصورة هو واقعية المكان الذي تدور به أحداث الرواية. ولعل قراءة أولية في هذه الصورة الواقعية تبين أن الحي يعيش نوعا من التناقض الصارخ، إذ يبدو حيا بسيطا أغلب المباني فيه منحدرة إلا من منزل يظهر في أعلى اليمين أعلى من المنازل الأخرى، وهو من يدعونا للقول إن سكان هذا الحي يعيشون نوعا من الاختلاف الطبقي. كما توحي أسلاك الهاتف والانترنت الممتدة على طول الزقاق إلى ارتباط الحي بالشبكة العنكبوتية لكن في عمق الصورة ينزوي صهريج ماء يوحي أن هذا الحي يعيش مشكلة في الماء الشروب بالرغم من ارتباطه بالشبكة المائية وهو ما يكشفه العداد الذي يظهر حذاء باب المنزل على اليسار، مما يلقي بنا داخل مفارقة كبرى تجعلنا نتساءل: ما الذي يجعل هذا الحي يعيش مشاكل في الماء الشروب بالرغم من ارتباطه بشبكة الانترنت التي ترمز إلى الحداثة والتطور؟؟ أما على مستوى ظهر الرواية، فتطالعنا في الأعلى صورة الكاتب محمد النعمة بيروك وهو يلبس نظارات طبية منكبا على شيء يقرؤه. وتحت الصورة مباشرة كتب اسم الكاتب بخط بارز وتمت الإشارة لصفاته التي تشي بكونه كاتبا للشعر والقصة والرواية. بالإضافة إلى انتمائه للاتحاد العالمي للفكر والإبداع ورابطة أدباء الجنوب. هذا وقد تم إدراج إصدرات الكاتب المتعددة التي شملت الشعر والنثر. ولعل ذكر هذه الأمور يتغيا خلق نوع من السلطة على القارئ، توحي بأن الكاتب ليس بمبتدئ يبحث لنفسه عن موطئ قدم داخل نسق الأدب بل إنه راكم تجربة أدبية طويلة ومهمة. وتحت كل ذلك نجد نصا قصيرا لصاحبه الأستاذ لحبيب عيديد، يشير فيه إلى اهتمام الكاتب في نصه بالمكان/كولومينا ومدى تأثير ذلك على الشخوص.. ولا نعلم قصد صاحب المؤلف من إدراج هذا النص، أهو محاولة لسحب اعتراف القارئ بأهمية العمل خاصة وأن النص لاسم غير مغمور في الصحراء، أم هو مساحة وهبها الكاتب للشخص المذكور من أجل التعبير عن انطباعه عن الرواية نظرا –ربما- لطبيعة العلاقة التي تجمع بينهما. العنوان: يأتي العنوان خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هذه. ولعل الصورة تعوض هذا المبتدأ المحذوف. وكولومينا هي كلمة حسانية ذات أصل اسباني، وبفعل التداول والزمن طرأ تغيير طفيف عليها. لكن البحث في أصولها سيعيدنا إلى الكلمة الإسبانية la colmena التي تعني خلية النحل، لكنها تتخذ أيضا معنىً مجازيا يحيل على بيت أو بناية يعيش فيها عدد كبير من الناس، وربما ذلك ما جعل الإسبان يطلقون على ذلك الحي اسم كولمينا والذي سيتعرض للتغيير ليصبح كولومينا. والباحث في الأدب الاسباني سيجد رواية بالاسم نفسه La colmena للروائي الكبير Camilo José Cela حيث تحكي الرواية عن بناية يسكنها مجموعة من الأشخاص يتقاسمون بطولة الرواية فيما بينهم، وهو الأمر نفسه تقريبا لرواية كولومينا حيث نجد بطلين يتناوبان على بطولتها . وكولومينا التي تقصدها الرواية تحيل على حي حكومي بناه الإسبان إبان فترة استعمارهم للصحراء، وبعد استقلال هذه الأخيرة عن الاستعمار الإسباني عمدت عوائل من الصحراويين إلى اقتحام بيوت الحي، فانضاف إلى كولومينا كلمة "اردس" فأصبحت "كولومينا اردس" و اردس في الدلالة الحسانية تعني ضرب الشيء بباطن القدم بقوة مستمدة من الفخذ، فيقال "اردس الباب" بمعنى فتح الباب بقوة قدمه. وبلغة الكاراتيه "اردس" توازي ضربة ماي غيري Mae geri الشهيرة. واختيار الكاتب لاسم مكان عنوانا للرواية يحمل دلالات متعددة، أهمها أن المكان يأخذ هامشا كبيرا من نفسية الكاتب، فاختار أن يمجده بواسطة فعل الكتابة، أو ربما اختار كولومينا بوصفها مجتمعا مصغرا يمكن إسقاط ما يقع فيه على المجتمع الكبير، أي معالجة الكل بمعالجة الجزء. ملحقات للغلاف: يعمد مصمم الكتاب إلى إعادة الترتيب نفسه على مستوى الصفحة الأولى بخصوص اسم المؤَلِف والمؤلَف والمؤشر الجنسي. في حين يخصص الصفحة الثانية لذكر حيثيات النشر مشيرا إلى كون الرواية تصدر في طبعتها الأولى، مع العلم أن الرواية قد صدرت في نسخة إلكترونية وحازت على الجائزة الأولى لمسابقة من تنظيم مؤسسة عبد القادر الحسيني للثقافة بالقاهرة سنة 2014. أما في الصفحة الثالثة فقد خصصه الكاتب لصياغة تعاقد قانوني بينه وبين قراء الرواية، هذا التعاقد القائم على التصريح بأن أحداث الرواية وشخصياتها مستمدة من الخيال، وهو ما يعفيه من أية متابعة قانونية حال تطابق الرواية مع واقع أحدهم. ومرورا للصفحة الخامسة نجد النص الآتي "حين لا تكون نقيا من الداخل وبقناعة، لن يفلح المجتمع بكل أعرافه وطابوهاته بجعلك كذلك.. لكنه سيتقبل نسختك المزورة..وسيمنحك نسخته المزورة.." وقد رصد هذا النص بعمق حالة النفاق الجمعي الذي تعيشه المجتمعات ككل، إذ إن الكاتب هنا لا يشير لمجتمع بعينه، بقدر ما يذكر مفهوم المجتمع نكرة على شكل تعريف. هذا المجتمع الذي لا يستطيع أن يجعل أفراده أخلاقيين بقدر ما يدفعهم إلى النفاق وأن يظهروا بالصورة التي أراد حتى ولو كانوا في أعماقهم عكس هذه الصورة. ويظهر عمق هذا النص أيضا في مجتمعاتنا التي أصبحت تعيش نوعا من التناقض والنفاق يمكن رصده في العديد في المظاهر، فهذه المجتمعات التي ترفض الزنا في العلن هي المجتمعات نفسها التي تطلبه في الخفاء، والأمر نفسه ينطبق على المال غير المشروع... المقدمة: قبل أن نغوص في ثنايا المتن، تطالعنا مقدمة الرواية من توقيع الأستاذ ابراهيم الحيسن، الكاتب العام لاتحاد كتاب المغرب- فرع العيون. ويتناول في هذه المقدمة التي امتدت على صفحة ونصف الفضاء العام الذي تمخضت داخله هذه الرواية، هذا الفضاء المرتبط بالتجربة السردية الحديثة في الصحراء، باعتبارها تجربة ليست مبنية على الترف أو التسلية بقدر ما هي تجربة مفكر فيها، تجربة حملت على عاتقها مسؤولية تشريح المجتمع الصحراوي من خلال الوقوف على ظواهر عدة وقضايا أساسية متمثلة في الانحلال الأسري والهجرة والبطالة والغربة والفشل واليأس... بناء على رؤية سردية تستحضر القوانين السردية والوعي بأساليبها، منخرطة في المراكمة النوعية التي ارتبطت بالتجربة السردية منذ ظهورها في الغرب. بالإضافة إلى ذلك عمد ابراهيم الحيسن في المقدمة الإشارة إلى الظروف التي تمخض عنها ميلاد الرواية في طبعتها الورقية، هذه الظروف التي تولدت عن الالتزامات التي أعلن عنها اتحاد كتاب المغرب- فرع العيون في مناسبة سابقة. ليس هناك تفسير واحد لقصر هذا التقديم الذي نحن بصدد التعليق عليه، مقارنة بالمقدمات المرتبطة بروايات أخرى، كالتقديم الذي كتبه الأستاذ بشر حيدر لرواية بوح الذاكرة- وجع جنوبي صحابتها المبدعة البتول المحجوب لمديميغ، بل إن كل منا باستطاعته أن يقدم تفسيرا لذلك، وحسبنا هنا أن كاتب المقدمة ربما أراد أن يسلم المشعل للسارد لينقل القارئ مباشرة إلى أعماق الرواية، خاصة وأن الكثير من القراء يمرون مرور الكرام على المقدمات، ويلجون مباشرة المتن السردي، إن بقناعة ترتبط بالعاطفة، وقد ترتبط بما هو مفكر فيه، والمرتبط أساسا بالتخلص من أي حكم مسبق أو تأثير لكاتب المقدمة على القارئ الذي يود قراءة النص بدون خلفيات أو أحكام مسبقة. في المتن السردي: إن محاولة التغلغل إلى أعماق رواية كولومينا تضعنا أمام حكايتين منفصلتين مبنيتين على رؤية سردية تناوبية. وتلتقي هاتين الحكايتان في الفصلين الأخيرين من الرواية. الحكاية الأولى تتخذ من شخصية كلثوم شخصية محورية لمجموعة من الأحداث التي تقع في الزمن الحاضر وأحيانا أخرى اعتمادا على تقنية الاسترجاع عن طريق تذكر كلثوم لأحداث ماضية خاصة حادثة الاغتصاب الذي تعرضت له من طرف صديق الأب الفقيه، وأحيانا ثالثة يعمد السارد إلى تقنية الاستباق الذي يتجلى في ما ستكون عليه كلثوم مستقبلا، حيث ستلبس شخصية الفتاة التي تهتم بنفسها وتخرج بحثا عن رجل بعدما كانت الفتاة التي أهملت ذاتها وانتظرت أن يأتي الرجل بحثا عنها. وبالموازاة مع هذه الحكاية تأتي الحكاية الثانية التي شكلت شخصية حماد أساسها المحوري، حماد الذي رفض أن يكون ذلك الابن المدلل الذي يعيش من مال أبيه، واختار أن يبحث عن نوع من الاستقلال المالي يضمن له شخصية مستقلة. ولعل تتبع هذين الشخصيتين سيجعلنا نضعهما ضمن خانة الشخصيات النامية التي لا يمكن فهمها إلا داخل الإطار الاجتماعي الذي تتحرك داخله. فكلثوم فتاة تعيش مع أبيها الموظف البسيط في شركة للفوسفاط، داخل بيت من بيوت كولومينا البسيطة، هذا البيت الذي لم يشهد حالة ترميم واحدة منذ أن بني إبان عهد الاستعمار الإسباني في الصحراء، كما إن أثاثه المتواضع يعكس الحالة الاجتماعية البسيطة التي تعيشها العائلة. هذه الأخيرة التي تفرق أفرادها ما بين ابن اختار المهجر لكسب لقمة العيش وابنتين اختارتا العيش تحت ظل زوج. وقد انعكس هذا الوضع على كلثوم التي لا تملك ثمن لباس يليق بانتمائها القبلي أو على الأقل لتظهر بمظهر فتاة في الألفية الثالثة إذا اعتبرنا أن أحداث الرواية تدور في هذه الحقبة، خاصة وأن السارد لم يعط مؤشر تاريخي أو زمني للأحداث اللهم إلا الإشارة المتكررة لحرب أمريكا على العراق، هذه الإشارة التي تجرنا إلى بدايات الألفية المشار إليها، ومما يسعفنا القول في ذلك أيضا هو حديث السارد عن الهاتف الثابت كوسيلة للاتصال في غياب تام للهاتف النقال، وقد ارتبط هذا الأمر بالحقبة الزمنية التي تحدثنا عنها. وبناء على هذه الأوضاع التي تعيشها كلثوم فإن ذلك يدفعنا إلى تصنيفها ضمن خانة الطبقة الكادحة. وفي المقابل نجد شخصية حماد تنتمي لعائلة أهل الضرحي، بكل ما تحمله هذه العائلة من حسب ونسب ومال. لا يتحدث السارد عن نوعية الشركات التي تمتلكها عائلة أهل الضرحي، أو النشاطات الاقتصادية التي يمارسها المدبر الاقتصادي للعائلة "الأخ الأكبر يعقوب" اللهم أيضا إلا إشارة لمتجر للحلي أو محلات مكتراة بشارع بوكراع يتم استخلاص أجرتها الشهرية من المكترين، لكن ذلك لا ينفي امتلاك العائلة لمجموعة من وسائل الإنتاج، يجعلنا نصنفها ضمن العوائل البورجوازية في الصحراء، بالرغم من أن في ذلك نقاش طويل. ونظرا لانتماء العائلتين، عائلة "أهل هلاف" التي تنتمي لها كلثوم وعائلة "أهل الضرحي" إلى الحي نفسه، حي كولومينا، فإن ذلك يجرنا إلى القول إن الحي مثال صارخ للتناقضات الطبقية التي يعيشها المجتمع الكولوميني، وربما يمكن إسقاط ما يعيشه على المجتمع الصحراوي ككل. حينما نعود لشخصية كلثوم ونتتبعها طيلة مراحل الرواية، نجد أن الهاجس الذي كان يحكم هذه الشخصية يتمثل في الزواج والحصول على رجل، ولا يمكن لنا تفسير هذا الهاجس إلا بربط هذه الشخصية بمستواها الاجتماعي، حيث سيشكل موت الأب أو استمرار الوضع على ما هو عليه مثابة خسارة للوضع الاجتماعي المتردي أصلا الذي تعيشه الشخصية، وهو ما عبر عنه السارد بقوله: " لكنها ما تفتأ تطرح السؤال الصعب "ما الحل؟" حين تسترجع المصير الذي ينتظرها إذا لم تحظ بزوج في زمن لا يرحم.. ماذا لو توفي أبوها اليوم أو بعد حين.. ألن يكون من المستحيل أنذاك حتى أن تمكث في هذا البيت، ليس لأنها ستكون فيه وحيدة فحسب بل لأنه سيكون مال إرث لن يتأخر أخوتها عن المطالبة به، خصوصا أختاها اللتان تعرف جيدا أنهما على استعداد لفعل أي شيء من أجل المال.." الرواية، ص 70-71. وبالتالي فإن وعي الشخصية توجهه الظروف المادية التي تعيشها، مما لا يدع مجالا للشك في التأثير الذي تمارسه البنية التحتية على البنية الفوقية لشخوص الرواية. ركز الكاتب أيضا على عدة تجليات للتفاوتات الطبقية التي تعيشها مختلف عائلات كولومينا، فحينما نستحضر عائلة شريفة بوصفها العائلة التي تشتغل عندها كلثوم كخادمة، يظهر حجم التفاوت بينها وبين عائلة هذه الأخيرة، هذا التمايز الذي وقف عليه السارد في قوله: " إنه بيت ساحر: ستائر من حرير وحيطان رخامية وبلاط يلمع كالزجاج.. كأنه منزل لا ينتمي إلى كولومينا، فالإضافة لسحره هو بيت شاسع ومريح، يبدو كل شيء فيه يأخذ مسافة معقولة مما يليه، حتى باقات الورد تجد جذورها متسعا للتمدد في قعر تلك الجرار الكبيرة، واللوحات كذلك تجد مسافة مريحة بين بعضها وهي معلقة على تلك الجدران (...) كانت تلك المناظر تفرض عليها مقارنة غير متكافئة، فتزرع على وجهها ابتسامة مرة أحيانا عندما تعاود تأمل البيت الذي تقيم فيه وغرفتها الشبيهة بعلبة الكبريت، ليس لضيقها فقط، بل لقابليتها للاشتعال أيضا.. غرفة أصغر من حمامهم، صالة بحجم مطبخهم.. كل شيء يحيل إلى مقارنة مجحفة، حيطان لم تطل منذ الاستعمار الإسباني في مقابل حيطان تلمع كالكريستال، تلفزة صغيرة تحتاج أحيانا لضربة من الخلف كي تشتغل مقابل أكثر من واحدة في حجم نافذة من دفتين.. لا يحمل بيت شريفة –باختصار- من ملامح كولومينا غير منظره الخارجي.." ص 23. على الرغم من التناقض الطبقي الصارخ للمجتمع الكولوميني، والذي يمكن إسقاطه على المجتمع الصحراوي ككل، فإن هناك آليات أخرى تتدخل لطمس معالم هذا التناقض، وأبرز هذه الآليات نجد القبيلة، هذه الأخيرة التي تعمل جاهدة على توجيه الوعي الطبقي لخدمة مصالح طبقة معينة على حساب طبقة أخرى، فخوف كلثوم من انكشاف أمر اشتغالها كخادمة لا يرتبط بالأب فقط، بل يرتبط بالقبيلة ككل والتي ستعتبر الأمر نوعا من الفضيحة. وبالتالي فالقبيلة لا تقدم دعما للأشخاص بقدر ما تكبح مسيرة تقدمهم في السلم الاجتماعي، أو على الأقل تمارس نوعا من الثقل التوجيهي على المستوى السوسيولوجي، ذلك أن الانتماء القبلي للفرد الصحراوي يجعله مؤطرا بمجموعة من العادات والتقاليد والأعراف، التي تفرض عليه سلطتها الرمزية، فالفرد في هذا المجتمع لا يستطيع الخروج عن السياق الاجتماعي العام الذي تنتجه القبيلة وتكرسه بفعل هيمنتها التي قد ترقى إلى مستوى العزل القبلي بعد توجيه "الجماعة" من أجل ردع الفرد الخارج ورده إلى دائرة هذه القبيلة. وفي مقابل الحالة المادية المترفة التي تعيشها شريفة في منزلها المجهز تجهيزات عصرية تتماشى مع الألفية الثالثة تطالعنا الرواية بالحالة المزرية والرثة التي تعيشها عمة حمّاد وابنتها أم السعد، وقد صور لنا السارد ذلك في المقطع التالي: "إنه بيت يرى فيه حماّد ما لا يكاد يراه في غيره، إذ يثير منظر الحصير بعض الشجن في نفسه.. من في العيون ما زال يفترش الحصير في زمن الأفرشة الخليجية والأرائك ذات الطراز العصري والسجادات التركية الكبيرة.. هناك لم ير من السجادات غير تلك الصغيرة المعلقة على الحيطان والتي تحمل صور الكعبة أو رسمومات للغزلان والفرسان.. أشياء أخرى لم يرها حماد في منزل عائلته منذ أمد طويل مثل "الشكوة والحماره" المسندتين على حافة الحائط في ذلك الممر القصير.. حتى طلاء البيت يذكره بصورة جده، حيث الحيطان مطلية بلونين، (..) حتى "المرفع" ما زال عند عمته معلقا في البهو الداخلي الضيق مقابل المرحاض الأكثر ضيقا"ص 45. وقد انعكس هذا الواقع الاقتصادي الذي تعيشه هذه العائلة على طبيعة تفكيرها، إذ بدل معالجة المرض النفسي الذي تعانيه "أم السعد" والمتمثل في الخوف من الغريب خاصة الرجال، تم تفسير المرض كونه ناتج عن مس من الجن أو السحر، وبالتالي اللجوء إلى "الحجام" قصد العلاج، وقد اتخذت شخصية الحجام أو المشعوذ قيمة أساسية في المجتمع الصحراوي، خاصة بين العوائل الفقيرة التي لم يتلق أفرادها تعليما كافيا للوقوف في وجه هذا النمط الشعبي التقليدي من الفكر الذي يضحده العلم. وفي هذا الإطار بذلت أم الفتاة "أم السعد" المال والمجهود قصد مداواة ابنتها، مما جعلها لقمة صائغة لذلك الحجام الذي يستنزف عرقها، كما يستنزف عرق ساكنة الحي، عن طريق بيع الوهم وتغليفه غلافا دينيا، وقد جاء على لسان السارد أن حتى الفتوى في أمر ديني تحتاج الدفع المالي المتمثل في عشرين درهما. إن هذا الانحطاط الثقافي التي تعرفه العائلة ناتج بالأساس عن الوضعية المادية التي تعيشها، فحتى إذا استحضرنا الأفراد الذين استطاعوا قطع أشواط في التعليم، فاستطاعوا الحصول على شواهد جامعية، نجد نسبة مهمة منهم ما زال يحكمها نفس العقلية، أي العقلية التي تؤمن بالخرافة والشعوذة والقبلية والأولياء والأضرحة، وهذا يدل على أن المجتمع الصحراوي يعيش نوعا من المفارقة والانفصام الذي حاولت الرواية إماطة اللثام عنه، فمثلا إذا استحضرنا الأخت الكبرى من عائلة أهل الضرحي، التي رفضت تعلق أخيها حماد بابنة عمته "أم السعد" فقط لكونها من قبيلة أخرى، وهو المنطق نفسه الذي جعل الحاج الضرحي لا يمد يد المساعدة لأخته الفقيرة. إذن على الرغم من انتماء هذين إلى طبقة اجتماعية ثرية، لكن ذلك لم يسعفها في الخروج من الحسابات القبلية الضيقة. ومن ناحية أخرى يمكن تفسير هذا التناقض في كون المجتمع الصحراوي حديث عهد بالمدنية، فهو إلى الأمس القريب كان يعيش في الصحراء، بنمط عيش بدوي، ولم ينتقل إلى المدينة إلى في النصف الأخير من القرن العشرين، كما وأسهمت التحولات السياسية التي عرفها المجتمع، والمتمثلة في الصراع السياسي والعسكري القائم بين المغرب وجبهة البوليساريو، وهو الصراع الذي لم تشر له الرواية بأي شكل من الأشكال، بالرغم من أنه كان حاسما في تشكل وعي الإنسان الصحراوي إبان المرحلة التي تعالجها الرواية، هذا الوعي الذي لا يمكن تشريحه إلا داخل قلب هذه التحولات الاجتماعية والسياسية. إن رواية كولومينا هي تصوير للتناقضات والصراع الطبقي الذي يعيشه المجتمع الصحراوي عن طريق تصوير هذه التناقضات داخل حي كولومينا. وقد كان الدافع المادي واقفا وراء مجمل أحداث الرواية، خاصة في ارتباط بالشخصيتين المحوريتين. إذا عدنا لعائلة أهل الضرحي في علاقتها بمجموعة من الأفراد أو العائلات نجد أن السارد أشار ما من مرة إلى أن هذه العلاقة تحكمها مصالح طبقية، ذلك أن زيارات الأفراد لهذه العائلة كان يهدف بالأساس إلى حظوة مادية أو رمزية لهم، وهذا ما يفسر ابتعاد الكثير منهم خلال الأزمة المالية التي مرت منها العائلة. كما أن الصداقات التي كونها حماد مع العديد من الشبان ينطبق عليها نفس التفسير، فحتى صديقه المقرب لم يعد كذلك بعد فقدان حماد لمجموعة من الامتيازات الطبقية كالسيارة والمال. أما بالنسبة لشخصية كوثر، الفتاة التي تمتهن نوعا من الدعارة المقنعة، والتي تحاول إخفاءها حينا وتبريرها أحيانا، مدفوعة في ذلك من القهر الذي تعيشه عائلتها، فرغم عدم قدرة كلثوم على تفسير منبع الأموال التي تتوسلها كوثر في الحصول على الزينة والملابس الراقية في البداية، إلا أنها فهمت في الأخير أن هذه الأموال مصدرها تجارة الجسد الذي عملت شخصية سعاد صاحبة صالون حلاقة النساء على تعبيد الطريق له، سعاد المنحدرة من داخل المغرب، والتي حاولت جر ضحايا جدد من اجل تلبية رغبة زبائنها، مما جعلها تغرر بكلثوم قصد جعلها سلعة جديدة، وكل ذلك من أجل الحفاظ أيضا على الامتيازات التي تذرها عليها مهنة القوادة، خاصة وأنها أصبحت تمتلك منزلا في المستوى وسيارة نسائية، وهي في ذلك الوقت حلم كل امرأة. على سبيل الختام: حاصل القول إن رواية كولومينا رواية اجتماعية سعت إلى رصد التناقضات التي يعيشها المجتمع الصحراوي، هذه التناقضات التي لعبت دورا حاسما في تكون وعيه، وذلك عبر تتبع حياة شخصيتين منفصلتين على مستوى الانتماء الطبقي، وقد أفرز هذا التتبع الوقوف على مجموعة من التفسيرات لعدة ظواهر اجتماعية، هذه التفسيرات التي تحوم حول ما هو مادي بالأساس. وقد أفلح مؤلف الرواية في انتقاد المجتمع الذي ينحدر منه من خلال انتقاده الثاوي خلف الشخصيات لمجمل المظاهر السلبية التي يعيشها هذا المجتمع، أو على الأقل أفلح في دفعنا إلى مساءلتها، فحينما يطرح السؤال: "هل العذرية فعلا دليل شرف؟.." ص 68 أو حينما يتناول المسكوت عنه في العلاقة بين الأب وبنته، حينما لا تجرؤ البنت على مصارحة الأب بدخولها في فترة طبيعية لدى كل فتاة، وتعمد إلى الصلاة خلفه وهي على تلك الحالة، فقط خوفا من الطابو، فإن ذلك يدعونا إلى إعادة التفكير في عادات وتقاليد هذا المجتمع، وحمل الفأس لهدمها أو في أقل الأحوال خلخلتها، فلا يعقل أبدا، ونحن في زمن التكنولوجيا، أن الابن في المجتمع الحساني ما زال لا يملك الجرأة على حمل ولده أمام والده أو تقبيله، وهذا أبسط حق طبيعي في الأبوة؟ǃ
#أحمد_بطاح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معيقات التحول الحداثي في المجتمع الصحراوي
-
الرواية والاعتراف
-
نحو رؤية جديدة للكتابة في الصحراء
-
الرواية عند البيضان
-
الرواية الصحراوية... هل هي صرخة وعي؟
-
الذات العربية من أزمة الوعي إلى الوعي بالأزمة
المزيد.....
-
فنانة مصرية شهيرة تناشد الرئيس السيسي
-
حسين الجسمي يرد على صورة مع بلوغر إسرائيلي ويثير تفاعلا.. صو
...
-
-مبدعة في النثر المعاصر-.. جائزة نوبل في الأدب 2024 تذهب للك
...
-
انطلاق فعاليات مهرجان الهايكو الثاني في اتحاد الأدباء
-
فيلم -جوكر 2- يحبط الجمهور والنقاد ويصنف كـ-أسوأ فيلم لعام 2
...
-
مطاردات القط والفأر.. تردد قناة كوكي كيدز الجديد 2024 علي ال
...
-
مــوقع وزارة التعليم العالي لـ نتائج المفاضلة سوريا 2024 moh
...
-
وصفها بالليلة -الأكثر جنوناً- في حياته.. مغني أمريكي قطع حفل
...
-
إختتام مهرجان قادة النصر الأدبي والفني والإعلامي الرابع في ب
...
-
صربيا.. قبر تيتو في قلب الجدل حول إرث يوغوسلافيا
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|