أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايمان الدرع - الزبداني...ومواسم الكرز (ثلاثيّة)















المزيد.....


الزبداني...ومواسم الكرز (ثلاثيّة)


ايمان الدرع

الحوار المتمدن-العدد: 5617 - 2017 / 8 / 22 - 21:23
المحور: الادب والفن
    


الجزء الأول:
مغلّف امتحان
أطلقت تنهيدة خافتة، وقد لاحتْ لي وجوه الطلبةِ المتوجّهين إلى مراكز امتحانات شهاداتهم الثانوية، صبيحة هذا اليوم، وقد علاها شحوبٌ بادٍ، وتوتّر ينبي عن أحمالٍ مضاعفةٍ، تنوء بها خطواتهم: همّ الامتحان ورهبته، وكابوس الحرب العبثية التي أعطبتْ أحلامهم، فكبروا قبل الأوان.
النسيمات الباردة، ذكّرتني بأجواء ( الزبداني) درّة الريف الدمشقي، عندما كنت أقطع الدرب إليها، متأبّطة مغلفات البطاقات الامتحانية للطلبة، ومخطط القاعات،لتهيئة المركز، بصفتي رئيسة له، لسنوات عديدة، توزّعت بين مناطقَ كثيرةٍ من الريف، ولكن للزبداني، وللقرى التي تتبع إليها ( عين الفيجة، الديماس، دير قانون) كان لها النصيب الأكبر.
أذكر بأني لم أكن أعرف النوم ليلة الامتحان، إحساساً بالمسؤولية، ورغبةً في إنجاز المهمّة بشرفٍ، وأمانة حرصت عليها طيلة خدمتي، حتى استقالتي، فما أن يبزغ الفجر، حتى تراني مزروعة في محطة الحافلات المتوجّهة إلى البلدة ـ قبل أن يحمل عني زوجي الحبيب هذه المهمة، في إيصالي إلى المراكز الامتحانيّة، بقلقٍ أقلّ نوعاً...في وقت لاحقٍ، بعد اقتنائه سيارة، تفي بالغرض ـ
كنت على نار أترقّب الوقت، أنظر إلى ساعتي بين لحظةٍ، وأخرى، والسائق بدمٍ باردٍ يحتسي الشاي، ويطفئ سيجارة، ويشعل أخرى، منتظراً استكمال عدد الركاب، حتى لتكاد الحافلة تصرخ من اكتظاظها، فيشقّ حينها الدرب، قاطعاً شوارع دمشق المترفة، المستغرقة في النوم، كصبيّة مدلّلةٍ، ترخي جدائلها، على وسادة الأحلام...قاصداً الزبداني..ونحن نعبر القرى المؤدية إليها..نقرأ أسماءها، على الأوتستراد العريض: ( يعفور، الصبورة، سوق وادي بردى، التكيّة، برهليّة.ميسلون، الروضة..وغيرها..وغيرها..) في تقاطعات لوحاتٍ، على جانبي الشارع، تشير إليها، نطوي المسافات،..بسرعة جنونية، بينما صوت المسجّل يصدح عالياً: ناقلاً إلينا، حفلاً مسجّلاً، لأحد الأعراس المقامة في البلدة، والتي استهوت السائق..فانتشى طرباً، يردّد مع الكاسيت: ( هنودي..هنودي..هنودي..من كفر للعامودي..بو باسل الله معك..يارئيس البلدية)...والركاب بين نائمٍ، يهلع فجأة من مطبّ مفاجئٍ، مرفق بصوت (زمور) الحافلة، المارق كالسهم الضارب، وبين صاحٍ، شاردٍ..في تفاصيل يومه المشحون بالتعب...فمعظم الركاب من الكادحين، وأفراد العساكر البسطاء، المتوجهين إلى قطعاتهم، ملتحقين.
بينما كنت أدير في داخلي آلة تصويرٍ خفيّة، تلتقط الصور، بكلّ الحواس...أخزّن في عينيّ، ألوان البساط الأخضر المتماوج، لسهل الزبداني، الممتدّ عبر أفق النظر، على اتساعه، ترتمي في أحضانه، بيوتا ريفية بسيطة، ولكنها أنيقة، نوافذها مرحة، تعانق الشمس/ و قصور سياحية مترفة، باذخة الإكساء..وقد تدلّت على شرفاتها، شوادر زاهية الألوان، وتناثرت في زواياها، مقاعد وثيرة، منجّدة، هزّازة...تنبي عن سهرة جميلة، أمضاها أصحاب البيت هنا..بين الأشجار التي تحيط بالمكان من كل جانب، وأحواض الورد الزاهية بعبيرها، وألوانها، وكروم الدوالي المعرّشة على الجدران، والأسقف..وقد وجدت فيها الطيور ضمن أقفاصها، مسرحاً لغناءٍ لاينقطع..
أمرّ ببصري ..بمزارع الكرز، والأشجار المثمرة المتنوعة في أصنافها: المشمش، التفاح السكري، الدراق، الخوخ.....
وعلى الجانبين: تناثرت مطاعم وجبات الشواء الجاهزة، لمن يرغب بها زوادة على الطريق.
وتوزّعتْ الفنادق، و المقاهي، والمقاصف الشعبية، والسياحية ذات النجوم الخمس...على حدّ سواء...حسب رغبة الزبون، ومقدرته المالية...والإعلانات عنها تتسابق في جلب الزبائن، بعروض أسعارٍ منافسةٍ، وأطباق شهيّة لايُنسى طعمها..مثل: المندي، والأسماك الطازجة، وغيرها....
أكشاك البائعين، تعرض منتجاتهم السياحية، بكل الأصناف السورية المحبّبة...وخاصة ما أعدّ للمؤونة الريفية، بما عرف عنها من نظافة، و.. مهارة في التحضير...أصناف المربيات، المكدوس، والأجبان..و..,و ...كلها مرتبة ضمن برطماناتٍ، في مهرجان ألوان..يجاورها على الرصيف الخارجيّ، سلال الكرز الشهي، الملتمع بحبات الندى..وقد طغى على ما عرض إلى جانبه من مكونات أخرى.
والبيوت التي تغالب النعاس، مازالت تزيح عنها اللحاف الرطب الذي ألقى عليها ليل الزبداني برودته، فتئاءبتْ على استحياء..على صوت الديكة، والعنادل..بينما كانت سيارات النظافة تقوم بعملها بنشاط، تتبعها سيارات شطف الشوارع، لتغسل ماكنسته...
وصلتُ الموقف الأخير، في الساحة الرئيسة من البلدة، طالعتني مدينة صغيرة للألعاب، هي امتداد لمقصف مشهور، مازالت تنضح منه رائحة شواء، وأبخرة نراجيل .. عششت في زواياه، وإن انطفأتْ نار فحماتها.
وصوت صافرة القطار يعلن أنه في الطريق إلى محطته الأخيرة هنا.
..سألت بائعاً يصفّف صناديق الخضار على ناصية الشارع، واضعاً قلماً خلف أذنه، عن عنوان المدرسة التي أقصدها،... رحّب بي على عادة أهل الريف متفرّسأ، وعندما استدرت نحو الطريق حيث دلّني، راح يستكمل منهمكاً ، عملية البيع والشراء..ويثبت لائحة الأسعار.
ها أنا أقطع الشارع الفرعي المؤّدي إلى المركز...تصادفني وجوه غضّة، لنسوة أليفة القسمات، تردّ تحيتي بأجمل منها::
ــــــ :تفضّلي يا اختي...حَوْلي...
.وهنّ يرشقن الماء على بوابات الدار، يزحن عنها، عن المداخل.. الأتربة العالقة فيها.. بينما انصرفتْ العجائز منهن، إلى ملاطفة الأحفاد، وحلّ قضاياهم.البريئة، بفيض حنانٍ، يذيب برودة الإسفلت الرطب.، حيث أخطو ..
وصلت الآن......البناء المدرسيّ الضخم، يبرز عنوانه.....نفس الاسم الذي تحمله مغلفاتٌ، أرادتْ أوراقها أن تعلن عن بدء طقوسها الامتحانية، بكثير من الجد...وبكثير كثير من الاستمتاع، بمواسم الجمال، مواسم الكرز.

( الجزء الثاني)
القاعة السابعة
********************************
كان الآذن للتوّ يفتح باب المدرسة...ليس ذنبه...أنا من أبكرت على الموعد...لشدّة هواجسي في الامتحانات...ورغم ذلك ..كان لابدّ أن أحمّله لوما، وعتباً ، لأشعره بالمسؤولية ..بأن عليه أن يلتزم بفتح باب المدرسة..قبل فترة كافية من حضوري...لتهيئة ما يلزم...على الوجه الأكمل...فوعدني خيراً..
بينما راحت أصابعه المضطربة تتعثر بالمفاتيح التي حزمها الإداري المسؤول عن تسليم المركز، حزمة واحدة من أجل استقبالي، ريثما يصل.
وما كدت أدخل غرفة رئاسة المركز...حتى سمعت صوت إدراي المدرسة، المكلّف بإجراءات الاستلام، والتسليم...يستفسر عن وصولي من الآذن..فقال له: نعم إنها في الداخل...
فأتى باشّاً، مهلّلاً مكررا ترحيبه كسبحةٍ
ــــ :أهلا وسهلا.. أهلا وسهلا...يا (بوعمر) ساوي قهوة للآنسة إيمان...
كان من الضروري أن ألبس ملامح الأستاذة الصارمة التي لا تتهاون بقبول أي خلل بالمركز، عند استلامه، من إضاءة كافية، ومراوح صالحة للاستعمال، ومقاعد ، ونوافذ، وطاولات، وأبواب لاعطب فيها.
ولكن حسن استقباله، خفّف من حدّة توتري، وأشعرني ببعض ارتياح، وهو يرافقني التجوال بين أرجاء المدرسة.
..وكان أمين سرّ المركز قد حضر لا هثا يلتحق بجولتنا معتذرا عن التأخير..لبعض ظروفٍ طارئة.. ،
بينما لا يزال الإداريّ المسؤول يعرّفني على أقسامها، وطوابقها، وقاعاتها المعدّة بشكل جيدٍ، مستوفٍ كافة الأمور...وعدت معه الغرفة الإدارية.يسلمني القرطاسيّة.
شربنا القهوة معاً.. دون أن يتوقّف عن الحديث، عن صعوبات العمل في نتائج الامتحانات الانتقالية، عن أمور عامة تهم أهل البلدة...وعن استيقاظه باكراً، قبل القدوم إلى المركز، من أجل سقاية الأشجار في أرضه.
.طالباً من ( أبي عمر ) أن يقدّم لي صحن كرزٍ أتى به منها...
أحسست فعلا بأني بين زملاء أعرفهم بالانتماء الى هذه المهنة المقدّسة.،
وأن لأهل الريف طبع جميل، وتلقائية محبّبة..تنسيك تلك الترتيبات الرسمية التي تضعها في ذهنك قبل أن تتعرّف إليهم...
وقبل أن يغادر...ترك لي رقم هاتفه..إن احتجت شيئا...وقال البيت تحت تصرفك...وأختك أم هاشم ( زوجه) بالخدمة ..أنت بين أهلك...
وبقيت وحدي في المكان، بعد أن توجّه أمين سرّ المركز إلى تهيئة القاعات، حسب المخططات الآتية من التربية...
وقربي ( ركوة القهوة) مازالت ممتلئة،حتى نصفها، فصببت فنجاناً، ووقفت قرب النافذة، أستقبل هواء الزبداني البارد المنعش، أجول ببصري متأملّة السفح الأخضر، وقد بانت أسطح البيوت...كاشفة عن أوانٍ، مغطاة بأقمشة بيضاء نظيفة..كانت الأمهات تنزعها بهدوء، كي تحرّك المربيات من مشمش، وغيره،المعرضّة للشمس..
وصوت سيارة الخضار يهدر، وهي تجول بين الشوارع، تعلن عبر مكبّرها، عن أصنافها المتنوّعة..
وبعد توضيبنا الخزانة عقب استلام قرطاسية دائرة الامتحانات...أقفلت الباب..قاصدة منزلي منهكة، ولكني سعيدة بالإنجاز، مرتاحة باندماجي في جو المركز، ومحيطه...
فنمتُ أفكّر في ترتيبات اجتماع المراقبين صباح اليوم التالي، أركّز أفكاري...التي سأطرحها أمامهم...
وعند إشراقة الشمس...كنت مزروعة على باب المركز، فوجدت الآذن / بو عمر / قد سبقني يرشّ أرض المدخل بالماء، وقد قام بتنظيف الباحة، والغرف، بهمة، ونشاط
يفتح لي الأبواب قائلا:
ــــ ما رأيك أستاذة؟؟؟هيك منيح؟؟شو عندك ملاحظات، أنا بأمرك...فابتسمت شاكرة له..وعلامات الرضا على وجهي...
وماكدت أفتح النوافذ حتى استقبلتني نفس النسمات التي تتغلغل عميقاً في الصدر، مختلطة مع روائح القرطاسية المكدسة على الرفوف، وفي الخزانة،
شربت قهوتي بهدوء شديدٍ، بينما توافد المراقبون، يعطونني مهمات تكليفهم ..أتعرّف إليهم عن كثب، أدردش معهم..محاولة أن أخلق اندماجاً، يقربنا من جو العمل، لأنهم قادمون من مدارس شتى، ولابد من إيجاد توليفة ما ، تجعلنا فريق عملٍ واحد، في فترة امتحانية، كلّ ما نبتغيه أن تكون مثمرة، سيرها نظامي، لا مشاكل تعترضنا، ولا عقبات ..
من أجل ذلك كانت التعليمات التي تلوتها عليهم.تحمل خطة عملٍ، تجنبنا كل المطبات التي علينا أن نتحاشاها..
صباح اليوم الأول من امتحان الشهادة الثانوية.....كنت في غاية التوتر..لأنه الركيزة الأساس التي سنبني عليها حسن سيره.. من استلام مغلفات الأسئلة في وقت مبكر..و.من توزيع الطلاب على قاعاتهم، بعد تلاوة أسمائهم، وتوزيع المراقبين على القاعات، واستعراض التعليمات على المتقدمين للامتحان.
....عند الثامنة تماما كنت أستعدّ لفضّ المغلّف في إحدى القاعات..وقد تواجد حولي رؤساء القاعات...وأنا أتلو على الجميع
ما كتب عليه من معلومات..
وإذ بضيوفٍ ألمح طيفهم وهم يقتربون من القاعة..يبرزون بطاقات مهمات زيارتهم الرسمية.
بان لي وجه رئيس هيئة الرقابة، والتفتيش، وبرفقته مندوب وزاريّ من الهيئة المركزيّة، فأكملت مهامي بوجودهم، أصعد، أهبط بين طابقي المركز، وفي قاعاته كلها...حتى اطمأننت على بدء الامتحان بشكل فعلي.. فعدت معهم إلى غرفة رئاسة المركز..أطلعهم على الجداول، والمحاضر، والأوراق المعدّة لتغطية سير الامتحانات.....
وإذ بالآذن / بو عمر/ يهمس لي: ممكن لحظة أستاذة..سألته خير...فتردّد بالكلام...ولكني طلبت إليه أن يقول ما لديه، منعاً للحرج أمام الزائرين..
.فقال: ـــ هناك طالب أتى الآن ..ماذا نفعل؟؟؟
فتنقلت بنظري حائرة بينه، وبين وفد التفتيش..وأنا أنظر في ساعتي..عشرون دقيقة قد مرّت على بدء الامتحان...وحسب التعليمات المشددة لا يسمح له بالدخول أبدا....وقد أسقط في يدي..
.فقال لي رئيس رقابة تربية الريف: وهو من ( القلمون) بوجهه الصارم الذي يعرفه الجميع، ويتحاشونه، لما عرف عنه بجديته الحازمة، وبحثه عن تفاصيل التفاصيل في العمل، وتقاريره التي لا ترحم، وعقوباته التي قلما يفلت منها أحد..
قال لي: ـــ الآن اعتبري نفسك أنك وحدك، ولم نكن عندك، وواجهتك هذه المشكلة..ماذا ستتصرفين...؟؟؟ قومي بما ترينه مناسبا من وجهة نظرك..
صمتّ برهة ..ثم التفت الى الآذن أستدعي الطالب.أستبين سبب التأخر.فأتى به..
فبان لي مضطرباً، يرتعش من الخوف، يثّاقل في خطواته، رغم محاولته اجتياز المسافة إلينا بسرعة ـــ فقد كان يشكو من عاهةٍ، وعرجٍ شديد في رجله ـــ ترتجف ذقنه، يغالب البكاء:
سألته: لم تأخرت يا بني؟؟!!!
ــــ والله يا آنسة طالع من بكير...تعطّل الميكرو..لبينما تصلّح...والله غصب عني
ــــ وين ساكن؟؟
بسرغايا...بشان الله يا آنسة خليني فوت قدم مع رفقاتي..
لم تطل حيرتي. وبلا تردّد.سألته بأي قاعة أنت
ــــ في السابعة..
تعال معي، وأنا أنتزع من مغلف الأسئلة ورقة، ومن الخزانة: ورقة إجابة..
فتحامل على عرجه، يسابق الوقت، غير مصدّق...
دخلت القاعة، بعد استئذان رئيسها لباقةً..وأجلسته بنفسي على مقعده، ووضعت الورقتين أمامه:
ــــ هيا اكتب..ضع اسمك ورقمك عليهما...كان عليك القدوم مبكرا جدا حتى تتحاشى التأخر..إذا تعرضت لعطل في الميكرو..إذا تكرّر ذلك لن أقبلك...عليكم احترام الوقت.والاستعداد له..
وعند عودتي سألني المفتش: مقطب الحاجبين، وبلهجة صارمة:
ـــ كيف فعلتِ ذلك؟؟ ألا تعلمين أنك خالفت التعليمات الوزارية، وتستحقين عقوبة مسلكية على ذلك؟؟؟
قلت له:
لي أسبابي: ـ .. لقد اقتنعت فعلا بحالة الطالب..فالواقع ينبي عن ذلك...الأمر الآخر..لمّا يمضِ بعد نصف الوقت، فبالتالي الأسئلة مازالت محصورة ضمن الجدران / كان هذا منتصف التسعينات تقريباً، ولم يكن الهاتف الخليوي قد انتشر بعد / .....ـ الأمر الأخير، والأهم: الرحمة فوق القانون...وأنا مستعدة لأي عقوبة، ومسؤولة عن تصرفي...لن أكون السبب في رسوبه، حتى أضع نياشين النجاح، بأني صارمة، أتبع التعليمات، وأنفذها على حساب طالبٍ، في أضعف حالاته، يعلم الله حاله، وحال أهله...
ثم وبضحكةٍ رسمتها تهرّبا من قسوة ملامحه الجامدة، مددتُ يدي أشبكهما:
ــ ضعوا القيد لو شئتم...أنا جاهزة..
بقي صامتاً، ولكني قرأت في عينيه ثناء، ورضا..لا يمكنه الإفصاح عنه، لموقع مسؤوليته. ولم تأتني عقوبة/ ولا يحزنون..
وكان زملائي قد نظموا قوائم اشتراك المراقبين في حافلة واحدة..اتفقوا مع سائقها لتوصيلنا.. فشاركتهم رحلة العودة إياباً...
.ومن النافذة، كانت عيناي تقطفان جمال لوحات الطريق، على امتداد النظر...نلوّح لبعضنا مودّعين، كلما نزل زميلٌ، في محطته قرب بيته.

الجزء الثالث
منقذ
جلبة وضوضاء صادرة عن القاعة الرابعة في مركز ( عين الفيجة ) التابع للزبداني..في امتحان شهادة التعليم الأساسي، جعلتني أهبّ من مكاني أستطلع الأمر وقد سبقتني الى الممر إحدى المراقبات تلهث متقطّعة الأنفاس : أستاذة هناك طالب مغمى عليه وقد ارتمى على الأرض يقلّص رجليه ويديه ويتلوّى من الألم..
ماذا تقولين؟؟ وأسرعت إلى حيث أشارت، ولحقت بي..رأيت رئيس القاعة منشغلا به يحاول إفاقته وقد أخذ الطلاب يبدون القلق على زميلهم بهمهمات تنقل اضطرابهم من أجله.
جثوت قربه كان ممدّدا بين المقاعد و أقدامه تنحشر في الزوايا المعدنية لإحداها. وقد تعفّر شعره بغبار الأرض .طلبت كأس ماء..بللت أصابعي ومسحت بها وجهه فحرّك وجهه يمنة ويسرة وقد تقاطرت حبات الماء على خديه تبلّل ياقة قميصه
ما اسمه: سألت رفاقه؟ منقذ اسمه منقذ..وأضافوا : إنه مجتهد دائماً يحصل على الترتيب الأول في النجاح..منذ كان في الابتدائية
ما الذي حصل له إذن.؟..أجابني جاره في السكن: لقد أمضى جلّ يومه البارحة على السطح بعيداً عن ضوضاء البيت كي يستذكر دروسه، ولما أثقلت عليه حرارة الشمس غطى رأسه بغطاء رقيق حتى أسفل جسمه، ولكن هذا الاحتياط لم يدفع عنه حرارتها على مايبدو ، لقد نصحته منذ رأيته على هذا الحال، ولكنه لم يستمع إليّ .
عاودتُ محاولة إفاقته وقد بدأ الوقت المتاح يتناقص، والمادة الامتحانية كثيفة (العلوم العامة ) تحتاج إلى استهلاك الفترة كاملة بل وبالكاد تكفي.
نثرت الماء على وجهه من جديد، ومرّرت قارورة عطر أمام أنفه ولافائدة .
تداخلت ملامحه بملامح ولدي البكر ، كان أيضاً يتقدم إلى الامتحان ذاته في مركز آخر..وقد خطّتْ بواكير شاربيه وذقنه علاماتها الخفيفة المبعثرة على أديم وجهه.. خاطبته : منقذ يا بني هل تستطيع الإجابة على أسئلة الامتحان نطقاً
بكى مغمض العينين محاولا النظر إلي ولكن دواراً شديداً حال دون ذلك، مقلصا عضلات وجهه وهو يتمتم..لقد حفظتها عن ظهر قلب ، كلها أعرفها ولكني أشعر بتداخل المعلومات كأني قد نسيتها ، لم أعد أتذكّر شيئاً، أشعر بتشويش فظيعٍ، وبصداع كاد يقتلني لم أستطع ان أكتب سطراً واحداً، وانتابته موجة من بكاء متشنج اختلج له جسده كله . فكّرتُ للحظاتٍ طلبت إلى المتقدمين للامتحان التزام الهدوء والانصراف إلى شأنهم كي لا تتشتت أذهانهم، وتولّى رئيس القاعة معالجة الوضع ينقر على المقعد الأمامي:( يا اللا يا ابني كل واحد عليه من ورقته الوقت عم يمضى.).فعاد الهدوء إلى القاعة بثوان .
ناديت آذن المدرسة طلبت منه أن يساعدني في نقل الطالب منقذ إلى غرفة رئاسة المركز، حتى أشرف على تفاصيل ما سأقوم به من خطوات لاحقة بحضوري.
اتصلت بطبيبٍ من الصحة المدرسية في المنطقة كان على مقربة من المركز.رجوته العجلة في الحضور فالوقت يتداركنا وقد أوجزتُ له الحال، ثم استعرضت مع أمين السر أسماء المراقبين واختصاصاتهم أنتقي منهم ثلاثة في اختصاص فني لا يمت إلى المادة بصلةٍ: مدرس فنون ومعلمة موسيقا وأخرى اختصاصها رياضة بدنية..
كان الطبيب قد وصل طلبت إليه الفحص السريع لمنقذ وتثبيت الحالة بتقرير رسمي، فأثبتها بعد استعانته بسماعته، وجهاز قياس الضغط وميزان الحرارة وضوء البيل الطبي الذي سلّطه على عينيه وحنجرته وأذنيه .وبعد أن ذيّل التقرير بتوقيعه، طلبتُ إلى لجنة المراقبة التي فرزتُها بأن يتولّى مدرس الفنون الكتابة عنه، ومعلّمة الموسيقا تطرح عليه الأسئلة تباعاً من الورقة المعتمدة بصوت مسموعٍ ، وكنت قد أجلسته مسند الرأس على أريكة جلدية مكّنتْه من استجماع أفكاره، لكلّ سؤال على حده . كانت الإجابة تتدافع على شفتيه وعيناه مغمضتان.وكأنه يستحث أفكاره على الحضور من بئر سحيقةٍ، حتى هدأت روحه وكأن المعلومات قد ترقرقت إلى ذاكرته فأتته طائعة، والمدرس يكتفي بنقلها حرفيا إلى ورقة الإجابة ..كما يلفظها، وهكذا إلى أن استنفذت الفترة بالكامل، وانتهت المدة المخصصة لامتحان المادة. وقرع الجرس وقد بدأ المراقبون يتوافدون بأوراقهم من قاعاتهم إلى غرفة رئاسة المركز لتسليمها مغلقة الزوايا ، فأفردت ورقة إجابته في مغلف منفصل أوضحت به الحالة الطارئة أثبتها بتواقيع اللجنة ، مرفقة بتقرير الطبيب .
وقد خرج منقذ مستندا على أكتاف رفاقه من الجانبين ، يتوجهون نحو الحافلة التي تنتظرهم على ناصية الشارع قرب المركز لتقلّهم إلى بلدتهم وقد أقلقهم حاله، فكلّهم من أبناء وادي بردى ووشائج صلاتهم قوية متماسكة.
انتهت الامتحانات ، وصدرت النتائج وانشغلتُ بقوائم الناجحات بمدرستي، متهللة بها أثبتها في لوحة الإعلانات، أرقب في العيون معالم بريق الظفر وحسرة الخيبة..
أيام قلائل مضت ، يناديني ابني يعلمني بأن شابّا على الباب يريد مقابلتي يسأل عني بلهفةٍ بعد أن بحث عن عنواني طويلا حتى استدلّ .
تثاقلت على نفسي من نوم مبتور كنت أشتهيه من فرط التعب، وماكدت ألمح القادم حتى انتابني ذهول كبير، إنه منقذ جاء يبشرني بنجاحه بعلامات عالية تؤهله دخول التعليم العام يشكرني بكلمات يحار كيف ينتقيها كي تأتي بما يحمله من مشاعر غبطة وامتنان ، قال لي: لن أنسى فضلك كان رسوبي مؤكّداً لو لم تتداركي الأمر وتنقذيني من رسوب محتم في مادة أساس درجاتها جامعة.
كانت المفاجأة قد ألجمت لساني وهو يناولني رسالة شكر من أبيه عرفت أنه محام حين قرأت التوقيع أسفل الورقة..كلماته مهذبة تنبي عن مثقف نقل إليّ ببراعة بأن ما قمت به هو شيء عظيم له قيمة عالية لن ينساه طول العمر فقد كاد ابنه يتحطم لولا أن تدراكت الأمر بحرص ودراية وإحساس بالمسؤولية إيماناً مني برسالة تربوية عظيمة حسب تعبيره..
تنبهت إلى نفسي وأنا أطوي الورقة وقد نسيت أن أدعوه للدخول إلى المنزل، وكان برفقته ابن عمه، وعندما شرعت الباب لهما على اتساعه تفاجأت بصندوق كرتوني ركنه على طرف الباب يحمله معه إلى الداخل سألته ماهذا يامنقذ؟ فكشف عن ثمار كرز أحمر حباتها كبيرة ناضجة مغطاة بكومة أوراق خضر أزاحها يقدمها إليّ : إنها فاكهة الدار أستاذة ..شيء من أرضنا قطفتْه لك الوالدة صباح اليوم تهديك سلامها.
فتغيرت نبرة صوتي : لاااا لا يامنقذ .لا يمكن .لن أقبلها..أنا مافعلت إلا ما يمليه علي واجبي.
كرر الرجاء :اقبليها أرجوك، والله إنها من غلال أرضنا، ونحن نهدي منها دائما الأهل والأصحاب وأنت أستاذتنا وصاحبة الفضل.أرجوك ، لا تكسري بخاطري..إنها من ابنك.المبتهج بنجاحه .هل تردينني خائبا؟ فكرت لبرهة صامتة
آخذها على شرط يا منقذ ـ قلت له ـ للمرة الأولى والأخيرة.
فأجابني معقّباً: ولكني سأزورك مع عائلتي بين الفترة والأخرى لو سمحت لنا، إنه عهد سأبرّ به كي أشكرك طول العمر.
على الرحب والسعة ولكن من غير أن تقدموا شيئا اتفقنا ؟؟فقال : أمرك (على مضض) ثم قدم لي ابن عمه كيسا به ورق عريش ، قال وهذه من أمي، ورق من دالية بيتنا قطفتها لك تهديك السلام..وتدعوك إلى زيارتها.
ضحكت وأيضا ورق عنب ؟؟ فقال : ألستُ ابن عم منقذ ! الحقيقة يا أستاذة العائلة كلها تذكرك بالخير وتدعو لك.
بعد مغادرتهما ـ وقد انضم ولدي إلى جلستنا يقوم بواجب الضيافة ـ شرعت أفرغ الصندوق من محتواه ، ألامس خيرات أرض بلادنا الخصيبة أهامس نفسي : حتى بعد انقضاء فترة الامتحانات تقتحم داري مواسم الكرز في الزبداني.!!
أتذكرك اليوم يا منقذ..كنتَ في كل دورة امتحانية تتعقب تواجدي أثناء خروجي من المراكز لتحظى بسلام وتحايا ، تصافحني بعينيك المليئتين بالمودة قبل يدك...حتى جاءت هذه السنوات العجاف فضربتْ بسياجها الحارق المسافات ما بيننا على قربها..
ترى أي مواسم أخذتك يا ولدي؟ في أيّ أرض تقيم؟ هل أنت مهاجر عرض البقاع والبحار! أم مازلت مثلي تتذكر بعيون دامعةٍ مواسم الكرز في الزبداني ؟



#ايمان_الدرع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيت ابيها
- القمر في لامبيدوزا
- بلا عنوان
- يوم شقت قدسيا أكفانها ..


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايمان الدرع - الزبداني...ومواسم الكرز (ثلاثيّة)