أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوميديا جرّوفي - الرّمزية في شعر عبد الكريم هدّاد















المزيد.....


الرّمزية في شعر عبد الكريم هدّاد


نوميديا جرّوفي

الحوار المتمدن-العدد: 5568 - 2017 / 7 / 1 - 02:51
المحور: الادب والفن
    


مقدّمة

الإنسان في جميع مراحله التاريخيّة ميّال بطبيعته نحو سوح الغموض و الإبهام، و ذلك لمنح مضامين نصوصه آفاقا بعيدة و مساحات واسعة من خلال الغموض الذّي يلفّ أجواء نصّه، لينفتح فيما بعد على تأويلات متعدّدة و تفسيرات مختلفة يقود المُتلقّي إلى عوالم ما وراء الحسّ (الميتافيزيقيّة) لينتهي به المطاف إلى سراديب الأدب الغيبي.
تُعدّ الرّمزيّة اكتشاف لشكل موضوعي محدّد يُمثّل مجالا غامضا فسيحا من الذّاتيّة، بإظهار غير المرئي أو المعني عن طريق ما هو مرئي، كما إنّها تعبير عن دينامكية كامنة بالأشياء تؤلّف بين الشّكل و المحتوى في تكامل جمالي.

1- مفهوم الرّمز و الأسطورة في اللّغة و المصطلح:

• الرّمز: يُطلق على "الإشارة بالشّفتين أو الحاجبين أو اليد و الفم و اللّسان"
و هو من طُرق الدّلالة التي تصحبُ الكلام و تُساعده على البيان، و في المصطلح هو " المعنى الباطن تحت المعنى الظّاهر الذي لا يمسّه إلاّ أهله".
لكنّه اكتسب في العصر الحديث دلالات مختلفة لميزته المشتركة في تمثيل المصاديق المشتركة، و تطوّر مفهومه من مُجرّد الإشارة و اتّخاذ الرّموز من مظاهر مألوفة في الطّبيعة، إلى التّوغّل في ذات الأشياء و استمداد دلالاتها الرّمزيّة و ذلك بمدّ صلة بين هذه الأشياء و بين الرّغبات الجوهريّة للنّفس، فيتمّ لجوء الشاعر إلى الصّورة الرمزيّة بتوجيه من "تجربته الشّعوريّة التي يمكن التّعبير عنها إلاّ بالصّورة الرّمزيّة ذات الإيحاء الجمّ و الشّموليّة".
فالرّمز يعتمد على الإيحاء و الإثارة، و يقوم على علاقات ليست حسيّة مباشرة.

• الأسطورة: سطّر يسطُر سطرا: كتب فلان على فلان، إذ زخرف الأقاويل و نمّقها.
و هي في المصطلح: فكر أو مُعتقد احتوته قصّة أو حكاية تروي تاريخا حافلا بالخوارق، يلعبُ أدواره الآلهة و الكائنات الغيبيّة و بعض البشر المُتفوّقين، مُستمدّا أُصوله من فكر بدائي موغل في القدم.

من أبرز الظّواهر الفنيّة التي تُلفتُ النّظر في تجربة الشّعر الجديدة الإكثار من استخدام الرّمز و الأسطورة أداة للتّعبير، و ليس غريبا أن يستخدم الشّاعر الرّموز و الأساطير في شعره، فالعلاقة قديمة بينهما و بين الشّعر ترشح لهذا الاستخدام، و تدلّ عندئذ على بصيرة كافيّة بطبيعة الشّعر و التّعبير الشّعري .
لعلّ من الظواهر الفنيّة المميّزة للقصيدة الشعرية المعاصرة اعتمادها على استحضار و توظيف النصوص و الرموز الأسطوريّة المختلفة، بل أضحت الأساطير تُشكّل بنية فنيّة من بنى النصّ الشعري المعاصر.
و الأسطورة كما جاء مع الدراسات النقدية ليس لها مفهوما جامعا، محدّدا، و دقيقا كون أنّ الباحثين اختلفوا في تحديد نشأتها و طبيعتها و ميدانها و مدلولاتها، و لكنّهم اتّفقوا في أنّها تمثّل طفولة العقل البشري و تقوم بتفسير الظواهر الطبيعيّة كالرّعد و المطر و الطوفان و الخصب و الموت برؤى خياليّة توارثتها الأجيال كحقائق علميّة زادتها الأيّام تعديل و تبديلا و فيها قصص الخلق و الأخلاق و العادات و الشّرائع و المغامرات التي حفلت بضروب من الخوارق و المعجزات.
لكن السّؤال الذي يطرح نفسه: ما سرّ ارتباط الشعر المعاصر بالأسطورة؟ و كيف اتّجه إلى توظيفها؟
في ضوء هذا التساؤل، يمكن القول أنّ الأسطورة تُمثّل "توأم الشّعر" ذلك أنّ العلاقة بينها و بين الفنّ و الشعر علاقة قديمة حيث كانت الأساطير مصدر إلهام للفنان و الشاعر.ذلك أنّ الأسطورة ليست مجرّد نتاج بدائي يرتبط بمراحل ما قبل التاريخ أو بعصور التاريخ القديمة في حياة الإنسان.
و إنّما هي عامل جوهري و أساسي في حياة الإنسان في كلّ عصر و في إطار أرقى الحضارات.
و قد اتّجه الشاعر المعاصر إلى استخدام الأساطير باتّخاذها قوالبا فنيّة رمزية و أبعادا دلاليّة يمكن من خلالها التّعبير عن قضايا واقعيّة المعيش، فضلا على أنّ استلهامها يُثري العمل الفنّي.
و يمكن طرح السؤال:
هل للرّمز الشعري طبيعة تختلف عن طبيعة الرّموز في المجالات الأخرى كالمجال الديني أو الصّوفي و المجال العلمي أو الرّياضي و المجال اللّغوي أو الصّرف؟
إنّ الرّغبة المُلحّة على الإنسان هي رغبة الوجود، و كلّ مغامرات الإنسان الطّويلة ليست في أقصى غاياتها إلاّ طريقا لتحقيق وجوده و من ثمّ لإدراك معنى هذا الوجود.

2- الشّعر العربي و الرّمزيّة فيه:

اللّغة الشّعريّة لغة إيحائيّة تحفل كثيرا بالكلمات النثريّة ذات الدّلالات المتنوّعة، ليست لأنّها كلمات خاصّة تصلحُ لأن تكون شعريّة، فليست ثمّة كلمات شعريّة و أخرى غير شعريّة في طبيعتها المعجميّة، و إنّما تكتسب هذه الصّفة من خلال استخدام المبدع لها استخداما خاصّا يُضفي عليها جمالا و يسمُها بالشّعريّة التي " تمتنعُ إذا ظلّ الإختيار الإفرادي في منطقة (المواضعة) و إذا ظلّ الإختيار التركيبي في منظقة ( المألوف) بل لا بدّ من مغادرة مثل هذه المناطق، و زرع الدّال في وسط تعبيري يعمل على تفريغة من دلالته جزئيّا أو كليّا".
فلغة الشّعر تبتعد ن الإستخدام النّمطي، و تعمدُ على تجاوز الإشاري إلى الإنفعالي المختلط، حيث تختلط فيه عوالم الأحلام و الواقع و اللاواقع و تسعى إلى تشكيل خلق جديد من علاقات جديدة في طريقة جديدة من التّعبير، و عندها لا تكتفي اللغة الشعريّة بالصّورة، بل تتعدّاها في بحثها عن الإيحاء و التّوسّع و الشّمول، إلى الرّمز و طبيعة الرّمز طبيعة غنيّة مثيرة تضعيف إلى السّياق الذي يردُ فيه رحابة و عمقا، و تتّسعُ ساحته إلى حدّ استيعاب الدّلالات المتقابلة أو المتناقضة فتُلبّي اللّغة عن طريق الرّمز رغبة الشاعر في إيجاد أسلوبه الخاصّ، و تعوّد العجز الذي قد ينشأ عن حدّة التّجربة الشّعوريّة و غموضها، فيضطرّ إلى اللّجوء لتركيبات لغويّة متناقضة كانت أم متضادّة و حتّى بعيدة عن المألوف، تستطيع فحسب أن تنقل الإحساس الخاصّ الدّقيق الذي يعانيه.

3- الشعر العراقي ظهور الرمزيّة فيه:

الرمزيّة مذهب شاع في العراق سنة 1941 و نتيجة أسباب سياسيّة اتّخذه كثيرا من الشّعراء سبيلا غير مباشر للتّعبير عن لواعجهم، ثمّ شرعت ببيان الرمز في الشعر العربي القديم من خلال معرفة الشعراء بالأسطورة و توظيفها في أشعارهم كما عند زهير و امرئ القيس و آخرين، غير أنّ الرمز لم يتبلور مفهوما واضحا إلاّ في العصر العبّاسي على يد (بشار بن برد) الذي استطاع أن يُكسّر القواعد اللّغويّة المألوفة من خلال وُلوجه إلى عالم(تراسل الحواس) الذي يعني أنّ كافّة الحواس تستطيع أن تُولّد وقعا نفسيّا مُوحّدا.
الشّعراء العرب الذين تأثّروا بالرمزيّة الجديدة الوافدة من وراء الحدود أمثال: سعيد عقل، أديب مظهر، محمود حسن إسماعيل، يوسف غصوب، و في الرّمز في الشعر العراقي نذكر: الشّبيبي، الحبوبي، الجواهري، السيّاب، صفاء الحيدري، حسب الشيخ جعفر، عبد الرزاق عبد الواحد و آخرين للإستدلال بأنّ الشّعر العراقي لم يكن ببعيد عمّا يجري حوله.

خلال الحرب العالميّة الثانيّة ظهرت في العراق ملامح الدّعوة إلى الرّمز في الشّعر لتكون مخرجا عن مظاهر التّقليد الجامد التي سادت الشّعر العراقي مرحلة طويلة من الزّمن، و إنّ الشّيوع الفعلي لهذا المذهب بدا في العراق منذ عام 1941 بصورة واضحة، و يرجع السّبب في ذلك إلى ازدياد الرّوافد الثّقافيّة التي هيّأتها ظروف الحرب العالميّة الثانيّة، فضلا عن السّبب السياسي الذي يُعدّ هو الأهمّ في نشوء الرّمز في الشّعر العراقي، كما صرّح بعض الشّعراء الذين عاصروا تلك المرحلة.

يقول بدر شاكر السياب: "نشأ الرّمز أوّل ما نشا في العراق و كان السّبب محضا، و لقد كُنّا نحاول في زمن (نوري السّعيد) - في زمن العهد الملكي المباد – أن نهاجم هذا النّظام و لكنّنا نخشى أن نهاجمه صراحة، فكنّا نلجا إلى الرّمز تعبيرا عن ثورتنا عليه – طبعا – شاع الرّمز بصورة أعمق ربّما و لأغراض غير سيّاسيّة لأنّ الأغراض السيّاسيّة أغراض مُؤقّتة".
و مهما يكن من قول في أسباب نشوئه فإنّ الشاعر (يعقوب بلبول) يُعدّ أوّل أديب عراقي اتّخذ من الرّمزية مذهبا في التّعبير حين نشأ عام 1941 قصائد تتّخذ هذا المنحى،و قد أشار بلبول إلى كلّ جانب من هذه الجوانب في مقدّمات لقصائده الرمزيّة، فقال في مقدّمة قصيدته الأولى أنّها "مع بعض عشرات من أخواتها تُبشّر بنهج جديد في فهم المشاعر الإنسانيّة و التّعبير عنها بطريقة رمزيّة".
و فيما بعد شاع الرّمز في الشّعر العراقي و سار الشّعراء على نهج بلبول و استعملوا طريقته في التعبير عن أفكارهم السيّسية و أودعوا فيه الكثير من صورهم الجذّابة، و منهم الشاعر( محمد مهدي الجواهري) الذي اعتمد الرمز أسلوبا للتصوير، لأجل التحرّر من السياقات التقليديّة و القاموسيّة و القواعديّة، ليتطلّع ‘لى ما وراء الصّورة عن طريق الإحساس، فضلا عن خشيته من بطش النّظام آنذاك، و للجواهري قصائد رمزيّة معروفه مثل قصيدته (أنتم فكرتي)، (سواستبول)، (على قارعة الطّريق)، (1942)، التي تُعدّ من أشهر قصائده الرمزيّة على الإطلاق.

4- الرمزيّة في شعر عبد الكريم هدّاد:

الاحتكام الفنّي مؤسّسا على العناصر الأوليّة التي ينبغي أن يُؤسّس عليها أيّ احتكام فنّي.قد تكون المسألة أقلّ وضوحا في الشّعر العربي خاصّة، نظرا لطبيعة المادّة الأساس في الشعر أي اللغة، و هي مادّة تعلق بها شوائب كثيرة في الاستعمال، لكن هذا لا ينفي القاعدة، أي التأسيس على العناصر الأوليّة.
العناصر الأساس في شعر عبد الكريم هدّاد محدّدة و محدودة، لكنّنا نلحظ بإعجاب نجاح الشاعر في استنطاقها و تحريكها، لا بفعل خارجي و إنّما بالعناصر الأساس ذاتها.
عبد الكريم هدّاد، شاعر فصحى و شاعر لهجة،لا يقيس نصوصه على من سبقوه أو جايلوه أو لحقوه و هذه مزيّته، و إنّما يقيس نصوصه على نصوصه راسما من تجربته خطوطا بيانيّة عريضة يُعرف من خلالها الشّوط الذي قطعته شعريّته هذا ما قاله الشاعر الكيير سعدي يوسف عن تجربة عبد الكريم هدّاد الشعرية.
يُعدّ الشّاعر عبد الكريم هدّاد من أحد الرّواد في استخدام الرّمز و الأسطورة و المسافة الواسعة التي يحتلّها الرّمز في آثاره، و الهدف من هذه الدّراسة هو معالجة رموزه الفنيّة و صُوّره الفنيّة و التّقييم النّقدي المبني على الأصول الفنيّة لرموزه و قصصه التّاريخية،التّراثيّة و أسطوريّة، و عرض صورة واضحة و نقديّة في معالجة الرّمز و اقتناص الصّورة الرّمزيّة

• من هو عبد الكريم هدّاد؟

عبد الكريم هدّاد من مواليد 1961 في مدينة السماوة - العراق، رحل من العراق سنة 1982، و مقيم في السّويد منذ سنة 1990.
- نشر العديد من المقالات و الدراسات في الصّحف العراقية و العربية.
- مُهتمّ في كتابة نصوص للأغنيّة العراقيّة مشاركة و بعض الفنّنين العراقيّين.
- اعتُمدت قصيدته (سفينة نوح) كسيناريو لفيلم تسجيلي عن اللاجئين القادمين إلى السويد عام 1990 لحساب قناة التلفزيون الأولى – اسوكهولم-

• إصداراته:

- طفل لم يرم حجرا، دار المنفى، السويد 1995.
- آخر حزن، شعر شعبي عراقي، السويد 1999.
- جنوبا هي تلك المدينة، تلك الأناشيد، دار ورد، دمشق 2001.
- طيور العصر، شعر شعبي عراقي، السويد 2002.
- مدخل إلى الشعر الشعبي العراقي.
- قراءة في تاريخ شعب السويد 2003.
- حيث لا ينبت النخيل، دار المدى، دمشق 2005.
- جرح بحجم إله، ديوان شعري مشترك مع الشاعر المغربي عبد الحميد العوني، منشورات عربية، الدار البيضاء، المغرب 2007.
- حزن منفى، شعر شعبي عراقي،دار ميزوبوتاميا، بغداد 2009.
- هموم أحلامي، شعر كردي/سلوى كولي، تعريب و ليس ترجمة، وزارة التربية، دهوك 2010.

اهتمّ الشاعر العربي المعاصر اهتماما كبيرا بالرّمز و استخدمه في شعره، لأنّ الرمز نفسه مصدر قوّة في اللّغة الشعريّة عندما يُراد به إثارة شيء من الغموض في ألفاظ القصيدة أو إيقاعها.
عند التّوغّل في نصوص الشّاعر عبد الكريم هدّاد نجده ابتكر لنفسه بصمته الخاصّة التي تميّز كتاباته الموسومة بالتّجربة التي عاشها و التي علّمته الكثير، فهو شاعر لا يصرخ بل يهمس و يحزن لتخرج حروفه متناغمة مع الحدث.

و إن كان الشّعر الملتزم متّهم بخروجه من التّطبيع إلى التصنيع فإنّ شعر عبد الكريم هدّاد ملتزم برمزيّة أدبية و بجماليّة شعريّة مغايرة.
كتاباته واضحة جدّا لكنّها تحمل في أحرفها و أسطرها الكثير من المغزى العميق، فعندما نتوغّل فيها نبحر عميقا و نسافر بعيدا عبر التأريخ حيث يأخذنا هو.

• الرّمز الديني:

اعتمد الشّاعر بعض الرّموز الدينيّة المستلهمة في كتابته هذه كالنّبوءة، متوضئ، مؤتمن.
هنا مناجاة الله في التوشّح بسواد الكوفة لآل بيت النبيّ، و يعيدنا للعصر العباسي أيّام تأسيس الدولة العباسيّة و الكوفة بأبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور مؤسّس الدولة العباسيّة.
سواد الكوفة هنا جاء في الحسينيّات و حزن كربلاء كما قال نعيم عبد مهلهل، بشير للحزن في بكاء الحسينيات.. و للّونين الأسود و الأبيض الّذان يستخدمان في لباس من يدعي من أنّه سليل عائلة أهل البيت، و الشّاعر يُشيرُ لمقاطعة الكوفة كعاصمة للعراق و الخلافة و الشّعراء حيث علي بن أبي طالب والمتنبي و من مرّ من هناك من جلاّدين أو قادة جيوش الغنائم. ثمّ إنّ مصطلح سواد الكوفة هو جغرافي وذلك لأن قاموس اللغة يقول السَّوَادُ من البلد : قُراهُ .

فيقول نعيم عبد مهلهل:
تحزّم بالأخضر
و تعمّم بالأسود
أمّا الأبيض فاتركه لعرس أخيك.

ففي قصيدة (على طاولة الشعر) استخدم الأسلوب التّقليدي و اللّغة المفخّمة جعلنا نعود للعادات القديمة في العراق في قوله:

أيّها الربّ
متى أعلنُ نبوءتي
في سواد الكوفة..؟
و أنا المتوضّئ بملح الضّوء
و مؤتمن على أسرار الزّهر..
و البحر..
و ...

ففي قوله (و أنا المتوضّئ بملح الضّوء) يقصد بها البياض النّاصع لأنّ الملح أبيض، فجاء التشبيه بالبياض و ماء نهر الفرات الصافي، و بياض السّلام و المحبّة.

و في قوله (مؤتمن على أسرار الزهر و البحر) أي مهما كان نوع السرّ و حجمه واتّساعه.
أبدع الشاعر في شذرته الرائعة هذه من تشبيهات و كنايات و مصطلحات دينيّة متداولة استخدمها في التعبير عمّا يُخالجه فيها.
و هنا الشّاعر يتخطّى استيعابه للرّمز، هذا الاستبطان الواعي و الملموس للجوانب الشّكليّة للتّجربة، ليستبطن وجود الأشياء و يغور في أعماقها، و تبعا للظّروف الخاصّة السّائدة في تلك الفترة الزّمنيّة وقفت جهوده بين التّقليد و بين الحداثة.
و من أوضح الصّور الدّالة على نجاحه في استمداده الرّمز و توظيفه فنيّا في استشراف الألم الإنساني.

أيّها الربّ
متى أعلنُ نبوءتي
في سواد الكوفة..؟

يأتي هذا الرّمز بكلّ دلالته العميقة تعبيرا صارخا عن بؤس العالم المعاصر، بكلّ ما يتمتّع به من منتجات العقل و أسباب الرفاهيّة، فإن تفتّحت الرّوح و التّكالب على الإستئثار بخيرات الحياة،حيث يلفظ الشاعر من خلاله أنفاسه الحزينة الرغبة في التّوضيح بشكل رمزي إلى أنّ عالمه و وطنه (سواد الكوفة) بحاجة لنبوءة تطهير النّاس ممّا فيها من خراب و حروب و طُغاة و غياب حقّ، كنبيّ ينتظرُ رسالة تُعيد ترتيب الحياة.

• الرّمز الأسطوري:

الشاعر عبد الكريم هدّاد من أرض سومر بثقافتها و تراثها و تاريخها العريق، عاش في السّماوة حيث كانت أوروك مدينة كلكامش مروّض الأسود و أنكيدو و شاهد زاقورة أور التي ما تزال شامخة ليومنا هذا دلالة على عمق حضارتها.
الأسطورة هي كلّ ما ليس واقعي، ما لا يُصدّقه العقل المعاصر، إذ أنّها تدور حول حياة الآلهة أو أنصاف الآلهة أو كائنات خرافية تقوم بأعمال خارقة.
و الأساطير منبع ثريّ للإبداع الأدبي في كلّ عصر حيث لم يقتصر استعمال الشاعر العربي المعاصر بالأسطورة الفرعونية أو البابليّة أو الكنعانيّة، بل وجد أبواب الحضارات القديمة المختفة تفتح له، ليختار من أساطيرها المتنوعة ما يسقطه على تجاربه الآتية.
و من بين أهمّ الرموز الأسطوريّة التي جذبت اهتمام الشاعر العربي المعاصر هي: تموز، أنكيدو، كلكامش، عشتار، نانا، أدونيس، إيزيس، أوزوريس.

ففي قصيدة (أوروك، تندبُ أبوابها) يقول:

يا نخل السّماوة أوصيك الدفء
فقلبي بردان
منذ مات أنكيدو
و كاهنة الحبّ
لم تأت
و ربّ الأرباب
هاجر معبده
أوروك، تندبُ أبوابها..
لماذا..؟

كتابة تاريخية و تأريخية لأوروك و حضارة أرض الرافدين بالآلهة آنذاك،و قصد بآلهة الحبّ عشتار و كاهنة الحبّ نانا آلهة القمر و مرّ مرور الكرام على سيدوري الساقية في حانة شاطئ بحر الموت التي كان يقصدها كلكامش بعد موت رفيقه و أستاذه أنكيدو و هو حزين جدّا.
يتحدّثُ الشّاعر عن نفسه و عن وطنه من خلال نموذج أسطوري أو تاريخي ،ليُعطي لفنّه إيحاء بالعودة إلى الأساطير، و بُعد الموضوعيّة حيث يبعدُ عن تلقائيّة القصيدة.
و هنا جاءت أسطورة أنكيدو بدلالات جديدة حيث خرجت عن معناها الوضعي، حيث وظّف الشاعر أسطورة إله أوروك في كتابته.
هنا أشار الشّاعر أنّ هناك خراب في أرضه و وطنه، حيث السماوة التي لم يعد يرى نخلها و قد تخلّى الكلّ عن الكلّ و ضاعت كلّ الموازين، فقد مات المنقد و "كاهنة الحبّ" التي هي بغي المعبد، و هي كاهنة تمنح الحبّ في معبد الآلهة.
حلّ الدّمار و الخراب بأرض العراق و ربّ الأرباب "مردوخ" قد هاجر و ترك العراق يندبُ ضياعه حين اصبح في مهبّ الرّيح.
الوقت الذي كانت المدن توصد أبوابها أمام الغزات و اللّيل و الجيوش و الإحتلالات أصبح العراق فاتحا الأبواب لمن هبّ و دبّ.
أصبح العراق يندبُ أبوابه التي فُتحت و تهدّمت و ضاعت و لماذا؟؟ حيث رمز الشّاعر للعراق بأوروك مدينة كلكامش مروّض الأسود الذي بحث عن الخلود.

و عندما قال (يا نخل السّماوة أوصيك الدّفء) صنع منها رمزا للحنين إثر إحساسه بالوحدة و هو في ظلّ غربته، فعمّق دلالة اللّهفة و الشّوق إلى وطنه من خلال استدعائه النّخلة رمزا لذاته المغتربة، و كذا في استعماله اداة النّداء (يا) لنداء البعيد و فيه مدّ صوتي، فهو كمن يستنجد بالأحبّة و الخلاّن و الوطن.
و هكذا يجمع الشّاعر عددا من الصّور التي جذبته إلى وطنه على الرّغم من كلّ المعاناة و الحنين، و يجعلها مصدر إلهامه بما في ذلك أيّام صباه في مدينته الأمّ التي صرّح بلفظها و مجاورتها (أوروك).
و في قوله:

أوروك تندب أبوابها..
لماذا...

جاءت الإستعارة بالحزن الذي يلازم أوروك منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.
النّدب على الأبواب ، أيّ الحزن على عراق اليوم منذ أوروك الأمس بعد أن اختفت الآلهة و لم تعد موجودة. منذ موت كلكامش و الحزن مستأصل في أرض بلاد الرافدين.
الشاعر ذو مخيّلة شاعرية ساحرة جمع الكلّ في واحد، قصّة تاريخية في شذرة رائعة تقصّ الكثير لمن لا يعرف تأريخ أوروك العريق.

كما في قصيدته ( لم يبق من الوقت الكثير) حيث يقول:

حيث الملك السّومري
قاسم الخبز و النّبيذ مع الناس
و نام مرتاح البال
قرب الزّقورة
العاليّة

استعمل الشّاعر أسطورته الملك السّومري الخالدة، ذلك الملك المحبّ لشعبه حيث يتقاسم معهم الخبز و النّبيذ بشكل فيه الكثير من الدقّة في الإيحاء و الجمال في التّوظيف .

• الرّمز التّاريخي:

الرموز التّاريخيّة من الرّموز التّراثيّة ذات صفات عُرفت بالبطولة و الشهرة التاريخية على مرّ العصور، و يمكن القول أنّها رموز ذات مضمون إيجابي، و التّصوير باستدعاء مثل هذه الرّموز التي تمتلك بُعدا إنسانيّا على نحو ما يُلحظ في انعدامها أو تواجدها بصورة مُغايرة في الواقع الذي يُعمّق من مأساة تجربة الشّاعر أو يُوضّح بنية المفارقة بين الماضي و الحاضر، فضلا عن كون الشّخصيّات التّاريخيّة ليست مجرّد ظواهر كونيّة عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإنّ لها إلى جانب ذلك دلالتها الشّموليّة الباقيّة، كما ترتبط القصيدة بكونها لا تُقتبسُ من الموروث التّاريخي لتوثيق الشّعر و تأكيد انتمائه إلى القديم، و إنّما تُثير في ذهن المتلقّي دلالات و صُور و ومضات، تقترب بها من المعاني الحديثة التي يُريها الشّاعر، بإثارة تلك الأجواء التّاريخيّة بشرط أن ينسجم هذا المُقتبس بنسيج الشاعر كما في
قصيدته ( نعي إنسان حيّ..) يقول:

فقتُ
من ضجر جسدي
الجاثم في قاعة للآثار
لم أجد ملابسي
التي تعوّد الناس رؤيتي بها
بحثتُ في خزنة
آشور بانيبال..
لا شيء..

آشور بانيبال هو آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية، و قد اضطجع على أريكته الضخمة و على قدميه ارتمت شابة جميلة، و من حولهما ثمة مجزرة رهيبة و نيران تلتهم قصر الملك بعد أن اندحر جيشه أمام الأعداء. إنّه أعظم ملوك الشّرق و بطل أسطوري و جزء من تاريخ حقيقي.
أصبح التاريخ من المصادر الغزيرة التي يستقي الشاعر المعاصر منها الكثير من كتاباته ليُعبّر عن موقف يريده أو ليحاكم نقائص عصر من خلالها.
غير أنّه من الظّواهر العامّة التي تجمع بين تلك الرّموز الموظّفة اشتمالها على بؤرة تصارع أو تصادم سواء كان الصراع داخليّا متّخذا من النفس حلبة للصّراع، أم كان خارجيّا مع قوى منفصلة.
جعل الشاعر هنا نهايته كتلك النهاية المفجعة كما تجلت في آشور بانيبال و كأنّه أفاق في مكان أثريّ و هو ينعي نفسه ، و هل هناك نعي لإنسان حيّ؟؟ استخدم هنا سحر اللغة التي يتمكّن من استخدامها بمهارة و كأنّه ما عاد هو نفسه بل شخص آخر في مكان أثريّ بنهاية مفاجئة و يجد نفسه موجودا في التاريخ البعيد.

الخاتمة:

تُشكّل الأسطورة الشعبيّة و التراثيّة و التّاريخية حيّزا زمنيّا و مكانيّا مُهمّا في تاريخ الحضارات المتعاقبة و المتزامنة، و بالتالي في التاريخ البشري منذ تشكّلاته الأولى و حتّى الوقت الراهن، فما من شعب من الشّعوب أو أمّة من الأمم إلاّ و لها أساطيرها و خرافاتها الخاصّة بها، و من الملاحظ أنّ ثمّة تداخلا واضحا بين هذه الأساطير، فالأسطورة الواحدة تنمو و تتشعّب لتنتقل من حضارة إلى أخرى عبر مثاقفة فكريّة و حضاريّة.
لم يقتصر الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية و الاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافّة، و هي في بنيتها العميقة رؤية شعريّة مركّبة تجمع بين التاريخ و الفكر و الفنّ.
حاول الشّاعر عبد الكريم هدّاد أن يستلهم من الأساطير النّبض الوجداني الحميم، فأدّى هذا الإستلهام إلى إثراء الشعر برافد جديد.
إنّ توظيف الأسطورة و التّاريخ رؤية فنيّة إبداعيّة لا يستطيع الشاعر الوصول إليها إلاّ بعد جهد و دربة طويلين، فالتّعب و الدربة شرطان أساسيّان للوصول إلى الجودة و الإبداع، و الموهبة الحقيقيّة التي تُؤكّد على استنفار الشّرط الإنساني الكامن في أعماقه و أعماق من حوله و على استنفار هذا الشرط و على خلق الأداة الفنيّة و تطويعها لمعاناة الشاعر.
الشاعر عبد الكريم هدّاد له بصمته الخاصّة في الشعر ، و له أسلوبه الخاصّ الذي يُميّزه في روائعه فهو يوظّف رموزا تاريخية لحقبة زمنيّة عاشها في العراق أيّام شبابه و معاناته ليصل لغربته و منفاه بعيدا عن نسيم السماوة التي فتح عيناه فيها، و لكونه ابن أرض أوروك يوظّف رموزا أسطورية و تأريخية كبيرة في كتاباته من آلهة بلاد الرافدين، كما استخدم بعض الرموز الدينيّة المعروفة في أرض العراق عامّة و الكوفة و كربلاء خاصّة.



#نوميديا_جرّوفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديوان (عودة ماركس) للشّاعر - هاتف بشبوش-
- في بغداد
- ديوان (الخوف ضمير المتكلّم) للشّاعر - إيّاد أحمد هاشم-
- إلى ملك قلبي والرّوح
- رواية (اللّعبة المُحكمة) للرّوائي - كريم السماوي-
- بين الجفن و النّبض
- نهاية
- دعوة قلب
- و اسألهم عن القرية... للقاصّ - أنمار رحمة الله-
- قلبُ العراق المجروح
- نحو الحقيقة
- حين نلتقي
- خبر جديد عن آخر أعمال الموسيقار -حازم فارس-
- حلبجة
- عيد نوروز (نه‌وروز) في كردستان
- لروح الشّهيد المقدم - علي الوروار-
- شبابي و شيبتي
- رواية - ق . م سيرة سجين سيّاسي- للرّوائي -لؤي عمران موسى-.
- حبيبي عمري هاتف
- لا قبل و لا بعد


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوميديا جرّوفي - الرّمزية في شعر عبد الكريم هدّاد