كانت أمه حبابة مدمنة على حضور القراءات الحسينية ومجالس العزاء التي تقام في شهر محرم الحرام لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين ، الإمام الذي كانت حبابة تتلفظ كنيته بكل خشوع وإجلال ، بل غالبا ما كانت تكنيه بسيد الشهداء أو سيد شباب أهل الجنة .
جلس محيسن يوما إلى جانبها وكان حينذاك لا يتجاوز السادسة من العمر ، رأى الدموع تنهمر على وجهها متأثرة بما يقصه السيد القارئ عن مقتل الإمام الحسين يوم العاشر من محرم ، فسألها: ولكنني يا أماه ، لا أستطيع البكاء مثلما تبكين .
أجابته وهي تكفكف دموعها : يا بني ، إذا كنت سليم النية ، نقي القلب ، فانك لاشك ستستطيع البكاء مثلي .
منذ ذلك اليوم ، أو بالأحرى منذ تلك الأمسية ، علم أن هناك في زاوية من قلبه، لا يعلم مكانها بالضبط ، بقعة سوداء لايعرف ماهيتها ، ولا يعرف لها تفسيرا ماديا ، لكنها لابد أن تكون شيئا يحول بينه وبين ما يؤثر في الآخرين ويجعل دموعهم تسيل . سمع البعض يقول إنها نقطة سوداء ، والبعض الآخر يقول إنها شائبة ، وهناك من يقول إن القلب نفسه قـدّ من حجر ، ويستشهد بالأغنية المشهورة : قلبك صخر جلمود ما حن عليّه ، وتساءل يوما ، ترى لماذا هو يختلف عن قلب أمي ؟ أتراه على غرار قلب أبي القاسي ؟
كان واقفا أمام المرآة المهشمة المركونة في زاوية من كوخهم حين سمع والده يصيح به : صه ابن الكلب .
كلمات ثلاث لفظها أبوه بلهجته العامية حين سمعه يقول مثل قلب أبي القاسي ، كلمات ثلاث لو كانت لدينا الشجاعة على نقلها حرفيا بلهجتها لكانت : انجب ابن الجلب ، صرخة مجلجلة جعلته يفر هاربا من الكوخ ولا يعود إليه إلا بعد العشاء ، وقت خروج الأب إلى المقهى .
ما لهذا الأب الجلف ؟ أيصرخ بهذه الصورة لأنه أضحى يمتلك عقالا وعباءة جديدة ؟ ألا جزى الله الفقر ألف خير، يومها كانت أمي تستطيع فرك أنفه ، أما الآن ، بعد أن أصبح يمتلك شيئا من النقود من عمله شرطيا ، أخذ يصرخ صباح مساء .
لقد كانت أمي محقة في ترديدها المثل المتداول بين النساء من ان الرجل إذا امتلك مائة دينار فسيقع بين خيارين ، إما أن يتزوج أو أن يقتل ويدفعها فدية . لذلك كانت دائمة الترديد للمثل القائل : الله لا يترس المعلف تبن .
هاهو الآن يسير في حدائق الهايدبارك بلندن ويتحسس الباوندات الإسترلينية القابعة في جيبه ويردد مع نفسه الله لا يترس المعلف تبن ، انه وبهذه الباوندات يفكر في مضاجعة شقراء إنجليزية . إنهن نساء من قطن ، مدامات ، كما كان يسميهن جده خريبط أبو الليل عليه الرحمة.
استمر سائرا في حدائق الهايدبارك بلندن حالما في الكلام مع هذه أو تلك من بنات العم أبو ناجي ـ كنية الاستعمار الإنجليزي في العراق ـ وتساءل مع نفسه : كيف يكلّم هؤلاء الإنجليزيات والإنجليز ، انهم لا يكلفون أنفسهم عناء النظر إليه وهو يتمخطر مرتديا أحدث ما أنتجته مصانعهم ، آه من هؤلاء الملاعين، هم الذين سرقوا الفتاة الجميلة ابنة قريته سعدة ، التي كانت تعمل خادمة في دار ( الإنجليزي صاحب ) لقاء أجر زهيد ، اختطفها الصاحب حين رحل إلى بلاده ، أخذها معه ، ولم يستطع أحد من أهلها اللحاق به ، رغم الخيل السريعة التي كانت لديهم ...
ها هو الآن بلندن وسيريهم كيف يكون الانتقام ، ان ثمن الانتقام زهيد هنا ، سيدفع الباوندات التي معه أو بعضها ويحصل على إحدى بناتهم ، ولكن لعن الله مرض الإيدز ، من أين أتى هذا المرض اللعين ؟ ألم يأت إلا مع مجيئه إلى لندن ؟ لكن مع ذلك عليه أن ينتقم ، ألم يقل عمر الخيام : واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان ...
ما هذا ...؟ لم لا يفكر في شيء أكثر فائدة ؟ أليس الأجدر به أن يفكر في تعلم لغة القوم ، ما له ولسعدة ؟ هل جاء إلى لندن كي يغتصب بنات قصر بكنغهام ليتهم بالإرهاب ومن ثم يسلم إلى دولة عربية ليحاكم ويعدم ؟ انه جاء ليعيش ويعمل ويتاجر ، ألم يفكر بالتجارة ؟ ليتاجر مع الإنجليز و أبناء الأمة العربية ، فللإنجليز مصانعهم ومشروباتهم ، ولدى أبناء جلدته الدنانير والأموال والعقول السهلة الاغتصاب ، ولا ينقصه شيء لكي يتمكن من ذلك إلا تعلم اللغة الإنجليزية ، فسيصبح بواسطتها عفريتا تجاه هؤلاء الأعراب الجهلة ، عليه أن ينسى سعدة ، وأن ينسى شقراوات لندن ، عليه أن يتعلم لغتهم أولا ، فبدونها لا يستطيع تحقيق شيء من أحلامه ، ولا حتى العيش ، فبوساطة اللغة سيستطيع التفاهم مع الإنجليز والمتاجرة مع العرب ، وعلى الخصوص أبناء الخليج ، فهم سيكونون لقمة سائغة لمن يعرف من أين تؤكل الكتف ، انهم يشترون كل شيء ، ليتعلم الإنجليزية ويصبح امبراطورا … ألم يبدأ الخاشقجي وغيره هكذا ؟ ألم يكن إعرابيا لا يجيد سوى ركوب الإبل ؟ ليستقر بلندن ويتجول في أحيائها وأزقتها وليجلس في حاناتها ومواخيرها وليتعلم اللغة حتى من بغاياها ، وليدفع لهن لقاء تحدثهن معه ، فان من تعلم لغة قوم أمن شرهم ـ همس في سره ـ ونكح نساءهم إذا كانوا إنجليزا ، ليتجول في حي سوهو فعسى أن يتعلم بعض الكلمات .
هلو ... باى باى ... باستر …
لم يتقن حتى الآن أكثر من هذه الكلمات ، إضافة إلى ما تعلمه في المدرسة أيام زمان ، مثل صباح الخير ومساء الخير .. وتساءل يوما دون أن يجهر بسؤاله : ترى لماذا لا يكلمونني .. فأنا أريد تعلم لغتهم .. وعلى استعداد لأن أكلم أيا منهم ..
أيها الناس أريد أن أتعلم لغتكم .. أريد أن أتحدث إليكم .. فأنا أعرف شيئا من لغتكم ، أتعلمون ؟
أستطيع أن أقول لكم صباح الخير إذا كان الوقت صباحا ، ومساء الخير إذا كان الوقت مساء ..
أريد أن أحدثكم ، ألا تسمعونني …
الكل صامت ...
لا أحد يجيب ... لا أحد يتحدث ا ليه ..
صمت ... صمت ..أولاد الـ …..
* * *