|
الذاكرة ولحظة الحقيقة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5447 - 2017 / 3 / 1 - 13:08
المحور:
الادب والفن
الذاكرة ولحظة الحقيقة عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكّر عربي تذكّرتُ وأنا أشارك في مؤتمر بمدينة مكناس في المغرب حول "الذاكرة والهويّة ومسارات الاعتراف" حديثاً لأحد الوجوه الإعلامية البارزة التي كافحت ضدّ سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأعني به ماكس دوبريز Max du Preez الذي حوّل نشاطه لاحقاً لتدوين ذاكرة الضحايا، مسجّلاً شهادات متنوّعة قام بمهمّة بثّها تلفزيونياً. كان دوبريز قال مذكّراً العالم أجمع، ولا سيّما التجارب الناشئة والجديدة في مسار العدالة الانتقالية بأنها "لحظة عظيمة لا تموت، سوى مرّة واحدة، ولا يمكن تكرارها ومقارنتها بكتابات المؤرخين". وبخصوص تونس التي كان يزورها (خريف العام 2016) قال: "تونس لديها الآن لحظة لكتابة التاريخ، لحظة فريدة من نوعها لتقول: لا نستطيع فعل ذلك عن طريق مؤرخ واحد أو كاتب واحد، بل نستطيع كشعب تسجيل كل تاريخنا، ما حدث قبل الثورة وأثناءها، وهذا سوف يبقى. وإن أضاعت تونس هذه الفرصة فلن تأتي مرّة أخرى... ولهذا فعندما يتعلّق الأمر بالحقيقة وبالتاريخ... فنحن نكتب التاريخ الآن". هكذا استعدتُ الخيط الرابط بين عنوان المؤتمر وبين حديث دوبريز، وهو حديث عن لحظة الحقيقة التاريخية، التي لا ينبغي إهمالها أو دفعها إلى دائرة النسيان، بل ينبغي استحضارها لتكون في دائرة الضوء دائماً، سواء ما يتعلّق بموضوع العدالة الانتقالية أو بالمشترك الإنساني وبالتعايش المجتمعي والاعتراف بالحقوق، عندها يمكن أن تكون الذاكرة مشتركة على ما فيها من تناقض واختلاف، كما يمكن أن تصبح درساً للجميع للانتقال من طور تاريخي إلى آخر، ومن الإلغاء والتهميش إلى الاعتراف بالتنوّع والمغايرة. وبهذا المعنى فالعدالة الانتقالية بقدر ما هي فلسفة ومنهجية جديدة تفرضها الضرورات الانتقالية، فإنها بالقدر نفسه فلسفة تربوية وتاريخية لتحقيق العدالة، لأنها تكشف عن الذاكرة بما فيها من مآسٍ وويلات وظلم، ليس بهدف الانتقام أو الثأر أو العدوانية، بل لمعالجة إرث الماضي وانتهاكاته الجسيمة على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب، خصوصاً حين يتم ذلك بصورة سلمية وبتوافق مجتمعي للانتقال الديمقراطي. وقد اهتدت العديد من التجارب الدولية وهي تبحث في أركان الذاكرة وتخوض في تفاصيل الهويّة إلى طريق العدالة الانتقالية، ولعلّ تجربة جنوب إفريقيا التي عانت من التمييز العنصري والاستعمار الاستيطاني لأكثر من قرنين من الزمان، تعتبر نموذجية على هذا الصعيد، وإنْ كان لكل تجربة إيجابياتها وسلبياتها، مثلما هي تجربة المغرب للعدالة الانتقالية التي دلّلت على إمكانية تحقيق المصالحة من خلال تحوّلات من داخل النظام نفسه، عبر مساءلة تراعي مبادىء التسامح، لا سيّما الاعتراف بما حصل وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني. كما كشفت تجارب العدالة الانتقالية في بعض البلدان الاشتراكية السابقة في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات عن إمكانية التحوّل الديمقراطي، باعتماد فقه التواصل واستبعاد فقه القطيعة، أي بتقليص دائرة المساءلة وإعلاء شأن التوافق المجتمعي، مثلما حدث في بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا السابقة وغيرها. أما عن تجارب أمريكا اللاتينية فيمكن القول إن تجربة الأرجنتين في أواخر السبعينات كانت متميّزة، حيث تم إصدار عفو عام وإطفاء القضايا المتعلّقة بعد موجة عنف ضربت البلاد حين اعتمدت المساءلة للمرتكبين. وكانت تجربة تشيلي في التسعينات حيوية جداً، خصوصاً حين تم الاتفاق بين المعارضة ونظام بينوشيه على دستور جديد وانتخابات حرّة، على أن تبقى المؤسسة العسكرية والتي قامت بارتكابات شنيعة، خارج دائرة المساءلة. وتبرز اليوم تجربة كولومبيا باعتبارها من أشجع التجارب الدولية وأكثرها براغماتية، فبعد صراع مسلّح ودموي دام 52 عاماً وراح ضحيته نحو 220 ألف إنسان، وتعطّلت فيه التنمية وجُرّفت الأراضي الزراعية ودمّرت البيئة، تمكّن الرئيس خوان مانويل سانتوس في العام 2016 من التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحركة المسلّحة، وذلك بتسليم أسلحتها للدولة مقابل عدم ملاحقة المرتكبين، وخصوصاً بتسليم جزء من الأموال التي كانوا يحصلون عليها من خلال زراعة وبيع المخدرات. وقد نال الرئيس الكولومبي جائزة نوبل على مبادرته الجريئة تلك. وإذا كانت المظالم التاريخية والثقافية تثير ردود فعل حادّة، فإن بعضها سلبي حتى وإن تغلّف أحياناً بمطالب وشعارات صحيحة من حيث الجوهر القانوني للعدالة، لكنها قد تؤدي إلى استمرار الصراع ودفعه إلى مديات جديدة، الأمر الذي يحتاج معه إلى وقفة جديّة لمعرفة الحقيقة لماذا حدث وكيف حدث؟ والهدف ليس نكء الجراح، بل للتخلص من آثار الماضي، وملامسة جوهر وحقيقة الإشكالات التي تطرحها أسئلة الهويّة والذاكرة في علاقاتها المتشابكة بالارتباط مع سؤال الاعتراف، خصوصاً حين تبقى الذاكرة حيّة في الضمائر لكي لا يعاد تكرار ما حدث، وما نجم عنه من خسارات لطاقات وثروات وعقول. ومثلما لا يمكن تجريد الإنسان من شعوره بالانتماء إلى الأرض وفي الوقت نفسه بالانتماء إلى لغة وهويّة تنعش وجوده وتؤنسن حياته، فإنه لا يمكن تجريف ذاكرته لأنها جزء من تاريخه وطريق يوصل الماضي بالحاضر نحو المستقبل.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وماذا عن الشتات العراقي..؟
-
العقد العراقية المعتقة
-
ترامب وحكم القانون
-
آرا خاجادور: وطني نقرة السلمان وهويتي عراقية والهوى أممي
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة: 37 عاماً على الاختفاء القسري
-
قضم الضفة العربية: ماذا يعني؟
-
ترامب وما بعد العولمة
-
المثقف وظاهرة الاغتيال السياسي
-
في نقيض التطرف
-
عن أشكال العبودية الجديدة
-
من وحي مؤتمر فكر - 15: -بصرة الإمارات-
-
عن حكم القانون
-
سؤال وستفاليا العربي: الخرائط الجديدة ما بعد داعش
-
في نستولوجيا المثقف اليساري
-
حوار الأمم الأربع
-
ميانمار: أية تجربة تنتظرها؟
-
كلمة د. عبد الحسين شعبان في ندوة حوار مثقفي الأمم الأربعة
-
التكفير والتفكير
-
(فكر - 15) والتكامل الثقافي
-
بوصلة الباحث وشعار الداعية
المزيد.....
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|