أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل كامل - رواية/ جهنم















المزيد.....



رواية/ جهنم


عادل كامل

الحوار المتمدن-العدد: 5419 - 2017 / 2 / 1 - 12:11
المحور: الادب والفن
    


رواية

جهنم



[ إن ابعد المجتمعات عن أخلاق السماء وعن طاعتها هي أكثر المجتمعات تحدثا ً عن السماء وولادة للمتحدثين عنها وعن آلهتها.]
عبد الله القصيمي

عادل كامل
ـ أسرع، أسرع...، ألقمها، فلهبها يكاد يخمد، أسرع، أسرع.
ابتسم المشرف العام على البوابة الحديدية الكبرى، مضيفا ً لأحد مساعديه:
ـ فمن ذا يقدر على إطفائها، وقد اعددنا لها هذه الفيالق، وهذه الطوابير ..؟
لم يكن لنارها دخان، فما ان تلامسها الأجساد، مهما كانت كبيرة، أو صلبة، أو متحجرة، حتى تغدو بيضاء شديدة التوهج، تبث إشعاعات لا مرئية، أسرع من موجات أشعة الشمس بثلاث مرات، فلا تلمحها العيون، ولا تسمع لها الآذان أصوات، إلا أصداء لا صوتية تنصهر فتتحول إلى بلور بلا وزن، يتجمد، لصبح رمادا من غير لون، فيبدو مثل البلور السحري للأطياف وقد تناثرت عبر مساحات بلا حافات.
رفع المشرف العام رأسه وألقى نظرة إلى الفيالق، والطوابير، ليصدر امرأ لمساعديه:
ـ لا تحدقوا في وجوههم، ولا في عيونهم، ولا في أفواههم، ولا تنشغلوا بملامحهم...، ولا تصغوا إلى عويلهم، وصراخهم، واستنجاداتهم، وتضرعاتهم، وطلبهم للغفران!
ـ نعم، نعم، سيدي.
كانت النعم جماعية، صدرت عن فم واحد. فقال متابعا ً:
ـ ولا تدعوا أحدا ً يتسرب، يهرب، يفر...
فرد احدهم:
ـ وأين يمكن ان يولي...، يا سيدي؟
ـ قد يجد من ينجده، أو يتستر عليه! فالأوامر صريحة: الكل إلى المحرقة، ولا استثناءات هناك، لا للصغير ولا للكبير، لا للذكر ولا للأنثى، لا للأغبياء ولا للأذكياء، فهذا هو مصيرهم..!
في الأعلى، كانت السماء رمادية، تنذر بعواصف، وعند المدخل، احتشدت الجموع تتعبها أخرى، متراصة، الواحدة خلف الأخرى، ومن الصعب إحصاء عددها. كانت درجات الحرارة قد انخفضت إلى ما تحت الصفر بخمسين درجة. حتى ان الأصوات كانت تتجمد وتتكوم مثل مكعبات مختلفة الأشكال، فوق العشب. تذوب، ثم تتبخر، فتصدر أزيزا ً شبيها ً بتحول الحجارة إلى غبار، والغبار إلى أثير، والأثير إلى موجات لا مرئية تتلاشى في الفضاءات.
سألت الغزال، الواقفة في فيلق الغزلان، أختها:
ـ ما الذي يحدث...؟
ـ آ ...، لو كنت اعرف.
ـ أنا اعرف!
ـ تعرفين...، حسنا ً، أنا لا أريد ان اعرف، يكفي ما عرفناه.
ـ وأنا أيضا ً لا أريد ان اصدق إنني عرفت...، ربما أنا رأيت، ربما سمعت، ربما توهمت إنني سمعت ورأيت، في الغالب لم أر ولم اسمع.
ـ هذا يكفي...، فبعد ان تتحول أجسادنا الجميلة إلى رماد، تبدأ القصة!
لكزها الحمل الواقف في فيلق الخراف:
ـ يقولون ان خلايا الوباء استيقظت بعد خمودها لملايين السنين...، وهناك إشاعة تؤكد إنها هبطت من كوكب بعيد، وأخرى تنفي هذه الإشاعات مؤكدة إنها صنعت في مختبرات خاصة!
أجابت الغزال بلا مبالاة:
ـ وأنت ماذا فعلت كي ُتحرق؟
ـ لست وحدي، بل انظري إلى القطيع ....، والفيلق الآخر، هناك باقي الفصائل..
ـ وضعونا في المقدمة، شكرا ً لهم!
ـ ليس هناك أفضليات، مع إنها ـ كما يقال ـ مرتبة بحسب المعاصي، الذنوب، والآثام...، وبما لم يرتكب أيضا ً!
فقال ابن أوى الهارب من جماعته:
ـ كنت أود لو مزقتني أنياب الذئاب على ان امكث انتظر ...، موتي، فالأغبياء اعتقدوا إنني شديد الذكاء...
ـ تقصد ان الأذكياء لا يتصرفون إلا بغباء..؟
مر شعاع في السماء المكفهرة، دار، دورة كاملة، ثم توارى، فساد الصمت لدقائق ظنها البعض قد جمّدت الزمن.
كان طابور الجرذان يزحف، خلفهم مباشرة، تأتي الأسود تمشي بخمول، وتكاسل. فقالت اللبؤة لأشبالها:
ـ ولكن كيف حصل ان اخترعوا وباء ً يصيب الطيور، والأسماك، والقوارض، والمفترسات معا ً، أم ان دورة الحديقة بلغت نهايتها...؟
ـ إشاعة! فالوباء ما هو إلا علامة من علامات المحرقة، وليس علامة لنهاية عصر الحدائق، والغابات، والبراري...، أما نار الأبدية فتلك تأتي في أوانها.
ـ آ ...، كلها نيران، ومحارق، كأنها تتناسل كما تتضاعف الأرض بالجذام البشري.
تابع الأسد يقول لأشباله، ولبؤته، بصوت متذبذب:
ـ كنت اعرف لا جدوى مهاراتنا في الرقص على الحبال، ولا فائدة من الدخول في تمويهات، فالسيرك لم يكن سوى خدعة! يا أولادي، لا مجال للعب، والتوهم، والخداع، فالنهاية سابقة على بدايتها!
قال احد الأشبال:
ـ أما أنا فلا اعرف لماذا احرق، ولماذا احرق مع الأرانب، والضفادع، والبعوض، مع إنني لم أولد في البرية، ولا في الغابة، بل ولدت في احد أقفاص هذه الحديقة، وكان أملنا ان نموت فيها، لا ان نحشر مع الأسماك والفئران والضباع.
ـ اسكت.
وتابعت الأم:
ـ لا فائدة من الشكوى، ومن التذمر، ومن الاعتراض.....، لا فائدة من الأسئلة، والاحتجاج، والغضب...، فما عليك ان تفعله يا شبلي هو ان تحرق معنا، لعلنا ـ بعد الحرق ـ نتوحد برمادنا؟
ـ آ ....، فهمت، كي لا يختلط رمادنا برماد الصراصير.
ـ أحسنت...، فنحن لا ننتمي إلى شعب البراز! فأبوك لم يكن بعيرا ً، وأمك لم تكن أتانا ً.
رد الأسد بصوت خفيض:
ـ حتى لو متنا، فرمادنا سيتجمع، ولن يختلط برماد الحمير ! فنحن عائلة مقدسة!
ضحك الحمار الذي يستمع لهم:
ـ الم ْ أخبركم بذلك؟
هز الأسد رأسه وأجاب:
ـ لا تمزح!
ـ لا...، أنا لا امزح أبدا ً...، فلم يبق لدينا الكثير من الوقت للمرح، والهزل، ولكن لدي ّ سؤال..
هز الأسد رأسه:
ـ أسمعك.
ـ أنا لم اعتد على احد..، لم ازور، ولم اكذب، ولم ازن، ولم اقتل، ولم أوش، فلماذا حشرت معكم؟
غضب الأسد:
ـ بالأحرى أنا سألت نفسي: ما الذي افعله كي أعاقب واحرق مع الحمير؟
اعترض الحمار بكبرياء:
ـ ما معنى هذه الاهانة؟
ـ يا حمار...، عليك ان تبتهج، وترقص، لأنك ستجاورنا، كأننا من أصل واحد؟
ـ وهل لديك شك، أم مازال عقلك ملوث بالاختلافات، والعنصرية، وأوهام التفوق...، وتظن إننا سنحشر معا ً..، وأنا لا أحدق إلا في الفراغات...؟
ـ تقصد الفضاءات...؟
ـ آ .....، في الأقل، لا احد سيؤذينني، ولا احد يحتقرني، ويحمّل علي ّ أوزاره، وذنوبه، فلا مجاعات ولا تخمة! آنذاك سأرقص كما ترقص ومضات النجوم!
اقتربت الغزال من الأسد وسألته:
ـ ولكن اخبرني لماذا يرسلوننا جميعا ً إلى المحرقة...؟
فكر برهة وقال ضاحكا ً:
ـ وهل تظنين إننا خلقنا للبقاء في هذه الحديقة إلى الأبد...؟
بكت الغزال:
ـ اية حديقة، يا سيدي، تتحدث عنها...، الم نقض حياتنا بانتظار هذه الخاتمة!
هامسا ً تمتم:
ـ أنا أمضيت حياتي متوجسا ً ان يأتي اليوم الذي تبول فيه الثعالب علي ّ...، فانا الآن أفضّل رائحة شواء أجسادنا وتحولها إلى هواء منصهر؛ بدل استنشاق الجيفة، الأكاذيب، ولا الخساسات، ولا النذالات، وبدل ان تتحكم الخراتيت والثعالب والجرذان بمصائرنا...؟
ودار بخلده، مع لا معنى هذا كله، إلا ان العدم وحده يليق بنا، فهو لا يتضمن أسئلة تتطلب إجابات!
ـ صار الأمل هو آخر وهم يغوينا بالحياة.
ـ أسرع، لا تتعثر، لا تتوقف...
فقال الكركدن للثور:
ـ لا تتكلم.
ـ ومتى تكلمنا أيها الضخم؟
فعوى الذئب:
ـ أسرعوا ...
فقال له الثور:
ـ وعلى م َ العجلة..، وأنت منشغل بالوصايا تنثرها علينا؟
سكت الذئب، مصغيا ً للخروف:
ـ أسألك، بوصفك أعقل مني: ما الفائدة من حرقنا، ومحونا من الوجود...؟
ـ آ ......، هناك ألف ألف فائدة.
ـ أهناك ألف ألف فائدة...، اخبرني بواحدة فقط...؟
ـ كي لا تكتظ الحديقة بنا ...، وتحدث خللا ً في التوازن!
ـ أنت تقصد تحديد النسل..؟
ـ بالتأكيد...، وإلا ما فوائد الحروب، والمجاعات، والإبادات؟
فكر الذئب:
ـ ها، ها، كي نصبح أخوة بالرماد...، بعد ان مكثنا في صراع نجهل أسبابه وقسوته ولا معناه...؟
ـ جميل...، فلا معنى ـ إذا ً ـ للإسراع، والهرولة، ولا معنى للتسرع والغضب، ولا معنى للأحزان والندم...
ثم سأل الذئب الثور:
ـ أيهما أكثر رعبا ً: رائحة السكين أم رائحة لهب المحرقة؟
ـ يا ملعون.
ذلك لأن الثور ما ان سمع كلمة سكين حتى فقد صوابه، هاج، واخذ يضرب الأرض، ويدور حول نفسه. فاقترب الحمار منه:
ـ ماذا جرى...؟
ـ لا تتدخل...، ما شأن الحمير بالقضايا الكبرى...؟
ـ حتى انت...، مثل كل النباحين، العوائيين، المستغيثين، تبقى ثورا ً!
حدجه شزرا ً، وود لو بقر بطنه، فقال للذئب:
ـ الا تشعر بالجوع؟
فأجاب ساخرا ً:
ـ لا ارغب ان أشوى، وفي ّ لحم حمار!
تراجع الخروف، مذعورا ً، فناداه الذئب:
ـ أنا امزح معه...، فلن افعلها,
فقال الثور للخروف:
ـ لا تصدق ...، فحتى الذئاب لا تقول الصدق! إنها تضمر شيئا ً وتقول شيئا ً آخر، لا تخجل، ولا حياء لها.
اقترب منه الذئب:
ـ من أنت...؟
ـ أنا لكثرة السكاكين التي عملت في جسدي أصبحت سكينا ً!
عوى الذئب:
ـ أنا لم اعد ذئبا ً...!
فضحك الخروف، وراح يتمتم مع نفسه بصوت مسموع:
ـ ربما لو امتد به العمر لأصبح زعيما ً، أو راعيا ً، بعد ان يغطسنا في بحر من الدماء..، يقلينا فوق رمال الصحراء...
فخاطب الكركدن الثور:
ـ حتى جهنم لم تعد لها مهابة، فلم تعد تثير الخوف، ولا الخشية، كأنها تحولت إلى ملهى، أو أصبحت سيركا ً، أو دار عجزة! فإذا لم نعد نخشاها فمن يضع حدا ً للقتل، والنهب، والخطف، والقتل، والخساسات...؟
ابتسم الحمار:
ـ سيدي، هذه ليست هي جهنم...، هذه مقلاة، مدفأة، وفي أفضل حالاتها فإنما هي محرقة اخترعها السيد المدير...!
قرب رأسه منه وسأله:
ـ ولكنهم يقولون شيئا ً آخر، يقولون إنها وجدت لإفساح المجال للمواليد الجدد، والحد من الضوضاء، وإزعاج سيدنا المدير، ومساعديه، والسيدة المستشارة...، وهناك إشاعات تقول إنها اخترعت لبث الرعب، فما من سلطة من غير سيف ودم ومحرقة...؟
ـ وهم...، إشاعات، ومزاعم يبثها الأنذال، والعملاء، وأشباح البراغيث...، فقد برهنت الوقائع انه كلما ازداد الخوف، والرعب، يتضاعف عدد المواليد الجدد...، فالأرحام لا تعمل بالأهواء، والقرارات، والدعايات! فالأحياء منذ وجدت قاومت هذه المزاعم، وإلا لكان الإنسان انقرض قبل انقراض قادتنا العظام الديناصورات...؟
ـ ما ـ هو ـ دليلك، أيها المحترم..؟
ـ ألف ألف ألف دليل لدي ّ على ذلك...، انظر إلى أعداد الذباب، والفقراء، والمتخاذلين، والمخلوقات المقاومة لكل أشكال الاجتثاث، والإبادة، والمحو...، من طرد من، ومن انتصر على من...؟ فالحياة تزدهر أبدا ً على نحو يانع كلما اشتدت وسائل الفتك، وكلما تنوعت فنون الإقصاء!
هز رأسه موافقا ً، وراح يسأل نفسه:
ـ آ..، لو عرفت لماذا يعاقب الجميع، ولماذا ينكل بهم، ولماذا يذهبون مع الريح، مثلما جاءوا معها...؟
أجاب الذئب بصوت جهوري:
ـ والآن جاء دوري لأخبرك....، فانا أود ان أسألك: لو بحثت عن كائن واحد وجد فوق هذه الأرض وفي الحدائق والمستنقعات والبرك والزرائب والمدن والبراري والبحار والصحارى لم ولن يذق مرارة العقاب لعرفت السبب...؟! جد هذا السعيد فستجد الجواب...؟
ـ صحيح! أنا طالما فكرت في هذا الأمر ...، فوجدت الأسباب الكافية التامة بعللها كي نكون جميعا ً سعداء! نولد مسرة، ونعيش سعداء، ونغادر من غير ندم!
ـ حمار ويفكر!
فرد الحمار:
ـ وذئب يتصيد زلات اللسان....، يوهمنا بالصواب ليوقعنا في الذنب!
رد الذئب بغضب:
ـ لو وضعنا قليلا ً من الصواب في رؤوسنا بدل هذه التخمة من الأصوات، فهل سنلقى المصير الذي ينتظرنا ...؟
ـ المشكلة لا تكمن في الصواب، وفي الحكمة، وفي العدل...، ولا في الباحثين عن الصواب وعن الحكمة أو العدل، ولا في ـ ما ـ بعدها ...
ـ أين تكمن إذا ً يا سعادة الحمار، حتى أصبحت تتقمص دور الواعظين، والملقنين، والمفكرين القادة الكبار...؟
ـ يا سيدي، بعد ان تُحرق، رمادك سيخبرك!
حتى أنت أصبحت تلهو بعقلي...؟
ـ بماذا...؟
ـ آسف....، بهذا الطبل، بهذا التجويف، آسف....، بهذا الفراغ!
ـ أقسم لك...، لا أنا، ولا أنت، ولا حتى للفيل عقل، فلا احد منا يذهب ابعد من أسوار هذه الحديقة.
ـ لابد انك أصبت بداء كآبة المحرقة، وإلا ما الداعي للقسم.
ـ حتى لو لم تكن هناك محرقة، وحتى لو لم نمت، فالحياة لا تسمح إلا كي تحافظ على دينامية ديمومتها. فأسلافي قالوا لنا: تعلم ان تهذب غضبك، فلا ترفس، ولا ترفع صوتك، ولا تمشي مرحا ً، وقالوا: لا تفسق، ولا تزن، ولا تزور...، وقالوا لا تبع أمك، ولا جدتك، ولا شجرة من أشجار حديقتك، وأنا للحق حفظت الوصايا الألف، بعد مرور آلاف السنين، كلها عن ظهر قلب...، وهذه هي النتيجة؛ ان لم تمت إعياء ً، ووهنا ً، ومذلة، وبالرفس، وبالانشطار، والتقطيع، ولم تذبح في زمن المجاعات، وتنتهك في زمن جر عربات الموتى، قبل ولادة الحواسيب العملاقة، فان المحرقة وحدها بانتظارك. إنها بشارتك، وعيدك!
فسأله الثور:
ـ نحن بانتظارها أم هي بانتظارنا...؟
ـ دعنا لا نصاب بعدوى الغوغاء، والزعماء، وأصحاب المباديء السلسة، من البشر الفانين، ونترك انطباعا ً سيئا ً عن سكان حديقتنا. فما دمنا نحن بانتظارها، فهي ـ بحسب المنطق والأنساق البنائية ـ بانتظارنا أيضا ً، مثلها مثل السؤال القديم: هل خرج الليل من معطف النهار، أم خرج النهار من معطف الظلمات؟ فما هي يا سيدي إلا مناورة أدوات حجرية، .! كحوارنا العقيم هذا ...! نلتقي من اجل ان نفترق، ونفترق من اجل ان نلتقي...! فما عليك إلا ان تهتف، كما يهتفون، وتهرول كما يهرولون، وتترنح كما يترنحون، وتصبح قوادا ً كي تحصل على الفائض من اسماك المستنقع، والفائض من بول النوق، ومن حليب الماعز، والجاموس.
ساد الصمت لحظات، بعدها تساءل الثور:
ـ أدوات حجرية..؟
ـ أقترب.. اقترب مني...، فلم يعد لدينا ما نتستر عليه ...، حتى موتنا صار يفضحنا. فلقد أصبحنا أضحوكة الضاحكين على الباكين، وأضحوكة الباكين على الضاحكين.
ـ طالما كنت اردد مع نفسي: من ذا انزل فينا هذا العقاب...، ولم يتم استجوابنا، ولماذا نذبح ...، ولماذا نرسل إلى المحرقة، ونحن لا نردد إلا: أيها الثور ما شأنك بالدنيا، إن كانت وهما ً أو كان سرابا ً حقيقيا ً، أو حلما راح يلد الأحلام، فأنت لم ـ ولن ـ تصبح أكثر من ثور، في عصر البراري، أو في عصر الحدائق؟
همس الحمار:
ـ يا شريكي في الزوال إن بذرتنا التي صارت حديقة...، آن لنا ان نراها، ونتمتع بنعمها، ونستظل بظلها.
ـ ولا ترانا.
اقترب فصيل الدببة، يدك الأرض، ثم توقف. لم تصدر عنه سوى إشارات مبهمة حول كثافة الغيوم، وانخفاض درجات الحرارة. أعقبه فصيل لا اسم له، بلا عنوان، تلاه آخر للسحالي، وآخر للسلاحف، وآخر لذوات الدروع.
فطلب المشرف العام من مساعديه الإسراع بضبط الفوضى الحاصلة في فصيل الفهود، فأجاب الأول:
ـ القردة لديها اعتراضات!
ـ تعترض... على ماذا ...؟
فتم إحضار الزعيم، ووقف بانتظار سؤال المشرف. لم يسأله. فقال كبير القرود:
ـ هل تتذكر أمير دولة النحل ...، كم كان مرحا ً، وسلسا ً...، الأمير الذي لم يجد، في إمبراطوريته، ذات الجهات العشر، أحدا ً يتأفف، أو يشكوا، أو يتذمر، فغضب الأمير وقال لمساعده: هذه ليست إمبراطورية، بل فقاعة! فقال كبير مساعديه: يا فخامة الإمبراطور، الكل يمجدون باسمك، على مدار الزمن، يا واهب النعم، فلا جياع ولا مرضى، لا أرامل ولا أيتاما ً، لا ثكالى ولا موتى ولا فقراء...، فأمر الإمبراطور قرارا ً بضرورة ان يدفع كل من يدخل المدينة، وكل من يخرج منها، ان يدفع قرشا ً واحدا ً، ففعلوا. وفي المساء سألهم: من لم يدفع؟ أجاب المدير: لا احد! فأمر بجعلها مبلغا ً اكبر. وسألهم: والآن ...؟ قال نائبه الشاب: يا فخامة قائد الجهات كلها، حتى أنا، عند مغادرتي المدينة، وعودتي إليها، لم احصل على استثناء.
ضحك المشرف العالم على المحرقة: أكمل...، فأنت جدير ان تدخل في زمرتي!
قال كبير القرود مسترسلا ً:
ـ فامر فخامته ان كل من يدخل، وكل من يخرج من المدينة، عليه ان يتعرى، ويناك!
غرق في الضحك، وكاد يسقط ارضا ً:
ـ وماذا بعد الامر...؟
اجاب كبير القرود:
ـ في المساء ...
سأل المدير: هل هناك من اعترض، او تمرد، او اعترض، او فتح فمه؟
قال كبير الشرطة:
ـ نعم!
صاح الإمبراطور:
ـ هو ذا النصر المبين!
ـ هل أكمل، سيادة المشرف العام...؟
ـ دعني استعيد أنفاسي...،مسؤول الزعماء أكثر تسلية من مسؤول المحرقة! أكمل، لطفا ً، أيها الزعيم:
ـ أمر حاملي السيوف بذبح كل من فتح فمه، وكل من تأفف...، لكن سعادة قائد الحرس قال له: يا فخامة الإمبراطور، لم يتمردوا، ولم يحتجوا، ولم تمتد أيديهم إلى الغرباء، وما كانوا من الجنس الرابع...، فصرخ الإمبراطور: ماذا كانوا يريدون...؟
كاد المشرف العام يسقط من الضحك، فتماسك، ليسأل كبير القرود:
ـ أصبحت تلغز ...، وتدس السم بالشهد؟
ـ لا...، قسما ً ببوابة النار، وبالنار، وبالرماد....، وإنما أصابنا الملل، الضجر، ونحن لا عمل لنا سوى الانتظار.
أمر بالعودة إلى عشيرته، وخاطب مساعدته:
ـ ما هو رأيكم لو عدنا إلى التصنيف الطبيعي، مادامت المحرقة لا تتسع لهذا العدد الهائل من المتطوعين ...؟
أجاب الأول:
ـ فكرتك الأولى، سيدي، صائبة.
ـ تقصد ان نحدث فتنة، وندخل الجميع فيها،تنفيذا ً لمقولة قائدنا المدير: من لا تستطيع قطع رأسه امنحه رأسا ً آخر!
ـ لم افهم.
ـ يا حمار...
ـ سيدي، أنا ابن عم خالة جد زعيمنا الخالد.....!
تراجع المشرف العام إلى الخلف، مضطربا ً، وقبل ان يستفيق، كان المساعد الأول قد دفع به إلى المحرقة. وقال لمساعديه:
ـ هذا هو أمر قائدنا.
اصطف الطابور أمامه وأدى التحية. فقال:
ـ لا أريد متسربين، وهاربين، ومتخاذلين، ولا أريد ان اسمع كلمة واحدة عن: التراخي..، والتراجع، فالكل سواسية أمام الباب.
ـ أمرك، سيدي.
عندما وصل كبير القرود إلى موقعه في الطابور، استقبل بالصمت، فقال للقرود:
ـ اعتقد إنكم أسأتم فهم ما جرى ...
وسكت برهة، متابعا ً:
ـ فانا حصلت على أمر بعزل رمادنا عن رماد الضفادع، والبراغيث، والعناكب، والديدان الشرجية، وعن خلايا ذات اللون النتن!
اقتربوا جميعا ً منه بفرح غامر. قالت جدته:
ـ نعم، يا حفيدي، لم تعد هناك ثقة....، فقد بلغنا انك بعت شعبك، وأرضك، وخنت الأمانة التي لم يخنها احد منذ زمن بعيد!
اعترض عليها:
ـ أيتها الجدة الكبرى، يا أم الذكور والجنس الناعم، والصنوف الأخرى: أنا مخلوق عام، لم اعمل في الغرف السرية، ولا في الظلمات، لم التجأ إلى الغرباء، ولم اطلب مساعدتهم، ولم أساوم، ولم أتنازل، ولم احصل على مساعدة من احد، ولم اشترك في المزاد العام ...، فلم أبع شجرة، أو قردا ً، ولم اشترك في الحرب الأهلية، لا هذا ضد ذاك، ولا مع ذاك في اغتيال هذا...، لم اغدر، لم أوش، وكدت أموت جوعا ً، فكنت مثالا ً للمشرد فوق هذه الأرض!
قالت الجدة:
ـ يا حفيدي ...، فعالمنا هو عالم دعاية، إعلانات، أكاذيب، وتمويهات، فهو مبني على الغش، والصفاقة...، فان لم تربح، فالخاسرات ستدخل في سجل المحو. وأنت اعرف من يعرف ان المعرفة هي معرفة بالذي لا يمكن سبر أغوار معرفته!
قاطعها قبل ان تكمل كلامها:
ـ حتى إنني كنت السبب بتجديد الزعامة!
طلبت منه ان يقترب منها، مع آلاف من القرود الأخرى التي راحت تصغي بانتباه:
ـ أيتها الجدة العظمى للسلالات الخالدة، أنا أكدت استحالة وقوع تحولات من الأسود إلى الأبيض...، أو من الأبيض إلى الأسود، فالمسيرة اللا مرئية للظواهر تعمل عملها من غير معلمين...، ولهذا تجرأت ورويت له الطرفة ذات الصيت الدولي حول إمبراطورنا الخالد!
ـ اسمع يا ولد، يا أب أحفادي، حسنا ً فعلت، والآن عليك ان تكمل دورك في إعلان العيد الأبدي للكرامة...، فليس لدينا إلا إعلان النصر...، فدعنا نعيد حساباتنا مع كل ما جرى.
فقال بحزم:
ـ لن نحرز نصرا ً نهائيا ً...، في هذه المهزلة، في هذه الحرب.
ـ أي نصر ...، أي نصر كان، حتى لو رائحة نصر...؟
ـ هم ـ سيدتي ـ يمتلكون الأشياء، والأشياء الصانعة للأشياء، وما بعدها، فالأدوات تقدمت نحو ذروتها، فهم يمتلكون البوابة، ونوافذها، أسرارها ومخفياتها، يمتلكون الهواء والماء والسماء ...، فعن أي نصر مؤزر تتحدثين؟
همست:
ـ عن أي نصر نتلهى به، يأتي بمثابة تسلية، فأنت ترى هذه الملايين المسكينة تتمرغ في الوحل، وفي البرك، وفي الأقفاص..، منهكة، فقيرة، بلا عون...، وكأن مديرنا الأبدي حل نيابة عن أسلافه في إنزال العقاب.
ـ أنا اعترض.
قال قرد غريب الأطوار، كان ثملا ً:
ـ لن نشترك في التمرد، ولا في العصيان، بل علينا ان ....
سأله كبير القرود:
ـ ماذا لديك؟
ـ سيدي...، لو سمحت لي..
ـ قل ما لديك أيها التائه الشارد المشرد الخارج على انساق الشريعة.
ـ سيدي، أريد قليلا ً من بولك؟
ـ بولي ...؟
وسأله:
ـ هل أنت من هؤلاء الذين يقدسون أمنا البقرة..؟
صرخ:
ـ لا! لا، أنا لا اعبد التماسيح، ولا اجّل دموعها، ولا بيضها، ولا بولها أيضا ً...، ولكننا اكتشفنا انه العامل المباشر لانتشار طاعون الهواء! فبدل ان نلغم أجسادنا، ونفخخها، ونفجرها، ونخرب كل ما في هذه الحديقة، سنترك وباء الطاعون الهوائي يسري كما تسري محركات الجاذبية والإشعاعات الاستثنائية ....، فيهلك كل من عليها، بدل ان يحرقونا بالمحرقة، ويخلطون رمادنا مع رماد البغال والحمير والبشر والصراصير والضفادع!
قالت الجدة بذعر:
ـ يا ولد...!
عاد القرد المتمرد يصرخ:
ـ أنا هو زعيمكم الأوحد، مستمدا ً شرعيتي من أصداء الأصوات الأبدية.
فأذاع البيان العاشر على الجميع، الذي نص على: العفو العام، والمساواة، وتقاسم الموارد، وتطهير المصائر من غبار الشوائب المثير للأسى والأحزان.
متابعا ً قراءة البيان الجديد:
ـ استنادا ً إلى الصلاحيات الواردة في البيان صفر، وفي البيان الأول، تقرر استبدال عناوين العصور القديمة بعناوين تواكب عصر ما بعد العصور ...، مما يمهد للبدء بتدشين تشريعاعات تلزمنا بنبذ كل ما يدعو إلى المحالفات، والوقاحة، والالتزام بمبدأ استبعاد من يخالف أوامر جدتنا الأم الكبرى، واستبدال المشاعية والإقطاعية والفروسية والمناطقية وما بعد الحداثة بالإنسان بوصفه الراشد الناعم المستقيم للأطياف اللطيفة الشديدة السلاسة ...
ارتجت أركان الحديقة بالهتاف، وارتفع نشيد: لن تموت وحيدا ً أيها الدائم عبر العصور.
عند بوابة المحرقة، طلب المشرف العام الجديد، من مساعديه، تحليل ما ورد بالتقارير القديمة ـ في عهد سلفه الذي مازال يتضرع طالبا ً رحمة الموت ـ وقراءة ما سيحدث بعد ثورة القرود، وسريان عدوها إلى البرمائيات والطيور. وأمر سيادته ببناء محارق مستحدثة بخبرات مضافة، تخصص لكل صنف، ومحرقة أخرى لكل من يبدي تذمرا ً، مع إعادة تعمير وتجديد أركان المحرقة الكبرى، وإضفاء مهابة عليها تناسب الألف عام القادمة والتالية عليها:
ـ فلا يصح المحافظة على هياكل عتيقة بالية عفى عليها الدهر والغباء والغلو والعنف ...
وأضاف سعادته بصوت الزعماء الخالدين:
ـ ان أوامر مديرنا صريحة تماما ً.
وخاطب فيلق العلماء:
ـ لقد آن دوركم في عصر ما بعد العلم، والأساطير، وفي عصر ما بعد الأصوات، والظلمات.
ثم تحول الفضاء إلى حلقات ذات لون اخضر داكن، ازرقت، اسودت، ممتزجة بألوان عديمة الإشعاع، لها نهايات حادة، سرعان ما بدأت تتداخل، تنصهر، لتتسع، من ثم تتقلص، كي تستحيل الكتل إلى مكعبات، والى مجسمات متلاصقة، متداخلة، تمحو بعضها البعض الآخر، تتخللها ومضات كانت تبزغ مثل يد بالمغزل تغزل غزلا ً فتجذبها ثم تعزلها، تنسجها، ثم تتركها تعبر كي تتفرق لتجتمع في عقد لا نهايات لها..، وقد ازدادت كثافة الفضاء حتى لا مست ارض الحديقة.
كانت الرؤوس شاخصة، محدقة، بانتظار الدوي، قال النمر، الذي لا يعرف كيف وجد حضوره في طابور المخلوعين، والمجذومين، والمعاقين، والمولولين، والموتى قبل أوانهم، والمغدور بهم .....، لزميله:
ـ لا اعتقد إنهم سيعيدوننا إلى أقفاصنا، بعد هذا اليوم...، فانا سمعت من يؤكد إنهم: اعتقونا، وأصبحنا خارج سطوة الأسر، والقضبان.
اقتربت ناقة شاردة وحكت أعلى رأسها برأسه:
ـ كأن الغيوم المكفهرة لا تبشر إلا بالرمال، والدخان...؟
فاقتربت نعامة تدفعها الريح مترنحة كأنها ثملة وما هي بثملة وقالت لهما:
ـ تأخرنا!
ضحك النمر:
ـ لم تعد تميز بين الليل والنهار، ولا بين السماء والأرض.
فقالت غاضبة:
ـ مادامت النهاية أعدت لنا فما معنى هذه الاستطالة...
ـ ها أنت ِ لا تميزين بين مقدمة تمتد بذاتها، وبين نهاية لا نهاية لها..، بل ولا تميزين بين نهاية لها مقدمتها، ومقدمة لها نهايتها!
ـ وأنت ماذا ميزت...؟
ـ أنا عرفت ان لا مقدمة هناك ولا خاتمة لها إلا عندما نمضي في معرفة السابق عليها كي نلحق بالذي يليها!
ـ الم ْ اقل لك: تأخرنا!
ـ الأوامر صريحة، لا لبس فيها، ولا مجال للمناورة، أو الاجتهاد فيها أيضا ً.
اعترضت الناقة:
ـ وما ضرورتها هذه الأوامر...، مادامت الحشود والطوابير والجموع منضبطة بدقة دوران الأفلاك والمجرات والنجوم والكواكب...، ولا تعمل إلا كعمل الساعة الكبرى...؟
فرد النمر:
ـ لا وقت للفرار، والهرب...، ولا وقت للبحث عن ملاذ....، ليس لأننا ولدنا قبل يوم ميلادنا، وسبقناه، وليس لأننا قذفنا إلى الخراب، والمتاهة، قبل اكتمال نمو أعضائنا، وعقولنا...، بل لأن الاستقامة لا تستوجب إلغاء هذا الحفل وهذا الاحتفال!
ـ صحيح...؟
وأضافت النعامة بشرود ساخر:
ـ عيد الموت، كعيد الحب، ما أبهاه...، كما قالت السيدة الناقة الموقرة، قاهرة الرمال، السفينة التي اجتازت أغوار البحار وهمست بشجن: تأخرنا! فهي التي لديها رهافة المرور، وحسابات الخسران، والمنافع.
ـ لا...، أنا لم أبح، ولم اهمس، ولم افتح فمي، مع إنني اقدر لك ثناءك لي بعبوري الصحارى، وتجلدي، ولكن ما النتيجة، يا ذات الرأس المحير، سوى ان المقدمات تكاد لا تحتفل إلا بالمزيد من فجواتها..؟
اصطدمت بالجميع موجه من الموتى، ومن المخلوقات الافتراضية، الذين ولدوا وماتوا في عصر الفضائيين، وهو عصر الفجوات، والفراغات، وكانوا يدندنون، بصمت ذبذبات جاذبة للأصوات، عملها كالثقوب السود:
فضحكت سلحفاة عرجاء كانت تمشي بمساندة قرد أعرج:
ـ لا البراكين، ولا الزلازل، ولا الطوفانات، ولا الحروب الناعمة، الماجدة، ولا الانتصارات الباذخة، ولا ما لا يحصى من سفك الدماء، والمذابح المباركة، استطاعت ان ترجع حديقتنا إلى زمنها الوقور!
ـ جميل....، تعبير موفق، متميز، أنيق: زمنها الوقور؟
فصاح القرد الأعرج متذمرا:
ـ حتى أزمنتنا العمياء سرقوها منا ...، بعد احتلال الغابات، والبحيرات، والأنفاق، والمغارات، والكهوف، والمستنقعات...، ولم يتركوا لنا الا الحدائق!
فقالت السلحفاة:
ـ ونحن لم يتركوا لنا القليل من المياه الاسنة، غير الصالحة حتى لغسل الموتى...، السوداء المشبعة بالمخلفات التي اصبح تصدر فقاعات شذرية كنا نظن انها سحرية...، وقد ظهر إنها إنذارات ما ان تظهر فلا معنى لانتظار ما سيحصل بعدها، فالهلاك آت ٍ من الأمام كما من الوراء، من اليسار كما من اليمين! ومن الأسفل ذهابا ً إلى ما هو ابعد من حافاتها.
ضحكت الناقة:
ـ أنا ولدت من غير ذنب، وسأذبح مكبلة بالذنوب كلها..!
ـ مثل الخنازير...؟
ـ ومن قال الخنزير بلا ذنب...، اقصد بلا ذيل...؟
ـ المختبرات الحديثة، يا سيدتي، كما اختزلت الذيل البشري، إلى ذنب مخفي، ستختزل الرؤوس إلى أقنعة لا مرئية، فلا معنى للولادة من غير ذنوب، أو الموت بعد التطهر منها، فالفجيعة أخذت مداها كاملا ً!
كاد القرد يفطس من القهقهة:
ـ لها الحق التام إنها قالت: تأخرنا.
ردت النعامة:
ـ لا اقصد ما دار بذهنك، أيها الوضيع....، يا صديقي، بل قصدت ان بعض الأحداث تختفي حال ظهورها، فلا اثر ولا ذكر ولا حتى علامة عبور. فهل تقدر ان تنفي وجود ما لا يحصى من الحدائق السعيدة ازدهرت هنا، أو هناك، أو في مجرة أخرى...؟ حدائق عمرتها الأفراح والمباهج والعقول، وليس المحارق، والنكد، وقطع الرؤوس ...؟ كم من الحدائق خربت، واجتث سكانها الآمنين، من البعوض إلى البرغوث، ومن الجراد إلى الجحوش، ومن الليوث إلى فيروسات ما بعد الذكاء...؟ كم، وكم، وكم بحاجة إلى ألكمات كي تبلغ درجة الكمال...، والكفاية، والاكتفاء...؟
ـ أس، صمتا ً يا أختاه، فلا احد ينجدنا لو تعرضنا للعدوان أو الوشاية أو الغدر...، صمتا ً يا أختاه، فالمحرقة تسمع وترى فهي تتفكر بما يدور في فراغات الرؤوس.
تمتم النمر، وقد بدا مثل قطة استحالت إلى فار:
ـ أنا لا أريد ان احرق مراحل الدهر...، فانا كأسلافي، لا نعترض حتى على المعترضين! فإذا كانت خلايانا ملوثة بغبار الجرذان فقد تطهر بمرور العصور واستحالت إلى وحوش أليفة، أنيقة، تجيد الرقص، والوثبات!
ـ لعبة أصوات!
ـ تقصد لعبة صمت. فحتى الأصوات لها دلالة!
بحت السلحفاة ووصوصت:
ـ سأصعد إلى الأعالي منزوعة الدرع..، وااسفاه من غير واق ٍ احتمي به ويحميني من الضربات..!
نهض القرد من الأرض، ومازال لا يقدر منع نفسه من الضحك، واقترب منها:
ـ يا سيدة الأغوار السحيقة، أمنا ...، كم أنت جميلة من غير ملابس البحر! فانا طالما وددت لو رايت شعبنا لا يخفي عوراته! كأنه ولدن من غير اثام، ومن غير موبقات...؟
ـ بالعكس.
اجابت الناقة مسترسلة:
ـ في الحقبة السوداء التي مرت علينا كنت أظن إنني عقيم...، لكنني سرعان ما ولدت ولدا ً أعمى ...، وهو الآن يقف في طابور المكرمين بالبصيرة، وولدت الثاني أعرجا ً، فصار مدربا ً للثعالب، وقد علمها الرقص، والبهلولة، والقفز بين القافزين، واللعب على كل امكر الماكرين، وقد شيد مسرحا ً للمذابح المضحكة، ومسرحا ً آخر للتكفير عن الأفراح، وولدت الثالث فكان سمكة ماتت كمدا ً من شحة الماء، مع ان الغيوم لم تكف عن أمطارها.
ـ جميل...، وهل هناك جمال أجمل من هذا الجمال...، ومع ذلك تجد من يعترض، وآخر يتذمر، وثالث يتمرد، ورابع يعلن العصيان، وخامس يولول، وسادس ينوح، وسابع ينبح، وعاشر يثور....!
ـ نأمل، نأمل إننا سنولد، بعد الحرق، من غير هذه الشوائب...! فلا احد ينوح على احد، ولا احد يسمع عواء احد. وهذا ما بشر به جدي الأكبر وقال لنا: بعد زوال عوامل الزوال سيزول الزوال تماما ً، فلا أوامر بالاجتثاث، ولا قرارات بالإبادة، ولا توصيات بالمحو.
ـ آ ...، اخبرني، وإن كنت من غير آذنين، كيف تسمع؟
ـ يا للاوعي السحيق!
وأضاف بمرح:
ـ جدي حرم علينا استخدام أفواهنا، فرحنا نستخدم الإشارات، لأن عصر العواء انتهى وصار بحكم الماضي.
ـ آ ...، أقول لماذا لم نتحرر من النذالات، ومن الغدر..؟
ـ وما علاقة هذا بهذا ..؟
ـ علاقة ذاك بهذا كعلاقة هذا بذاك..، لأن المطلوب هو بناء هذا الجسر العازل بين الجسور...، فيتم تشتيت المشتت، وتمزيق الممزق! لأن الجحيم له فوائد بلغت الألف...؛ أولها يمتد ابعد من نهاياتها!
اقتربت بقرة وسألت:
ـ جذاب هذا الصمت!
فراح القرد يؤشر بأصابعه ويرسم إشارات في الفضاء. فقالت البقرة:
ـ عصر الصفر! فلا ضوضاء ولا خطباء.
هز رأسه وطار بضعة أمتار في الهواء، فرددت البقرة:
ـ عصر الرقص..، آ ...، تذكرت الأسد الأعور، والفيل صاحب الناب الواحدة، والحوت الأسود بجناحيه الفسفوريتين، ما أجملهما من حفلة تنكرية ...، ارتدى الزعماء فيها ملابس من تم اغتيالهم بعد منتصف الليل، والضحايا الذين ماتوا من اجل الضوء أقاموا أنصابا ً للظلمات، أما القرد الأعرج الذي عمل على إدارة المبغى العام فكرم بوسام الوفاء للرمال....، يا لها من حفلة فاقت حدود الوصف، والخيال.
وانخرطت تنوح وتولول:
ـ لم تدم طويلا ً...، ولم يدم زمنها.
ـ لا تأسفي، يا بقرتنا المباركة، لا تأسفي، فهذه هي قوانين الدورات ...، من الغابات إلى الحدائق، ومن البرية إلى الأقفاص.
ـ اعرف...، قسما ً بالحليب اعرف ..
ومر حمار يتراقص بثلاثة سيقان:
ـ وإن كانت جلستكم سرية ..
صاحت النعامة:
ـ يا نذل...، أتقلب الظاهر إلى باطن، والعلانية إلى ملغزات..؟
ـ سيدتي...، السجلات تقول ذلك!
ـ سجلات من...؟
ـ ذاكرة المؤسسة التي نعمل فيها.
ـ الم ْ اقل انك تعمل هناك...؟
ـ لا ...، يا وردتي، أنا اعمل هنا.
ـ المصيبة حلت!
تدخل النمر:
ـ اسمع، يا حمار الزبل، يا وجه العربات، وحامل النفايات، والباقي تعرفه....
ـ نمر معوق لكن لسانه كلسان غراب البين ...!
ـ حذار ان تمس سيدتنا النبيلة.
ـ اسمع، من لا يخاف، يموت وكأنه لم يولد، وكأنه يولد ويموت ألف ألف مرة، وفي كل مرة، يموت ويولد ألف ألف مرة أخرى...!
ـ تأخرنا! إنها على صواب.
وتمتم بصوت خفيض:
ـ الآن عرفت لماذا لا يرغبون بالذهاب إلى الفردوس، ولا يحلمون بالبنات، ولا بالألعاب البهلوانية، ولا بالشفافية، وبالزمن الناعم....
ـ لماذا...، يا فيلسوف؟
ـ خشية حصول ولادة غير مكتملة ...، لتصبح كحالنا أيها الرفاق!
بكت النعامة:
ـ ولدنا في العصر الذي يموت فيه أكثر من تسعة مليارات مولود في حدائقنا...
تساءلت البقرة بأسى:
ـ هل معلوماتك دقيقة..؟
ـ حصلت عليها من الذاكرة السرية لحديقتنا.
ـ دعونا من النوع البشري المصاب بالجذام الروحي ...، لأن مصائبهم لا علاج لها...، لكن من ذا سيوقف إنجاب الأولاد للموت؟
ـ لا احد.
ـ والمحرقة...؟
ـ لا تكفي ...، ولا الحروب، ولا التلوث، ولا المجاعات، ولا التصفيات، ولا الاجتثاث، ولا....، أيتها الموقرة، حتى لمليء فراغا واحدا ً في صفحات الملهاة. فهناك البحار والجبال والسهول والبراري ...، فإذا تم تحديد النسل، بحكمة، ووقار، فمن ذا سيتحدث عن أمنا الشمس المباركة، لغز بذرة الخلق، ومجدها الدائم ...؟
ـ كأنك تدس السم في الكلمات...؟
ـ رباه....، أيها العلي القدير...، بالعكس، أنا أدس الكلمات في السم! فالهواء أصبح المطهر للعناصر كافة..، فحتى الجحيم ليس الا مجموع فقاعاته المتوهجة.
ـ كأنك تتحدث عن العصور السحيقة، عصور الديناصورات والشركات عابرة القارات...،
ـ وإن كنت ولدت بشرعية المصادفة، من أب مجهول، لكن الرحم الذي تدربت فيه لم يتخل عني ...، فهويتي مرقمة، وأنا غير ضال.
ـ لهذا طردوك من فيلق العميان، ومن طابور الأنذال، ومن البرص، ومن فيلق السماسرة، وتجار الأعضاء، والمفكرين!
ـ ها أنت تتعرضين للجميع، إلا لهؤلاء الفلاسفة، فهل ـ مثل وحيد القرن ـ يأتون إلى الدنيا بأوامر لا تدحض؟
اقترب وحيد القرن منها:
ـ فاسد...، يا ابن الفاسدة، ويا ابن الفاسد...، فما هي الحصيلة...؟
ـ ولد بار..!
ضحك وحيد القرن:
ـ وبعد قليل ....، ستقول بأنك آت من المجرة الزرقاء، وتعضنا، وتنذرنا، فنصدقك ونجري خلفك، ثم تتركنا بعد ان ينتهي زمنك، كي نجد من يصدقنا، فيجري خلفنا، حتى تحبل الأبدية بالعدم، فتلد الوجود. دورات شبيهة بما يحدث فوق رؤوسنا، غيوم سباعية الأبعاد، تجاور ذات الأحد عشر بعدا ً، وفوقها غيوم تبول علينا، فنبتل بها، ونعيّد، لتزدهر الغابات، فتلد البقرة العوراء ابنا أصم، وتلد اللبؤة الفاسدة شبلا ً يدعي ما يدعي من المعجزات، وتلد السلحفاة سحالي وضفادع تنبح، ويلد الغراب عصافير تعوي...، فتكتسح النار الماء، فتذوب الجبال، وينهض كل من باع شجرته، ومغارته، وإسطبله بقرش مثقوب ...؛ ينهضون بصوت واحد...، فتقول البعير للنعامة: اغربي عن وجهي. ويقول الضبع للفأر: اتبعني لعلنا نعثر على أسد ميت. وتقول البعوضة للخنزير: لنحتفل ونغتنم من الخراب قبل ان يخربنا.
اقتربت العقرب منه تلوح بإبرة مفقودة:
ـ لن تذق سمي، أيها الوحيد...!
فقال الكركدن باكيا ً:
ـ أنا لم اختر ان أكون وحيدا ً...، لكن الآثام تراكمت في ّ حتى أنجبتني للعزلة! فانا لا اختلف عن الماموث، ولا عن باقي الوحوش...
ـ تأخرنا.
فقال القرد للنمر:
ـ أنا سمعت جدي الأعظم قال لجدي الأخير: ستشهدون اليوم الذي لا موت فيه، فلا يموت الميت ولا يولد قبل أوانه ...، تأكلون من غير زرع، وترتوون من غير ماء، وتحرقون من غير نار.
ـ هذا هو عام المحرقة.
صاح وحيد القرن:
ـ مباركة أيامك أيتها النار.
ـ اخرس..
سمع البعوضة تتهمه بالخيانة، فرد عليها بتضرع:
ـ لم أجدف...، فانا وافقت ان أولد بلا ذراع، وبلا عقل، من اجل حديقة لا يصير فيها الثعلب قدوة للنعاج، وفارسا ً للقمل، ومغوارا ً للصم البكم والعميان. ولدت كي احشر في هذا الطابور، بدل ان احشر مع اللصوص، والمزورين، والأنجاس؛ احشر حشرا ً بدل ان احشر بحرية الحشر!
هدأته البعوضة:
ـ لا تغضب علي ّ...، فلغز الحياة هو وحده الاستثناء الذي حبلت به أمنا الكبرى: لا تحزن...، فلن يختلط رماد الزاني إلا برماد البتول، ولا تنصهر العناصر إلا بأضدادها، لا تفقد الرجاء، أيها الأعرج، فبعد ان تدخل المحرقة، سيطلب منك الإشراف على ذرية الرماد...!
في طابور العميان، بعد طابور المقعدين، يأتي طابور من فقد رأسه.
فسألت البوم العمياء تمساحا ً استنشق رائحتها:
ـ ما الذي حشرك ِ معنا...؟
ـ ما أدراني...؟
فنطحه وحيد القرن التمساح بقرنه، فصاح الأخير:
ـ آذيتني.
ـ وما الذي حشرك معنا أنت أيضا ً...؟
ـ سألتك لترد بسؤال أيها الملعون.
رفع التمساح رأسه وسأل البوم:
ـ لم َ لا تهرب وأنت تستطيع الطيران...؟
فردت بلا مبالاة:
ـ ألا تراني أعمى؟
ـ آ ......، أصبحت لا أرى، وأنت لا تبصر، ويطلبون منا ان لا نتعثر، وان لا نقع في الأخطاء...، حتى اختلطت علينا الطرق، والدروب، وصرنا لا نميز من يولج بمن، الليل في النهار أم النهار في الليل! وصرنا لا نعرف أهذه آخر مرة نموت فيها أم أول مرة نولد فيها...؟
ـ اخرس! يا ضفدع المستنقعات، كم أنت شبيه بمستنقعك، تولد فيه، فلا ترتوي منه ولا الوحل نفد؟
فتمتم التمساح بصوت حزين:
ـ هذه هي حديقتك؛ لا ماء صالح للسباحة، ولا هواء يسمح لنا بالطيران، ولا شمس تبكي علينا! ومع ذلك تقارني بالضفادع...، وبعد قليل ستوشي بتهمة النذالة...؟
فكرت البوم بصوت مسموع تخاطب الكركدن الأعمى:
ـ ظننت انك لحقت بجدنا الديناصور الأعظم...؟
ـ لا تتعجل..، فالمحرقة لن تغلق أبوابها، على مدار الزمن، ولن تتعطل...، فإذا كانت الديناصورات لم تنج منها أتعتقد إننا حضينا باستثناء؟
ضحك البوم قائلا ً:
ـ لم يرها، ولم يسمع عويلها، ولا أزيز جمرها، ولم يستنشق عطر أجسادها، ولم يتلمس ذرات دخانها...، ولم يذق مرارة من مات كما ماتت السرطانات والديدان من غير الم ْ...؟
رد التمساح:
ـ كم كانت قاسية معنا...، نمشي فندك الأرض دكا ً، فتهرب منها أعتى الضواري، وأشرس المفترسات...، وما ان نعثر على بركة أو جدول أو حفرة حتى ترانا نغطس ونتوارى في وحلها...، كم كانت تعاملننا من غير رحمة، مع إنها كانت تسمع وترى...؟
ـ هل ولدت، مثلي، أعمى...؟
فقال جحش أعمى ظل دربه ما بين الطوابير، والمجموعات، والفيالق:
ـ أينما أولي أشم رائحة الأنياب تمزق لحمي ..
فقال التمساح:
ـ ما الذي أتى بك معنا أيها الجحش...، وأنت تعرف الظلمات لا ترحم..؟
ـ أستاذ ...، هذا هو الدرب العام، والقانون يساوي بيننا، ثم إننا جميعا ً تحولنا إلى دابات تدب زحفا ً، تزحف زحفا ً فهي من الدواب...، فانا لا اسمع إلا دبيبها...، فأغلق فمك يا رفيقي ولا تدع غواية البصر تحشرك مع العميان...!
ضحكت البوم:
ـ أنا أشم لحمكم! ما أشهاه، كأنه ألذ ّ من قطرات الندى في فجر بارد!
ـ وهل أنت ِ، أيتها البوم، من المفترسات...؟
ـ من يعلم...؟ فانا لم أجد أحدا ً أبدا ً بمنأى عن الشبهات....، وكأنه تطهر من وحلها ومن غبارها ومن أثيرها...؟ فكل من تلتقي به تحسبه خرج توا ً حضرة المدير، معطرا ً بالحرية، بريئا ً من الدنس، مثل من اخترع الغوايات وراح يرم من لم يرمها بالحجر، وبالكلمات! فيخاطبك كأنك تلمس حريرا ً، ثم سرعان ما ينقلب عليك بالوعيد، والثبور...!
ـ الم ْ يقل أحدكم: اعلم العلماء أشدهم جهلا ً...، ولم يقل اجهل الجهلاء احكمهم علما ً!
قالت البوم:
ـ صدقت، يا احكم الجهلاء، ويا اجهل الحكماء!
ـ آ ....، أيتها البوم، يا رمز الذل والحكمة، ما الذي جاء بك إلى بلاد الأفاعي، والعقارب، والسيرك، والمستنقعات....؟
ـ حكمتي! فكلما ازددت معرفة أدركت كم ان أغوار الظلمات سحيقة...؟
ـ أيتها الكريمة البصر...، الديك قلب...؟
ضحكت البوم:
ـ وما شأنك بقلبي، أتود مغازلتي، أم لديك نوايا ابعد....، فالذكور ـ كما يقال ـ أعماهم ذاك الشق!
ـ الفتحات يا سيدتي النبيلة...؟
ـ الشق أو الفتحة أو الثقب أو الباب أو البئر أو الدبر أو ...، كلها منافذ للريح!
ـ آ ...، لم اقصد هذا أبدا ً، بل قصدت ان ابكي عندك قبل ان تلتهمني نيران المحرقة...؟
ـ حتى أنت أيها الجحش تطلب الغفران...؟
ـ جدي لامي قال ذات مرة ان من لا ذنب له كأنه ارتكب المعاصي كلها! وجدي هذا هو القائل: ومن لم يأت فلن يغادرها أبدا ً!
ـ غريب!
ـ ما الغريب...، أيتها البوم، فلولا الذنب فما فائدة الغفران...؟
ـ آآآآ.
اقتربت فقمة وتلمست ببوزها درع التمساح:
ـ هل سمعت...، الجحش يولول...، فماذا افعل أنا ....؟
رد التمساح:
ـ لعل الظلمات لديها ما تتنبأ به، بعد ان فاض الضوء بأسراره ونثرها علينا!
ـ وهل سمعتها باحت، أو تكلمت...؟
ـ ألا تسمعين هذا الأنين....، لا أول له كي تكون له نهاية، ولا خاتمة له كي تكون له مقدمات....؟
ـ سمعت احدهم يقول إننا أصبحنا نمشي في جنازة سيدتنا المستشارة؟
ـ لا...، لم يصبها العمى بعد...، مع إنها كانت رأت المشهد كاملا ً..!
ـ يقولون: انك وجدت كي لا تعرف، لأن المعرفة هي وحدها كالظلمات لا تدعك تعرفها، فلو عرفت انك لا تعرف فانك ستكون نجوت!
ـ تاهت علي ّ...، بحق الظلمات، وبحق النار والرماد..!
وأضافت:
ـ وبالتراب وما بعده وبما قبله.
ضحك التمساح وسأل الفقمة:
ـ يبدو ان ذنوبك فاقت عدد الأسماك التي ابتلعها فمك الصغير....؟
ـ أقسم لك أنا أضربت عن الطعام، طواعية، وكدت أتخلص من غوايته، لولا أحشائي قادتني إلى غواية الافتراس...، لكن، اخبرني، ماذا سيحصل لنا بعد ان نتحول إلى رماد...، ماذا بعد الرماد...؟
أجاب بثقة:
ـ ستعود عناصرنا للعمل بحسب برمجتها الكلية....، فمن أنا كي أبت بقضية خارج حدود عقلي هذا الضئيل...؟
ـ أأنت تفكر...؟
ـ لا...، سمعت العميان يقولون إننا سنولد بعيون تبصر وبقلوب ترى وبعقول تدرك!
ـ يا للمصيبة...؟
ـ لا مصيبة...، فما بعد الرماد يماثل ما قبله...، فماذا فعل من رآها، كي يكون للعميان كلام...؟
خفتت الأصوات، مندمجة بصمتها، درجة ان عددا ً من الفصائل، والأنواع، مرت من غير صوت، ومن غير صمت، باستثناء هالات أطياف راحت تحّوم وتتحول إلى ذبذبات لونية رمادية تداخلت من خلالها دوامات الغيوم ممتزجة برذاذ الأرض وغبارها.
ومر فصيل الكائنات اللا مرئية، تبعه آخر حمل لافتة "آتون" دالا ً على انه لبى طوعا ً القدوم من المستقبل نحو الماضي عبر الجسور ما بينهما.
ـ هنا ليس إلا لدينا إلا هذا الذي يبقى لا يحمل إلا أوهام المجد..
ـ ربما على العكس...، هو الذي نسج مجد الوهم، وخصائص سرابه.
هامسا ً للكائن الآخر المكعب الذي راح يهز رأسه الاسطواني الكبير:
ـ حتى لم يتركوا للوهم أثرا ً له..
ـ لا الوهم صاغ مسيرته، ولا المجد تقدم خطوة في المعرفة.
ـ كلاهما شبيهان بما حصل للأنواع عبر دورة الحياة وما بعدها، لا احد تقدم على الآخر: لا الوهم باح بسر ديمومته، ولا المجد تخلى عن تخطيه حدود الوهم.
خفض المكعب رأسه الاسطواني الكبير وتركه يكف عن المراقبة:
ـ مازالت الأدوات ذاتها محكومة بأنساقها...؛ البغضاء، النذالات، التشهير، وسفك الدماء.
ـ مجد الهواء العابر للأوهام، وعظمة السراب العابر للخلود.
ـ أيها المكعب يا ذاتي الأبعاد لم تتقدم إلا قليلا ً بالعبور إلى المعنى.
نبه الآخر:
ـ حذار من الانجرار إلى دينامية الترابط....
ـ كله، للأسف...، أو من غير أسف، يجري في السياق...، فلو تحقق وهم المجد، لكان علينا ان نجد أدوات ولغات جديدة.
ـ آ ....، حتى خسائرنا سلبت منها، فلا الأقوى تقدم خطوة، ولا الضعفاء صاغوا شيئا ً يعتد به...، الكل مع الكل مثلما الكل ضد الكل.
ـ الم ْ نمح ذاكرتنا...؟
ـ تقصد: الم نولد من غير ذاكرة...؟
ـ وقلنا: لأن هذا الذي ينبثق لا علاقة له بالغوايات، فكان يتحتم علينا ان نتطهر من لغز التراكم...، وهو يحدق في أبدية العدم...؟
ـ أسرع.
ـ أسرعي!
ـ فالحركة وحدها مشفرة بمحو علاماتها. لا اثر يخلف اثر مروره...، ولا للمرور ذاكرة اثر.
ـ كي، للأسف، أو من غير أسف، تأخذ الخلية دورها بين الخلايا...، هذا يتشبث بوهم القانون، وجبروته، وذاك بالقانون يعيد برمجة أمجاد هذا الذي أثره يمحو خطاه ويتقدم، يرتد، متمما ً كل ما حسبنا إننا توقفنا عنده.
ـ أسرع.
ـ أسرعي.
ـ فأكثر العقول تبقى تنحني للريح..
ـ آ ....، ها أنا استنشق عطر الأثير، عطر العدم الأبدي.
ـ دخان المحرقة.
ـ مجدنا الذي شيدناه بأبرع العقول، بالحجارة وبأنقى المعادن، بالإرادات والتحديات، بالجنون وبالحلم، بالقسوة وما بعدها!
ـ بوعيك هذا ...، تكاد تفسد وهم المجد....؟
ـ لا ...، بالوعي امنح المجد انتقاله إلى ما بعد الوهم، وابعد من حافات خسائره، وأوهام مكاسبه.

ظهرت غزال في طابور الموتى، للحظات، واختفت، فأثارت لغطا ً، هو الآخر، تلاشى بحدود زمن زواله.
ـ كأن انقلابا ًوقع في حديقتنا...؟
وأضاف الدعلج يخاطب هيكلا ً عظميا ً ناقص العظام، هو كل ما تبقى من الحيوانات عديمة الاسم:
ـ المشكلة ان الذاكرة لا تسعفنا في المعرفة ...، فاخر طوفان حصل هنا لم يبق، بعد آخر حريق، شيئا ً من حديقتنا.
اقترب منهما اخطبوط خرج من مدافن المحيطات:
ـ دعونا نفهم ... ما يجري، أولا ً ..؟
ـ بالضبط.
أضاف الدعلج:
ـ هذه هي المرة الألف التي يتم استدعائنا فيها ..
تساءل الذي بلا اسم:
ـ هل أدليت بالمعلومات ..؟
ـ سيدي، الحاسوب العملاق ذاتي الذكاء لا يسمح بالتمويه..، ولا بالاحتيال، ولا بالغش، ولا بالخداع...، حتى لو كان سهوا ً بريئا ً...، فنحن جميعا ً لم يسمح لنا بالموت من غير ذلك...، فمن لا يمتلك الوثائق لا يحشر مع احد..، هذا كان له وجود أصلا ً...، فالقضية في الأساس غير قابلة للنقاش ولا للجدل...!
ـ أكيد.
وأضاف الدعلج:
ـ في عصر الذئاب والنمور والتماسيح كانت الحياة سلسة، بل يمكن القول انها كانت ناعمة!
اقترب عجل منهما ولم يتكلم. فقال الدعلج:
ـ لا تخجل ...، كم مرة سلخ جلدك ...؟
ـ أووووووه ...، لو قرأت كتاب " تاريخ الجلود عبر العصور" : لكنت مكثت في قبرك!
ـ يا صديقي، يرد في كتاب "أصول الحضور في فروع الغياب" تعبير يقول: لا تحص ما دفعت بل تأهب للدفع!
ـ عدنا إلى ما تحت المغطس...، المال..، والبنون..، عدنا إلى: المجد!
ـ بالمناسبة إن عدت إلى الموت فعليك ان تدفع ضريبة الهواء...، وإن عدت إلى الحياة فعليك ان تدفع ضريبة المحرقة!
ـ عدنا إلى عصر الأوثان.
ـ المال والقبور.
اقترب حصان اسود يقف فوق رأسه غراب ابيض:
ـ كل الحروب التي خضتها انتهت بانتظار حروب الحسم ...
ـ ها، ها.
ضحك الدعلج، فقال الذي بلا اسم:
ـ عندما كنت اعمل في المعارضة، لم أكن متهورا ً، أو إرهابيا ً، ولم أكن عدميا ً ولا مصابا ً بطفولة اليسار، بل كنت مولعا ً بالموسيقا...!
سأله الحصان:
ـ آ ....، أتتنصل من شبهة التحريض على التمرد واستخدام العنف؟
قهقه بغل كان يقف بجوار الإخطبوط:
ـ أنا شخصيا ً لم اعد افهم لعبة استدعاء الموتى، ثم إعادتهم إلى الموت؟
ـ سيدي، رأس المال وحده لا ينفد. الكل يكدون ويتعذبون ويرحلون الا هذا الذي يتراكم....!
ـ اخبرني...
سأل الحمار:
ـ هل ربحت شيئا ً؟
ـ سيدي، في الماضي السحيق، وقبل بزوغ عصر الحدائق، كنا نعمل في الحقول، ونشارك البشر مصائرهم...، فلم نربح إلا ساعات النوم وقد حشرنا مع رفاقنا الماعز والنعاج والجاموس والجمال والبغال...، ثم، بعد عصر الفتح الأعظم، والفتوحات الغادرة، وما خلفته الكوارث، منذ أرسلت الإله الفأس إلى البشر وصولا ً إلى زمن الحواسيب العملاقة ذاتية التفكير، لم يعد لدينا ما نخسره، فلم تكرمنا السكاكين بقطع رقابنا، بل أصبحنا مخلوقات للتسلية، تارة نتسلى بمرور الناس، وتارة يتسلون بنا..!
ـ جميل...، فرصة نادرة للمقارنة، وليس للمفارقات.
ضرط الحمار، فقال له الحصان الأسود:
ـ آه لو كان سمعك الغراب الأبيض لكان بال عليك...؟
ـ سيدي..، قبل ان اصلب، في آخر مرة، في الطريق العام، وقبل ان يوزعوا لحمي على الجياع، والفقراء، في عام القحط والحصار الغادر، سمعت دويا ً رجّ الدنيا كلها، فسألت السكين التي كانت تعمل في لحمي: هل بلغ المجاعة حد توزيع لحمنا مجانا ً؟ فقالت السكين لي: اسأل يا عزيزي الحمار مولانا؟ فسألته: غريب أمرك، تذبحني أنا المسكين المستضعف ولا تقطع اليد التي لا تعمل؟! ضحك مولانا طويلا ً وقال يدفع عنه التهمة: أنا يدي تعمل...! فضحكت حتى كدت اجن ضحكا ً: آن لك ان تقطع رقبتي وتوزعني على الفقراء...!
فسأله الحصان الأسود:
ـ وماذا حصل بعد ذلك...؟
ـ جمعوا عظامي وأرسلوها، مع النفايات، ومع ما تبقى من جثث الحرب الأهلية، وعديمي الأسماء، والمجهولين، إلى المحرقة!
هز الحصان رأسه وسأل الدعلج:
ـ ماذا تقول...؟
ـ أنا جئت أراقب الوجوه الحاضرة لعلي اعثر على من قتلني! لأنني غرست أشواكي فيه حد الموت!
ـ لا تكذب علي ّ، كيف مت إذا ً وأنت قلت انك كنت قتلته..؟
اعترض الحصان:
ـ المشهد ذاته حصل معي أيضا ً، فعندما كنت أدوس على رؤوس الهالكين والهالكات إبان الفوضى العظمى لا اعرف كيف وجدت راسي بين رؤوس الموتى تحت الأقدام..؟
ضحكت سمكة بلورية كانت تحوّم مع ترليونات الأسماك الملونة:
ـ تتحدثون عن أنفسكم...، أما نحن، فكنا نموت لنولد، ونولد لنموت، بإلغاء المسافة بينهما! وها انتم تشاهدون طابور الأسماك العملاقة، وفيلق الحيتان الأسطوري، يزحف، وهما منكسي الرؤوس، لا أذل منهما...، لكن هذا لم يحصل إلا بعد فوات الأوان، من ناحية، لأنها مازالت تود لو أشبعت غرائزها من لحومنا الملونة، من غير رحمة، من ناحية ثانية!
ثم استرسلت:
ـ لكن زمنها غدا بحكم الجوارح المنقرضة...، فأوامر قائدنا النمر، بعد ان انتزع حبل السلطة ومفتاحها من الأسد، وبعد رحيل سيدنا الكركدن، أمر بمحو الأعراف والقوانين الجائرة، فشطب، بشجاعة ذئب جريح، نظام: الافتراس!
ـ جميل...، لم اشعر بالسعادة كما شعرت بها في هذا الزمن الناعم، الشفاف.
ـ خسارة!
فقال الحمار مولولا ً بخجل:
ـ لكنكم لا تعرفون ماذا حصل بعد ان ولدت، وبعد ان صلبت في بغداد، وبعد ذبحي، وسلخي، وتوزيع لحمي للعاطلين عن العمل...، لقد أعادوني إلى المدينة، إلى بغداد، اجر العربات، كي امضي عمري كله معاقبا ً بحمل الأثقال...، مثل المدعو سيزيف، يحمل الصخرة إلى أعلى الجبل، كي تسقط إلى القاع، ليعود يحملها إلى الأعلى مرة ثانية، والى الأبد، حتى قالت له الصخرة، بعد ان شعرت بالعذاب: متى تكف عن معاقبتي؟ فذهل سيزيف وسألها: من يعاقب من؟
ابتسم الدعلج:
ـ للأسف ولدت في زمن العربات..!
ـ نعم، سيدي، وعندما كنا نفطس، كانوا يتركوننا للضواري.
وأشار إلى الضبع الواقف بجوار الغراب الأبيض، وبجانب الاخطبوط الذي مكث صامتا ً:
ـ لكن هذا الحيوان ...، وأنا ميت، بدل ان يتلذذ بلحمي، ويشبع مني...، راح يقبلني بشغف ولذّة من فمي العريض، تاركا ً قضيبه يخترق لحمي، ومن الجهات كافة، بلا حياء، وبلا أصول، واحترام للتقاليد، والنواهي...، ان هذا ابن الزانية ـ وهو يتذكر الآن ـ قلت له: لا تفعلها، لا تدنسوا شرفكم، ولا تدنسوا حمير البساتين، والمزارع، والمدن، بهكذا نجاسة! لكنه لم يستح، ولم يخجل، ولم يندم، فنادى على الضباع، والكلاب، وبنات أوى...، فصرت بنظر نفسي مثل حكومة شفافة!
ـ وبعد ذلك؟
ـ بالت علي ّ الجرذان.
ـ لا، لا اصدق ذلك...، ان تذل حميرنا بهذه الوقاحة.
قال الضبع:
ـ للخطيئة أعذار...، فأحيانا يجوز أكل لحم الميت عند الضرورة القصوى.
صاح الحمار:
ـ ولكن من أجاز نيك الميت؟
ساد الصمت فترة غير قصيرة. فسأل الحمار الحصان:
ـ اخبرني، يا من كف عن الصهيل، ماذا بعد الغفران...؟
صرخ الحصان بصوت متقطع:
ـ أنا فعلتها......، لكن لمرة واحدة!
ـ لا، بل أنت فعلتها آلاف المرات...، وإلا من أين جاءت هذه البغال، هل هبطت من زحل أم من المجرة السوداء...؟
ـ أرجوك ...، لست أنا من ارتكبها وحده....، وإذا شئت الدقة: أذهب واسأل أمك العذراء...؟ الم تكن زانية...؟
ـ آ ...
تأوه الاخطبوط ولم ينبس بكلمة. فأومأ الدعلج بضرورة الركون إلى استخدام العقل. لأنه ـ قال ـ صدرت الأوامر بإعفاء الموتى من العقاب على مراحل، بل..
وأضاف بصون نشوان:
ـ دفعة واحدة.
متابعا ً:
ـ من غير سلخ، وحرق، وشوي ... ففي المحارق الجديدة، كالمسماة بمحرقة النعيم، والمحارق الناعمة، والأخرى البلورية، وسواها عديمة الصوت، ستتحول أجسادنا إلى هواء بلا ذرات، أي بلا وزن، أي، يا سادتي: بمجد الصفر الخالد!

ـ هل هذا هو العدد الحقيقي...، للراحلين، وللذين هم على قيد الحياة....؟
وسأل المشرف العام، مساعديه:
ـ هل جرى حساب الذين هم لانتظار الولادة...؟
رد المساعد المسؤول عن الزرائب:
ـ بل حتى أحفادهم وصولا ً إلى الجيل المحتمل الذي شهد نهاية عصر الحدائق...، وأنا قلت: شهد ...، ولم اقل سيشهد...، لأن برنامجنا ً كان قد اعد على مسافة الزمن كاملة!
تساءل المشرف:
ـ لكن الأعداد التي لدي ّ، رغم إنها تجاوزت عدد المجرات، والنجوم، والكواكب ـ الموازية للزمن ذاته ـ مع حساب أصحاب الخلية الواحدة، ومن هم قيد النشوء...، ومن رحل مع رحيل حديقته....، إلا إنني سأبقى مسؤولا ً عن العدد غير القابل للزيادة أو للنقصان.
ـ سيدي ...، لقد جرى الإحصاء بحساب رصد كل ذرة ذاتية الأداء ـ والامتداد، من الفيروسات إلى اللاعضويات إلى البكتريا وصولا ً إلى الدولفين...، وأحصينا الحشرات والقوارض والأسماك والديدان ....، وفق قانون: لا زيادة ولا نقصان في العدد.
رد بصوت لا يخلو من الشك:
ـ أنا لا أتحدث عن شهادات الميلاد والموت...، فالجيل العاشر من الحواسيب لا يمزح، بل أنا أتحدث عن استحالة إحصاء من هم لم يرو النور أبدا ً...! وليس عن الذين هلكوا هنا وهناك، ومن هم خارج الإحصاء...؟
فقالت مساعدته الافتراضية:
ـ مع إنها كانت مهمة تجاوزت المستحيل...، إلا ان إعادة الحقوق كاملة جاء بمضاعفة العدد الحالي بزيادة تتناسب مع دينامية الاحتمال ....، فلا أخطاء ولا إقصاء ولا سهو بعد حشر كل من هو بحكم إلى موجود؟
أيدها المسؤول عن الرماد:
ـ بالإمكان حسم الجدل، سيدي، بحساب الوزن البلوري للرماد...، فليس لدينا ما يدعو إلى الشك بوجود نقص حتى بحجم جناح ذبابة! أو مجس جرثومة، أو منقار عصفور ...، فلا هارب، متسرب، متستر، ولا متخاذل، متمرد، ومن المستحيل إضافة اسم واحد حتى بدافع الإجلال أو التكريم!
ـ أحسنتم.
وأمر:
ـ آن ان تعمل المحارق كافة ...، وفق نظام الاكتفاء الذاتي، واستبدال السقوف العليا بغيوم بلورية ...، فانا اشتقت لسماء لا مرئية تسر كل من امتد زمن انتظاره.
ابتسمت المساعدة الافتراضية بجذل:
ـ ليس ثمة زمن يمتد أو يرتد، سيدي، بعد شمول المخلوقات كافة بالبرمجة الموحدة للكائنات التي لم تعد لديها ما تنتظره.
بعد لحظة ترقب، وجه سؤاله إلى الجميع:
ـ ينتهي عملنا بنهاية العدد...، أليس كذلك؟
أجاب المساعد الأول:
ـ ولأن العدد، سيدي، تام، فليس هناك زمن بالإمكان حذفه أو إضافته.
ـ بالإمكان القول ان مهمتنا قد تمت من غير إخفاق حتى بحدود ذرة...؟
ـ ولا بحدود العامل المساعد لها كي تصبح خلية أحادية!
فهتف:
ـ المجد للدقة، وللدقة، ثم الدقة...، ولتذهب احتمالات الإضافة، والحذف، إلى المحرقة.
ـ أين تراه توارى...، التمثال؟
ذلك لأن الذئب لم يجد أحدا ً يفضي له بما دار بباله، عدا الغزال التي وجدها تمشي بجواره، في الطابور المختلط، ثملة برائحة البرية، دار بخلده، فاقترب منها، رغم شرود نظراتها. فخاطبته الغزال:
ـ عن أي تمثال تتحدث...، ونحن نقترب من بوابات الدخول الى الساحة الكبرى...؟
ـ لم اعد أتذكر...، ولكنني طالما ابتهلت إليه وقد كان يرتفع عاليا ً حتى كانت الغيوم تلامس قدميه من الاسفل، وكنا نراه من الجهات كلها، وهو يرانا ايضا ً..؟
ـ آ ...، تذكرت، كان هذا قبل الزلزال الاعظم، لجدتنا اللبؤة الكبرى؛ امنا وام هذه الانفس الضالة، التي وجدت مصيرها اخيرا ً داخل هذه الاقفاص، او وزعت على الحضائر، والزرائب، وباقي الاجنحة..؟
ـ كأن الزمن غدا مثل رماد كتاب علينا ان نعيد ترتيب صفحاته...؟
ـ هذا ما خطر ببالي منذ فجر هذا اليوم...، لكن ما معنى ان تقرأ...؟
ـ ان تفهم.
ـ وما معنى ان تفهم...؟
لم يجب الذئب، فابتسمت الغزال، متابعة:
ـ انك لا تمتلك الا ادوات عمياء لسبر اغوار الظلمات...، فان تراجعت ولم تقرأ، تواريت، وصرت نسيا ً منسيا ، وان تقدمت، وقرأت، سمعت المتاهة تناديك: تعال يا ولدي الضال..، وإن مكثت تتعثر، فانك لن تدرك الا انك لم تدرك شيئا ً.
ـ أين شرد ذهنك..؟
ـ لم يشرد...، أنا ايضا ً سحرني التمثال واثار دهشتي، اعجابي، فوقفت امامه كما نحن بانتظار هذه الخاتمة.
ـ آ ...، كدت انسى، الا تتذكر انه كانت ينادينا في الفجر، فنسيقظ، مهرولين، لاداء ما كان يطلبه منا..؟
ـ انك لا تتحدث الا عن هذا الذي وجد بمعزل عن وجودنا! هل تتذكر كيف اصطدتني عند نبع الماء...، أنا استغث بالمتثال: ايتها الجدة العظمى غزالك اطبقت عليه الانياب، غزالك نهشته الظلمات....، لكنها لم تجب، وانت لم تفتح فمك. فقلت مع نفسي: لا جدوى من الاستغاثة. لكنني في الليل لمحت اطيافي تتنزه تائهة في البرية، فغسلتها، وجلست اراقب ما كان يحدث.
قال الذئب بصوت مرتجف مذعور:
ـ دعيني اتقدم بطلب الصفح، والغفران...ن فانا لم اكن اقصد ايذاءك؟
ـ اعرف ...، قسما ً بالاسلاف والاجداد وبالحدائق، قسما ً بالمحرقة التي لا احد ناج منها، اعرف انني انا ايضا ً لم اكن اؤذي العشب، ولا الحشائش البريئة!
ـ ماذا تقصدين...؟
ـ واحدة بواحدة!
اقترب منها فلم تهرب، فسألت الغزال الذئب:
ـ بعد ان اطاه الزلزال الاكبر بالنصب، وساوه مع الارض، وصار غبارا ً...، الم يشيدوا اخر ...؟ الا تتذكر الكلمات التي نقشت في اسفل قاعدته...؟
فقال بصوت مرتجف:
ـ أنا نقشتها بنفسي!
وراحت تقرأك:
ـ الحديقة من غير مدير كالمدير بلا حديقة. لأنك كنت استنسخت الشعار الأقدم: القطيع من غير راع ٍ مثل راع ٍ من غير قطيع، المستنسخ عن: ارض بلا دابات كالدابات تائهة في المنافي..، والمستنسخ عن: الآلهة بلا أبناء تفضي إلى: أبناء بلا آلهة...؟
ـ من هذا الذي يتكلم...؟
ـ رمادنا...؟
ـ لكننا لم نحرق، لم وتلتهمنا النار ولم تسوي حسابها معنا بعد...؟
اقتربت منه هامسة:
ـ من أنا....؟
ـ للمرة الألف طلبت منك الغفران، فانا أذنبت.
فقالت بصوت سلس:
ـ لم اكن ابحث عنك من اجل انزال العقاب فيك، انما لتدرك انني انا هي التي وضعت في موضع الغواية...!
آ ...، عدنا الى: من افترس من: الليل ام النهار..؟
ردت بمرح:
ـ لم َ لم ْ تقل: من حبل بالاخر...، فكل منهما خرج من الاخر. فهل شيّد التمثال نفسه بنفسه ام وجد من شيّده...؟
سكتت. وهو لم يتكلم لفترة طويلة. فهمست:
ـ لا انا بريئة، ولا انت مذنب، كالقول: لا انا شريرة ولا انت حمل وديع!
رفع رأسه، وسألها:
ـ عدنا الى سؤالنا: اين توارى التمثال...؟
تمتمت وهي تبتعد عنه:
ـ بعد ان نغادر هذه المحرقة، يا سيدي، سيختلط رمادنا، فلا تعرف رماد من هذا ورماد من ذاك، وذلك لاستكمال الحلقات التي تؤدي فيها ذراتنا فيها ادوارها...، فمن كان اكثر اثما ً، ومن كان اكثر براءة، وحده يمتلك لغزه، فلا تجد اجابة، مثلما لا تمتلك الادوات التي تسمح لك بالفهم، فانت قد تكون ولدت غزالا ً، وانا قد اكون ولدت ذئبا ً، او اكون انا هي الليل كي احبل بك واضعك وليدا ً عند عتبات الفجر ...، فنجرجر، مع الاسرى، والمشردين، والتائهين، والمنبوذين، وتقذف في النار...، وهذه حكاية ترجعنا الى اول الخلق، لا انت حصدت ما زرعته انا، ولا انا جنيت شيئا ً من آثامك التي ارتكبتها. فالحديقة من غير محرقة، شبيهة بتمثال يضطر للهرب بحثا ً تابعين يصنعون منه ذئبا ً...، لتسجد له الغيوم، الطيور، والضواري...، ثم تأتي العواصف، لتهدمه، لنبحث، جميعا ً، إبان المحنة، عن عزاء، أو مخلص، أو عن نار تنسج نسجا ً يذهب ابعد منك، وابعد مني، وابعد منا جميعا ً.




همست بعوضة وجدت جسدها يتحول إلى مكعب، إلى خرتيت بجناحين شفافين، كلاهما تقدم طابور رفع لافتة: من المنقرضات إلى الحواسيب نذور وقرابين:
ـ المشكلة، كلما أعدنا قراءتها، تجعل اللا أشكال مثيرة للاحتمالات الأكثر توازنا ً مع عملها الدينامي، فالاندماج يمتلك آليات عمله كأنه يجعلها ملغزة عبر علاماتها المباشرة، فلا أسرار، ولا مشفرات...، حتى ان ما دار حول الغوايات ليس أكثر من فعالية للمرور...
ـ سيدتي البعوضة، بتحولي من خرتيت انتهى عمله إلى مستطيل لا نهائي النهايات، جعلني أتحول إلى سطح طائر مجوف...، ومقعر، والى قوة منسحبة نحو داخلها من غير خلل في الامتداد.
دوى الصمت فتقلصت الأشكال إلى حبيبات ملأت مساحة الطابور خارج مدى المراصد المراقبة، فتسللت اللا مرئيات خافتة متراصة تؤدي عملها بسكينة، مع الطابور. فجأة عزف نشيد: امض كأنك لم تأت. فأومأ الخرتيت للبعوضة ان تدخل في حضرة الاندماج، من غير تذمر، فلا معنى، ولا فائدة، من مغادرة اللا زمن:
ـ أصبت...، يا سيدي، ولكن ما شغلني في هذا الاستدعاء، إننا كنا بانتظار الدعوة، قبل ذلك بدهور.
هز رأسه بنشوة من استعاد ذكرى ألوان خلفتها البراكين:
ـ حمراء مشوبة ببياض استثنائي حتى إنني أغفلت زمن زوالنا الأعظم...
اندمجت المكعبات بالدوائر وامتدت سلسة تتموج وقد تحولت الى مثلث كبير:
ـ الشكل ذاته أصبح هرما ً أعلاه لا مس حافات المجرة وقاعدته حثت فوق محيطات المجهريات الرمادية.
ـ دوّنت ذلك في الفجر الأكبر.
هز رأسه وترك مجساته تبحث عنها:
ـ أين أنت ِ...؟
ـ أتتحدث مع غائبة اكتمل زوالها، أم مع زوال لبى نداء الرماد...؟
ـ لا احد يقدر على تجاهل الأمر، فالحتميات تستند إلى التأويل أيضا ً...، مثل شبح طليق يصعب تحديد زمن غيابه.
تجمد للحظة، ثم وجد كيانه تحول إلى دوامات معزولة، لا مرئية، لا مسها، مندمجا ً باستطالات ذات نهايات دائرية، لها رنين الصمت قبل انبثاقه:
ـ اتبعني...، لا تغرد منفردا ً.
ـ بحثت عنك ِ طويلا ً فلم أجدك.
ـ لا وجود لي من غير وجودك، فانا وأنت كائنان مركبان يكتملان بالنفي.
ـ دعك من الغواية، فلا فائدة من المشاعر..، فبعد ان جرفنا المحو لم يترك لنا سوى هذا المجد...
واسترسلت بالغناء:
ـ من سواحل البرغوث إلى قصور القمل...، أرواحنا فداك...
فهمس مذعورا ً:
ـ يقولون ...
لم يجد ضلعا ً متصلا ً بآخر، كي يمسك بالهواء. ولم تعد لديه قدرة رؤية امتداد الطابور خارج مدى الأشكال. لكنها أومأت له ان الأمر ذاته طالما تكرر:
ـ انه ضرب من السراب ذهب ابعد من حافاته...
تحول جسده إلى اسطوانة رأى ذبذباتها تبتعد عنه، فراح يتدحرج مندمجا ً ومترددا ً بينهما:
ـ فانا أصبحت خارج الأشكال.
فقالت البعوضة بوضوح:
ـ قبل ان تزلزل الأرض، وقبل ان يمحونا البركان الأعظم...، وقبل ان تمتد العصور الجليدية حتى أفاقت، لبرهة، وقبل ان يعقبها عصر الرمل، بمساندة الأخطبوطيات ذاتية المحو ـ التكوين...، كنا بانتظار عصر الحدائق. كان يوما ً أبديا ً لقائنا، أنت وأنت، وأنا وأنا، عند الفجر الأبدي الأزرق.
تمتم بنشوة:
ـ أمسكت بالمثلث الفائض...، وها أنا اركب كياني لعلي أتقدم قليلا ً بالاتجاه المطلوب...، فتركيب جملة لها معناها غدا كتفكيك اللا معنى في جملة مغايرة، فلا يصح ان أفقدك، وافقد الحديقة، وافقد محرقتنا الخالدة أيضا ً..؟
ـ أنا وجدت راسي يعمل العمل الأزلي: إذا كان المدير غير موجود، ولا احد نطق نيابة عنه إلا مولانا الثعلب، فكيف صدق الثعلب إننا صدقناه، مع إننا أعلنا البيعة قبل ان تطلب منا، وقبل ازدهار عصر ما بعد المراقبة، والاجتثاث المقنن المدعوم بالمباركات الموثقة بالأسانيد ...؟
غابت الاشكال. أين أنت ...؟ لم يجب. فتلاشت نهايات الصمت بحافات الهمس. فثمة طابور اخر كان، هو الاخر، يحمل لافتة" المجد للحدائق" تلاه ثالث هجين، وكان الرابع يهرول في مكانه، فالطوابير لم تخط خطوة واحدة في الطريق العام، فتسمرت، من غير اقدام، ومن غير وجوه واضحة المعالم. ومر موكب من ولدوا بالعبور، واخر بالمرور، وثالث بالاشاعات، ورابع عبر من غير عبور، وقد حملوا قاعدة ركب فوقعا نصب البغل الوقور، وقد وضع فوق عجلة، تدور في الهواء، وتحرسها حواسيب الجيل التاسع، فهز رأسه لبرهة ثم تجمد. تلاه موكب من ولدوا بعد موتهم، واخر من ماتوا من غير ولادة، مندمجين تحت شعار: " محرقة واحدة.. مصير اخير"
سألت دبة بدينة اسدا ً هرما ً كان يمر بجوارها:
ـ ايحصل هذا من غير مدير مدبر جبار ...؟
اومأ الاسد الهرم لها ان تغلق فمها، فالحديقة برمتها غدت عديمة النفع. فكما لم يعد للغابات وجود، فان اخر ايام الحدائق قد دنت.
ـ لا تثقل رأسي بالكلام...، فمنذ زمن بعيد عرفت ذلك...، فانا اطلب منك ان تبهجني!
سمعها شبح لا مرئي، فهمس في اذنها:
ـ الأسد محق!
لكزته الدبة بقوة:
ـ تعني ان الحديقة أصبحت فائضة، وستباع أو تترك تتعفن بمن فيها، أو تمحى من خراطة الوجود...؟
رد الأسد مذعورا ً:
ـ ارفعي رأسك قليلا ً...، أين هي الشمس...؟
ـ حجبت!
قال الأسد:
ـ هذا هو يومها الأخير، سيدتي، وما هذه المواكب سوى جنازتها!
ـ لا جديد تحت الغيوم، ولا في الرمال.
ـ هو ذا يومنا الأخير..!
اقترب الشبح منها، لا مسها، فسرت فيها رعشة من مسه الهواء البارد:
ـ من أنت...؟
ـ شبح الموت أنا.
وأضاف:
ـ فانا هو كفنك الروحي.
ـ ورمادي..؟
ـ سيذهب إلى البعيد.
ـ وحديقتنا...؟
أجاب الأسد الهرم بلا مبالاة:
ـ أية حديقة..؟
ـ هذه التي شيدناها بالدم، والكد، والصبر، أين هي أشجارها، أين هي أزقتها، دروبها، أين هي أقفاصها، نوافذها، أبوابها، أين هم سكانها، غزلانها وطيورها، تماسيحها وثيرانها، نمورها وأسماكها، جاموسها وجمالها، حملانها وذئابها، ثعالبها وقنافذها، هدهدها وبومها، حمامها وغربانها...، أين بني ادم، أين أموالنا، قصورنا، متاحفنا، كنوزنا، وقبورنا...؟
ـ أنا لا اعرف عن أي شيء تتحدثين...؟ وقد أخبرتك، يا سيدي الموقرة، ان الشمس استدعتنا لنشهد يومها الأخير، فانا وأنت من أتباعها المخلصين!
ـ كأنك خلعت قائدنا وانتزعت سلطته...؟!
ـ أية سلطة...، وأي عرش، وأية كنوز، وعن أية حديقة تتحدثين... ونحن في يوم مكفهر من غير لون ولا أصداء...، عدا هذا الجمال البهي!
ـ الجمال البهي؟
ـ اجل سيدتي، كيف لا يكون جميلا ً وأمنا أحضرتنا لوداعها...، وهي تنوح، شمسنا، تنوح، وتولول، وترسل دموعها مدرارا ً علينا بعد ان محت ذنوبنا، وخلصتنا من الآثام وطهرتنا من الموبقات!
ـ والمحرقة....، محرقتنا، التي وعدنا بها...؟
ـ هذه هي عينها، سيدتي، عين الأم الكبرى، عين الغفران والخلاص...!

بحثت عنه فوجدته يتقدمها. فقالت للشبح:
ـ أية روح مرحة روحك! لا اعرف من أين أتيت، ولا اعرف من طلبك؟
لكنها انشغلت بالإصغاء إلى الأسد يخاطب ثورا ً حجريا ً:
ـ هل تخلت عنك..؟
ـ اسكت..، فبعد ان استولوا على غاباتنا، وأسرونا، قادونا إلى جزار لا يعرف الرحمة!
ـ آ ...، بعد اليوم، لا احد يعتدي على احد.
فقال الثور:
ـ صحيح....، فأنت على حق، فقد أوكلت المهمة إلى آخرين!
هز الأسد بدنه، وسأله:
ـ لن تدوم طويلا ً....، فمن قطع رقبتك سيقطع ذيله!
سقط الثور أرضا ً، وكاد يفطس من الضحك:
ـ لقد رأيت، في هذا اليوم، كل من آذاني من الأنذال، الاخساء، عديمي الشرف...، فقلت لنفسي: عيب علي ّ ان أؤذي من سيذهبون إلى التراب، لتبول عليهم الضواري.
ـ جميل.
وأضاف الشبح:
ـ فبعد ان تختلط حبيبات أرواحنا بالظلمات الأبدية، ستبزغ شمس أمنا من جديد...، فلا تراب، ولا مستنقعات، ولا عفن، لا أشرار ولا قتلة ولا لصوص ولا دجالين.
ـ لا تتركني وحيدة!
ـ أتخاطبينني أنا...؟ وأنا هو شبحك، أم تخاطبين هذا الأسد الهرم ..؟
ـ لا أخاطب أحدا ً منكما، فبعد زوال عصر الشمس، ليس لدينا ما ننتظره!
اقترب الشبح منها:
ـ سأصنع تمثالا ً لك أيتها الأم الموقرة.
ـ فقالت بأسى عميق:
ـ أتصنعه من الطين...؟
ـ لا ..، من الرماد.
ـ آ ....، أيها الثور....، أين أنت...؟
أجاب ضبع تائه:
ـ افترسه أسدك!
رد الشبح في الحال:
ـ هذه هي البشارة! فمن لا يموت، سيدتي، كأنه لم ير النور! وقد آن لنا جميعا ً ان لا نتعثر، عند الباب.
ولم يكن رذاذا ً، ولا مطرا ً، ولا غبارا ً...، الذي خيّم على امتداد حلقات الطوابير، والأكداس، والجموع، وحجب أشعة الشمس، وأي مصر آخر للضوء، تماما ً، وحوله إلى طبقات متداخلة مندمجة عديمة اللون، عدا التماعات معتمة شبيهة بالهمسات سرعان ما تحولت إلى إشاعات وهمهمات تتحدث عن ما لا يحصى من الجسيمات والحبيبات المجهولة هي التي حملتها الريح مع الغيوم ...
ـ لا تستخف بما شعرت به، وراودك من أحاسيس، وظنون..
همس الغراب في آذن البوم:
ـ إنها، يا رفيق دربي، العاصفة التي لمحنا أطرافها تقترب منا، عند الفجر...، وأنا أخبرتك بأنها لن تأتني بالمطر، ولا حتى بالرمال!
ـ انظر.
تساءلت البوم:
ـ ماذا تراها تحمل هذه الريح..؟
للحظة شرد ذهن الغراب، ثم تمتم:
ـ هذه هي الصراصير، الشبيهة بالقمل، وكأنها البرغوث أو البعوض...
وأضاف بالشرود ذاته:
ـ أظن إنها تبحث عن ملاذ...!
اقترب الذئب المتسرب من فيلق الذئاب وجاورهما، قائلا ً:
ـ إنها سوداء مكفهرة شديدة الحمرة كدم جاف تحول إلى غبار!
ـ إنها تلدغ، تعض، تنهش، تقرص، ولوخزتها الم حاد.
فسأل الذئب البوم:
ـ ما الذي جاء بك وحشرك معنا، الست ابن الليل....، أم تحسب إننا في عيد..؟
ـ أتحاكمني...، أهذا هو وقت المحاكمة...، أم ان الغيوم راحت تنزل صراصيرها، وقملها، وبرغوثها، وبعوضها علينا بشارة خلاص! آ...، متى أكون كأنني لم أر شيئا ً، ولم تكن لي آذان سمعت بها هذا النعيب. أما العقل فأنت أدرى بغيابه!
ساد صمت، للحظات، فسأل الغراب الذئب:
ـ وأنت ما الذي أبقاك معنا...، الم تتح لك فرصة الهرب والرجوع إلى بريتك، أو اختيار حديقة تحصل فيها على حق العواء؟
ـ فكرت طويلا ً بالأمر....
ضحك الغراب:
ـ وأدركت انك أينما وليت فالجحيم يناديك..؟
ـ تقصد: يطلبني؟
وأضاف حالا ً:
ـ آسف..، يطلبنا. فهنا، أو في أي مكان آخر، تجد أما من يتتبع ظلك، لمحوك، وأما من يطلبك، لسبب ذاته..!
قال الكبش للثور:
ـ هذه العاصفة قد يكون لديها ما تريد ان تخبرنا به.
قال الثور:
ـ الم ْ تعترف، منذ زمن بعيد: لم يعد لدينا إلا ان نشيعها! وها هي تنزل علينا الصراصير والبرغوث والقمل والبعوض.....
ـ أرواحنا أم أنفسنا أم مصائرنا أم ...؟
ـ إننا نشيّع كلماتنا، بعد ان شيعنا أصواتنا...
ـ آ ....، ولكن لا احد يلوذ إلا بها...؟ نولد في الجنازة، ونحملها فوق أكتافنا، كي تودعنا في نهاية المطاف!
ـ آه...، الآن فهمت لماذا لا احد يستحي...، لا يخجل، لا يعرق، لا يرتجف، ولا يخفي وجهه في الوحل. الآن عرفت لماذا تهبنا السماء هذا العار وأفواهنا مازالت تصدح بأناشيد: مديرنا الخالد على مدى العصور...؟
ـ تقصد العكس، يا سيدي، والا ما هبطت الصراصر والبرغوث والذباب والقمل والبعوض علينا كما انزلت من قبل على اسلافنا الضفادع والخنافس والعناكب والجرذان...؟ فالخطباء يرعقون، والوعاظ يحذرون، والحكماء يتشددون، والنمذرون يحذرون...، وذئابنا تقودنا من مطحنة الى اخرى، ومن ليل الى ليل طويل! فويل لمن لا يصغي، وويل لمن لا يسمع، وويل لمن لا يطيع، وويل لمن يغادر الطابور؟
رد الغراب بثقة:
ـ لا ..، أنا رأيتهم يهربون...، يتسللون، يختفون...!
تساءل الذئب:
ـ وأين يذهبون....، والأسوار شيت خلفها أسوار، والسواتر محصنة بالسواتر، والخنادق مطوقة بالخنادق...، فأين تولي فالجحيم لا يكف عن الترحيب بك!
ـ هربوا منذ زمن بعيد...، حملوا معهم ما حملوا...، وباعونا، بعد ان تركونا نتخبط في مستنقعات عيد الاعياد: أمطار تهطل علينا بالقمل والديدان والقنافذ ...، وقد تمطر بالقير والنحاس والحديد!
ضحك الغراب:
ـ وتركوا لنا الكلمات، بعد ان شغلونا بالنباح والعواء والأزيز والشتائم في هذا المستنقع الكبير!
ـ وتركوا لنا التلال، والمدافن، والأطلال، والخرائب...
ـ آ ....، أطلال الرماد...، يا للعظمة: تلال أسلافنا، وأجدادنا...، ورماد من لم يولدوا بعد!
ـ نعم، رماد أحفادنا...؟
غدا الهواء من غير لون: كثيف اللزوجة، ثقيل، وقد تحجرت الكائنات. من ثم انخفضت درجات الحرارة تحت الصفر، وغابت الأصوات، وقيل ان الزمن ارتد فانصهر بالنمل والحشائش والأشجار.
ـ يا له من ليل ...، مغبر مكفهر مرتد ...، لا أصوات ولا كلمات ولا تستنشق فيه إلا لهب غبار الجحيم.
تابع الغراب قهقهاته متلعثما ً:
ـ أكاد اسمعها تقول: من لا يطلبني أنا لا ادعه يغيب!
فقال الفيل للنملة الجاثمة فوق رأسه:
ـ منذ عصر الديناصورات وانت ِ واقفة فوق روحي...، ماذا تريدين مني ...، وماذا تفعلين..؟
همست النملة:
ـ نحتفل!
ـ بالزمن الذي لا يعقبه زمن....، وباليوم الذي يتوقف عنده التاريخ!!
ـ ما هذا القول الحزين....؟ الم نطلب منك ان تشاركنا أفراحنا...، ببدء عصر النمل، بعد عصر القمل والبرغوث والصراصير...؟
رقص الفيل وكاد يسقط من شدة الفرح، وقال:
ـ آن لي ان أستريح!
فصاحت كبيرة النمل:
ـ كأنك مرسل من مجرة الموت...، ما هذا الصوت المدوي، كأنه الرعد الأحمر ...؟
أغلق الفيل فمه، مصغيا ً للثور يخور متمتما ً بصوت مخنوق مقلدا ً صوت البوم قبيل وقوع النكبات:
ـ أينما وليت فلا أجد الا من يشرع لي حفرتي ويدعوني للموت.
استبسل الفيل وخاطبه:
ـ مت صامتا ً، بلا كلمات، ودع روحك تصعد مع رمادك وتغيب.
ـ وهل لدي ّ روح، وهل لدي ّ جسد...، وهل لدي كلمات...؟
قالت كبيرة النمل لنملة تجاورها:
ـ هذا هو عام المحرقة!
فتساءل البوم الذي مكث مصغيا ً:
ـ وعام الفيل..؟
ـ أي فيل تتحدثين عنه، وقد بايعنا سيدنا الثعلب واقسمنا له الولاء ...؟
هز رأسه:
ـ أنا لا أخشى لهب المحرقة، ولا جمرها، ولا نارها البيضاء، ولم اعد أخشى عام الموت، ولا مجده العظيم....
قالت كبيرة النمل لزميلتها:
ـ الفيل استحال إلى ضفدعة، والأسد وجد نفسه تحول إلى فأر، والغزال كشر عن أنياب نمر، والحمل صار تمساحا ً، والكركدن راح يرقص مثل العصافير قبيل الذبح، والثور يخطب ود البغل، والنعامة تلعب النرد من القرود...
قالت الأخرى لكبيرة النمل:
ـ الم ْ أخبرك بهذا اليوم، عندما يأتي الضبع والنسر والدب يتضرعون ويستنجدون ويتوسلون كي نرسلهم إلى .... المحرقة؟
لم يجب البوم، ولا الفيل. الثور حك جلده بجلد أتان هامسا ً:
ـ مازالت العاصفة ترمي بأثقالها...، ولا أمل إنها ستتوقف.
فقال الفيل:
ـ سندفن...، وستدفن المحرقة، وستزول حديقتنا من الوجود!
بصوت مولول أضاف الثور:
ـ ومعها تتوارى الزرائب، والأوكار، والحظائر، والجحور، والأجنحة، والأقفاص...، فلا ثمة بركة، ولا مساكن ولا شقوق، لا حفر ولا ثقوب.
ـ سيقال...، بعد هذا العام، عام المحرقة: كانت هناك حديقة!
أضاف البوم:
ـ وقد استحالت إلى تل بين التلال...، فلا أسد يعوي، ولا نعامة تزأر، لا ضفدعة تغرد، ولا ذئب ينعق، لا كلب يزقزق ولا عصفور ينبح...، لا ببغاء لديها ما تستشار به، وما تأوله، وتفسره، فلا بعير يصهل، ولا دجاجة تطن، لا ذبابة تنوح ولا دب ينهق، لا طير يجأر ولا طاووس ينقنق، ولا محرقة تقول: هل من فائض...؟
ـ لا...
وتابع الغراب:
ـ أنا أرى السيد المدير يبحث عن الممر الذي طالما ساعده على الفرار...، أراه يدور...، والممر يدور معه، لا يلتقيان، لا يفترقان...، المدير يبحث عن المفتاح فلا يجد الباب، يجد القفل ولا يجد يده، يجد رأسه ولا يجد الكلمات، يجد الأخير فلا يجد المسافة، يجد ظله فلا يجد الضوء ...
كادت كبيرة النمل تموت من الضحك:
ـ البهائم مازالت تغزل بالمغازل غزلها، والنساجون بخيوط العتمة ينسجون مناديل المحرقة ...
فقال الغراب لها هامسا ً:
ـ وكم سيدوم عصر النمل، سيدتي...؟
فردت نملة تجاور كبيرة النمل، وهي مساعدتها:
ـ دعيه يدوّن محوه! انه لا يستحق حتى الحرق! فالريح التي هبت ستأخذه معها، فلا حظائر ولا زرائب ولا أوساخ!
هزت كبيرة النمل رأسها، فتزحزح تاج الورد قليلا ً، فخاطبتها مساعدتها:
ـ لن يسقط، وإن سقط فلن يجد إلا راسك يتربع فوقه!
ـ كم دام عصر الديناصورات...؟
فأجابت مساعدتها بثقة اكبر:
ـ أنا سأخبره بالسؤال الذي سيشغله إلى الأبد، من جيل إلى جيل، من الأسلاف إلى الأحفاد، ومن التراب إلى النار، ومن الصراصير إلى القرود، ومن الأسود إلى الطيور، ومن الوحل إلى بني ادم، ومن الزانيات إلى القوادين، ومن الحمير إلى النوارس... ، فانا سأخبره بالسؤال الذي كلما لاح له جوابه سيجرجره إلى ما هو ابعد منه... فلن ادعه يستقر، ولن ادعه يهنأ، سأغويه كما أغوت الأتان الحصان، من الولادة إلى الموت، ومن الموت إلى الولادة ...، سأدعه يحسب السراب حديقة، وادعه يصدق انه سكنها، وذاق ثمارها ...، سأخبره بالسؤال...، كم دام زمن زوالك، كي يدوم الزمن الذي لا يزول؟
1/2/2017



#عادل_كامل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة/ السنوات العجاف
- وصية وقصص قصيرة اخرى
- اعتراف وقصص قصيرة اخرى
- ضحايا وقصص قصيرة اخرى
- في التشكيل العربي المعاصر/ في مشروع سلام عمر الجمالي -تقسيم-
- عدنان المبارك/ من السنما الى مشفرات السرد
- رماد وقصص قصيرة اخرى
- قصة قصيرة/ بانتظار من يعيد القراءة
- قصة قصيرة/ انتفاضة البعوض
- رفاهية وقصص قصيرة اخرى
- المستنقع وقصص قصيرة اخرى
- قصة قصيرة/ تقرير غير مؤكد حول العدم
- قصة قصيرة/ السيرك
- في المكتبة/ اصدارات فنية وجمالية ونقدية
- قصة قصيرة/ التحقيق لم يكتمل بعد
- في معرض طبيعة عراقية/ لا خيار لنا سوى الجمال
- في المكتبة الجمالية/ ذاكرة التشكيل الحديث في العراق [محمود ص ...
- عطر وقصص قصيرة اخرى
- خزافزن عراقيون ابتكارات فنية تعيد قراءة ثوابتها
- ذئاب وقصص قصيرة اخرى


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل كامل - رواية/ جهنم