أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (4)















المزيد.....

فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (4)


محمود الخطيب

الحوار المتمدن-العدد: 5416 - 2017 / 1 / 29 - 05:31
المحور: الادب والفن
    


(4)
كانت منطقة "برّ الياس" البقاعية تشبه ثكنة عسكرية. مجموعات من المقاتلين بأسلحتهم الفردية يتجوّلون على جانبي طريق بيروت - دمشق، أو يقفون أمام المحال التجارية دون غرض. وقد علمت، فيما بعد، أن هؤلاء هم من الذين تقهقروا من جبهة الجنوب، بعد تخلّي قائد القوات عنهم لينجو بنفسه، فهاموا على وجوههم في البراري الى أن حالفهم الحظ بالوصول الى هنا. وهم على هذه الحال لأنهم بلا مأوى وينتظرون قرارات من القيادة بشأنهم. توقفت عند أحدهم وسألته عن مقرّ قيادة القوات، فأشار الى مبنى من أربعة طوابق يُشاهد من حيث توقفت، فذهبت مباشرة الى هناك.
في باحة المبنى، فوجئت بوجود إثنين من كوادر "فلسطين الثورة" ضمن المتجمهرين، هما جلال وراتب. جلال شاب التحق بالصحيفة للتدرّب بعد اندلاع الحرب الأهلية إثر إصابته، في إحدى المعارك، برصاصة في الركبة اليمنى تركت فيها إعاقة دائمة، فصار الشاب، في أثناء سيره، يظلع بساق مستقيمة لا تنثني. وعندما أتيحت لنا منح دراسية جامعية في الخارج أدرجنا إسمه ضمن أسماء مجموعة من شباب الإعلام، فكان نصيبه جامعة باتريس لومومبا في الاتحاد السوفياتي. سألته:
- بعلمي أنت في بعثة دراسية، فماذا تفعل هنا ؟
أجاب:
- نعم. جئت مثل غيري من الطلاب المتطوعين لنكون بينكم. قد تحتاجون الينا. وأنا هنا أنتظر أن يفتح الطريق لأنزل الى بيروت.
فلزمت الصمت خشية أن أجنح في استرسالي الى ما يوحي بالتقليل من قدراته البدنية، لكنه ترك في نفسي تقديراً عظيماً. أما راتب، فقال إنه كان في زيارة عائلته في دمشق، وهو، أيضاً، ينتظر فتح الطريق. سألته:
- منذ متى أنت هنا؟
قال:
- منذ عشرة أيام.
- إذاً، صرت تعرف البلدة؟
- أعرفها جيداً. لماذا؟
- أريد مكاناً مؤقتاً للمبيت، يكون ايجاره على قدر ما يسمح به وضعي المالي الحرج.
-حسناً، إتبعني.
فتبعته الى دار قريبة، قرويّة البناء، بوابتها تفضي الى "حوش" ترابي تحيط به، على شكل أضلاع المربع، سبع غرف متلاصقة بدون مطبخ، وبمرحاض واحد مشترك. صاحبة الدار إمرأة ستينية وحيدة تعيش في إحدى الغرف وتعتاش من تأجير الأخريات. قالت ان لديها غرفة واحدة خالية،
اليها. سألتني: كم تنوي البقاء فيها؟ أجبت: أسبوع، أسبوعان، وربما أكثر، حسب وضع الطرق الى بيروت الغربية.
كانت الغرفة صغيرة، مصطبتها من الباطون وذات رائحة عطنة. غير أن ضيق الوقت، والحال، للبحث عن مكان أفضل جعلني أوافق على مضض.
ساعدني راتب في احضار أمتعتي من السيارة، ثمّ تركني على أمل أن يبقى هو وجلال على تواصل معي طالما بقيت في برّالياس. بعد مغادرته، فرشنا حرامين على الأرض وتمددنا لنرتاح من مشقّة ذاك النهار. ولمّا حلّ الليل أكلنا ممّا لدينا من طعام، ولم نتأخّر في السهر.
في الصباح، استيقظت على طرق الباب، فنهضت على عظام موجوعة وفتحت. كان في الباب رجل بملابس الميدان وبين يديه صندوق من الكرتون، وعلى ذراعه الأيسر شعار العاصفة، فأيقنت أنه "فتحاوي". طرح عليّ تحيّة الصباح، فبادلته بمثلها، وسألني:
- الأخ محمود؟
أجبت:
- نعم.
عرّفني بنفسه:
- أنا من وحدة تموين "فتح"، وهذا التموين لك.
فاجأني الرجل وأثار دهشتي، قلت:
- لربما تكون قد أخطأت العنوان.
فسألني:
- ألست الأخ محمود الخطيب؟
- بلى، أنا هو.
- إذاً، هذا الصندوق لك.
تناولت الصندوق من بين يديه، وشكرته:
- حسناً. والآن، قل لي: كيف عرفتم انني هنا؟
- مرّ راتب بنا بالأمس وأخبرنا بوصولك مع العائلة سالمين، وقال ربما تكون بحاجة الى عون في الظروف الحالية. وسنأتيك بصندوق كهذا كل صباح، وطيلة بقائك في البلدة.
وكررت شكري له، وللقائمين على وحدة التموين للبادرة النبيلة التي لامست حاجتي وقلبي في آن؛ إذ لم يخطر ببالي أنني سألقى مثل هذا الإهتمام الفوري، ولا حتى خطر لي أن أكون في وارد السعي الى .طلب العون، على الرغم من الوضع الذي أنا فيه.
كان في الصندوق تموين يفوق حاجتنا ويكفي عائلة كبيرة: خبز، خضار، فواكه، معلبات منوعة، وقطعة من لحم الضأن الطازج. ولأننا لا نحمل معنا أدوات للطبخ، تبرعت زوجتي بقطعة اللحم وبعض الخضار التي تستوجب الطبخ لصاحبة الحوش الستينية، فسُرّت بذلك .كثيراً.
بقيت في برّالياس قرابة ثلاثة أسابيع، والتموين يصلني بانتطام. وكنت التقي "راتب" كل يوم تقريباً، وأحياناً معه جلال، فنذهب سويّاً الى بعض المحال التجارية على جانبي الطريق العام (بيروت - دمشق) التي نسجا مع أصحابها علاقة جيدة بحكم تواجدهما اليومي هناك، فنتسقّط أخبار الطريق. وكان أفضل مصدر بالنسبة اليّ هو سائقو الأجرة أنفسهم الذين يعبرون ذهاباً وإياباً خلال النهار، فأسأل بعض من يتوقف منهم لإنزال ركّاب في البلدة عن محطته الأخيرة في بيروت، وكانت الإجابة بشكل عام: بيروت الشرقية، أي .الشطر الذي تسيطر عليه المليشيات المسيحية. بيد أن سائقاً
وحيداً من جملة مَنْ استطلعت تجربتهم اليومية وتبيّن لي انه من سكان "الغربية". قال إنه على الخط مرتين أو ثلات مرّات في الأسبوع، حسب توفّر الركّاب والسماح بالعبور. وعندما سألته عن الطرق السالكة من "الغربية" باتجاه البقاع، أجاب بأن الطريق العام المعتاد مقطوع عند محور الشياح - غاليري سمعان، وكذلك طريق خلدة - عرمون. وحده محور المتحف الذي يمكن العبور منه الى "الشرقية" وسلوك طريق جونيه صعوداً الى ما بعد بكفّيّا والإنعطاف يميناً الى "ضهر البيدر" فالطريق العام الى دمشق. إلتفاف طويل، غير أنه الطريق الوحيد المتيسر حالياً خلال اتفاقات وقف اطلاق النار التي لا تصمد طويلاً.
- والحواجز؟ سألت.
- هناك حاجزان: الأول على الطرف الشرقي من المتحف، وقد صار الآن في عهدة الجيش الإسرائيلي، وتتمركز عنده دبابة وراء المتراس وجنديان يدققان في الهويات؛ والآخر شرقيّ بكفيّا قوامه عنصر أو عنصران من ميليشيا "الكتائب" يقفان على جانبي الطريق بدون عارضة ومتراس.
ثمّ استدرك، كأنه نسي من ذي قبل، بأنه لا ينقل في سيارته من لا يحمل "تذكرة" (هويّة) لبنانية، وخصوصاً إذا كان المسافر فلسطينياً. فالفلسطيني، حسب قوله، لا حظّ له في النجاة، لا من الإسرائيليين ولا من الميليشيات المسيحية. وروى حكاية إمرأة فلسطينية كانت معه، متجهة الى دمشق لزيارة ابنتها المتزوجة في مخيّم اليرموك، فأنزلوها من السيارة على حاجز بكفيّا، واحتجزوها عندهم، ولم يعد يعرف عن مصيرها شيئا.
معلومات قيّمة تلك التى أدلى بها السائق، ومشجعة، وتستحق أخذها في الإعتبار. فكّرت: إذاً، صار في ميسور اللبناني المسلم العبور الى الشطر الشرقي دون الخوف من الإختطاف على الحواجز والقتل حسب المذهب في الهويّة حسبما كان سائداً من قبل! المسألة لم تعد مستحيلة، أو حتى شائكة الى درجة لا يمكن حلّها. إنها بحاجة الى قلب .وقرار ليس غير.
وكإجراء احترازي، اصطحبت زوجتي وابنتي الى محل تصوير وطلبت صورتين لكلٍ منّا تصلحان لاستصدار "إخراج قيْد". وفي اليوم التالي، أخذنا الصور واتجهنا الى بلدة زحلة غير البعيدة حيث سجلّي هناك. وعندما وصلنا، أوقفت السيارة في ساحة البلدة وصعدنا سيراً الى دائرة النفوس في "الميدان الشرقي". وفي غضون ساعتين، أنهينا كل شيء وعدنا أدراجنا.
عند العصر، التقيت براتب وجلال أمام محل حلاقة للرجال غربي الطريق العام يعرفان صاحبه واعتدنا على الإلتقاء عنده، ومن هناك نذرع جانب الطريق ذهاباً وإياباً، نتجاذب أطراف الحديث حول الوضع الميداني، حالنا حال مَن لا عمل له وينتظر المجهول. قلت لهما:
- سمعت في الإذاعة عن اتفاق جديد لوقف اطلاق النار؛ غداً سأعود الى بيروت.
:فأصابهما الذهول. وسأل راتب:
- كيف؟ الطرق مغلق؟
- من طريق بكفيّا، بيروت الشرقية، المتحف.
- مخاطرة وخيمة العاقبة. إن عرفوك،قتلوك!
- إن عرفوني صحيح. ولكن كيف يعرفونني؟ فأنا لا "أجعجع" في الإذاعات، ولا "أتمظهر" على الشاشات. بالنسبة اليهم، أنا مواطن لبناني عابر طريق، ولدي بعض الحظ في النجاح. أمّا مسألة الموت يا عزيزي، فهوحاضر بالمرصاد على مدار الساعة في حياتنا، لا يميّز ولا يفاضل: الشجاع يموت شجاعاً، والرعديد يموت مرتعداً.
:قال جلال:
- ليتنا نرافقك.
فأجبت:
- إن اصطحبتكما لا حظّ لكما في النجاة، وينعدم، أيضاً، حظّي. إبقيا هنا مع القوات، فهي ملاذكما الوحيد الآن، لكما ما لها، وعليكما ما عليها.
ورجوت"راتب" أن يعرّج على وحدة التموين ليوقفوا إرسال الصندوق اليومي، ويبلغهم جزيل امتناني لما قدموه اليّ خلال اقامتي. وودعتهما على أمل أن نلتقي في المقبل من الأيام إن عشنا. ولكن بعد افتراقنا يومذاك، لم يتسنّ لي لقاء جلال مرّة أخرى. فقد فرّق بيننا الزمن وباعدت بيننا آلاف الأميال. على أنني قرأت، وأنا أُقيم هنا في أقاصي الأرض، خبراً في صحيفة فلسطينية عن نشاط "فتحاوي" في الضفة الغربية شارك هو فيه، وورد إسمه مسبوقاً ب" الدكتور" فأيقنت، حينئذٍ، أنه عاد الى الجامعة وتابع دراسته حتى "الدكتره" فأُعجبت بإصراره ومثابرته!

(يتبع)



#محمود_الخطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (3)
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (2)
- فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعية بحلقات (1)
- في حالة ما
- النكبة 68
- على شُرفة حلم
- يوم الأرض (حكاية فلسطينيّة)
- الضحيّة
- ... ليس كأيّ صيف (أقصوصة)
- من ذاكرة الحرب (أقصوصة)
- حزن طويل الأجل (أقصوصة)
- في الطريق الى جانيس (قصة قصسرة)
- ليلة -محور المتحف-
- الرهان
- يا وطني هل أنت بلاد الأعداء؟


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (4)