أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - في الطريق الى جانيس (قصة قصسرة)















المزيد.....


في الطريق الى جانيس (قصة قصسرة)


محمود الخطيب

الحوار المتمدن-العدد: 4994 - 2015 / 11 / 23 - 07:29
المحور: الادب والفن
    




يملي علي واجب المناسبة في المقام الأول، ثمّ لياقة الزمالة، أن أولي اهتماماً استثنائياً بتلك المرأة ذات الوقار الخمسيني، المتأنقة على الدوام، لكي تتربع على سُدّة وقتي، فتكون بطلة الحدث في نهار هذا اليوم الذي انقشع .ليله عن وجه ناعس مكفهر.

لقد قالت لي، خلال محادثتنا الهاتفية، انها تأمل في أن تراني في طليعة ،المشاركين في المراسم التي ستقام في “ماونت بليزانت سنتر”، بعد الظهر، لأقرب زملاء المهنة الى نفسي بروس هيلمان، صاحب دار كورنرستون للنشر التي تمارس نشاطاتها، قانونياً، في إطار مجموعة فينِكس، وهي شركة مساهمة كبيرة تملك ثلاث صحف أسبوعية تصدر كل يوم أحد في ثلاث مدن مختلفة ومجلة شهرية تعنى بشؤون التجارة والأعمال والإقتصاد تصدر باسم الناشر الأصلي كورنرستون، على نحو يوحي بشبه استقلالية عن المجموعة .

لقد حالفني الحظ، كمَنْ فُتِحَت في وجهه ليلة القدْر بعد صراع معيشيّ مرير دام نحو عامين في مطلع هجرتي، فحظيت برئاسة هذه الصحف مجتمعة. وكان لبروس هيلمان، ومعه كبير الشركاء المساهمين غاري باكستر، فضل لا يُنْسى في تمييزي ووضعي في مقدم أقراني، من أبناء البلد الأصليين المتقدمين الى ملء الشاغر، ودفعي الى تولّي المنصب. وهو فضل ألزمني، طوال سنين عملي فيما بعد، بأن أكون عند حسن الظن وعدم نكران الجميل، والنكوص عن قبول مغريات عروض العمل العديدة التي توفّرت لي نتيجة كثرة الأبواب .التي باتت مشرعة أمامي

كانت المحادثة الهاتفية التي تلقيْتها اليوم بمثابة نفير صدح بسيرة تلك المرأة الوقورة، فأخرجها من غيهب خمس سنوات سالفة الى نهار اليوم لكي تتصدر ذاكرتي فيتجلّى حضورها في المخيّلة بالمظهر ذاته الذي كانت عليه آخر مرة عندما دخلت الى مكتبي لكي تودّعني وأنا أحزم أوراقي لأغادر فينكس نهائياً الى التقاعد، وفي يدها علبة ملفوفة بورق الهدايا وطلبت منّي، على غير العادة المتبعة، أن لا أفتحها في حضورها، ثمَّ تقدّمت اليّ وعانقتني. ولمّا غادرت مكتبي فتحت العلبة لأجد بداخلها نسخة أصلية من رواية “شرقي عدن” التي ألّفها الروائي الأميركي جون شتاينبك قبل أكثر من ستين عاماً (1952) وكنت قرأتها مترجمة الى العربية في ستينيات القرن العشرين، وعلى الصفحة الأولى كتبت اليّ: “لن أنساك. جانيس."

أمّا وقد انوجدت، الآن، بمجملها على صفحة وعيي بالذكرى والخيال، بما يمكن تشبيهه بكلمة وصورة تفرز إحداهما الأخرى حسب الأسبقية في التواجد، رحت أستحضر من سنوات عملها معنا بعضاً ممّا لا يزال عالقاً من سيرتها في ذهني .

* * *
اسمها جانيس بيترسون.
تعرّفت اليها خلال السنة الأولى من عملي في مجموعة فينِكس قبل خمسة وعشرين عاماً. فتاة عشرينية، بعمر ابنتي، طالبة صحافة في جامعة رايرسون. وقد أُرسِلَت الينا، بعد اتفاق مسبق معنا، في إطار البرنامج المعمول به في الكلّيات والجامعات، الذي يلزم طلبة السنة الأخيرة بالتدرُّب في مواقع العمل، طوال أشهر الصيف الثلاثة قبل التخرّج، لدى مؤسسات ناشطة في مجال تخصصاتهم. وفي نهاية التدريب، ترسل المؤسسات تقاريرها عن مجمل انجازات المتدرّبين وانضباطيتهم الى الجهات التعليمية المعنيّة. وفي ضوء تلك التقارير تمنح العلامة المتممة للمجموع العام.

دخلت الى مكتبي برفقة الناشر بروس الذي جاء ليعرّفني بها. كنت أجلس في كرسيّ بعجلات، قبالة جهاز “كومبيوتر”، منهمكاً في متابعة المواد في مرحلة الإخراج النهائية، وإعادة تحرير ما قد يستوجب ذلك قبل ارسالها الى الطباعة. ففي هذه البلاد، ثمّة عمل ما لكلّ وقت، ووقت لكلّ عمل. وفي حالتي، هناك وقت للتحرير، ووقت للإرسال الى المطبعة، ووقت لملاحقة الطباعة، والإستلام ، والتوزيع.

يقولون هنا "الوقت مال" (Time is money). وكنت متآلفاً مع هذا الوضع، ومنضبطاً في تطبيقه على نفسي وعلى العاملين معي. فأنا بطبيعتي مُجِدّ ودؤوب على هذا الصعيد.

وفي الواقع، ما أن أفكر في هذا الأمر حتى تطلّ عليّ ذاكرتي (كأنها تذكّرني بأنها، على الرغم من علائم الشيخوخة البادية في مظهري، لا تزال بكامل العافية وعصيّة على الوهن، وأن الشباب حاضر في حناياها) لتفتح على حاضري حقب الماضي. فلطالما تذمّرت، في سريرتي، الى نفسي، دون أن أحظى بعزاء لديها، من ماضيّ البعيد الى مسافة أقرب طرفيها اليَّ الآن يفصلني عنه ربع قرن. ماضٍ لا قدرة لي على إغفاله، وما انفكَّ ثِقَل وطأته يباغت حاضري ليل نهار. وهو ثقل متعدّد التكوّن، مرفود بعناصر النفي والعسف والتشرّد والشقاء التي عصفت بها علينا رياح الموت، فقبضنا على أشرعتنا بعزائم التوّاقين الى الحياة.
وكثيراً ما تتناوشني صور لحالات دقّاقة تفرض مرورها على مخيلتي. وإذا كان في وسعي تخطّي بعضها بالإنشغال بغيرها من مخزون حاضري في ساعات النهار، فإنني أستسلم لها تماماً في المنام عندما تدهمني في سياق كوابيس لا انفكاك عنها، إلاّ بعملية استيقاظ قيصرية، إذا ما قيّض لها أن تحدث بفعل .هول حالة الهلع التي تتملّكني آنذاك.

والأكثر مضاضة تلك الخيبات اللاحقة التي حلّت بفعل سواعد يفترض انها شرعت لتكون عضداً. فعلى مدى عشرين عاماً من عمري قضيتها ثائراً في صفوف الثورة التي يرى المرء فيها، قبل أن تطأها قدماه، ذلك الوهج الساحر الذي تصعب مقاومته لأن فيه ما ينبئ بالتخلّص من الإذلال والظلم اللذين عانى منهما منذ أن أُلقيَ به عنوة الى خارج وطنه الذي ولد فيه. وهج ساطع أخّاذ !يفوق، في القيمة والمظهر، بريق الماس، وسحر لمعان الذهب، وقوّة برق السماء!

وما أن يدخل اليها، وينخرط في الواقع الذي استعاض، بمرور الأيام، عن الفعل الثوري بجلبة الهتافات الجوفاء التي تنطلق من حناجر حشود تدفّقت الى غابة البنادق وتركت الوطن خارجها؛ حشود مسلحة صاعت بلا ضوابط في الشوارع، وعلى مفارق الطرق، وفي مقاهي الأرصفة، وفي الحانات والنوادي الليلية وأوكار المخدّرات، يصاب حينئذٍ بخيبة مريرة من ثورة تميّزت عند انطلاقتها بالفرادة، وها هم رجالها يسوقونها ببنادقهم الى لحدها.

خيبة تعادل فعل الندامة على ما فعل؛ إذ يخلص الى أن ذلك الوهج الأخّاذ كان خادعاًَّ، وأنه بسببه خسر عقدين من عمره في حقبة زمنية ضاع وقتها، فلم يتسنَّ قياسه، في حينه، إلاّ بتلك “التكتكات” البكماء التي لا تسمع بمعزل عن الأذن الناصتة، وإنما تُرى فقط في عقرب الثواني الذي ينتفض كالمذعور أمام عينيه تحت زجاج ساعة اليد في معصمه. تكتكات أَفَلَت، أيضاً، كأنها لم تكن !

على أنني، كما أبدو ههنا، قد أقحمت نفسي للتوّ، عن قصد، في شخص “ضمير الغائب” عوضاً عن “ضمير المتكلم - أنا،” فذلك لكي أوحي بالإشارة الى أنني لم أكن في المعمعان وحدي، وإنما كان ثمّة عديدون على شاكلتي، سارعنا جميعاً الى اللحاق بركب الثورة لكي يطالنا شرف المشاركة في صنع الإنتصار، لا أن نساق عنوة كما يساق القطيع الى هزيمة لا ضلع لنا في صنعها، وإنما صنعها "أبَواتُها" الذين صنعوا أمجادهم بدمائنا، وقايضوا الوطن بحصون مسلّحة .حيثما تواجدوا .
إنه ماضٍ من عسرٍ مديد، بضغف سنين يسرٍ في حاضر حفل أخيراً بالقناعة والرضى والمسرّة، كأنه هامَةٌ مستبشرة في قمّة جبل من الحزن.

قال بروس: لن أستوقفك عن عملك طويلاً. هذه الفتاة الجميلة هي جانيس التي راسلتنا رايرسون بشأنها.
.فتبسّمت جانيس للإطراء، ومدّت يدها وصافحتني.
أضاف بروس : إنها، منذ اللحظة، في عهدتك.
والتفت اليها، وقال: نجاحك في يده، فثابري. ثمّ تابع بسياق ايحائي مشيرا اليّ: احذري! هذا الرجل لا ميل عنده الى المزاح. وخرج.
.قلت لها: لا يقلقنكِ قوله. أهلاً بك في فينِكس، تفضلي بالجلوس.

لم يكن لدي الكثير لأقوله، فسألتها أولاً:
- من أي ناحية أنت؟ تورنتو؟
أجابت:
- لا، من ريف هاملتون. أقيم هنا في مساكن الطلبة؛ وفي عطلة نهاية الأسبوع أعود الى مزرعة أهلي، أعلف الماشية، وأطعم كلبين ضخمين، وأنظف الإسطبل، وأفرك جلد الحصان بفرشاة خشنة، وأساعد في القطاف في المواسم. أنا فتاة .ريفية، وعلى سجيّتي كما ترى.
- هذه الشيْمة في صالحك. أنا، أيضاً، إبن فلاّح. ولكن بحقول وحرث وبذار وحصاد- ،ودريس ورَعْي وأشجار زيتون ولوز وصبّار. هيّا! سأقدمك الى بولين كير، وهي رئيس تحرير إحدى الصحف الثلاث، وستتولّى تكليفاتك منذ الغد، وسترتاحين بالعمل معها. بعد ذلك، أدعوك الى فنجان قهوة في الكافتيريا على حسابي.

2

يصغُرني بروس بنحو عشر سنوات. نتقارب بالقامة والبنية ونختلف بلون البشرة والعادات وبقدْرٍ ما الطباع. فأنا شرقيّ العادات والطباع لفحتني حرارة شمس الشرق، وهو غربي العادات والطباع انصاعت شمسه لصقيع بلاده فاتشح وجهه ببعض بياض ثلجه. غير أن هذا الإختلاف لم يكن محلّ اكتراث من قِبَلنا، ولم أشعر، في يوم، بأن الأمر ذو بال خارج حوافز الإنسجام في العمل.

بيني وبين بروس علاقة عمل متقاطعة تتعدى العلاقة المعهودة بين رئيس ومرؤوس. فهو، الى جانب مساهمته في رأسمال فينِكس بملكيته لكورنرستون التي أكسبته تلقائياً عضوية في “محلس كبار المدراء”، مكلّف، أيضاً، من قبل هذا المجلس بتولّي الإشراف على دائرة الإعلانات التي تشتمل على فريق عمل عدد أفراده عادة قرابة العشرين، معظمهم من النساء المتأنقات على الدوام. يصفونه هنا بالبائع البارع (Smart salesman). وله شبكة علاقات واسعة بالنُخَب الرسمية والاقتصادية والتجارية. ولا يتوانى عن الاتصال بأيّ كان بغية عقد صفقات اعلانية. فالصحافة هنا تختلف عمّا هي عليه في بلادنا، لا ترتزق من دول، أو أحزاب، أو تنظيمات. انها “تجارة” تتوخّى الربح مثل أي عمل تجاري آخر في السوق. والإعلانات بالنسبة اليها هي “مزراب المال” الذي يضمن لها الاستمرار والإزدهار، ويحظى فريق العمل في مجالها باهتمام يتقدم أي اهتمام .آخر.

ولهذه الغاية، كان التنسيق فيما بيننا ضرورة لتحديد الحيّز الذي يتوجّب حجزه للإعلان في كل صحيفة. وبما أننا كنّا متجاورين في المكان (مكتبي ملاصق لمكتبه) ، فقد كان يقصدني متى شاء، وأقصده متى شئت، للتشاور، وحتى للبحث في بعض التفاصيل. لم يكن ثمة حرج، أو تحفّظ، في التعامل.

وفد ازداد تقديري له بعدما سمعته من مكتبي ذات يوم يشيد بي ويمتدحني خلال محادثة هاتفية له مع محافظ المدينة الذي خمّنت، بوحي من جانب واحد في المحادثة، انه سأل عمّن “يكون هذا الرجل (وهو يقصدني) صاحب الإسم الغريب الذي لم نسمع به من قبل في وسطنا، وفجأة يتصدر اسمه قائمة الأسماء المتداولة في أربع صحف دفعة واحدة؟” فردَّ بروس: “إنه حاذق في المهنة، متمرّس وذو خبرة طويلة.” وكان حدسي في محلّه. فلكي يمنّني بروس بصنيعه، أتى على ذكر المحادثة في اليوم التالي وقال إنه “مجّدني”، وأن ذلك ترك لدى المحافظ انطباعاً إيجابياً، فعبّرت له عن امتناني بالشكر الجزيل دون أن أذكر له أنني استمعت لما قال.

كثيراً ما كنّا ننزل معا الى الكافتيريا في أوقات الإستراحة لاحتساء القهوة أو الشاي. أدعوه مرّة وأدفع، ويدعوني مرّة ويدفع، الى أن صار ذلك “تقليداً” بيننا لا حرج، ولا كلفة، فيه.

لاحظتُ أنه يبدي اهتماماً بجانيس، فيسألني، من حين الى آخر، عن أخبارها في العمل معنا: هل هي منضبطة؟ هل هي مجدّة؟ هل يمكن الإستفادة منها بعد التخرّج؟ هو يعرف انني وضعتها في عهدة بولين لتتولّى تدريبها، وبإمكانه توجيه أسئلته اليها. لكنه يعرف، أيضا، أن الكلمة الأخيرة في هذا الشأن هي كلمتي وهو يريد أن يسمعها، فكنت أنقل اليه ملاحظات بولين عنها؛ وهي ملاحظات، في معظمها، ايجابية وفي صالح الفتاة.

ولمّا انتهت فترة تدرّبها، جاءت جانيس لتودعني، وربما لتسمع منّي ما قد يبعث الإطمئنان في نفسها. جلست، وقالت:
- تمضي الأيام سريعاً. لعلني لم أُثْقِل، وكنت عند حسن الظن؟
سألتها بتودد:
- كيف كانت ضيافتنا؟
أجابت:
- كانت مليئة بالفائدة. وقد سررت بوجودي بينكم، وصار لي هنا أصدقاء .
- حسناً يا جانيس. أعرف أنك في شوق لمعرفة ما آلَ اليه دأبُك عندنا.، أليس كذلك؟
- طبعاً، طبعاً يا سيدي.
- بولين تمتدح مثابرتك. وأنا تابعت ما نشر تحت اسمك في صحفنا. ولا شك في أنك ستعودين غداً الى رايرسون وفي حقيبتك رصيد من صنع يديك . نحن فتحنا لك الباب وقدمنا كل عون. لقد كتبت اليهم تقييمنا لنشاطك خلال التدرب في فينِكس. فاطمئني. سوف تسمعين منهم ما يبهج خاطرك. أتمنّى لك النجاح يا جانيس. وإن رغبت في العودة للعمل معنا، فسيظلّ الباب مفتوحاً لك.
كانت ساكنة، فانقلب السكون فجأة الى قعدة مربكة بعض الشيء، وانفرجت أساريرها، فتورّد وجهها وسَرَت رعشة متقطعة في أسفل خدّيها وتلألأ الفرح العارم حول حدقتيها:
- أوه! أحقاً ما تقول؟! أكاد لا أصدّق أذنيّ! لقد أنعشت آمالي! أوه، كم أنا سعيدة الآن!
ونهضت بعفويّة، ومدّت يدها نحوي وهي تردد:
- حتماً. حتماً سأعود. أوه! هذا يوم السَعْد! الى اللقاء يا سيدي.
ومشت نحو الباب؛ فخلتها، وهي تغادر، تكاد ترقص في ثيابها فرحاً، تحلّق ، وقد ضاقت عن أحلامها الدنيا.

* * *
مضى قرابة أسبوعين. وما أن قرأت اسمها في قائمة الناجحين حتى سارعت بالعودة الى فينِكس وقعدت، منذ التاسعة صباحاً، على الكرسيّ ذاته، الى .الطاولة ذاتها، اللذين استخدمتهما من قبل. قالت مازحة:
- لقد افتقدتكم، وها أنا جئت! خشيت أن توصدوا بابكم في وجهي إنْ تأخّرت. حفل التخرج بعد أيام، ولن يستغرق سوى بضع ساعات في المساء. ألن تأتوا لتروني بالرداء المزوّق والقبغة؟ وضحكت.

لقد بدت لي حينذاك أنها، لفرط شوقها الى اغتنام فرصة العمل المتاحة لها عندنا، تماثل مَنْ قال عنه المثل: “ما انْ غابت قدماه عنّا ،حتّى أطلّ برأسه علينا.” ومع ذلك، استُقْبِلت بروح الزمالة وبالترحاب وأصبحت مذ ذاك فرداً في عائلة فينِكس.

وفي فينكس وضعت جانيس طموحاتها امام عينيها وانهمكت في العمل .لتحقيقها، فتميّزت وتغيّرت.
تميّزت على نحو لافت بمبادراتها المستمرة بتنفيذ المهام دون انتظار التكليف بها، وبالتغاضي عن الوقت الزائد غير مدفوع الأجر الذي قد يقتضيه انجاز العمل، وعن استغلال رؤسائها لهذه الخاصية لديها بتكليفات اضافية، فكسبت بذلك رضاهم وحظيت باشاداتهم بها.
ومع مرور الزمن تغيّرت. تحوّلت من “فتاة ريفية” الى “إبنة” المدينة الكبرى التي استهلكت معظم وقتها وحالت دون قيامها بعودتها التقليدية الى المزرعة في نهاية كل اسبوع، واستعاضت عن ذلك بمهاتفة والديها من حين الى آخر.
ولم تعد،أيضاً، “على سجّتها.” غير أن العفوية الظاهرة في تربيتها الريفية ساعدتها في نسج علاقاتها، فلقيت حظوة مميزة لدى الرجال، وخصوصاً لدى بروس الذي أخذ يستميلها الى “جلسات قهوة” في الكافتيريا أو في مقهى ال”سكوند كبّ” (Second Cup) على مدخل يونيفيرستي أفنيو.

وقد أثار هذا الاهتمام الذكوري بجانيس حفيظة عدد من زميلات المهنة اللواتي صرن، في غير مناسبة، يغمزن من قناتها بتعليقات تنمّ عن الحسد ليس غير. وقد بلغ مسمعي ، ذات يوم، همس إحداهن لأخرى، في الكافتيريا، بأن جانيس "لا تصطاد في المياه الضحلة، وانما تتعقّب السمكة الكبيرة في المياه العميقة."

ولربما كانت هذه الحاسدة على صواب. إذ ما لبثت “المجالسات” أن تطورت إلى مواعيد أسبوعية، ثمّ الى مساكنة لسنوات قبل أن يقررا الزواج في نهاية الأمر رغم فارق العمر بينهما.

ولا شك في أنه كان لهذه الخاتمة تأثير في رسم مستقبل تلك الفتاة الريفية التي قدمت الينا من رايرسون، ليس فقط في ضمان استقرارها في فينكس، وإنما أكثر، في تعبيد الطريق أمامها لبلوغ مرتبة “رئيس تحرير" خلال فترة زمنية قياسية.

3
تعيّن عليّ، منذ ما بعد المحادثة مع جانيس، أن أستعدّ لنهار طويل لا يخلو من إرهاق لرجل في مثل سنّي. وعلى الرغم من ذلك، وجدت التبرير بأن ذهابي، بالإضافة الى أنه حضور في مناسبة اجتماعية ملحّة لا يجوز تجاهلها، سيتيح لي التقاء عدد من الزملاء المخضرمين الذين باعدت بيني وبينهم المسافات . فجميعهم يعيشون بعيداً من الإزدحام والصخب، إمّا في الضواحي وإمّا في مدن قريبة هي، مقارنة بتورنتو، قرى ريفيّة خالية من الضجيج. ومع أن عدداً منهم دأب على مهاتفتي من حين الى آخر، فان الحضور الشخصي يحفّز على تجديد الوصل، ويضفي على اللقاء دفءً نشعر به جميعاً من قول “ يسرّني أن أراك" (Glad to see you) الذي نسمعه، حتى لو قيل عن ظهر قلب، في هذه المناسبات.
وأوّل ما قمت بعمله في هذا الشأن، انني اتصلت بمحل "بلومِكس" (Bloomex) للزهور وطلبت، بقدر ما تتحمّل ميزانيتي، باقة مشكّلة من السوسن الآسيوي الأبيض والقرنفل الأبيض بنوعيه، العادي والمنمنم، مطعمة بعروق الاوكاليبتوس الخضراء النديّة، مرفقة ببطاقة معنونة باسم بروس هيلمان ومذيّلة باسمي، ثمَّ تُرسل باليد الى "ماونت بليزانت سنتر" قبل حلول ساعة الظهيرة. وشدّدت على أهمية هذا التوقيت قبل أن أقرأ له رقم .بطاقة الإئتمان خاصّتي.

أنا أُقيم في بيكرينغ. وهي مدينة محاذية لتورنتو من الشرق، جنوبها على شاطئ البحيرة وتتمدّد شمالاً على جانبي الطريق السريع 401. وينبغي عليّ، توفيراً للوقت، أن أسلك هذا الطريق للوصول الى ماونت بليزانت سنتر، فلن يستغرقني .المشوار عليه أكثر من عشرين دقيقة، شريطة أن أتجنّب “ساعة الذروة” الصباحية. و”ساعة الذروة” تحدث مرتين يومياً خلال أيام العمل الأسبوعية، صباحية ومسائية. وهي تسمية غير موضوعية في الواقع؛ إذ تبدأ “الساعة” بالإزدحام مع تدفُّق الناس الى أعمالهم في السابعة صباحاً. وتشتد، شيئاً فشيئاً، فتصبح خانقة الى ما بعد التاسعة. ويحدث الأمر ذاته من الثالثة والنصف بعد الظهر الى السابعة مساء حين مغادرتهم أعمالهم والعودة الى منازلهم في الضواحي والمدن المجاورة.

عادرت منزلي عند الظهر، فسلكت الطريق السريع غرباً الى تورنتو. كانت حركة المرور عادية. لا إزدحام فيها، ولا حوادث سير. غير أن ريحاً خريفية كانت تهبُّ بشدّة، فيسمع حفيفها من وراء الشبابيك المغلقة، وتذرو في طريقها، على الإسفلت والسيارات على السواء، أوراق الشجر الجافّة المتساقطة على .جانبي الطريق.

على مفترق ال”دون فالي باركواي” (Don Valley Parkway) انعطفت يساراً وانحدرت جنوباً نحو .إغلينتون أفينيو ، ومن هناك ارتددت شرقاً الى ماونت بليزانت.

يعتبر ماونت بليزانت سنتر المؤسسة الأكبر بين المؤسسات التي تتولّى القيام بكامل إجراءات مراسم تشييع ودفن الموتى. وهي مؤسسة ربحية بطواقم مدرّبة وذات اختصاص في هذا المضمار. وعندما وصلت الباحة الخارجية، كان ثمة عدد غير قليل من السيارات المتوقفة. وأمام المدخل سيارة ليموزين سوداء، وخلفها سيارة أخرى سوداء أيضاً من الطراز الخاص بحمل الجثامين، وعلى مقدّم كلّ منهما إكليل كبير من الورود المتنوّعة وشريط عريض من الساتان الأبيض اللمّاع.

في الردهة، استقبلتني فتاة من فريق العمل في المركز، ترتدي لباس الحداد وتضفي على محيّاها وجوماً يليق بالمناسبة. والى جوارها كانت تقف بولين كير، من فينكس، فصافحتني وقالت بنبرة خفيضة مصحوبة بابتسامة .خفيفة قصيرة الأجل: تسرّني رؤيتك.
فبادلتها القول، وتنحّيت بها جانباً، وسألت:
- لم تدخل جانيس معي في التفاصيل على الهاتف، فماذا حدث؟
أجابت:
- كان في “عشاء عمل” لمجلس كبار المدراء في سكاربورو، وغادره في وقت متأخّر. وعلى طريق الدون فالي باركواي، انزلقت سيارته يميناً وتدحرجت به على المنحدر الى أسفله. ولمّا جاءوا ليسعفوه وجدوه قد فارق الحياة.
وسكتت لهنيهة، ثمّ تابعت:
- يتهامسون بأنه كان ثملاً !
سألتها مجدداً:
- وأين جانيس؟
- تتقبل التعازي في غرفة الزوّار. سوف أرافقك اليها.

كانت جانيس جالسة، وبجوارها غاري باكستر. ولمّا تقدّمت نحوها وقف كلاهما .فصافحتها وقدّمت التعازي، ثمّ صافحت غاري الذي أتاح لي أن أجلس مكانه.

بدت غارقة في الحزن. ومن حين الى آخر تمسح زوايا عينيها الدامعتين بمحارم من ورق. وقد فرضت هذه الحالة شبه سكون بين الحاضرين. فالأحاديث فيما بينهم تدور بالهمس أو بأصوات خفيضة بالكاد تسمع. أمّا أنا، فقد رحت أتفقّد الوجوه من حولي. كثيرون لم أعرفهم، لربما كانوا من عائلة الفقيد أو أصدقائه، أو من عائلة جانيس وأصدقائها. أمّا الآخرون، فقد كنت على معرفة بهم من أيام فينَكس، وصار كل من التقت عيناي بعينيه يومئ لي بالتحية.
قالت جانيس:
- لقد وصلت باقتك، وشكراً على المواساة. لقد كان يذكرك دائماً.
لم أجب، وبقيت في سكوني. وبعد وقت قصير، جاء مدير المراسم، وانحنى قليلاً ثمّ قال:
- سيدتي، سنضع الغطاء على الفقيد الآن. فهل تتفضلي بإلقاء النظرة الأخيرة عليه؟
أجابت جانيس:
- حسناً .
والتفتت نحوي:
- أرغب في أن ترافقني اليه.
قلت:
- إنه لشرف لي أن أفعل.

ونهضنا جميعاً، تتقدمنا جانيس، ومشينا خلف الرجل الى غرفة مجاورة حيث .سجّي الفقيد.

كان التابوت محاطاً بأكاليل الزهور، وكان بروس راقداً فيه بكامل هندامه، عيناه مغمضتان، وشعره الأشيب مصفف بعناية، ووجهه جاف وأكثر بياضاً ممّا كان .عليه قبل أن تختفي نضارة الحياة منه.
تقدمت جانيس وانحنت فوقه، ومسحت أعلى جبينه بأطراف أصابعها، وهمست:
- فلترقد بسلام يا عزيزي. سأفتقدك مدى العمر. وداعاً.
ثمّ قبلته، ووضعت على وسادته أقحوانة، سقطت على وريقاتها دمعة.
___________________________
Whitby,November 2015
ً










#محمود_الخطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلة -محور المتحف-
- الرهان
- يا وطني هل أنت بلاد الأعداء؟


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الخطيب - في الطريق الى جانيس (قصة قصسرة)