أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - خالد الحروب - زيغموت باومان: اليهودي -الحالي- ما بعد الحداثي















المزيد.....

زيغموت باومان: اليهودي -الحالي- ما بعد الحداثي


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 5404 - 2017 / 1 / 16 - 08:35
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    




عندما حاول والده استكشاف احتمالات الهجرة إلى اسرائيل من بولندا بعد خمس سنوات من قيام الدولة العبرية، توترت علاقة زيغموت بوالده، وكان آنذاك في الثامنة والعشرين من عمره. الوالد انحدر من عائلة يهودية غير متدينة بالأساس، اما الإبن زيغموت الذي كان يومها شيوعياً صلباً متأثرا بأنتونيو غرامشي فلم تخدعه الصورة الاشتراكية التي كانت اسرائيل قد سوقتها عن نفسها وبها اخترقت اليسار الاوروبي والعالمي لعقود طويلة وحشدت انصاراً ظنوا فيها تمثلاً لنموذج المجتمع الاشتراكي الزراعي. منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته هذا الشهر، وهي مناسبة كتابة هذه السطور، بقي هذا اليهودي "الحالي" بإقتراض عنوان الرواية الشهيرة للروائي اليمني القدير علي المقري، وأحد اهم رموز علم الاجتماع والحداثة في القرن العشرين، على موقفه الواضح من اسرائيل. انتقدها كثيراً وانتقد توظيفها للهولوكوست لتسويغ مشروعها الكولونيالي الاحتلالي، كما شبه جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية بجدار العزل الذي بناه النازيون حول غيتو وارسو.
على كل حال ليس ما سبق اهم ما كان يميز باومان بل مجرد إشارة لافتة وذات خصوصية مطمئنة إلى البوصلة الأخلاقية والضميرية التي تحلى بها هذا المنظر الكبير. اهمية باومان الفكرية تتسع لتشمل نطاقات التنظير والتفكير في مصائر الإنسان في ظل تسارع مشروع الحداثة الهائل في القرنين الاخيرين، ثم تطورات ما بعد الحداثة. رأى باومان ان إنسان الحداثة استهلك من قبل انظمتها الصارمة وقوضت قيمه واهميته المركزية التي جاء بها مشروع التنوير الاوربي. صار المشروع نفسه، التنوير وحداثته، او الحداثة وتنويرها، هما مركز الوعي والحركة والعالم، عوض ان يكونه الإنسان، كما كان الوعد التنويري الأساسي. ضمن هذا السياق مركب الوعي اطلق باومان قنبلته الفكرية سنة 1989 والتي كانت كتاب "الحداثة والهولوكست" وظلت تشظياتها وارتداداتها تتفاعل حتى وقتنا الراهن.
في اطروحته "المتمردة" حول الهولوكوست ينفك باومان من القراءات الغربية للتيار الرئيس لفهم المحرقة والتي اعتبرت تلك الجريمة الإنسانية المهولة نتاج حصري للعداء التاريخي ضد اليهود في اوروبا. باومان يقول إن جذر الهولوكوست يقع في الحداثة نفسها. قبل باومان صدرت مئات الكتب والابحاث التي حاولت فهم المحرقة من ذلك المنظور تحديداً، ومن مناظير اخرى اهمها كيفية قبول الالمان سواء على مستوى الشعب ام النخبة لفكرة إبادة جنس عرقي كامل يعيش بين ظهرانيهم. باومان ذهب في كتابه إلى مكان آخر تماماً وقلب كل المناظير، وإن كان بتطرف لافت أنتقد عليه كثيراً خاصة من قبل مفكري مدرسة فرانكفورت النقدية، لكن بقيت نظريته ذات فائدة مهمة. عوض ان نوظف السوسيولوجيا ونظريات الحداثة لمحاولة فهم المحرقة ولماذا حدثت وكيف تواطأت الاطراف المختلفة في تنفيذها، قال باومان ان الهولوكوست تقدم لنا فرصة لنعيد فهم الحداثة من منظور قدرتها على تهيئة المناخ للإبادات البشرية. اي ان الهولوكوست تكشف بشاعة الحداثة على عكس كل القراءات السابقة التي ارادت ان تفهم بشاعة الهولوكوست من خلال الحداثة. بالنسبة لباومان تقوم الحداثة على العقلانية الصارمة والتنظيم الدقيق وبرود التحليل العلمي واخلاقية التكنولوجيا، وكل ذلك مجموعا إلى ذاته يحقق غائية وجود الانسان ومصالحه.
في هذا النظام تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مركبة ومدهشة وابعد بكثير من الفكرة الميكافيلية التقليدية التي تعلي من قدر الغاية وتبرر في سبيل تحقيقها احقر الوسائل. هنا تصبح الوسيلة نفسها هي الغاية: اي ان مهارة تطبيق الاوامر، وكفاءة التنفيذ (تنفيذ حرق اليهود مثلاً) ومن خلال مراحل تبدأ بالترحيل في القطارات في مواعيد ثابتة، ثم تجميعهم في مرحلة الفحص الطبي، ثم التعرية الكاملة ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية وتصنيفها (ساعات، مجوهرات، ملابس، الخ...)، ثم نقلهم الى غرف الغاز وغسلهم بالماء اولا، وبعدها تحديد كمية الغاز المطلوبة لكل غرفة، والبدء بالتنفيذ، ثم تجميع الجثث وحرقها، ودفن بقاياها، وهكذا. يقول باومان إن الدقة المذهلة في تنفيذ تلك الخطوات كانت لتدرس في الجامعات في مساقات الإدارة التنفيذية المتفوقة لو لم يكن موضوعها حرق وابادة الناس. لكن الاهم من ذلك هو انصياع الضباط والجنود لتطبيق تلك المراحل بدقة عالية ومن دون اي احساس بوخز الضمير. كانت كفاءة تنفيذ الاوامر، اي الوسيلة، هي الهاجس اليومي والروتيني الاكبر لآلاف الجنود والضباط الذين اشرفوا على الابادة، انصياعا لأوامر مرؤسيهم. هؤلاء "الادوات" هم ناس عاديون لهم زوجات وابناء ويعيشون حياة عادية وربما "اخلاقية" على مستويات مختلفة، لكن "البيروقراطية الحداثية" فرضت عليهم سلوكا يلتزم بالزي العسكري الذي فور ان يرتدونه يتحولون الى آلات صماء تنفذ ما يطلب منها من دون مشاعر او احاسيس. باومان يعزي ذلك الى نظام الحداثة وقيمها المادية التي تشتغل وفق مبدأ الفائدة والمصلحة وفقط.
تصبح حياة البشر، تبعا لذلك، مضبوطة وفق ترتيبات معينة ومحددة ونظام يعين "الفائدة" من الاشياء والقيم ... واصناف الانسان. كل شيء تبهت فائدته ويصبح عديم الجدوى، بما في ذلك بعض اجناس البشر (كما اليهود في الحالة النازية)، بما يستوجب وإزاحتهم، وهذا مسوغ عقلانيا. الاخلاق والعواطف والاحاسيس لا مكان لها في منظومة قائمة على "تسليع" الاشياء والانسان ايضا. كل شيء او انسان له قيمة محسوسة وملموسة، إن فقدها لا مبرر لوجوده. هذا التفسير الاقصوي في فهم الحداثة هو ما اعتمده باومان، ورأى انه تجسد في النظرية النازية التي رأت ان اليهود في المانيا واوروبا لاحقا جنس يشكل عبء على التقدم الانساني ويجب ابادته، ومعهم المسلمين والغجر والمعاقين وذوي الامراض عصية و"الشاذين جنسيا" بحسب ما كان يرى هتلر. قائمة الاجناس "غير المفيدة" كانت طويلة على الاجندة الهتلرية، ويتوجب تطهير "الحيز الحيوي" منها حتى يتقدم العالم بقيادة الجنس الآري الذي اثبت علماء الانثروبولوجيا النازية لهتلر انه الجنس الاصفى والارقى في الاجناس البشرية كلها ووحده يستحق قيادتها.
انجز باومان في حياته اكثر من خمسين كتاباً احتل العديد منها قلب السجال الاكاديمي في الموضوعات التي تصدى لها: في الحداثة الصلبة والسائلة، في ما بعد الحداثة وايديولوجيا الاستهلاك، في دور المثقفين وموقعهم في مجتمعاتهم. والموضوع الاخير وحده حيث تعمق في اختبار وتحليل المثقف "التبريري" والمثقف "المشرعن" للسلطة والثقافة السائدة في احد كتبه ظل واحداً من اهم القراءات المُعمقة لمسألة المثقف ودوره، وقد تطرق إليه إدوارد سعيد في كتابه عن "تمثلات المثقف". يغيب باومان ويترك وراءه إرثاً فكريا بالغ النضارة والإثارة.



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من القوميات -الُمدجنة- إلى القوميات الفاشية: حقبة جديدة؟
- عالم جديد: -صدام القوميات والشوفينيات-!
- الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف
- لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم
- اعراس فاطمة المرنيسي، موريتانياً وفلسطينياً
- من يجلس على كرسي فاطمة المرنيسي الأكاديمي؟
- الإسلامويون و-فكرة الدولة-: توتر الواقع، قصور الخيال
- فلسطينيات -عائشة عودة-: الساعيات نحو الشمس!
- كيف نتفادى الحرب العالميّة في منطقتنا؟
- ماذا رأى ابراهيم نصر الله فوق قمة كليمنجارو؟
- -نكبة- الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة
- اغتيال ناهض حتر ... داعشيتنا الكامنة!
- أسماءُ نسائنا: -الشرف السمج- ... والقيعان المتلاحقة!
- «سيد قطب» متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية» (١ ...
- الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة
- الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة!
- بريطانيا: شعبوية صادمة ... ثم تعود لاوروبا!
- الإنقسام الفلسطيني: هل تكرس سيناريو -قبرص الغزاوية-؟
- سنغافورة ... لماذا نجحت وفشل العرب؟
- «النهضة التونسية» وتحولاتها: دمقرطة إسلامية جديدة؟


المزيد.....




- من الحرب العالمية الثانية.. العثور على بقايا 7 من المحاربين ...
- ظهور الرهينة الإسرائيلي-الأمريكي غولدبرغ بولين في فيديو جديد ...
- بايدن بوقع قانون المساعدة العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل ويتعهد ...
- -قبل عملية رفح-.. موقع عبري يتحدث عن سماح إسرائيل لوفدين دول ...
- إسرائيل تعلن تصفية -نصف- قادة حزب الله وتشن عملية هجومية في ...
- ماذا يدخن سوناك؟.. مجلة بريطانية تهاجم رئيس الوزراء وسط فوضى ...
- وزير الخارجية الأوكراني يقارن بين إنجازات روسيا والغرب في مج ...
- الحوثيون يؤكدون فشل تحالف البحر الأحمر
- النيجر تعرب عن رغبتها في شراء أسلحة من روسيا
- كيف يؤثر فقدان الوزن على الشعر والبشرة؟


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - خالد الحروب - زيغموت باومان: اليهودي -الحالي- ما بعد الحداثي