|
-الحريّة- المقدّسة أم -الرباط- المقدس؟
علي عبدالحفيظ مرسي
الحوار المتمدن-العدد: 5396 - 2017 / 1 / 8 - 10:12
المحور:
الادب والفن
تواترت كثيراً تعريفات للحضارة بانها "ترويض للغريزة" البدائية لدى الإنسان، ربما منذ أرسطو وابن خلدون وحتى مفكري العصر الحديث.. كما أشارت دراسات علماء التحليل النفسي إلى أنّ وظيفة العقل الواعي (الأنا Ego) هي أن يتحكم في العقل البدائي المندفع (الهو ID) من أجل إيقاف (كبت) اندفاعاته البدائية نزولا على أحكام الأنا العليا (SuperEgo). إذن هناك عمليات إخضاع تتم سواء باسم قوة المجتمع أو قوّة المثل العليا في مواجهة الحالة الحريّة البدائية المنطلقة لدى الإنسان الفرد.. في تقدير الكاتب فإنّ هذا الصراع ما بين المثل النفسية العليا أو قوة المجتمع الأخلاقية وبين قوى النفس الداخلية هي ملخص حركة الوعي أو التاريخ الحضاري البشري منذ بدايتها وإلى اليوم. كتاباتي الحضارية لم تتجاوز هذا وارتبطت به مدافعة ربما عن استحقاقات للـ (هو ID) قد يكون سدنة الحضارة والقيم العليا وقوة المجتمع رأو ضرورة كبح جماحها غير عابئين بتدقيق النظر إذا ما كانت تمثل أهمية مخصوصة في نفسها. وهل يمكن ولوج المولج الصعب من حيث التوفيق بين إطلاق هذه القوى وبين إنتاج النظام؟! وهل فعلاً إذا ما نجحنا في التوفيق بين الشأنين؟ وأنتجنا النظام وانطلاقة القوى الفردية كما حصل في أوربا-العصر الصناعي يظهر علينا مثل "هربارت ماركوز" في "الإنسان ذو البعد الواحد" لكي يقول لنا إنّ هذا التوفيق ما هو إلا نموذج من نماذج إحكام قوة المجتمع عبر تنفيس القوى الفردية لكن في إطار من إحكام قبضة الرأسمالية المتوحشة على قوى المجتمع لكن بطريقة مبتكرة (لا عقلانية العقلانية الجديدة)؟!! على كل حال لم أر مدافعا صريحاً لحد معقول عن قوة الـ (هو ID) إلا ابن خلدون، وإن كان أيضاً دافع عنها تحت عباءة الدفاع عن الأصول الأولى لقوّة الجماعة التي يعتقد أنّها الأفضل .. فكأننا عدنا إلى قوّة المجتمع التي تجد لنفسها أفضل مكان في "قوّة الدين" .. وبالتالي فكأنّنا عدنا لنصرة الـ (هو) وانفاعاتها الفردية من باب سحق هامتها بقوّة الدين لا بقوّة الدولة؟! ولا يرى الكاتب فرقاً بينهما إلا في تقديرات المفكرين المختلفة لأيهما يستعمل الآخر؟! "صباح" إحدى أجمل ممثلات السينما العربية.. باستلهام ظاهر لرائعة أناتول فرانس: "تاييس"، لكن بتعديلات عربيّة بيد توفيق الحكيم أدّت "صباح" دور سميحة في فيلم يشي عنوانه"الرباط المقدّس" بالتعديلات المضافة على رؤية أناتول فرانس المنطلقة إلى آفاق "الحرية" و"الضمير" المقدسين. سميحة لا يربط بينها وبين زوجها الذي تحبه فعليّاً وشائج ولا اهتمامات مشتركة حيث هو طبيب مهموم بعد اهتمامه بمرضاه بكتابات "راهب الفكر" أحد النخب المصريّة المعروفة صفاتها؛ حيث المشهور عنها هو أن توعز لمتبعي سبيلها طريق التحرر على أن تتركهم يصطلون بناره حيث تتصور هذه النخبة أنّه يكفي في أداء مهمتها أن تفتح أعين العامّة على أمور معينة غالبا ما لا تكون محل ردع واضح من السلطة السياسيّة، وقد تكون الأخيرة محبة للتمتع بالفرجة على الشعب وهو يؤدي هذه الأدوار أو السلوكيات الاجتماعية التي تجرجرهم إليها النخبة .. ولكن إلى حين!! .. لا تنسى النخبة إظهار تفوقها الثقافي على العامّة، كما لا تنسى أنّ لهؤلاء العامّة مفاتن يمكن التمتع بها بين آن وآخر!!. تحاول "سميحة" من خلال زيارة "راهب الفكر" أن توجد سبيلاً لنفسها للقرب من زوجها، لكنّ جمالها يغري راهب الفكر في مصر الحديثة بأنّها مثال معاصر من "تاييس" عصر الرهبنة المسيحي في مصر أثناء مراحل انتقالها من الفرعونية إلى الإبراهيمية الغريم الديني والحضاري التقليدي للفراعنة ولحضارات العصر القديم المتهمة بالوثنية؟! وإذ عبث بطهر فؤاد وروعة ضمير "تاييس" الحقيقيّة في ذلك العصر العجيب من تاريخ مصر "راهب" جاهل محشو بالنزق والكبت الجنسي قديماً، فلا مندوحة من أن يعيد "راهب الفكر النخبوي الحديث" أمجاد العصر المسيحي في قلب مصر الإسلاميّة!! خلال تعاملاتها مع "راهب الأفكار" ومحيطه تدرك "سميحة" (تاييس العصر الحديث) تأثير المسألة الجنسيّة الذي تكتشفت أنّ أداءه وأثره لا يختلفان بإزاء مستوى ونوعية الوسط المتلقي.. عامّيّا كان أم نخبويّا؟!.. كما تكتشف أنّ أزمة الخوف من السقوط أمام الجسد هي ما يدفع بمن يرفضونه إلى رفضه، لا محاولة منهم لحلّ أزمتهم النفسيّة وكوابت ممكناتهم الجنسيّة، ولا لكونهم يرعون القوارير ويضفون عليهم من قواعد الحفظ والاحترام ما يليق بهنّ. بل لأنّ مشكلة حقيقية لم تقارب من قبل النخبة المتعلمة والتي يظنّ بها أن تقوم بأداء الدور التنويري في مجتمعاتها بغرض كشف حقائق الأشياء أمام هذه المجتمعات ومن ثمّ فتح الطريق أمام نقاش حرّ يسمح لمجتمعاتهم بتحري الطريق الأكثر صوابا للتعامل مع مشكلاتهم الاجتماعية والتاريخية والنفسية.. ففي حديثها مع مدير مكتب "راهب الفكر" تلحظ أنّه تأثر أكثر من الطبيعي بجمالها وبساطتها وحيث أشار إلى أنّ رداءها الذي ترتديه غير ملائم لمقابلة "راهب الفكر" فأشارت هي إليه بأنّ تعليقه إنّما ينمّ عن حالة نفسية وعن مستوى تربوي غير لائق.. وفي حوارها الختامي المعاتب بنهاية الفيلم مع "راهب الفكر" بعد أن طردها من بيته حيث ادعى اكتشافه كونها متزوجة؟! أشارت "سميحة" أنّ هذا السلوك المدّعى لم يكن استجابة لقوانين داخلية ضميرية تتصل بمسائل الأخلاق والأدب بقدر ما كان استجابة للأنماط التقييدية المجتمعية التي دفعت به لاتخاذ مثل هذا الموقف من حيث فرغته من مضمونه ككاتب ومفكر إلى حيث جعلته عبارة عن قطار يسير على قضبان ثابتة إيثاراً للسلامة وخوفاً من المجتمع ومن مواجهته بله مواجهة نفسه وأفكاره ونوازعه الشخصيّة.. محاولة مقاربة موضوعات الجنس والمرأة من الباب الذي يجعل من المرأة فرداً مساوياً يتمّ التعامل معه على قدم المساواة لا باعتباره موضوعاً للهروب من مواجهة الذات أو التزاما منعياً تفرضه قوانين اجتماعية وتقليدية من الواجب أن تكون محل نقد وتوجيه من راهبي الفكر؟! وحيث تسير الأمور في الحكي السينمائي بزوجة محبة لزوجها لكنّها محلّ إهمال منه وقد لا يكون ذلك ربما عيب في أيهما (وهو ما لم تناقشه الأدبيات السينمائية ولا الأدبية) فإنّها ترحب بالتعرف بمن يجدون في أنفسهم رغبة لتقديم أنفسهم لها كرعاة ومتقربين منها.. ومن ثمّ تبدأ "سميحة" في علاقة مع جارها.. ولأنّ العلاقة بين الذكر والأنثى في ذهن كاتب ومؤلف عربي وفي ذهن الشاب والمرأة العربيين العاديين على السواء، ليست ذات صلة بالحداثة التي تفرض إطاراً مقدساً على العلاقات ما بين الرجل والمرأة بحيث تتحقق للمرأة في أية جامعة تجمعها بالرجل عقلاً وجسداً أمانا كاملاً يضمن لها أن تتخذ القرار المناسب لإنضاج علاقتها بهذا الرجل بالطريقة التي تراها مناسبة.. حيث تقف علاقة الرجل بأيّ امرأة عند حدود من الآداب المرعيّة لا نعرف أنّه أشار إليها واهتم بها مثل الرائد رفاعة الطهطاوي في نقله لآداب الفرنسيين في التعامل مع المرأة في فرنسا مقتبل القرن التاسع عشر؟! في كتابه المبدع "تخليص الإبريز" إلا أنّه من الواضح أنّ الذهنية الخاصة للحالة العربية ما تزال تكاد تحصر العلاقة بين المرأة والرجل على دور الاتصال الجنسي.. وبحيث تصبح فكرة التطوّر الطبيعي وغير المفتعل لمشاعر متبادلة بين ذكر وأنثى طبيعيين وغير مريضي الجسد والعقل، مسألة مستبعدة تقريبا من العرض السينمائي العربي على كثرتها المتواترة وظاهرة الوضوح دون إلحاح أو ادعاء في المقاربات الفنية الغربية؟! حصر العلاقة بين الذكر والأنثى في مخيلة شعب أو عدد من الشعوب وسواء أكانت هذه العلاقة في إطار الزواج أو الصداقة أو غيرهما في عمليّة فيزيائية جسديّة لا تعبر إلا عن مشاعر لا تمت للروحانية ولا البشرية بأيّة سبيل؟!! موضوعة تستحق التأمل الأنثروبولوجي والثقافي والنفسي.. ذلك أنّ ما حدث في أول لقاء يجمع بين سميحة وبين جارها أنّه لم يكن هناك من حوار إلا حوار الجسد والجنس ومن ثمّ لم يكن ثمّة مكان سوى للعنف الذي يبدو أنّه يصبغ موضوعة العلاقات جميعا في المنطقة التي نعيش فيها بما يبدأ ولا ينتهي بالعلاقة الجسدية العنيفة مروراً إلى العلاقات الفكرية التي لا تقل عنها عنفاً وقسوة، وصولاً لكل أشكال العلاقات الاجتماعية والدينية والسياسيّة.. حيث يبدأ جارها بالاعتداء عليها وتبدأ هي في الاعتداء عليه؟! لم يلتفت مخرج العمل إلى معالجة الموضوع كمسألة علاقات بشرية واجتماعية تستدعي التوقف الطويل أمام سبر أغوارها فدلف سريعاً هارباً من مواجهة أفكار جديّة وحساسة وصادمة إلى الاحتماء بأفكار المجتمع التقليدية والانتقال بموضوعات اجتماعيّة ربما لو كان تمّ البدء بنقاشها أدبياً وفكرياً وسينمائياً في ذلك الوقت المبكر (الفيلم من إنتاج العام 1960م) ربما لكنّا تجاوزنا كثيراً من حورارات العنف الاجتماعي اليوم. حيث دلف مخرج العمل سريعاً لتصوير الموضوع في الصورة الأكثر سذاجة وتقليدية وهي أنّ هناك ثمّة علاقة لم يعلم بها الزوج وعليه فهي شروع في الخيانة الزوجية وأنّ على الزوجة أن تسعى بكل سبيل لإثبات براءتها؟! وهو أقرب باب يمكن لمفكر ومخرج سينمائي أن يهرب منه بدلا من الغرق في محاكمة الموضوعة الاجتماعية المتعلقة بعلاقة الذكر بالأنثى برمتها؟! وحيث لم يتبق من المهزلة الفنية إلا أن يعاون "راهب الفكر" الزوجة على إثبات براءتها؟!! لا أن يكون له دور أكثر نقدية لنفسه هو شخصيّاً قبل نقد الوضعية الاجتماعية ؟!! ترسخ مثل هذه الحالة الهروبية من مواجهة موضوعات جد حاسمة في التطور الاجتماعي والثقافي والفكري لدى المفكرين وراهبي الفكر العربي؟! يضمن لغير المغامرين السلامة والرزق ويضمن للمغامرون القلائل وربما غريبي الأطوار اتهامات دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة وربما جنسيّة؟!! تفرض دراسة نفسيّة وثقافية مكثفة من قبل علماء النفس والحضارة والأنثروبولوجيا للمعتادات الفكرية والثقافية والمجتمعية العربية.. أرجو أن تبدأ على نحو أكثر سرعة وجرأة قبل أن يقع السقوط الكامل في دوامة عنف لا يُعلم إلى أين ستؤدي بالعالم؟!.
#علي_عبدالحفيظ_مرسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنس والمصلحة والنظام.. السينما حين تقارب إشكاليات الوعي ال
...
-
تبّاً للفنّ أم تبّاً للعقلانية؟!
المزيد.....
-
الرئيس بزشكيان: الصلات الثقافية عريقة جدا بين ايران وتركمنست
...
-
من بوريس جونسون إلى كيت موس .. أهلا بالتنوع الأدبي!
-
مديرة -برليناله- تريد جذب جمهور أصغر سنا لمهرجان السينما
-
من حياة البذخ إلى السجن.. مصدر يكشف لـCNN كيف يمضي الموسيقي
...
-
رأي.. سلمان الأنصاري يكتب لـCNN: لبنان أمام مفترق طرق تاريخي
...
-
الهند تحيي الذكرى الـ150 لميلاد المفكر والفنان التشكيلي الرو
...
-
جائزة نوبل في الأدب تذهب إلى الروائية هان كانغ
-
فوز الكورية الجنوبية هان كانغ بجائزة نوبل للآداب
-
رائد قصيدة النثر ومجلة -شعر-.. وفاة الشاعر اللبناني شوقي أبي
...
-
من حياة البذخ إلى السجن.. مصدر يكشف لـCNN كيف يمضي الموسيقي
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|