أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم السعيدي - لغتنا هويتنا















المزيد.....



لغتنا هويتنا


عبد الكريم السعيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5379 - 2016 / 12 / 22 - 00:52
المحور: الادب والفن
    


لغتنا هويتنا
يحتفل كل عام باليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر في الأمم المتحدة ، وهو التاريخ الذي اعتمدت فيه اللغة العربية لغة رسمية في الامم المتحدة منذ عام 1973 ، ففي أواخر الستينات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين المنصرم ،شعر ممثلو الدول العربية في منظمة التربية والعلوم والثقافة الاممية ( اليونسكو ) بالحاجة الملحة إلى إدخال العربية إلى هذه المنظمة ، فسعوا الى ادخالها الى نادي اللغات الرسمية الاممية ، إلا أن الدول العربية العشرين آنذاك وجدت معارضة شديدة من أعداء العرب وخصوم لغتهم ، وقامت قيامة أولئك الخصوم ، فاتهموا اللغة العربية بالجحود ، والتعقيد ، وصعوبة قواعدها وكثرة حركاتها الإعرابية ، واحتوائها على كثير من الكلمات القديمة ، التي لم تعد تستخدم ، لكن الدول العربية آنذاك استطاعت ان تنتزع من المنظمة الدولية الاعتراف بان لغتها لغة رسيمة من لغات الامم المتحدة ، فكان تاريخ ذلك الحدث الهام هو الثامن عشر من شهر كانون الاول من عام 1973 ، وهو اليوم الذي اصدرت فيه الجمعية العامة قرارها المرقم( 3190 دـ 28 ) ، الذي تضمنت المادة الأولى منه اعترافاً دولياً بأهمية العربية في التعبير عن الثقافة الإنسانية ، والحضارة البشرية ، فهي لغة قومية لمجموعة من الدول تربو على العشرين ، وكلهم أعضاء في هيئة الأمم المتحدة ، وأن اللغة العربية ذات أصالة فكرية ، وهي لغة ثقافية لكثير من الشعوب في قارتي آسيا وإفريقيا ، وهنا اود الاستشهاد بآراء بعض العلماء الغربيين بخصوص اللغة العربية ، ويرد هنا قول المستشرق الفرنسي إرنست رينان في هذا الخصوص : اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، في حين يقول الألماني فريتاغ : اللغة العربية أغنى لغات العالم ، كيف لا وهي تحتوي على اكثر من 12 مليونا و300 الف جذرا لغويا ، في حين تحتوي اللغة الانجليزية التي هي اللغة الاولى بالعالم حاليا ، من جهة عدد الناطقين بها ، على 600 الف جذرا لغويا ، واما اللغة الفرنسية فعدد جذورها يبلغ حوالي 150 الفا ، واما اللغة الروسية فعدد جذورها يبلغ حوالي 130 الفا ، من جهته يقول وليم ورك : إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر ، ومن هنا اتخذت العربية موقعها من جهة الاعتراف بها كاللغة الانكليزية والفرنسية والاسبانية والروسية والصينية ، ومن ثم تبعت هذا القرار خطوات فاعلة في مسيرة اللغة العربية في المحافل الدولية ، عندما استخدمت اللغة العربية لأول مرة كلغة عمل رسمية في مداولات الامم المتحدة في عام 1974 ، وهكذا ادرجت مؤسسات الامم المتحدة هذا التاريخ في سجلاتها ، بوصفه اليوم الذي يحتفى به باللغة العربية ، حالها حال بقية لغاتها الرسمية الست .
مما لا شك فيه ان هذه لمناسبة تمثل لنا جميعا فرصة مهمة للاحتفاء والاعتزاز بالعربية كما انها تعد محطة لتنشيط واسترجاع شيء من الهيبة المفقودة للّغة العربية ،فهي على الرغم من كونها تعد أحد اهم اللغات الحيّة ، بل ربما أقدمها على الاطلاق ، فضلا عما تتمتع به اللغة العربية من خصوصية التصاقها بالتراث الديني والادبي ، من هنا لا يسعنا الا الاشارة الى اهمية تكاتف الجهود للحفاظ على ذلك الارث الحضاري العظيم ، الذي باتت المخاطر تتهدده من كل حدب وصوب ، ونحن عندما نقول هذا لا يعني اننا نريد من اللغة العربية اليوم ان تكون لها المكانة نفسها التي كسبتها ابان ماضيها الزاهر ، ذلك لان ذلك ماض راح وانقضى ، كما اننا لسنا خائفين على مستقبل اللغة العربية من الانقراض ، فهي محفوظة في ما بين دفتي كتاب الله، لكن الذي يخيف هو ما قد يحدث بعد عقد أو قرن أو أكثر ، عندما ينحصر استخدام هذه اللغة في دور العبادة، وفي مجال التقاضي، وفي حصص اللغة العربية في المدارس، وبالطبع هذا السيناريو كارثي ولا يرضي أحداً، لأنه سيعني قطيعة شبه تامة بين عرب ذلك الزمان ، وبين جل ما قيل وكتب منذ أن وُجدت هذه اللغة، اذ ان من المستحيل في ضوء الوضع العربي الراهن ، ان تتغير اوضاع العرب وتصبح لهم كلمة في مجال الحضارة وميزان القوى الدولي ، ومن ثم فانه من المستبعد حاليا ان تتغير الامور وتعود اللغة العربية الى مكانتها السابقة ، ولكننا نريد الاحتفاظ بالجزء اليسير الباقي من هذه اللغة ، فعلى الرغم من ان المتحدثين باللغة العربية يصل لقرابة النصف مليار نسمة ، يضاف لهم ايضا اكثر من نصف مليار مسلم لهم علاقة بالعربية بشكل او باخر رغم كل ذلك ، الا اللغة العربية تعاني هذه الايام حالة من الضعف والهوان ، ضعف العربية يقف وراءه اسباب لعل اولها السياسة ، فتردي الواقع السياسي العربي دفع بعض العرب للانتقام من لغته واحتقارها ، كنوع من جلد الذات وازدراء الواقع المحيط بهم كردة فعل انفعالية عاطفية منتقمة من كل ما حولها ، فراح يدعو ابناءه الى تعلم اللغات الاجنبية ، بعد ان شاهد تراجع إقبال الأجانب على دراسة اللغة العربية ، لانهم لم يجدوا دافعا يدفعهم او يشجعهم على دراستها في ظل الواقع العربي البائس .




صدر في الآونة الاخيرة تقرير عن منظمة اليونسكو ، يتنبأ بموت اللغة العربية واقتصار دورها على المساجد وقراءة القرآن وأنها مهددة بالانقراض ضمن مجموعة لغات أخرى خلال فترة قصيرة ،وهو الامر الذي يجب ان نقف عنده جميعا ، ذلك لان موت اللغات امر شائع ، ومن ثم فاللغة العربية ليست بدعا من اللغات حتى لا يصيبها هذا الموت ،فاللغات ومنها العربية كائنات اجتماعية حية ، تولد وتنمو وتموت ، مثلها مثل كل الكائنات الحية . وبناء على ذلك فـ ( اللغة الميتة ) هي اللغة التي لم تعد مستعملة في الحياة اليومية بين أفراد الجماعة اللغوية ، حتى لو كانت مستعملة في نطاق ضيق كالعبادات الدينية كما في الأديرة والكنائس ، أو كانت مقصورة على المستوى الأدبي فقط ، ومن امثلتها القبطية والسريانية واللاتينية والسنسكريتية .
دعوني في سياق الرد على هذا التقرير ان اذكر الجميع باننا نؤمن جميعا بان الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ اللغة العربية عندما وعد بحفظ كتابه ومن ثم حفظ اللغة العربية التي نزل بها ، عندما قال : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، ولكن ان نتكل على الغيب وحده في حفظ لغتنا ، ففي هذا مؤشر على عجزنا ، ولاسيما ان القران كما يقول شيوخ اللغة العربية واساتذتها ( كمحمود تيمور في كتابه مشكلات اللغة العربية ص 7 ) لم يحفظ اللغة العربية كلها ، فالقران الكريم ، انما احتوى على (30%) من جذور اللغة العربية ، وعلى نحو عام ومع تسليمنا بحفظ القران للغة العربية ، وانها ما زالت حية بعد اربعة عشر قرنا ، بل وتحتل اليوم الموقع الثالث في لغات العالم من جهة عدد الدول التي تقرها لغة رسمية، والموقع السادس من جهة عدد المتكلمين بها، كما انها إحدى اللغات الست الرسمية في منظمة الأمم المتحدة ، كل ذلك بفضل حفظ القران لها ، على الرغم من احتوائه على نسبة الــ(30%) من جذورها ، نقول على الرغم من ذلك ، الا اننا نبقى مطالبين بالمساهمة في الحفاظ على لغتنا ، والا نتكل على الغيب وحده بحفظها ، وعندما نقول ذلك لا نريد ان اعادة المجد للغتنا عندما كانت لغة الطب والصيدلة والفلك والجبر والرياضيات وعلوم الفقه والفلسفة، بها كتب ابن سينا وأبوبكر الـرازي كتبهـما فـي الطـب، وبـها كـتب ابن رشـد والغـزالي ، وبها كتب ابن النفيس وابن خلدون، وبها ترجم المترجمون بدائع الكتب اليونانية وغيرها. انما نسعى الى حفظها من الاندثار حسب .
تشير أشهر الإحصائيات العالمية في مجال عدد لغات العالم ،ومنها كتاب "حقائق العالم" الصادر من الاستخبارات الأمريكية و"إنكارتا" وايضاً "إثنولوج" ،تشير تلك الدراسات الى ان عدد لغات العالم يبلغ حوالي سبع الاف لغة ، وقد أجمعت معظم الاحصائيات والمصادر على ترتيب قائمة بعشر لغات في العالم هي الأكثر انتشارا من جهة عدد المتكلمين فيها ونسبتهم من عدد سكان العالم :( الانجليزية ـ الصينية ـ الهندية ـ العربية ـ الاسبانية ـ الروسية ـ البرتغالية ـ البنغالية ـ الفرنسية ـ الالمانية ) ، وعلى وفق تلك الاحصائيات احتلت اللغة العربية كما هو مؤشر المرتبة الرابعة بين لغات العالم ، فهي لغة القرآن الكريم و لا تصح العبادات و الصلوات في الإسلام إلا بإتقان اللغة العربية ، و هي أيضاً لغة تستخدمها الكثير من الكنائس في الوطن العربي ، كما أن أهم الأعمال اليهودية الدينية و الفكرية كتبت في اللغة العربية ،و أثرت اللغة العربية بشكل مباشر أو غير مباشر على الكثير من اللغات الأخرى مثل : الإسبانية و التركية و البرتغالية و الماليزية و الإندونيسية و غيرها من الدول .
ومن اجل الحفاظ على هذه اللغة ، ندعو المتحدثين باللغة العربية الى الاكتفاء بمعرفة الامور الاساسية والمهمة التي تمكّنهم من الحديث بعربية سلسلة وسليمة، وان يتركوا الخلافات والحسابات المعقدة لـ(الفراء) و(سيبويه) واهل الاختصاص ، كما اني لا ادعوهم الى التعامل باللغة الفصحى مع بعضهم في حياتهم اليومية ، ذلك لأني لا أتخيل نفسي أن أقول لولدي في البيت: أعطني جهاز التحكّم باللاقط الفضائي يا بُني، أو أقول لصديقي: هل لديك هاتف التوت البري؟ ، ولكني ادعو على سبيل المثال الجهات المسؤولة عن التوظيف في البلدان العربية الى مطالبة المتقدم لشغل وظيفة ما أن يكون حصوله على شهادة سلامة اللغة العربية شرطا اساسيا من شروط الوظيفة، ولاسيما إذا كانت الوظيفة تتطلب اتقان اللغة العربية في المخاطبات الرسمية ، كما ادعو ادارات المدارس الاولية او الابتدائية الى تدريب التلاميذ على قواعد اللغة البسيطة ، كما ادعو الاسر العربية الى الامر ذاته ، لان التلميذ الذي لا يكتفي بدراسة اللغة في المدرسة حسب ، وإنما يستخدمها كذلك في حياته اليومية في التواصل مع اسرته ، سيجد سهولة في اتقان تلك اللغة ، علينا ان نغرس في أولادنا حب اللغة العربية ، بأن نوفر لهم وسائل التفاعل معها، من خلال قراءة القرآن الكريم وحفظه، فهو أصل اللغة ومنبعها ، وكذلك مطالعة الكتب العربية، وقراءة الشعر والاستماع إليه، وقراءة تاريخ العرب وأيامهم، وحضور المنتديات الأدبية والثقافية حتى يشعر أولادنا بانتمائهم للغة الضاد ، وفضلا عن ذلك فان الرسالة الإعلامية المسؤولة التي تتوجه لملايين الناطقين باللغة العربية ، سيكون لها الاثر الفاعل في حياتهم ، لأن الإعلام هو الذي يقود اتجاه الثقافة في كل المجتمعات ، فضلا عن وجود جهة رقابية تتابع استخدام اللغة في اللافتات الإرشادية أو التجارية الموجودة في الشوارع، أو غير ذلك من المطبوعات ذات الطابع التجاري، مثل كتيبات الدعاية أو غيرها ، ببساطة علينا المحافظة على اللغة العربية عبر احاديثنا ومجالسنا الرسمية ، فضلا عن مخاطباتنا الرسمية ،ودعوتنا هذه لا تعني إهمال تعلم اللغات الأخرى، بل ينبغي علينا أن نتعلم من اللغات الأخرى ما يعيننا على التواصل مع الآخرين والاستفادة من علومهم، دون أن ينسينا هذا أهمية اللغة العربية وتقديمها على غيرها من اللغات ، وهو ما نشاهده في بعض البلدان العربية التي راح تتنافس السنة بعض افرادها في اختيار اللغات التي تبعدها عن اللغة الأصلية ، وراحت المدارس تتبارى في توفير اللغات الأجنبية في مناهجها لإرضاء أكبر عدد ممكن من أولياء الأمور الباحثين عن لغات أجنبية لأبنائهم .
وفي سياق الحفاظ على اللغة العربية ، دعت المنظمة العربية والثقافة والعلوم ( الاونسكو ) الى العمل على زيادة ما ينشر على الانترنت باللغة العربية بغية الدخول إلى مجتمع المعرفة والتأكيد على إيلاء اهمية لاستعمال اللغة العربية السليمة في الإعلام العربي والإعلان نظراً لأهمية ذلك في التوعية ، فقد استطاعت اللغة العربية أن تؤكد حضورها الثقافي والعلمي الفاعل على مر العصور، وقدرتها على الاستفادة من تقنيات العلم وآلاته المتطورة، من الطباعة بالألواح والحروف، إلى الطباعة الرقمية، وخير شاهد على ذلك الحاسوب، فقد أصبحت اللغة العربية جزءً من برامجه وأنظمته، على الرغم من بعض المشكلات التي تواجه المستخدم ، الا ان التطور العلمي كفيل بحل تلك المشكلات ،وقدم لها الحاسوب آليات طباعة سريعة ومتطورة كماً ونوعاً، تخدم الكاتب والقارئ، وتساعد المتعلم المبتدئ والمثقف المختص، وتشهد على ذلك الكتب الرقمية باللغة العربية التي أصبحت تنافس الكتب الورقية، على الرغم من انتشار الأمية في الوطن العربي، وازدياد نسبتها، وعلى الرغم من قلة انتشار الحاسوب وضعف خدمات الشبكة، ونحن هنا نطالب الجامعات العربية الى ايلاء هذا الامر اهتمامهم ، ولاسيما ان المجتمع الجامعي من افضل المنظمات الاجتماعية استجابة لهذا المطلب ، واقدرها على تطوير معاقل الفكر, ومن ثم لابد للجامعة من ان تتجاوب مع حاجات مجتمعاتها ، متأثرة بالأحداث الواقعة عليه .
نحن كأمة عربية لابد أن نفخر بلغتنا العربية ونبادر إلى استخدامها وتعليمها لمن يعيش على الارض العربية، كأبناء الجاليات الاخرى التي تعيش بيننا ، ولنأخذ من المجتمعات الغربية درسا بهذا الخصوص عندما اشترطت على الراغبين في الإقامة الدائمة فيها الحصول على شهادة دولية معترف بها من جهة معتمدة تفيد إجادة اللغة المستخدمة في هذه المجتمعات، والسبب وراء ذلك هو حرصها على المحافظة على تراثها القومي ، ذلك لان اللغة في كل أمة هي قاعدة الوعي والإحساس الذاتي بكيانها، لأنها المعبّر الأصيل عن الهوية القومية لها ، فقد باتت اللغة والهوية صنوان يصعب الفصل بينهما ، بل ان بعض المفكرين نظر الى الهوية بوصفها ظاهرة لغوية وخاصية من خصائص اللغة ووظيفة من وظائفها الاساسية ، ومن ثم راح ينظر الى اللغة بوصفها معقلاً من معاقل الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية كونها تعبر عن ذات الامة وشخصية الشعوب المنتمية لها ، ولا ريب أن البون شاسع بين إعادة تأسيس هوية ثقافية، وصقل معالمها، وما يندرج تحت هذه العملية من جدلية عميقة وتفاعل خصب بين مقومات الشخصية العربية في التراث الحضاري العربي, وبين استعارة هوية ثقافية جاهزة يدعو إليها مروجو النموذج الغربي للتقدم في الوطن العربي .
مما لاشك فيه أن اللغة تشبه المولود الذي ينتظر من أهله وذويه أن يتعهدوه بالرعاية حتى ينمو ويكبر، أما إذا تعرض للإهمال فإنه يذبل ويضعف ويموت، ومسؤولية رعاية اللغة لا يمكن إلقاؤها على جيل بعينه أو مجتمع بصفته، ولكنها مسؤولية مشتركة بين جميع من ينطق باللغة العربية، كما لا تحتاج هذه المسؤولية إلى فترة زمنية محددة للوفاء بها، ولكن من المهم أن يضع كل ناطق بهذه اللغة ضمن أولوياته استخدامها وتعليمها لأبنائه، وعلينا أن نفهم أن كل عربي إذا ساهم في الابتعاد عن أصل اللغة خطوة واحدة سنجد أن عامل الوقت لن يكون في صالح هذه اللغة، لأن عدة خطوات في اتجاهات عدة قد تسهم في القضاء على مستقبل لغتنا الجميلة وتدفع بها في اتجاه الانهيار، ولاسيما في ظل العولمة التي يعيشها العالم حاليا ، كما انه ليست هناك دولة بعينها من الدول الــ22 التي يتكلم سكانها تلك اللغة ، مسؤولية خاصة في ذلك ، بل ان المسؤولية ملقاة على الجميع ، بدأ من سياساتها في التعليم والإعلام والثقافة ، ناهيك عن ان بعض الدول العربية مرتاحة من كونها ليست ذات استراتيجيات من الأساس .
إن قضية اللغة هي قضية ثقافة في المقام الأول ، فما يصيب اللغة من داء هو بسبب إصابة الثقافة به أولا ، فالداء كامن في الثقافة ، فلنجهد في البحث عنه وتحليله بكل الوسائل والمناهج الممكنة ، ومن ثم فنحن مدعوون للوقوف امام مواطن الخطر التي تهدد اللغة العربية ، مؤكدين في الوقت نفسه أن هذه المخاطر لا تكمن في اللغة ذاتها، لأن اللغة تحيا من خارجها لا من داخلها تحيا باستخدامها، وبإبداع الجماعة الناطقة بها ، ولاسيما واننا في عصر مضطرب تتهاوى فيه القمم وتتدهور فيه المظاهر ، ولعل من ابرز مظاهر التدهور التي اصابت اللغة العربية ، هي الازدواج اللغوي ، الذي يعني اختلاف لغة الكتابة عن لغة الحديث اليومي أي اختلاف بين الفصحى والعامية والمعلوم أن اللغة الفصحى لا تنتقل من السلف إلى الخلف من سن الطفولة عن طريق التقليد كما تنتقل العامية، وإنما تُتعلم في مراحل الدراسة ويقضي الدارسون سنين طويلة للإلمام بمفرداتها، ومناهج أصواتها، وقواعدها وأساليبها ( أي إن الفصحى لم تكن اللغة الأم للعرب أي اللغة التي تستخدم دون تعلم ومعرفة بالقواعد). ومع وجود هذا الازدواج في اللغات الأخرى ولكن الفروق بين لغة الكتابة ولغة الحديث اليومي( أو لغة الأم ) عندهم ليس شاسعا كما في اللغة العربية ، وعندنا يدخل التلميذ العربي المدرسة وقد أتقن العامية في سن القدرة اللغوية، ويفاجأ بأن لغة المعرفة ليست اللغة التي تزود بها وأتقنها، وإنما هي لغة أخرى تختلف في ألفاظها ومفرداتها كما أنها تختلف في قواعدها ، وقد اقترح المربون العرب الافاضل حلولا لهذه المشكلات ، لا يسعنا ذكرها او التفصيل فيها هنا ، نظرا لضيق المقام .
تصطنع اللغة الفصحى في مجالات العلم والآداب وهي التي حفظت التراث الفكري للعرب والمسلمين، ويفترض أن تكون هي لغة الإعلام مرئياً أو مسموعاً في زماننا هذا . والنظرة المتشائمة تقول إن الإعلام بصوره المختلفة ربما أفضى بنا إلى تمزق لغوي يجعل من كل لهجة لغة قائمة بذاتها، ولقد برزت دعوة لإحلال العامية محل الفصحى في مجال الأدب والإعلام .
وأقدم دعوة من هذا النوع كان من ورائها أعداء اللغة العربية والإسلام من الغربيين ومن عملائهم من العرب والمسلمين من أمثال سلامة موسى وفريحة وغيرهم .إن اصطناع العامية في الآداب والفنون من شأنه ان يحول عاجلاً أو آجلاً بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث العربي المدون بالفصحى، كما أن اللغة العامية غير ثابتة، وهي تختلف باختلاف الشعوب العربية ، وفي الشعب الواحد باختلاف اقاليمه ، ونلمس كذلك طغيان العامية في المقالات والإعلانات وفي تقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية فتخسر الفصحى بذلك إحدى قلاعها الحصينة وهو الإعلام بدعوى إقبال الجمهور على العامية، مع كون برامج الإعلام يفترض فيها أن تكون موجِهة لا موجَّهة ، قد يقال إن غالبية الجمهور أميون ،إن هذا الجمهور الأمي نفسه يستمع إلى خطبة الجمعة بالفصحى ويعيها، وهو نفسه قد كان يستمع إلى أغان بالفصحى لأبي فراس الحمداني وإبراهيم ناجي وعلى محمود طه ، ولكنه قد حُجِب حالياً عن هذه النماذج الراقية ، وصار الترويج عنده لأغان هي بضاعة فاسدة جنايتها على لغة المستمعين والمشاهدين هائلة. ولم تقصر الفضائيات الكثيرة من الترويج للعامية ترفدها في ذلك الشبكة النسيجية التي تكثر فيها المواقع التي تدعم العامية إن الإعلام هو أكثر الأنشطة الاجتماعية استخداما للغة منطوقة كانت أو مكتوبة وتقع على عاتقه مسؤولية النهوض بالأداء ، إن الاختلاف بين لغة الحديث ولغة الكتابة هو السنة الطبيعية في اللغات من لدن الجاهلية ، حيث كانت لهم لهجات كثيرة يتحدثون بها في ما بينهم، ولم يحفل بها الشعراء والخطباء, والأمر نفسه موجود في اللغات الأخرى ولم يشكل شذوذاً ولم يلتمس له علاجاً .
ومن مظاهر التدهور الاخرى ، الميل الى استعمال اللغات الأجنبية على حساب اللغة الام ، ويتجلى هذا الامر في الدعوة إلى الإغراق في سيل من الألفاظ الأجنبية دون قيد أو شرط، ودون أن تراعى أوزان العربية وحروفها وأصواتها, إن هذه الدعوة تشبه الدعوة إلى فتح الأبواب مشرعة أمام البضاعة الأجنبية دون قيد، بحجة رفع مستوى الحياة الاجتماعية، او بحجة ارتباط اللغة العربية بالإرهاب المستشري في العالم ، ومن ثم فان هذه الدعاوى تقف خلفها نية لقتل البضاعة الوطنية ويظهر هذا في جريان الألفاظ الأجنبية على الألسنة العربية ، ويدخل في هذا تسمية المحلات التجارية بالأسماء الأجنبية ، ولا يخفى أن في هذا الأمر إضعاف للعربية ويبدأ المرض في نفوس هؤلاء بشعور وهمي بالانتماء الفكري إلى مجتمع غير عربي لأن هؤلاء مصابون بعقدة الضعة يجد الواحد منهم نفسه حقيراً إذا نطق بالعربية ، وإذا نطق بغيرها من كلام من يعتبرهم عظماء وسادة دخل في زمرتهم, ومن هذا النزوع إدخال الأطفال في الوطن العربي في سن صغيرة جداً إلى مدارس أجنبية ، ولسبب ما يكون الاهتمام باللغات الأجنبية أكبر من العربية, ولسبب ما يجد الطفل اللغة الأجنبية أسهل من العربية ويصرحون بعدم حبهم للعربية ، وهناك مدارس تشترط على الاطفال إجادة اللغة الأجنبية, الأمر الذي وقف حائلاً أمام المواطن في منطقتنا العربية دون الحصول على لقمة العيش، ويصحب ذلك تأثير إعلامي قائم على صخب وتبشير بعالمية اللغة الإنجليزية، ومن مظاهر النزوع إلى اللغات الأجنبية ظاهرة تسمية المحلات التجارية بالأسماء الأجنبية ، او العربنيزي او الاربيش ، وهذه الظاهرة التي يزاوج فيها بين العربية والانجليزية ، باتت تزحف نحو لغة الحديث اليومي ، بل حتى النتاج الفني ، ومن امثلتها قولهم :
أيا ذا القلب لا تحزن فذاك الحب إنفيكـشن
فلن تجدي عقاقيـر ولن تشفيك إنجيكشـن
فكم من عاقل فطن مضى بالحب دايريكشن
ستنـكـره وتنسـاه ولن يبقى له مينشن
ولا يحزنك من باعك فقد أخطأت سيليكشن

وفي هذا الخصوص اود الإشارة الى تجارب الشعوب التي تحترم ثقافتها ، ومن امثلتها الشعب الكوري ، فبعد استقلال كوريا اصدروا مرسوما ينص على منع تداول اللغة اليابانية ( لغة المحتل ). وهكذا تجربة فيتنام . أما تنزانيا فقد دافعت عن السواحيلية في مقابل الإنجليزية حتى صارت جامعاتها تدرس العلوم بما فيها الطب والهندسة بالسواحيلية ، وهكذا هي الدول التي تحترم نفسها ، ولا نريد هنا استعراض تجارب الامم المختلفة بهذا الشأن ، نظرا لضيق المقام ، ولكني سأكتفي بالقول ان الالمان يرفضون استعمال المصطلحات الانجليزية في لغتهم ، ويعدون الشخص الذي يميل الى تطعيم لغته ببعض المفردات الانجليزية بانه يريد المباهاة لاغير ، من جانبهم يحب الفرنسيون لغتهم بشكل قوي، وهو جزء من التقاليد الفرنسية التي تنعكس في وجود قانون لاستخدام اللغة الفرنسية بهدف حمايتها من غزو المصطلحات الإنجليزية. وعلى سبيل المثال، اعتبر الرئيس ساركوزي في خطاب له قبل الانتخابات، بلاده ولغتها وجهان لعملة واحدة قائلاً: "إن فرنسا بحد ذاتها هي لغة ، صحيح أن اللغة الإنجليزية مطلوبة من أجل التواصل العلمي العالمي ، ونحن هنا عندما نشير الى هذه النماذج لا يعني دعوتنا الى التخلي عن تعلم اللغات الأجنبية، بل من المهم جدا أن يتقن العربي لغة أجنبية واحدة على الأقل، وهو أمر يقتضيه الانفتاح على الحضارات الأخرى أخذا وعطاء، ولكن ليس من المقبول أن نأخذ بالحزم في تعلم اللغات الأخرى وبالتضييع في تعلم اللغة العربية فإنه لم ينهض شعب في العالم قدّم وفضّل لغة غيره على لغة قومه.
قد يبرر بعض الناس نفوره من تعلم العربية بانها لغة صعبة ، مقابل اللغة الانجليزية او اللغات الاخرى ، وهنا اود الاستشهاد بقول احد المتخصصين (فاضل السامرائي ) ، اذ يقول : ومن عجب أن أبناءنا يكابدون صعوبة النحو في اللغات الأجنبية ، دون كلل بينما يجأرون بالشكوى من نحو العربية فيطالبون بإعدام نون النسوة وتاء التأنيث ، كأنهم يريدون رطانة لا تفرق بين العاقل وغير العاقل وبين المذكر والمؤنث وبين المتكلم والمخاطب حاضراً أو غائباً ، وبين المفرد والمثنى والجمع، وحينما سئل السامرائي عن صعوبة العربية مقابل اللغة الانجليزية ، قال : ان اللغة العربية شبيهة بجهاز يملك إمكانات كثيرة في التشغيل ، في حين ان اللغة الاخرى تشبه جهازا لا يوفر لك كل تلك الإمكانات، من ثم فقد يكون تشغيل الجهاز الأول أصعب ، من هنا لابد من التأني في اختيار معلمي اللغة العربية ، فاللغة العربية بما تحويه من بنية صوتية ، وما تشتمل عليه من مهارات متعددة قل أن توجد في غيرها من لغات العالم ،تحتاج إلى معلم متميز في الموهبة والإعداد والعقل والتجربة لإعداد جيل قيادي ، ذلك ان من أصعب الأشياء على النفس أن تقوم بعمل لا تحبه ، وقد اقترح الاساتذة المختصون امثال رمضان عبد التواب بهذا الخصوص ان يصار الى انتقاء طالب اللغة العربية انتقاء ، من ذوي الاستعداد والموهبة من حملة الشهادة الاعدادية ، والا يصار الى قبولهم في هذه الاقسام على الرغم منهم ، كما هو حاصل اليوم ، ومما يعين في تعليم اللغة العربية الاهتمام بالمرحلة الابتدائية ويلاحظ أن معلم هذه المرحلة على الدول المتقدمة يختار من أكفأ الأساتذة ، وتغدق عليه الأموال ، ولا بد أن يكون مؤهلاً بشهادات عليا في التربية وعلم النفس، لأن الطفل في هذه المرحلة إما أن يقبل على اللغة أو يمقتها إلى الأبد.





عبد الكريم خضير السعيدي



#عبد_الكريم_السعيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضريبة الغربة
- رأي في توظيف العلم في النص الروائي المعاصر.
- المترجم في روايات ما بعد التغيير العراقية
- الى ابرهة الحبشي مع التحية !!!!!
- عادات وتقاليد اجتماعية موريتانية غريبة
- النتائج المترتبة على حرب غزة
- دور الأدب العربي في ترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان
- في ذكرى عزيز السيد جاسم الانسان والمفكر والروائي


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم السعيدي - لغتنا هويتنا