جواد بولكيد
الحوار المتمدن-العدد: 5268 - 2016 / 8 / 28 - 04:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
فلنتخيل قليلا إنسانا عاش قبل آلاف السنين داخل عشيرة بدائية أو في مدينة قديمة كأثينا أو بابل أو روما، و لنحاول الاقتراب مما قد يجول بباله و هو ينظر نحو السماء و يرى النجوم و القمر و الشمس، المنظر قطعا محير و ربما مخيف، لنتقدم الآن في الزمن و لنفحص فهمنا الحالي للكون و كم المعرفة التي صارت متاحة لنا و أهمية التفسيرات و النظريات العلمية التي أنتجتها البشرية خلال هذه الرحلة الطويلة. لا أظن أن شخصا ما قد ينكر أن معرفتنا الحالية بخبايا الكون و الحياة هي أكبر بكثير من معرفة شخص عاش في كنف الإمبراطورية الرومانية أو في مصر الفرعونية أو في الجزيرة العربية قبيل مجيء الإسلام، و لا حاجة لأن نشير إلى كون العلم الحديث و التكنولوجيا المعاصرة هي أساس هذه المعرفة الجديدة، في حين كان الأمل الوحيد للإنسان في الفترات المبكرة من التاريخ لتملك أجوبة هو الخيال، و قد شكلت الأسطورة أحد أهم الوسائل لتفسير الحياة و الوجود و كان الدين هو الإطار الذي وضعت فيه البشرية منظومة المفاهيم الغيبية التي لخصت فهمها البدائي لمختلف الظواهر الطبيعية و جوابها على أسئلة الحياة و الموت، لكن إذا كان العلم يستمد قوته من المنهج العلمي و من الأدلة التجريبية فما هو مصدر قوة التفسيرات الدينية؟
لقد كانت الآلهة الإغريقية ذات وجود "واقعي" في حياة اليونانيين و كانت تسكن الأرض في جبل "الأوليمب" مجاورة لهم، بل إنها كانت في تصورهم تتدخل و تتفاعل مع الأحداث و قد تتزوج و تنجب من البشر أنصاف آلهة، و كانت المعجزات التي تنجزها الآلهة و أنصاف الآلهة قصصا تحكى، قد نراها اليوم مجرد أساطير و لكنها في نظر اليوناني البسيط الذي عاش هذه الفترة وقائع حقيقية، و كلنا سمعنا قصص "هرقل" و "أشيل" و غيرهم من الأبطال الإغريقيين ممن تحدوا الوحوش و خاضوا الحروب مع البشر و عوضا عنهم: حتى أن ملحمة تاريخية كالإلياذة جعلت من "أشيل" طرفا فاعلا في أحداث تاريخية يفترض أنها حقيقية. هذه الفترة المتقدمة من التاريخ الإنساني ربما كانت تسمح بوجود آلهة أرضية نظرا لجهل الناس بأبسط قوانين الفيزياء و استعدادهم لتصديق القصص الأسطورية، لكن هل كانت معجزات حقا؟ لقد استمر الإنسان في خلق و تملك هذه الأساطير على مدى قرون عديدة، و ككل الظواهر الإنسانية تطورت الأديان و عرفت منطقة الشرق الأوسط بالخصوص بروز الديانات التوحيدية كنسخة مطورة للمعتقدات القديمة و انتقلت الآلهة من التعدد إلى الوحدانية و أصبحت تسكن السماء بدلا عن الأرض، ربما لأن العقل الإنساني أصبح أكثر نضجا؟ و لم يعد قابلا لتصديق آلهة تسكن الجبال، لكن هذا التطور في الخيال الديني لم يلغ الحاجة إلى ما قد يضفي مصداقية على هذه المعتقدات التي ظلت غيبية و لاعقلانية، و كان لا بد من استمرار المعجزة كدليل على حقيقة هذه الأديان في ذهن عامة الناس على الأقل. و كما تطورت الأديان تطورت المعجزات و أصبحت تتخذ في جل الأحيان صبغة القوة الخارقة التي تثبت الوحي و النبوة الإلهية سواء أتعلق الأمر بخاتم سليمان أو بعصا موسى أو مشي يسوع على الماء و علاجه الأمراض و إحيائه الموتى....نستطيع أن نقول إذن، أن الدليل الأهم الذي تعتمد عليه الديانات عموما، و الإبراهيمية خصوصا، لإثبات صدقها و حقيقتها هو "مفهوم" المعجزة.
لن يجادل أحد اليوم في كون الآلهة الإغريقية و البابلية محض أسطورة و أن هرقل و أشيل هما شخصيتان خياليتان، لكن الكثيرين لا يزالون مصدقين بكون موسى قد شق البحر بعصاه و أن يسوع ولد من عذراء.. فلماذا إذن تخلينا عن أساطير اليونان؟ و لماذا نعجز عن تخطي أساطير لا تختلف عنها كثيرا؟
من وجهة نظر تاريخية يرجع اختفاء المعتقدات الوثنية في أوروبا و الشرق الأوسط و في بقاع أخرى من العالم، إلى الصراع الديني التي عرفته هذه المناطق و انتصار الديانات التوحيدية على المعتقدات القديمة، و هو صراع اتخذ طابعا عسكريا في غالب الأحيان، حيث تم فرض دين المنتصر على المنهزم، و رغم أننا اليوم قد نعتقد أن العلم و الفكر العقلاني هو من قضى على هذه المعتقدات إلا أننا سرعان ما سنتوقف على كون هذا الادعاء ليس إلا افتراضا خاطئا، فلا يوجد فرق حقيقي بين تصديق ولادة هرقل من الإله "زوس" و ولادة المسيح من الله، من وجهة نظر علمية. فكيف استطاعت إذن الديانات التوحيدية الحفاظ على مصداقيتها رغم التنافي و التناقض الصارخ بينها و بين معطيات العلم الحديث؟
ذكرنا سابقا أن المعجزات تعتبر أحد أهم "الدلائل" التي بررت الرسالات و النبوءات و أعطتها صفة الحقيقة و مازلنا اليوم نطالع في المواقع الدينية صورا للمسيح على حبة طماطم أو كتابة لاسم الرسول محمد على ذراع مولود، لكن طفرة أساسية طرأت على استدلال المتدينين هي ما يسمونه الإعجاز العلمي. لقد أيقن رجال الدين و المستفيدون معهم من استمرار الديانات ( لأهداف سياسية) أن الدليل العلمي أصبح أقوى من أن تتم مواجهته بالقصص الدينية القديمة حول القدرات الخارقة، لأنبياء يحدثون الحيوانات و يبعثون من الموت و يسافرون إلى الفضاء الخارجي و لذلك تم تسخير موارد هائلة لأجل البحث داخل الكتب المقدسة عن كل ما يمكن اعتباره سبقا علميا حققته هذه الكتب على العلم الحديث. لا يتسع المجال هنا لتعداد الأمثلة و دحضها لكن الخلاصة الأساسية أن كل هذه المحاولات، تعتبر في العمق اعترافا من أصحاب هذه الديانات على ضعف أدلتهم القديمة و انكسارها و على قوة الحجة العلمية، و إلا فلماذا لجوءهم للعلم كوسيلة لإثبات صدق أديانهم؟
#جواد_بولكيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟