|
الفتنة. . نصٌ وثائقي ببناء معماري ركيك
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5200 - 2016 / 6 / 21 - 13:08
المحور:
الادب والفن
ما الذي يدفع مهندسًا معماريًا وكاتبًا سياسيًا مثل كنعان مكية لأن يكتب نصًا روائيًا؟ هل أن بريق الرواية قد أغراه لخوض هذه التجربة الأدبية التي تحتاج إلى خبرات فنية واسعة، ومؤهلات إبداعية قد لا يتوفر عليها كاتب النص الذي تسلل من دهاليز السياسة ومؤامراتها إلى فضاءات الأدب النقيّة، أم أن هناك أسبابًا أخرى حرّضته على كتابة هذه الرواية التي صدرت بطبعتها الإنكليزية عن "دار بانثيون" تحت عنوان The Rope ، أما ترجمتها العربية التي صدرت عن "منشورات الجمل" فقد ظهرت بعنوان "الفتنة" لكنها خلت من اسم المترجم الأمر الذي يوحي لنا بأن الكاتب قد ترجمها بنفسه وارتكب العديد من الأخطاء اللغوية والإملائية التي تقع خارج اهتمام هذه الدراسة النقدية. لكي نتقصّى دوافع كتابة هذا النص الروائي لابد لنا من التفتيش بين ثنايا الرواية نفسها وإشارات الكاتب التي قد تزودنا ببعض المفاتيح. يقول راوي النص الذي كان يحمل دفتر ملاحظاته في حقيبة قديمة: "أحملُ تلك الدفاتر معي حيثما ذهبت لأنني أقسمتُ أمام الله ونبيّه أن أسجِّل الحقيقة التي بدأتُ برؤيتها منذ ذلك اليوم، منذ تدلّى جسد الطاغية مُعلّقًا في حبل طوله مائة وعشرون سنتمترا"(ص14). يبدو أن الراوي مسكون بهاجس "التسجيل" الذي يوثِّق بواسطته الوقائع والأحداث وكأنه يتهيأ لكتابة نص توثيقي يعتمد على الحقائق والأرقام. وعلى الرغم من أهمية بعض هذه الأدلة الدامغة إلاّ أنها لا تنفع في كتابة نص روائي يجمع بين الحقيقة والخيال، ويحتاج إلى بناء معماري متقن، وشخصيات حيوية متفاعلة، ونهاية تنويرية تعْلق في ذاكرة القرّاء. وفي موضع آخر يعترف الراوي بحقيقة صادمة حينما يقول: "أخترت لأكتب قصة السيد مجيد. أمي وأبي أرادا ذلك. لأجلهما كتبتها. يشهد الله كم عانيت في كتابتها"(ص307). إذن، لم ينْوِ المؤلف مكيّة، الذي يختبئ خلف قناع الراوي، كتابة هذه الرواية لولا رغبة والديه التي حشرتْه في هذا المناخ التراجيدي المفجع الذي سبّب له الكثير من الآلام والمعاناة. لعل القارئ يتحرّق شوقًا لمعرفة ثيمة الرواية، وأحداثها المؤسية، وشخصياتها الرئيسة والثانوية، والمصير الذي آلت إليه كل شخصية على انفراد. إن من يقرأ رواية "الفتنة" يعتقد أنها تتمحور على مقتل السيد مجيد الخوئي في النجف يوم سقوط الطاغية لأن قسمًا كبيرًا من الأحداث تدور حول البحث عن هوية القاتل: هل هو السيد، قائد جيش الإمام المُنتظر، أم أن هناك أعداءً آخرين له خصوصًا أولئك الذين وصفوه بـ "العميل الأميركي" وقتلوه بذريعة التعامل مع القوات المحتلة؟ لعل هناك مِنْ يعتقد أن الرواية تدور حول الساعات الثلاث وبضع دقائق التي تمّ فيها تسليم الطاغية إلى الحكومة العراقية التي اقتادته إلى الشعبة الخامسة في الكاظمية وأعدمته في اليوم الأول من عيد الأضحى لإثارة الفتنة، واستفزاز المكون السُني. وكما قال الراوي: "لقد كان أمرًا مُحرجًا من بدايته إلى نهايته. ما حدث كان عارًا ولم يبدُ أبدًا كعملية إعدام وفق القانون"(ص28) كما يلعب الطاغية دورًا مهمًا في الكشف عن الشخص الذي أوشى بوالد الراوي وغدر به ولا غرابة في أن تكون النهاية صادمة عندما نعلم بأن الواشي هو عمّ الراوي نفسه ولولا اللقاء الخيالي الذي جمع الراوي بالطاغية في تلك الغرفة الكئيبة لارتبكت النهاية وفقدت الرواية عنصرين من عناصرها الأساسية وهما المفاجأة والبناء المعماري الرصين. تبدو الرواية من جهة ثالثة وكأنها بحث ودراسة في شخصيتين أساسيتين وهما الراوي وصديقه حيدر اللذين التحقا بجيش الإمام المُنتظر، وقاتلا المحتل الأميركي قبل أن يحوِّل "عصابة الثلاثة عشر" أو ما يُطلق عليهم خطأً بـ "البيت الشيعي" كراهيتهم نحو الداخل بهدف إثارة الفتنة. كل هذه القراءات صحيحة وممكنة لكنها منسوجة نسجًا بوليسيًا فظًا ومضطربًا لا أثر فيه للبراعة أو الحِرفة الروائية. تتناول الرواية موضوعات شتّى أضرّت بالنسق العام لها. فالكاتب كنعان مكيّة ليس روائيًا وقد جمع معلومات كثيرة بعضها ملفق مثل حادث تفجير ضريح الإمامين العسكريين بسامراء الذي ينسبه الكاتب إلى منظمة وهابية بينما قطع القائد الأميركي جورج كيسي الشك باليقين حينما أعلن عن تورط إيران في تدبير هذا العمل الإرهابي، وبعضها الثاني يمجد الخرافة مثل أسطورة المهدي المنتظر وما شاكلها من قصص خرافية تنسجها الذاكرة الشعبية البسيطة، وبعضها الثالث ينطوي على مبالغة صريحة في رسم صورة الدكتاتور الذي أذلّ سجانيه الجُدد وظل صامدًا حتى اللحظات الأخيرة قبل أن يتدلى جسده من حبل المشنقة. إن سرد أسماء المليشيات الشيعية والسنية لم يخدم النص الروائي لأن القارئ يعرف هذه المليشيات جيدًا وقد عانى القسم الأكبر من العراقيين من جرائمها ووحشية قادتها الذين فقدوا إنسانيتهم وكان على الكاتب أن يكتفي بذكر المجموع الكلي لها للإشارة إلى الفوضى التي أعقبت سقوط الطاغية ودور إيران في تغذية النَفَس الطائفي من خلال المليشيات التي كانت تغتال ضباط القوة الجوية أو القادة البعثيين سواء أكانوا سُنة أم شيعة. لا شك في أن هذه الرواية تنطوي على جرأة واضحة وشجاعة كبيرة لكنها جاءت متأخرة جدًا في تعرية الأحزاب الدينية الطائفية التي تمسك بزمام السلطة في العراق. فإذا كان السيد، قائد جيش الإمام المنتظر، متورط بقتل السيد مجيد الخوئي، فإن أسرة الحكيم هي التي ورطت القوات الأميركية والحكومة العراقية بمسح "جند السماء" من وجه الأرض العراقية، وأن العداء المُستحكم بين الطرفين سوف يظل قائمًا إلى يوم الدين. لا يُقدِّم الكاتب كنعان مكيّة للقارئ السبب الذي أفضى إلى قتل السيد مجيد الخوئي لكنه يطرح ثلاثة أسئلة تبدو جميعها منطقية ومُحتملة وهي: "هل كان القتل نتيجة لصراع على الأموال؟ أم بسبب المشاجرة التافهة حول منْ باع نفسه للطاغية؟ أم نتيجة الحقد الدفين بين العرب والإيرانيين؟"(ص305). إن ركاكة البناء المعماري قد امتدت إلى الشخصيات ولا غرابة في أن يتوحش شخص مثل حيدر الذي غاب والده لكنه عاد من إيران محملاً بالأحقاد الدفينة والرغبة في الانتقام، بينما غاب والد الراوي في سجن الرضوانية تاركًا لابنه رسالة مليئة بالدعوة إلى التسامح على الرغم من منهج العنف الذي هيمن في الحقبة الدكتاتورية السوداء، لكن هذا العنف الممنهج قد تضاعف في زمن الأحزاب الدينية وقد أشار الكاتب غير مرة إلى مليشيات حزب الدعوة التي تدير السجون وتمارس التعذيب لتعيد العراقيين إلى لعبة الجلاد والضحية من جديد وكأن شيئًا لم يكن. لذلك قال مكية: "أعتذر أولاً من الشعب العراقي، وثانياً من الطائفة الشيعية، لأنني لعبت دورًا قبل حرب 2003 لإضفاء الشرعية الدولية والعالمية على أولئك الذين كنا نسميهم طيلة التسعينيات "المعارضة العراقية"، وهم الذين حكموا العراق بعد 2003. هؤلاء لا يستحقون وصفهم بمعارضين لنظام البعث، ولا يستحقون أن يحكموا أحداً. التاريخ سيسجل أنه ليس هناك تجربة سياسية فاشلة بحجم فشلهم، وخاصة المتشيعين منهم، فشل ستُضرب به الأمثال لأجيال. فشل لا مثيل له لا في القرن العشرين ولا هذا الذي نعيش مآسيه الآن، ولا حتى في أي بقعة من القارات الآسيوية والأفريقية والجنوب أمريكية"(ص363 ).
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفيلم الوثائقي الاستقصائي (نوري المالكي. . . الصورة الكاملة
...
-
الفن المفهومي في السينما والتصوير الفوتوغرافي
-
أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة
-
مائة سنة على الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين (2-2)
-
مائة سنة على الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين (1-2)
-
التشكيلي سعدي داود. . . ثيمات عراقية بتقنيات واقعية تعبيرية
-
هنا يكمن الفراغ. . . ترجمة سلسة لا تخلو من بعض الهَنَوات
-
العثور على أبي في بلاد ما بين النهرين
-
في مرآة الحرف . . . نصوص عضوية في أحسن تقويم
-
كالكنج أو الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها لسالمة صالح
-
سبي النساء الإيزيديات بصيغة وثائقية
-
وجوه بصرية مألوفة رسخت في ذاكرة الناس (3-3)
-
وجوه بصرية: سيرة مدينة بين التقريض والنقد اللاذع (2-3)
-
وجوه بصرية: الذات والموضوع في رباعيات الشاعر حسن البياتي (1-
...
-
رسائل ثقافية متبادلة بين الشاعر حسن البياني وبين أدباء آخرين
-
العيون السود ومتلازمة الخوف والانكسار
-
قراءة في رواية التيه والزيتون
-
التيه الفلسطيني ومأزق البحث عن الهوية
-
قراءات نقدية في شعر حسن البياتي ومؤلفاته وتراجمه على مدى ستة
...
-
50 كاتبًا عراقيًا وعربيًا يشيدون بأشعار حسن البياتي وتراجمه
المزيد.....
-
بيت المدى يستذكر -راهب المسرح- منذر حلمي
-
وزير خارجية إيران: من الواضح أن الرئيس الأمريكي هو من يقود ه
...
-
غزة تودع الفنان والناشط محمود خميس شراب بعدما رسم البسمة وسط
...
-
شاهد.. بطل في الفنون القتالية المختلطة يتدرب في فرن لأكثر من
...
-
فيلم -ريستارت-.. رؤية طبقية عن الهلع من الفقراء
-
حين يتحول التاريخ إلى دراما قومية.. كيف تصور السينما الصراع
...
-
طهران تحت النار: كيف تحولت المساحات الرقمية إلى ملاجئ لشباب
...
-
يونس عتبان.. الاستعانة بالتخيل المستقبلي علاج وتمرين صحي للف
...
-
في رحاب قلعة أربيل.. قصة 73 عاما من حفظ الأصالة الموسيقية في
...
-
-فيلة صغيرة في بيت كبير- لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|