أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - حسن مازن - عالم من الواقعية المجردة: ما هي الرياضيات وكيف تتطور مفاهيمها؟















المزيد.....


عالم من الواقعية المجردة: ما هي الرياضيات وكيف تتطور مفاهيمها؟


حسن مازن

الحوار المتمدن-العدد: 5187 - 2016 / 6 / 8 - 23:45
المحور: الطب , والعلوم
    


"الرياضيات هي عمليات مهارية مع بعض المفاهيم والقواعد التي اُخترعت فقط لتؤدي هذا الدور وليس أي شيء أخر"
إيغن ويغنر (1902 – 1995)

يُقال أن كثرة الكتابة بموضوع معين دليل على مدى احتدام الجدل حول هذا الموضوع وعدم وجود دليل حاسم بشأنه، وإني أكاد اجزم بأنه لم يُتداول موضوع خاص بفلسفة الرياضيات بقدر ما تم تداول طبيعة المفاهيم الرياضية وهل أنها تُكتشف أم تُخترع. الكثير من الرياضيين العظماء، والفلاسفة الأولين والفيزيائيين وحتى المهندسين أدلوا بدلوهم بهذا الخصوص وكلٌ يسوق الحجج ويحاول أن يُقدم نموذجاً لتطور المفاهيم الرياضية بحسب فهمه للمشكلة.
يُقدر ديرك أبوت، من جامعة أديلايد، بأن 80% من الرياضيين يميلون إلى الاعتقاد بالفكرة الأفلاطونية لطبيعة الرياضايت، فيما يميل الفيزيائيين والمهندسين، وهو منهم، لاعتناق أفكار لا أفلاطونية لتفسير تطور المفاهيم الرياضية [3]. لكن لنقف أولاً عند تفسير الأفلاطونية قبل أن نُبحر بأسباب اعتناقها أو رفضها. الأفلاطونية، بحسب بريان ديفز أستاذ الرياضيات في كنكز كولدج لندن، ترتكز على ركنين مهمين. أول هذين الركنين هو أن الرياضيات موجودة بعالم مستقل عن العالم الفيزيائي الذي نعيش فيه كما هو مستقل أيضاً عن الوعي البشري ووجود هذا العالم هو وجود واقعي وليس اعتباري. أما الركن الثاني فهو أن عملية دراسة المفاهيم الرياضية والبرهنة على المبرهنات والفرضيات هي بالحقيقة اكتشاف لهذا العالم الأفلاطوني الماورائي، الأفلاطونية لا تحدد طبيعة الرياضيات وحسب إنما تُحدد طبيعة عمل العقل البشري عندما يدرس الرياضيات، حيث تفترض وجود تواصل من نوعٍ ما بين عالَم الرياضيات الأفلاطوني والعقل البشري الموجود في العالم الفيزيائي، وهذا التواصل بالإمكان ممارسته بالتركيز وتأدية العمليات الرياضية [4]. يجادل روجر بنروز، أستاذ الفيزياء والرياضيات بجامعة كامبردج، بأزلية هذا العالم الرياضي وأنه ليس مخلوقاً وبإمكانه وصف العالم الفيزيائي كما أنه بالإمكان ادراكه بالعمليات العقلية. ليس هذا وحسب، بل يؤكد بنروز بأن عدم تبني أزلية العالم الإفلاطوني ليست الطريقة التي يمارس بها الرياضيين الرياضيات[1]، ولا أدري ماذا سيقول بنروز لو واجهه أحد بحقيقة أن ديفيد هلبرت، الرياضي الشهير، لم يكن يعتقد بوجود هكذا عالم، تُرى هل سيعتبر طريقة هلبرت بدراسة الرياضيات غير رياضية!
أجد أن من المناسب توضيح أنك لو كنت مقتنعاً بأن المبرهنات الرياضية صحيحة حتى قبل أن يتم برهانها لكن بنفس الوقت تعتمد صحتها على بعض القواعد التي يتم التسليم بصحتها مسبقاً، فأنت لست أفلاطونياً، وبحسب روجر بنروز فانك لا تفكر بالرياضيات بالطريقة التي يفعل الرياضيون.

ما قبل البدء: ما هي الرياضيات؟

من المهم أن لايُنسينا البحث عن طبيعية الرياضيات ماهية الرياضيات، فالوصف الدقيق للماهية قد يُسهل من تحديد طبيعة الرياضيات. منذ زمن الأغريق طبع الفيثاغوريون، نسبة فيثاغورس (570-495 ق.م)، الرياضيات بطابع مقدس حيث اعتقدوا بالوجود الواقعي للأرقام، ليس هذا وحسب بل اعتبروا أن الواحد الصحيح هو المولد لبقية الأعداد. كما أنهم، أي الفيثاغوريون، لم يكونوا مقتنعين بوجود أعداد غير نسبية حتى لو كان وجودها حقيقة مُستخلصة من المبرهنة التي عُرفت باسم معلمهم (مبرهنة فيثاغورس).
بعيداً عن مزج الدوغما بالمنطق، اعتقد أقليدس (323 – 283 ق.م) بأن العالم الفيزيائي مكتوب بلغة الرياضيات وتبنى الطبيعية البديهية للرياضيات [5]، حيث أن كتابه "الأصول" الذي يُعتبر من أقدم الكتب في الهندسة والرياضيات عموماً يقدم براهين لحقائق هندسية بالإعتماد على مجموعة من القواعد التي يُفترض صحتها بدون برهان. تبنى ديفد هلبرت (1862- 1943) فكرة إقليدس فاعتقد بأن الرياضيات عبارة عن لعبة منطقية يتم تثبيت بعض القواعد والبديهيات فيما يتم برهنة أو دحظ حقائق أخرى بناءاً على هذه المجموعة من القواعد أو البديهيات. أما من المتأخرين فيوافق أيغن ويغنر، وهو من معتنقي الافلاطونية، ما ذهب إليه هلبرت حيث يعرف الرياضيات على أنها "عمليات مهارية مع بعض المفاهيم والقواعد التي اُخترعت فقط لتؤدي هذا الدور وليس أي شيء أخر" [8]. رغم ذلك يرى وغنر بأن الوصف الرياضي يوافق الواقع الفيزيائي لدرجة تثير الأستغراب تستحق أن توصف بـ"المعجزة"، وسنتناول هذا في ما بعد.
يعتقد ريتشارد هامينغ، وهو رياضي أمريكي بأن الإجابة على السؤال "ما هي الرياضات؟" يجب أن يتم تناولها من أربع جوانب تمثل التطور التاريخي للرياضيات بداية من القدرة على تتبع تسلسل الأسباب الذي مثل أقدم صور ممارسة الرياضيات؛ إلى الهندسة وما قادت إليه من تطورات بفهم طوبوغرافية الأشكال وما لحقها من تطور في الرياضيات؛ مروراً بالأعداد وما قادت إليه من تطور في الجبر والحساب؛ وصولاً للإحساس بالتناسق والجمال الرياضي وهو ما يمكن أن يُأخذ على عدة أشكال، ففي نظرية الأعداد يكمن الجمال الرياضي بالتفاصيل الدقيقة غير المنتهية فيما يكون الجمال في الجبر والرياضيات المجردة بالتعميم بشكل أساسي [6].
أرى أن بابعاد الدوغما الفيثاغورية قليلاً فبالإمكان الوصول لتعريف شامل لتفصيلات هامنغ واختزال كل من اقليدس وهلبرت على حدٍ سواء. الرياضيات هي آلية تطورت عند البشر- بفضل التطور الداروني- لتساعدهم على فهم الواقع من حولهم بتجريده وتعميم نتائجه على التجارب الحياتية المختلفة. فهي آلية بدأت باقتفاء أسباب الحوادث المختلفة ومحاولة الربط بينها وانتهت بتحري التناسق والترابط بالبنى المعقدة الأكثر تجريداً. وبما أن التطور الداروني هو "صانع ساعات أعمى" فليس من الحكمة أن تُعامل الحقائق الرياضية بنوع من التقديس والتنزيه لدرجة تخيّلها بمملكة من النقاء المنطقي.

عالم المُثل: حيث الحقيقة ترقد بنقاء

من الواضح أن التعريف الذي تبنيته للرياضيات في ما تقدم لايتفق مع الرؤية الأفلاطونية. لذا، سأقدمه بديلاً للأفلاطونية وليس حاكماً عليها.
يجادل الأفلاطونيين بأن الفاعلية الكبيرة للرياضيات بوصف العالم الفيزيائي، في بعض الأحيان و استخدام بعض الرياضيات التي تم تطويرها مُسبقاُ لوصف ومعالجة مشاكل جديدة بالفيزياء، هو تجلي لوجود عالم المُثل الرياضي المستقل عن العقل البشري كما عن الواقع الفيزيائي. من الأمثلة التي تُساق هنا هو استخدام الهندسة الريمانية في نظرية أينشتاين النسبية مع العلم بأنها تم تطويرها بمعزل عن أي تطبيق فيزيائي. يقسم ماريو ليفيو صاحب كتبا "هل الله عالم رياضيات؟" فاعلية الرياضيات بتمثيل العالم الفيزيائي إلى عاملين. الأول يسميه "العامل المعلوم" وهو عندما يُساعد البحث عن حل مسألة فيزياية العلماء باقتراح بُنى رياضية جديدة، خير مثال على هذا العامل هو تطوير نيوتن للتفاضل والتكامل عند محاولته دراسة معادلات الحركة. العامل الثاني يسميه ليفيو "العامل المجهول" وهو عندما يطور رياضي ما مفهوماً رياضياً بصورة مستقلة عن أي تطبيق فيزيائي ومن ثم يتم استخدام هذا المفهوم بدراسة مشكلة فيزيائية معينة، وبالإمكان تأمل المثال الذي سقناه عن استخدام الهندسة الريمانية بنظرية أينشتاين النسبية العامة [7]. الحقيقة أن هذا التلائم بين الرياضيات والفيزياء غريب بصورة تدعوا للتساؤل الأمر الذي دفع إيغن ويغنر ليقول عنه "أن معجزة ملائمة لغة الرياضيات لقوانين الفيزيائ هي هدية رائعة نحن لانفهمها ولانستحقها على حدٍ سواء. يجب أن نكون ممتنين لها ونأمل أن تستمر فاعلة في البحوث بالمستقبل" [8].
إن كان هذا حال الرياضيات التي نجحت بتفسير بعض العالم الفيزيائي فماذا عن الرياضيات المجردة التي ليس لها أي تطبيق؟ الأفلاطونية تعتبر وجود كم كبير من المفاهيم الرياضية المجردة التي لا تطبيق لها دليل على وجود عالم المُثل الرياضية كذلك. حيث أنها تفترض أن هذا العالم هو بالحقيقة ليس انعكاس للعالم الفيزيائي إنما هو بالحقيقة عالم مستقل بذاته. ربما تسأل هنا، ولكن ما المبرر بوجود هكذا عالم مستقل؟ الجواب قد يأتي من تأمل الثوابت الفيزيائية والرياضية. فلو أخذنا النسبة الثابتة في الرياضيات كمثال هي ثابت بالإمكان توليده لأي مرتبة عشرية كانت وليس العقل البشري وحده من يستطيع توليده بل حتى الحواسيب المزودة ببعض الخوارزميات. وجود هذا الرقم بمعزل عن الحساب البشري يعني بأن وجوده، وبالتالي الأعداد الحقيقية عموماً، لايعتمد على وجود البشر بأي حالٍ من الأحوال. ليس النسبة الثابتة ولا الأعداد الحقيقية وحدها من بالإمكان اثبات وجودها المستقل، إنما هناك أمثلة كثيرة لانرى داعٍ للإسهاب بشرحها.
لكن هل فعلاً يكفي إثبات استقلال بعض المفاهيم الرياضية لإثبات وجود عالم المُثل الرياضي؟

دين وليس علم: لتموت الافلاطونية!

كتب براين ديفز في مجلة المجمع الرياضي الأوربي في عدد حزيران 2007 مقالاً بعنوان "لتموت الأفلاطونية" واصفاً الأفلاطونية بأنها "تمتلك من المشتركات مع الأديان الغنوصية أكثر من ما تمتلكه مع العلوم الحديثة"، وبحسب ديفز هذا ليس مستغرباً حيث أن أفلاطون ينحدر بفكره من المدرسة الفيثاغورية التي تعاملت مع الرياضيات بنوع من القداسة.
في حين يتناول ويغنر بكل انبهار "معجزة" توافق الرياضيات مع العالم الفيزيائي ويعتبرها هبة من مصدر مجهول، حاول هامينغ أن يفسر هذا التلائم بعقلانية أكثر فاقترح أربعة أسباب هي 1) نحن نرى ما نود رؤيته، أي أننا نركز على مناطق التناغم بين الفيزياء والرياضيات بتسليم كبير بعموميتها بدون التفكير بالنظر للكثير من الحالات الأخرى. وهذه ربما نفس المشكلة التي نجدها في مجال الخوارق واستشراف المستقبل والعلوم الزائفة حيث يتم التركيز على حالات معينة ناجحة وتجاهل الصورة الكاملة. 2) نحن نختار الرياضيات التي نريد، وهذه مشكلة أخر بتعميم ملاحظة مأخوذة من عينة مُنتقاة بعناية وليست مُمِثلة لكافة المجتمع قيد الدراسة. 3) العلم أجاب عن أسئلة قليلة، فماذا عن بقية المسائل العلمية المعقدة التي إما فشلنا في إيجاد رياضيات مناسبة لوصفها أو وجدنا عدة صياغات مُرضية لوصفها لكننا لانستطيع اختبار أياً منها. وأخيراً 4) التطور الداروني أعطانا القدرة على فهم النموذج، وهذه من النقاط المهمة برأيي حيث بالإضافة إلى تفسير كفاءة الرياضيات بوصف الواقع الفيزيائي تستطيع أن تفسر ماهية الرياضيات حسب ما تقدم. حسب التطور الداروني فأن كل الصفات التي نتمتع بها اليوم كبشر لابد أن تكون قد تطورت من جذور، نفس الصفات بأقل كفاءة، كان أسلافنا يتمتعون بها. وحيث أن الانتخاب الطبيعي من المُفترض أن يختار أكثر الكائنات قدرة على فهم العالم من حوله، وهنا نقصد بفهم العالم من ناحية تطويعه لخدمة بقاء الكائن، فأن الكائنات التي كان بإمكانها أن تفهم الكون بصورة كفؤة تم انتخابها مما زود الهوموسابينس بالرياضيات. ولأن الانتخاب الطبيعي عملية غير موجهة وليس مثالية، كما أسلفنا، فأن الرياضيات كنتاج لهذه العملية ليست مثالية هي الأخرى بتأدية الدور المُنتظر أن تؤديه وهو فهم العالم الخارجي. رغم نقاطه الأربعة لتفسير كفاءة الرياضيات بوصف العالم، كتب هامينغ بنهاية مقاله [6] أنه مجبور على التسليم بأن الرياضيات تبقى كفوءة بصورة غير معقولة وأن ما قدمه لايكفي ليفسر ذلك.
وإن كان هامينغ فشل بإقناع نفسه فأن أبوت [3] يجادل بأن نقاط هامينغ كافية لتفسير نجاح الرياضيات بالتوصيف "غير الكفوء" للواقع الفيزيائي، ويضيف نقطة بغاية الأهمية لهذه الأسباب الأربعة وهي فشل الرياضيات، أو نصف النجاح، في نمذجة الظواهر البايلوجية والاقتصادية والاجتماعية حيث التغييرات تحدث بمقاييس الزمن البشري وهو هنا يتسائل: هل أن لكفاءة الرياضيات بوصف الفيزياء علاقة بـ"وهم" الثبات الذي نتخيله بالظواهر الفيزيائية؟ وهل ستبقى الرياضيات التي نستخدمها كفوءة لو قُدر لكائنات فضائية تكون أعمارها مقاربة لعمر الكون أن تحكم على صحة قوانينا للفيزياء؟ بكلماتٍ أخرى هل أن ما نعتقده وصف للطبيعة هو وصف حقيقي للطبيعة أم أنه مجرد وصف لصورة مُبتسرة عنها؟
يجادل الأفلاطونيون بأن الرياضيات توجد خارج الوعي البشري، فلو قُدر لحضارة فضائية أن توجد في الكون فمالذي يضمن بأن الرياضيات التي سيستخدمونها ستكون مكافئة لما نستخدمه نحن؟ أليس التصريح بهذا هو نوع من اللإيمان غير المبني على برهان الذي عادة ما نجده في الأديان وليس في العلم؟ أليس التسليم بوجود عالم مُثل ماورائي يُعقد المسألة بالوقت ذاته الذي بالإمكان تقديم تفسير أقل تعقيداً وأكثر كفاءة؟
لنعود قليلاً لمثال النسبة الثابتة، هل أن العدد 3.14… موجود حقاً أم هو مجرد تعبير نستخدمه كبشر لتمثيل شيء حقيقي لا يمت للعدد بصلة، لماذا يتسرع الأفلاطونيين بالحكم بوجود هذا العدد خارج الوعي البشري بالإعتماد على إمكانية توليده بأساليب الوعي البشري ذاتها؟ لتفسير هذه النقطة بالإمكان تمثيل الأمر بمثال ألوان الطيف، فحيث أن الدماغ البشري يُفسر كل طول موجي على أنه لون معين فقد طُبعت بأذهاننا ألوان للضوء بدل أطوال موجية، فتستطيع ببساطة أن تفهم وتتعاطى مع لون الضوء لكنك قد تواجه صعوبة لو استبدلت ذلك اللون بالطول الموجي الذي يقابله. على أية حال الضوء هو طريقة فهمنا كبشر للأطوال الموجية والترددات فاللون الذي تراه هو صورة نمطية تعيش في دماغك فقط وليست موجودة في الواقع الفيزيائي. ما الذي يجعل النسبة الثابتة موجودة فعلاً في، باستقلال عن الواقع الفيزيائي هذه المرة، وليست صورة نمطية يوهمنا وعينا بوجودها كما يوهمنا بوجود الألوان؟

أحجار على رقعة الشطرنج: تُكتشف أم تُخترع أم كليهما؟

قد رأينا أن الحجة الأبرز التي يتمسك بها الأفلاطونيين هو ضرب أمثلة عن مفاهيم رياضية يعتقدون بأنها موجودة خارج الوجود الفيزيائي، الأعداد على سبيل المثال، وقد رأينا كذلك كيف أن الأفلاطونية تعتبر أن وجود وعدم وجود تطبيقات فيزيائية للمفاهيم الرياضية هو نقطة دعم لها!
يكتنف الغموض علاقة العوالم الأفلاطونية-البنروزية الثلاث، عالم الفيزياء، عالم المُثل الرياضي، والعالم العقلي. فحيث أن العالم الرياضي يُعتبر عالم شامل للعالم الفيزيائي، إن صح وصفه، ينبع العالم العقلي من العالم الفيزايئي ولكنه يستوعب العالم الرياضي. فحيث أن مملكة الرياضيات الأفلاطونية تشمل العالم الفيزائي وتتعداه، يتمتع العقل البشري -الذي هو مُكون فيزيائي بحت- بقدرة إدراك العالم الأكبر والأعم (عالم الرياضيات) بل قد يتعداه بخيال لامحدود ليكوّن عالمه الخاص الشامل للعالم الرياضي بطبيعة الحال. وهنا يكمن اللبس، فمالذي يميز الرياضيات عن باقي الأفكار البشرية لتتمتع بعالمها الخاص؟ لماذا لا نستطيع وصفها بأنها طريقة تفكير منظم بقواعد وحسب؟ أليس هذا أسهل من افتراض وجود دوامة العوالم تلك؟
أميل للأعتقاد برأي هلبرت بأن الرياضيات مجرد لعبة منطقية لها قواعد مُثبتة مسبقاً، تلك القواعد إما أن تكون كما يصفها برتراند راسل (1872-1970) حقائق فارغة أو بديهيات لا حاجة لبرهانها[2]، أو أن تكون تجريدات من الطبيعة الفيزيائية، أو مسلمات منطقية يتم الأتفاق عليها. لتقريب الأمر أود استخدام مثال لعبة الشطرنج لأصف الرياضيات:
في الشطرنج هناك ثلاث أنواع من الحقائق، النوع الأول هو حقائق موجودة لايمكن المساس بها أو تغييرها مثل عدد المربعات برقعة الشطرنج وعدد القطع بكل فريق وهذه الحقائق تُكتشف لكنها لاتوجد بعالم المُثل الأفلاطوني بل هي حقائق فيزيائية بحتة وبالامكان اكتشافها بالمشاهدة البشرية؛ النوع الثاني من الحقاق هو قواعد اللعبة التي تتم بالاتفاق، نوعاً ما، وبالتالي هي حقائق تُخترع ولا تُكتشف وليست موجودة بدون وجود اللاعبين أو أزلية الوجود؛ النوع الثالث من الحقائق هو ما يكون نتيجة منطقية للحقائق من النوع الأول والثاني فعلى سبيل المثال، بمجرد أن يتم الأتفاق على أن الحصان يتحرك على شكل حرف "L" نتوصل لنتيجة مفادها أن الحصان بإمكانه أن يصل لأي مكان على رقعة الشطرنج بعدد منتهي من الخطوات، الأمر الذي لايكون صحيحاً لو اتفقنا على أن يتحرك على شكل حرف "U" على سبيل المثال. وبهذه المقاربة نرى أنه لايوجد داعٍ لفرض وجود عالم أفلاطوني ينتمي لما وراء الطبيعة لوصف نشاط بشري كالرياضيات.
يشبّه مُبسطي العلوم الطبيعة الإحتمالية للفيزياء الكمية بالتشبيه التالي. عندما ترصد حالة جسيم كمومي ما فأنه بالحال يُضهر لك حالة واحدة من جميع الحالات الممكن أن يتبعها لكن باللحظة تتكون عوالم متوازية، غير متصلة سببياً، تشمل جميع الحالات الممكن أن يتبعها الجُسيم. للتبسيط، لو فرضنا أنك رصدت موضع الكترون يعبر من خلال شقين بجدار، فأنك بحقيقة الأمر سترى الألكترون يمر من شق واحد فقط، لكن في عالم موازي سترصد الألكترون يمر من الشق الأخر، وكلما زاد عدد الإحتمالات يزيد عدد العوالم المتوازية التي تحقق كافة الحالات الممكنة، وهذا وصف فيزيائي بحت لايمت للميتافيزيقيا بأي صلة. يطيب لي أن أُشبه الرياضيات بتشبيه مقارب، يصف دونالد جيلز في كتاب فلسفة العلم بالقرن العشرين الرياضيات بأنها دراسة كل الأنماط الممكنة، ما يُصطلح عليه الإمكان المنطقي. بمعنى أخر، لو غيرت قواعد لعبة الشطرنج فستحصل على نمط متسق، وهذا النمط المتسق هو موجود منطقياً منذ لحظة تثبيتك للقواعد الجديدة للعبة. تحرينا لكل الأنماط الممكنة سيوصلنا لعالم رياضي موجود منطقياً لكن ليس في عالم أفلاطون الأزلي بل بعالمنا المنطقي المُحدث المعتمد على اللاعبين والذي يتوسع بكل مرة نحاول أن نعدل فيها قواعد اللعبة.
هذا التشبيه يعود بي لسبب ممكن لتفسير كفاءة الرياضيات بوصف الواقع، يقول جيلز أن تحري كل الأنماط الممكنة منطقياً يتضمن – بالضرورة- النمط الممكن واقعياً وهو الفيزياء وهذا قد يكون تفسيراً لما يعتبرها ويغنر "معجزة" ملائمة الرياضيات للواقع.
ختاماً، أجد نفسي ملزماً بالإشارة إلى أن هذا المقال هو بالحقيقة تلخيص لنقاشات دامت ما يربو على عامٍ ونصف مع الصديق أحمد لاوي على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي طالعنا خلاله الكثير من المواد المكتوبة والمرئية وتبادلنا الكثير من الأفكار التي ربما تنازلنا أو عدلنا بعضاً منها. هذه محاولة مني لنقل النقاش من شبكات التواصل التي تتصف عادة بالعشوائية وعدم إمكانية الأرشفة لمدونات الويب الأكثر تنظيماً. وهي أيضاً دعوة لأحمد، وربما لغيره من المهتمين بالموضع، لفتح النقاش من جديد لكن هذه المرة بالتدوين بصورة مؤرشفة سهلة المُراجعة.

المصادر:
[1] روجر بنروز، فيزياء العقل البشري من منظورين، ترجمة عدنان علي الشهاوي، كلمة وكلمات عربية للترجمة والنشر. (2009).
[2] دونالد جيلز، فلسفة العلم في القرن العشرين، ترجمة د. حسين علي، التنوير للطباعة والنشر. (2009).

[3] D. Abbott, The reasonable ineffectiveness of mathematics. Proceedings of IEEE, 2013, Vol 101.
[4] E. B. Davies, Let Platonism die. Newsletter of the European mathematical society, June 2007 Issue 64. PP 24-25.
[5] J. Dekofsky, Is math discovered´-or-invented, TED-Ed, short video
[6] R. W. Hamming, The unreasonable effectiveness of mathematics. The American mathematical monthly (1980). Vol 87.
[7] M. Livio, Unreasonable effectiveness, Plus magazine.
[8] E. Wigner, The unreasonable effectiveness of mathematics in the natural sciences. Communications in pure and applied mathematics 1960, Vol 13.



#حسن_مازن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم من الواقعية المجردة: ما هي الرياضيات وكيف تتطور مفاهيمه ...


المزيد.....




- فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء
- غوغل ومايكروسوفت تؤكدان أن الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاص ...
- سلي أطفالك ونزليها ..  تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 على ا ...
- كيف تظهر صور الأقمار الصناعية آثار الضربات المتبادلة بين إير ...
- طلاب معهد العلوم السياسية بباريس ينددون بالحرب الإسرائيلية ع ...
- «شاهد توم وجيري» استقبل الآن تردد قناة سبيس تون الجديد على ا ...
- «وحش الهواتف الذكية»….تعرف على مواصفات ومميزات هاتف vivo X10 ...
- -كلنا فلسطينيون-.. هتافات مؤيدة لغزة تصدح في أعرق جامعات فرن ...
- رابط التقديم في شركة المياه الوطنية 2024 لحملة الثانوية العا ...
- لأول مرة منذ 56 عاما.. قطار روسي يشق الصحراء عابرا إلى سيناء ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - حسن مازن - عالم من الواقعية المجردة: ما هي الرياضيات وكيف تتطور مفاهيمها؟