سرمدية الأحرف المضاءة على صفحات التاريخ العراقي"
"قراءة في رواية "وليمة لأعشاب البحر"
" الجزء الرابع "
كان هذا الفتى الحالم "يرى النجوم لامعة في ذلك الزمن، كما كان يسمع اصطخاب الموج وهو يسير مع مهيار الباهلي في أزقة بغداد المعتمة، ومن قلب الأهوار كان يتراءى الشعاع الوحيد والأخير الذي ينير هذه الظلمة"(ص136).
صاخبة تلك الفترة بأحداثها والحزب تتنازعه عدة تيارات، وقيادته اليمينية تقوقعت بتنظيراتها الداعية للانخراط مـع حزب السلطة، والتيارات الثورية لم تتوحد بعد، فهناك جماعة "الكادر المتقدم، وجماعة أمين خيون، أحد ابطال المقاومة في منطقة الكاظمية ببغداد 1963م. والذي نجى باعجوبة، ثم هرب الى أهوار الجبايش مع عشرة رفاق أسسوا أول بؤرة ثورية هناك، وهناك خط "الكفاح المسلح" الذي شكل مجموعة سرية سميت بخط "حسين" تحولت الى خط "هاشم" فيما بعد، كان خالد زكي أحد أبرز عناصرها ولقب وقتها بإسم "ظافر". (ص137).
كان قلق ـ خالد زكي ـ الدائم يتمثل بسؤال ملح "كيف تزلزل قناعات آلاف الأعوام الراسخة في الدم كالجراثيم (ص138). وضمن تلك الأحلام كان ينسلك فـي رهط الكفاح المسلح اضافة الى خالد كان هناك "مهيار الباهلي وأمين خيون، وابراهيم علاوي، ونوري كمال ومظفر النواب مع عصبة من الفتية الجامحين المأخوذين بالهجوم على "سانتا كلارا" وسقوط ـ هافانا ـ بعد مغامرة الغرانما، كانوا تحت تأثير وهج ذلك النصر الهائل ـ كدافع خارجي ـ اندفعوا بطاقة "المغامرة نحو تخومها القصوى في محاولة يائسة وفريدة في تاريخ الشرق الجديد، لتدمير طقوس الإستبداد الشرقي وغوائل الجوع والميراث الاسود للزمن القديم… كانوا يقولون بأن تلك المغامرة كانت طيفا جميلا وملونا في سماء الرأس، لكنها الآن تتحول الى نيزك يندفع من السماء بقوة الجذب والخذلان ليدخل جلد هذا الصلصال الكامن" (ص139).
وعلى الجهة الأخرى لسلطة الحزب اليمينية، يتابع حيدر حيدر رصد افق السياسة هناك حيث الالتزام بخط آب وتنفيذ تعليمات خروتشوف القاضية بحل الحزب إسوة بالحزب ش. م. والدخول في الاتحاد الأشتراكي العربي، مركز جذب القوى الثورية كما يسميه "بوجكاريف" في صحيفة "النيوتايمس السوفيتية" (ص144).
وبغية ترسيخ مبدأ "الإلتزام الحديدي" بالخط اليميني للحزب وفق إرادة "السوفيت" فإن حيدر حيدر يلجأ الى "التوثيق السياسي" للحدث بعيدا عن أفق الرواية ـ لضرورة يقتضيها السياق ـ يحددها بقوله: "وحتى لا تصدأ الذاكرة فيتداخل الماضي بالحاضر على نحو عشوائي ليوضع زمن الإنحدار والهزيمة على مشجب التاريخ البائس، العام، والمغفل من التوقيع والمسؤولية المحددة، سيكتب الرفيق منير أحمد عضو اللجنة المركزية للحزب في مجلة "قضايا السلم والأشتراكية ـ الوقت" في ك1/1964 ما يلي: "إن النضال من أجل الطريق اللاراسمالي يحتم علينا إعادة النظر في برامجنا في جميع ميادين النشاط الجماهيري. كان الحزب الشيوعي العراقي يعتقد في الماضي بأن إقامة حكم شعبي تحت قيادة الطبقة العاملة هو شرط جوهري لتحقيق الإصلاحات الجذرية ولبناء الإشتراكية في العراق، إلا أننا غيرنا وجهات نظرنا حول هذه المسألة في ضوء الظروف الجديدة، حيث يشكل النضال من أجل الطريق اللارأسمالي الخط السياسي لحزبنا" ثم يشير بصراحة الى الدور الفعال والقيادي المتنامي للبرجوازية الصغيرة ونضالها الديمقراطي الثوري" (ص144).
ومن هذه "الوثيقة" الدامغة، يتجلى الإنحراف في خط الحزب، وتظهر الى الأفق بوادر أزمة داخلية، وبلبلة فكرية في عموم قواعد الحزب، وباتت وشائج الإنقسام تأخذ بالنمـو، حيث أن الكثير من الكوادر الوسطى والمتقدمة، دون اللجنة المركزية باتت لا تنفذ قرارات الحزب، لذلك حال وصول "مهيار الى الجبايش" مقر امين خيون وقاعدته المسلحة" وضع نفسـه تحت أمرته، وتبدأ "تقسيمات العمل السياسي" لفصيل مقاتل، مكون من خمسة وثلاثين مقاتلا أمين خيون المسؤول الأول ـ مهيار مسؤول الدعاية السياسي، أبو صبري، مسؤول التسليح والأمن ـ لأنه إبن الهور ـ والملازم الأول ـ العسكري الذي فر مع أمين خيون ـ بعد أحداث الكاظمية 1963م مسؤولا عن التدريب العسكري، هناك تبدا حياة ـ الكومونة العراقية ـ بمكان مختلف تماما عن البقعة الباريسية، حيث ـ الجبايش ـ مستنقعات مائية مترامية الأطراف، ذات إرث سومري، لم يكتشفها بعد لا كولومبس ولا غيره، هناك، تستعد هذه المجموعة لبناء اسس قواعد الإنطلاق الثورية، حيث يقطع المقاتلون عيدان البردي، ليقيموا فوق المياه الأكواخ العائمة وليعيشوا حياة يومية جديدة، ضمن مفهوم عسكرة الحياة النضالية، حيث النهوض الساعة السادسة صباحا بفطور متواضع ـ الشاي والتمر ـ ثم التدريب الرياضي ـ سباحة في أعماق المستنقعات في طقس صقيعي بارد بعدها تكوين أنفاق داخل غابات القصب والبردي الكثيف، كمداخل وممرات حماية وانسحاب عن أنظار العدو، ثم تقطيع القصب وتحزيمه لصناعة أطواق صالحة للإبحار بدلا من الزوارق، ثم تدريبات بالرصاص الحي على ألواح من الزنك او الخشب، تعلق فوق رؤوس القصب، وفي المساءات، إذ يهيط الليل ويحمل معـه اصداء الرهبة والغربة، ومشاعر العزلة خارج بوابات العالم، كانوا يباشرون حياة بدائية في شي الخبز فوق صاج محدب، يسميه أهل تلك الأهوار بـ "التاوة ـ أو الطاوة" وداخل ذاك الكوخ القصبي العائم فوق الماء، ضمن انسيابية /فينيسيا الجنوب/ كانت مائدة العشاء تنحصر بالمعلبات والتمر والشاي والخبز المشوي، المسمى "الرصاع، والسياح، والشلكين" الذي يصنع عادة من طحين الرز والذرة والحنطة، وما يصاد من السمك وسرطانات الماء" (ص145).
* في توصيفات هذه الحالة، والتركيز على بدائية العيش، والتأقلم الجديد لثوريين من أبناء المدن وحملة الثقافة، يريد حيدر حيدر وصف حالتين متناقضتين لكيان الحزب ش. ع.، الأولى رابضة في أحضان موسكو, والثانية تتاقلم مع الواقع الجديد، ضمن قناعاتها، وهذه الإستثارة في النص تؤكد للقارئ معنـى الصدق والإيمان في القضية لحالة واحدة، ضمن الواقع العراقي، ومن زاوية أخرى يريد الكاتب أن يبرز تلك التجربة الجديدة في عالم الأهوار، وتأثيراتها وخصوصياتها في النضال السياسي العربي، حيث سيلتقي هولاء الثوريون بأناس جدد، وحياة جديدة لم تخطر لهم على بال، وضمن ارضية رجراجة اسمها الماء، وقسوة الطبيعة، وهم الذين جاءوها من عوالم متحضرة كلندن وباريس وموسكو وبغداد والحلة وغيرها؟! كيف سيعيش هؤلاء؟! والى أي مدى ستبقى قناعاتهم ثابتة بهذه التجربة؟!
* مجريات الأحداث في عوالم ـ الأهوار ـ تبدأ بانعكاساتها السلبية على وعي هؤلاء الفتية.
تقول الرواية: "كانت تجربة غريبة، مليئة بالسحر رغم قساوتها، بدأ التآلف معها يتطلب طاقة خارفة لما كان مألوفا من ليونة حياة المدن الهيولية والرخوة. أنتقال فجائي من الحروب الدونكيشوتية عبر رياح كلمات الفراغ، الى حروب الفعل مع الطبيعة والموت واختيار الخلايا العضوية فوق أرض جديدة وتحت سماء جديدة، في ارتعاش فصل صقيعي تخترق برودته حواف العظام. كانت عمليات الإستطلاع تبدأ بعـد الغروب للتعرف على طرق الذهاب والعودة والمناطق المجاورة الآهلة بالسكان أو الصالحة لتبادل المواقع" (ص146).
* تقسيمات العمل والمسؤولية على كل عضو لا تقبل الخطأ، وانتداب الأعضاء لمسؤولياتهم تخضع لمبدأ وعي المسؤولية ذاتها، فأبو صبري كان يشرف على دوريات الإستطلاع نظرا لخبرته الطويلة في هذه المستنقعات، فهو تعايش معها لأكثر من إثني عشر عاما، وصارت خبرته بالهور أكثر من خبرة الهور به، ورغم كونه أميا، إلا إنه كان يعرف سكنات الهور وخفايا عوالمه، ويتولى الملازم الأول ـ فاضل ـ تدريبات المجموعة على شحذ البصر في سواد وسكينة الليل، وعمليات الأنصات لتمييز صوت المجذاف والطيور المذعورة التي تنبئ بالخطر ـ كما كان على الجميع التعرف على حركات هوام الماء من الضفادع الى الأسماك الطيارة، الى الافاعي المائية، وتمييزها عن غيرها من الحركات" (ص146).
مع هذه الحالة الجديدة، والتي تصنع الرجال رجالا من الفولاذ، كان هناك الوعي الثقافي حيث في إحدى زوايا الكوخ، صندوق ذخيرة فارغ، تناثرت فيه مجموعة من الكتب الأدبية والسياسية، نسخة مهلهلة من رواية الأم والعقب الحديدية، والفولاذ سقيناه، والنخلة والجيران، وعناقيد الغضب وكتب أخرى، وفي مقدمة المؤلفات السياسية "ثورة في الثورة" وكتاب عن التوياما روس والفيتكونك, ويوميات تشي غيفارا في السيرامايسترا، والهجوم على المونكادا".
عن هذه الحالة، يقول مهيار الباهلي: "راسا على عقب يتحول الإنسان وهو يرى نفسه في أرض المعركة, إنسان آخر في كوكب آخر، ذلك ما يشعر به فصيل الكفاح المسلح، في قلب الإصقاع المائية البعيدة عن خداع المدن" (ص146 ـ 147).
هذه الحالة الحالمة في رؤيا الباهلي يتذكرها وهو في منفاه الأختياري في الجزائر، وترتسم أمامه طيوف أولئك الملائكة ذوي السلوك الصقري: " ستة من فصيل القاعدة سيغادرون غب انهيار عضوي واحباط نفسي، ثلاثة منهم فريسة إسهال معوي حاد ينقلون إثرها الى مستشفى الناصرية وثلاثة آخرون يسقطون فريسة حالات سوداوية وكآبة متواصلة مصحوبة بنزق عصابي وهلوسات ليلية، نتيجة المناخ الجديد الصعب والذي صدم هؤلاء الطلاب القادمون بحماسة من المدن" وكان مهيار يحلم بأن الحزب سيولد من وهج الكفاح المسلح، وكان المسؤول العسكري يخطط سرا للبدء بضربة عسكرية صاعقة ذات شعبتين، تدمير سكة حديد البصرة ـ بغداد، والإستيلاء على القطار القادم من العاصمة، أما المحور الآخر فهو احتلال جميع مخافر قضاء الجبايش وتجريدها من الاسلحة". ولكن هناك ستبرز "سوسة الأختلاف" وبعد شهرين من الصقيع في أغوار الغموكة السحرية التي ارتسمت في ذاكرة الباهلي حدثا اسطوريا أبدي الوميض، ستنتهي التجربة الأولى، حيث اختلف مع أمين خيون، وانشق الفصيل المسلح، تسعة مع أمين خيون، والآخرون غادروا الى البصرة والناصرية وبغداد، فيما عاش ذاك الباهلي مع صديقه "ابو صبري" في أهوار العمارة، لتبدأ مرحلة التفكير بتأسيسي بؤرة جديدة، لا سيما وان هذا الفلاح الأمي يسأل الباهلي بسذاجة مدهشة: "الى متى سيظل الشيوعيون رهن حالة الدفاع عن النفس"؟ (ص 148).
* * *
ضمن تلاحق الإنكسارات في وعي أبطال الرواية، يضطر حيدر حيدر الى تنويعات هذه الإنكسارات مادا جسورا واهية من حالات العشق المؤقتة بغية الخروج من سطوة الكابوس الحزائني، الذي يلف "مهدي جواد ـ ويسربل بمعاناته ـ مهيار الباهلي، وراسما ظلال فرح موشى بالأمل يجتاح أعماق اسيا لخضر، وهي تبدو مرتاحة لهذا العيش المؤقت، فيما راحت "زنقلات" فله بوعناب وثرثرتها الهازئة تدين الواقع، وتكشف زيف "إدعاءات الرجولة" وهي تتحدث عن التعب ولقمة العيش والمهانات. "أنا أعرفهم. من مسافات بعيدة يشمون الرائحة فيركضون نحوها. بعد أن غادروا تجاويف الجبال اتجهوا الى تجاويف النساء. هؤلاء لا ألجأ إليهم إلا بعد خيبتي بالرجل المستأجر، أما إذا كان شهما فهو سيكفيني مغبة البحث عن أؤلئك النتنين" (ص192).
ـ تداخلات إسقاطات "الحالة العراقية" لمفهوم الجنس في الإغتراب الزماني والمكاني يشعر ـ مهدي جواد ـ بعد مواصلة ـ فلـه بوعناب ـ أن هناك فرقا بينها وبينه، فهو لا زال غض ـ رومانتيك عربي ـ على حد فهمها، فيما يرى هو فيها، أنها طعنت بقسوة في أكثر مراكزها حساسية، ففقدت أي أمل فـي استعادة زمانها المفقود "كانت تدور كالممسوسة في مجالات طيوفها واشباحها، كانت تنشد مرثية لأحد شعراء غرناطة يرثي بها مجد الزمن الغابر بعد سقوط الأندلس… كانت أعماق فله بوعناب تختزل التاريخ في محرق شخصها وتجربتها الذاتية، وهاوية حلمها الجليل، بعد أن تلوث وانعطب (ص194).
ـ على تلك التنويعات ، كانت فقرات ـ فصل الحب ـ الممتدة من صفحة 161 الى صفحة 194 تأخذ أشكالا متفاوتة في طقوس الحب وهزائمة، وحلوة ومرة، مع توليفات معرفية لحالات التداعي وجرأة الوعي في هذا التداعي، حيث أن إسقاطات النفس الداخلية، كما تكشفها نصوص هذا الفصل، توحي بتجاوزات معرفية لكل ما هو محظور، حيث التجربة تثبت ذلك.
وضمن هذه التنويعات، يبقى وتر الأحزان منشدا على قوس المأساة الإنساني، ويجاهد حيدر حيدر ـ في إبقاء حالة التوهج الإبداعي، طاغية على نصوصه الحزينة، ذات المسارات السياسية اللعينة، والتي، ما أن ينفلت منها أبطال روايته حتى يعودون إليها. كما ان هذه التنويعات بين الفصول الرئيسية، يريد بها حيدر حيدر أن يرسم جمالية خاصة بلغة الأدب، للحوادث السياسية، كمعادل موضوعي، يتجاوز أطر التاريخ، رغم أنه يتفاعل معه، وينطلق منه، لا سيما وأن أحداث الرواية تاريخية وواقعية، وتجربة معاشة..
ـ وفصل الحب ـ هذا، وضمن هذا التسلسل الفني لا الزمني، هو تقدمه لفصل تراجيدي قادم، أكثر دموية وإيغالا في العنف السلطوي، لذا أراد /حيدر حيدر/ أن يخفف وقع المعاناة على القارئ ـ من جهة. ومن جهة ثانية إحكام ـ مفاتيح اللعبة الفنية ـ في العمل الأدبي، ضمن جنس الرواية.
* * *
* نشيد الموت: هو المحور الاساسي في بنية الرواية، والاسم الثاني للرواية، وهوالق تمتد تباشيره نحو الخلود القادم.
هذا الفصل ـ المتداخل في الفصول الأربعة الرئيسية ـ هو جملة القول في الرواية، وهو الفصل الأكثر تراجيديا في الأحداث التي بنيت عليها مفاصل الرواية، ولذا سوف يأخذ حيزا في هذه الدراسة، كالفصـل الأول، نظرا لتشابك أحداث وتداخل مفاصل، وتقاطعات تاريخ، وتفاصيل تحتاج الى إيضاح تاريخي وسياسي بنفس الوقت ـ وعليه ، سنسير مع هذا "النشيد" نغما نغما.
* بداية الفصل، إعلان حالة الانشقاق في ح. ش. ع، متوافقا مع دعوة "عزيز الحاج" المنطلقة في منتصف أيلول "1967م" تحت اسم "القيادة المركزية" فيما وزع تيار الكادر اللينيني بيانا سياسيا يشجب الإنشقاق ويدعو الى وحدة الحزب، وكانت المداولات الحزبية ـ للكادر اللينيني، ينصب لتقيم الوضع العام بعد الإنشقاق وبعد الإختلاف مع تيار وحدة اليسار، والإنسحاب من قاعدة أمين خيون في أهوار الجبايش، وفي نهاية الأمر يتقرر إقامة قاعدة جديدة في هور العمارة، في منطقة أبو غريب العصية، والموحشة والمغطاة بكثافة أدغال البردي (ص 197).
ـ هذه المباشرة السياسية في النص، تفصح عن وجود أكثر من تيار وتكتل سياسي انشطرت عن جسد الحزب ش. ع. والماثل للعيان ثلاث تكتلات رئيسية. اللجنة المركزية. الكفاح المسلح ـ الكادر اللينيني، وهذا الأخير يتخذ من أهوار العمارة قاعدة انطلاق حربية له.
مرة اخرى العودة للهور، وهذا يعني إعادة المعاناة الأولى بشكل آخر، ربما أعنف. تنطلق مفرزة استطلاع من خمسـة عناصر "مهيار الباهلي، أبو صبري، وثلاثة عناصر آخرى هم ـ بارود أحد المشاركين في انتفاضة معسكر الرشيد عام 1963 كردة فعل على الإنقلاب الفاشي في 8 شباط 1963، وعرفت هذه الحركة ب "حركة العرفاء" بقيادة "حسن سريع الشموسي" 11، وإثنان آخران ـ عاملان زراعيان من أهل العمارة. مأساة الهور ومعاناته وحياته الصعبة، تتطلب قدرة عالية ـ من أبناء المدن ـ للتكييف مع هذا الواقع الجديد، وأحلام هؤلاء الثوريين تتجاوز مديات الهور الواسعة ذات السحر الأخاذ، والذي يتسع ابدا كلما تقدم إليه زورق الإستطلاع. وهناك مشكلة كبرى تواجههم هي " التموين ـ وعدم وجود مسكن، "كوخ" أو غيره، وهذا يعني لا بد من تشيده من القصب والبردي، والأمر متوقف على جهد المجموعة، حيث يتم قطع القصب بالسكين أو الخنجر او المنجل، أو بالأيدي.
قادة زورق الإستطلاع ـ أبو صبري ـ صاحب تجربة طويلة وعنيدة يسميه مهيار "إبن الليل" فهو تعلم الصيد ليلا على مصدر الصوت دون الرؤية، ويحكم ذلك أولى المفاجآة لهذه المجموعة هي ـ وقوعها في كمين نصبه الصيادون لهم هناك، فبعد أكتشاف "المدار الابيض أو القارة السادسة" كمـا يسميها مهيار الباهلي، حيث داهمتهم، ذات ليلة صقيعية باردة، طلقات نارية وأصوات تصرخ بهم: "سلموا أنفسكم أيها اللصوص". ثم يساقون الى كوخ في أطراف الهور، ويحبسون في حضيرة للجاموس (ص 201).
الحياة في الأهوار لها قانونها الخاص وعرف العادة يتوجب المعرفة بالأصول، وبدء الحديث وختمه وما إلى ذلك مـن أمور الفولكلور، ويبقى عامل الذكاء هو المنجي الوحيد، وهذه المسالة تتطلب معرفة بدواخل الناس في تلك الأهوار والضرب على أوتارها. فأثناء حديث الإستنطاق والمحاكمة، فإن الباهلي واصحابه يقعون في بلبلة الأفكار من هذه الورطة، فيما يكون ـ أبو صبري ـ يتأمل الحالة بصمت، جامعا شتات أفكاره، وعمق خبرته في هذا الهور اللعين، فبادر الى كسر الصمت بطلب شاي، طلبه ساقه بشيء من الدعابة "نبغي شاي يمعودين قبل مواجهة سيدنا عزرائيل". بهذا الهزل، فرج بعض أسرار الكربة، حيث استشف هذا الفلاح مرامي هؤلاء الناس الطامحة في تخميناتها بأن هؤلاء "الأسرى" لديهم كنز من الأسلحة والأموال، يخبئونها في مكان ما من هذا الغاب المائي (ص 201).
وولوج حيدر حيدر لتوصيف حالة هذه المجموعة، مبنية على السماع من راو قريب له معرفة بتلك الأصقاع النائية والجميلـة والخطرة بنفس الوقت، والتركيز على حالة "ابو صبري" مسالة ذات أبعاد ومرامي هامة، سياسيا واجتماعيا، فالذكاء الفطري عند هذا الفلاح، يفوق فلسفة "الباهلي، وثورية دعاة النضال الآيديولوجي للنظر الى حالة المجموعة وقف أبو صبري "عندما دخلت إمرأة صاحب البيت بالشاي وقدمـت للأشقياء الموقوفين، تفرست مليا في وجه ابو صبري الأسمر الملتحي، ووضعت قدح الشاي على الحصير أمامه، ثم فجأة علا صوتها: وصلاة محمد على رأسك، الست موسى عطية زوج الدوبية"؟
بوغت ابو صبري وأجاب: بلي… شنو القضية يا أخت؟
ـ أنا أعرف زوجتك في قريتنا الدوب.. كيف حالها؟
ـ أعطتك عمرها. قالها باكتئاب مفتعل..
ـ الله يرحمها، كم كانت طيبة، عندك أولاد منها؟
ـ بلي، صبري مات هو الآخر. ذكرتيني بالموتى، اقفلي هذه السيرة. يرحم والديك قبل أن يداهمني البكاء.
يتابع الروائي الحوار الدائر بينهما حول الذكريات وتفاصيل محاها الزمن والذاكرة، بينما الآخرون مدهوشون من هذا المفاجأة السريالية التي حولت سيناريو جلسة المحاكمة الى حفلة تعارف" (ص 201).
إذن هذا الفلاح ـ ابو صبري ـ مسك رأس الخيط، واسترسل بالحديث مع المرأة وأوهمها بحركاته وتمثيلاته بأنه زوج صديقتها، فاطلق سراحه مع المجموعة بعد أن اكرموا بعشاء دسم. نموذج ـ أبو صبري ـ منه الكثير في قواعد الحزب، منهم ـ فعل ضمد الشرشاحي، وسريح العبد ـ أبو سالم" وآخرين، كان لهم مثل هذه المواقف الجريئة الذكية، ويخرجون منها باعجوبة نادرة، وفي مواقع المواجهة مع رجال الأمن العراقي، في هذا النص، كنت وادا، لو أن حيدر حيدر استخدم كلام المرأة في صيغته الجنوبية اللهجة بالقول التالي "سيامة الله عليك ومحمد وعلي، إنت موش موسى بن اعطية زوج فلانة الدوبية" كي يأخذ الحوار طقس الحالة وصدق الناس الفطري هناك، ولكن يبدو أن رواته لم ينبهوه الى ذلك، فهو معذور..
هذا الدرس لن ينساه الباهلي ولا الآخرون، هذه واحدة من "نهفات" أبو صبري من دروس الهور له تفاعلاته السياسة في العاصمة بغداد وغيرها من المدن، ينقلنا حيدر حيدر الى القرارات السياسية الخاصة باندماج الكادر المتقدم مع القيادة المركزية التي يقودها عزيز الحاج تحت شرطين: تصفية خط آب والإعتراف بجبهة الكفاح الشعبي المسلح بقيادة خالد زكي وحسين ياسين ومظفر النواب. وعلى هذا الاساس توجه خالد أحمد زكي مع عناصر جديدة الى مركز القاعدة في منتصف نيسان (1967) حاملا معه الأسلحة والأموال ثم أتخذ قرار بالإنتقال من هور العمارة الى أهوار الناصرية فـي ناحية العوينة بغية أن تخرج القاعدة الحزبية من تلك المناطق النائية والمعزولة عن الفلاحين، من هناك يتولى خالد احمد زكي المسؤولية السياسية لقيادة القاعدة ويتخذ اسم "ظافر" ويبدأ نشاطاته بالتثقيف والتنوير، مشيرا بأن التناقضات في الحزب لم تحسم بعد "علينا أن نضغط من هنا ليولد الحزب بقوة البنادق" (ص 203).