أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سامي عبد العال - الموت كفعلٍّ سياسيٍّ















المزيد.....

الموت كفعلٍّ سياسيٍّ


سامي عبد العال

الحوار المتمدن-العدد: 5143 - 2016 / 4 / 25 - 20:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تلك الجثث الآدمية المحمولة كانت أبرز صور الربيع العربي. جثثٌ داخل حدادٍ سياسيٍّ استطاع الثوار مسرحتَّه تجاه آلة السلطة. في دولِّ الأحداث قاطبةً لم تغِبْ هذه المشاهدُ عقب أي حراك ثوري. وماعدا دول الحروب كليبيا واليمن وسوريا مثلت الجثثُ مؤشراً للأوضاع المزريّة. فبدلاً من تشريح الموتى كموضوعٍ للقتل جرت المواكبُ تشريحاً سياسياً للصراع الدائر. بإمكاننا اعتبار الأوضاع آنذاك خرائط لمسار الموت ذهاباً وإياباً. وكانت القوى البديلة تتشكّل في الواقع مع ذات المسار.
الجثة إشارةٌ سيميائيةٌ تمارس الموت مقابل دلالة سياسية ممكنة. تتحين معناها: لم يُرّد الحاكمُ تغييراً إلاَّ بمآتمَ تلّو الأخرى. فهل هنالك من يدرك خطورة الحالة ليتقدم الأنشطة الثورية؟ كيف لا يُعجّل الآخرون لإنقاذ الموقف؟! لماذا لا يُلبي الحاكم مطالب الجماهير؟! وإذا كان الشباب يُقتّل فهل ستبقي الأوضاعُ السياسية آسنةً كما هي؟! بدت مظاهر تشييع الموتى علامات بلا معانٍ، ثم كان لها أبلغ الأثر تبعاً لدلالة الموت في مجاله الاجتماعي. فلكونَّه المحرَّم- وإلاّ فالمقابل فادح- طرح نفسه كمحْذُور تخطاه النظام الحاكم. وعليه أنْ يتوقع أوخم النتائج على نفس المنوال.
الموتُ اختراقٌ لحاجز الصوت السياسي العادي. إنَّه نذير شئم يشابه النواح المتكرر لمرحلة تاليةٍ. بالسياسة يغدو عملاً انطولوجياً من أجل البقاء رغم خروج الروح. كأنَّه يقصد معنى الحرص على الموت حتى تُوهب لصاحبه الحياة. فكان الموت مدفوع الثمن مقدماً ليصبح إمكانية متاحة فيما بعد. لكن هل من داعٍ إلى ذلك؟ المجال السياسي في الثقافة العربية مخضب بالدماء سلماً وحرباً. الهتاف مازال باقياً وراء كل ديكتاتور عتيد" بالروح، بالدم نفديك يا ريس". كم منا هتف لهذا الزعيم أو غيره حاملاً كفنه على راحتيه:" لو خضت بنا البحر لخضناه". وحتى من لم يهتف كان يحملُ كفنّه لكونِّه لا يخنع لسلطان القائد. وفي أية لحظة يتوقّع اجهازاً عليه تحت إطارات سيارة مارقةٍ أو بطلق ناري غاشم أو بين جدران الزنازين.
ودون أيِّ شرفٍ نقصُد مازلنا نردد: "لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى حتى يُراق على جانبيه الدمُ". مع أنَّ شرفنا اُنتهك سياسياً بلا حدود. بل كان مضجعاً للحكام والسلاطين والأمراء. كانوا يبيتون بيننا وبين زوجاتنا. كل فعل جنسي عربي وإنْ كان خاصاً لا بد من مروره بالسياسة. لأنَّ سياسة الفحولة لا تستقيم من غير سياسة الرعية. والمناخ السياسي الكئيب لم يترك الفعل الجنسي حراً. لأنك كنت تمارس المضاجعة بمباركة الحاكم ضمنياً. فكيف يستفحل على رعيته وبينهم ذكورٌ بملء الكلمة؟! وتلك هي العلاقة الضرورية بين الخصوبة والسياسة، أساسهما قضية الحياة والموت. وبوصفه حاكماً أبوياً ترك المهمة المذكورة للآباء في كل عائلة لمراقبة تلك الوظيفة السياسية الجنسية.
ثمة خياران كلاهما يوضح الفكرة السابقة. إمَّا: تحوُل الجنس كأفيون للشعوب المقهورة. وقد حدث ذلك في مصر على سبيل التوضيح. لأنَّ الفقر السياسي والبؤس يجعلان الجنس ملجأ أخيراً لنشوة حياتية مفقودة في المناخ العام. هكذا كانت الزيادة المفرطة في المواليد مع ظاهرة التناسل بلا ضابط. وإمَّا: الموت اليومي لأتفه الأسباب. موت الحوادث العادية، موت المشاكسة بين زملاء العمل. العراك المميت بين أفراد الأسرة الواحدة. القتل نتيجة الفقر حين لا يلبي الحاجات الدنيا للإنسان. ولئن كان الفرنسيون يسمون الفعل الجنسي "الموت الأصغر"، فالعربُ يعتبرون الفعل السياسي الموت الأكبر. ألم يسمَّ بالشهادة؟! وهو تعويض الدنيا المفقودة بجناتٍ ملؤها الحُور العين(الجنس أيضاً).
ومعروف في عصر الخلفاء الأمويين حينما أمرَ أحدهم وزيره بضرورة إحصاء إحدى القبائل، سمع الوزيرُ خطأً كلمة "إحصاء" على أنّها" إخصاء" القبيلة. فكان فعل الإخصاء هو الانقلاب الدلالي نتيجة المزاوجة بين جانبي الفحولة سياسياً وذكورياً. وطبعاً تم إخصاء ذكور القبيلة عن بكرة أبيها. لقد كان ثمة تبادل مقصود ثقافياً صحت الواقعة أم لم تصح. المهم هو ابطال فاعلية التأثير السياسي إلى حد الموت. لأنَّ الاستبداد إخصاء سياسي للرعية عن قيامها بأدني سلوكٍ فحولي متوقَّع. فما بالنا إذا كان الوضع اسقاط الأنظمة الحاكمة كحال الربيع العربي؟ ولا سيما أن أبرز مظاهر الفحولة السياسية مظهر الثورات. لا يغيب عنا الجذر المعجمي للثورة في التراث العربي. فهو يشترك لفظياً بين الثور(ذكر البقر) والثورة(فعل الجموع). فكلاهما دال سياسياً طالما أنَّ السياسة لدينا من ساس يسوس، سائس.
صحيح قال شاعر العرب: "كلُّ ابن آدم وإنْ طالت سلامتّه على آلةٍ حدباءَ محمولُّ". غير أن الجثة الربيعية نتاج فعل إفناء هادف. ولم يكن للأنظمة المستبدة فهم مغزاها دونما مسارح الاعلام التي تعيد وتكرر. كانت تُحمل وتكفن بمظاهر وهتاف ومسيرة نحو المجهول السياسي. لكن لا تتوقف الجثة عند هذا الحد. فهي جدارية يُنقش عليها المستقبل بل ماضيها وحاضرها كذلك. كما أنَّها ليست ضرباً تافهاً من الموت. لكم خضعت لعمليات من التأويل لا تتوقف. كلُّ موتٍ سياسي كان تأويلاً موقفياً بالجسد. نوع من التحول الوجودي لاتخاذ موقف لم يعد ليظهر إلاَّ بهذه الطريقة. ليس الأمر مرتباً له. لكن لأنَّ الحكام يتخذون الأجساد مرمى للقتل والإيذاء فكان من طاقة الشباب أنْ صدرته فعلاً في مقدمة المشهد.
في هذا أُطلقت شرارة الربيع العربي واستمرت نتيجة تفحُم الجثث. جسد محمد البوعزيزي ومقتل خالد سعيد بالتوازي مع حالات الإحراق الذاتي هنا أو هناك. الاحراق، اشعال النيران، عمل يتعدى النتائج الوقتيه رغم آلامه المهولة. كان يستهدف إيقاع ذات الآلام لشعوب لم تتحرك طوال سنوات القهر. من وسط الآلام ولِّدت الثورات، كذلك احتراق الأجساد كان أرشيفاً حياً لمسيرتها. ذلك بتجديد الاحساس لمُشاهدي التظاهرات الثورية.
والجثة تقع فيما بعد الموت. إنها سياسياً تستبق الحدث إلى حدوث مغاير حتى تنال أكبر قدر من الترميز. ولهذا كانت وثيقة تاريخية في غير حالة. أُحتفظ بها لمعرفة ظروف الوفاة، ما إذا كان بفعل فاعل أم لا؟ وذلك تحت عنوان مقدس: الشهداء، ضحايا الثورة. مع أنَّ ذات الأجساد لم تكن لتجرؤ قبل الربيع العربي على حمل أية لافتة موت. كان من شأنها التهيب وتجنب الاحتكاك الخشن بالسلطة. ونظرا لأنَّ الرصيد السياسي صار مهماً أن استطاع فاعلو الموت تنشيط صوره يومياً.
وبهذا تحمل كلُّ جثة ذاكرتها الخاصة من الفعل ورد الفعل. وهي ذاكرة كانت تشتبك مع متلقيها في سياق الأحداث. الموت بحكم ما يحيطه من صمت ورهبة فإنَّه دعوة للتأمل. هو قرار مؤجل لاعتباره مشروطاً بفهم معين من المتابعين. والجنازة، ثم الحداد، ثم التذكر، أمور تدخل في صميم القرار نفسه. فكيف إذا كان القرار له تداعياته السياسية؟
هكذا فأنَّ الجثث أعنف التعبيرات السياسية لكنها تكشفُ تاريخَ الدماءِ في الصراع على السلطة. ويبدو أنَّ الذهنية العربية والشرقية إجمالاً تفهم جيداً ما معنى الموت كفعل مباشر. لأنَّ الطريق إلى السلطة والخروج منها كان زلقاً بالدماء. وشواء الأجساد لم يكن قرباناً هذه المرة بل صار تنفسّاً لبقايا الحرية في مواجهة الأنظمة. لأول وهلةٍ لا تُسفك الدماءُ بترقب آلة الاستبداد. لقد ذهب الشبابُ إليها طوعاً يحملون أرواحهم العارية. رهان على منازلة سلطة لا يملك الشباب إزاءها إلاَّ كيانهم المادي. ففي حالة فقدان كلِّ شيء(حياة كريمة وعدالة وحقوق إنسان) ماذا سيتبقى؟!
لئن وضعت الأنظمةُ المستبدة مواطنيها داخل أقفاصٍ اجتماعيةٍ(هي الطبقات) فالموتُ بمثابة النبض الحدي لفعل الرفض. وبخلاف أي شرفٍ مزعوم بمعناه الأخلاقي كان الجسدُ شرفاً حراً لدرجة انتهاك المعقول. ورغم قدرة الثقافة على الإرهاص بالثورات إلاَّ إنَّ الجسد يسبق العقل في الواقع. فهو النصُ الثوري المتمرد بلحمِ الحياة.



#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأسمالية الوهم
- نهاية العمل أم نهاية العالم؟!
- حيوان الثقافة


المزيد.....




- أندر إوز بالعالم وُجد بفناء منزل في كاليفورنيا.. كم عددها وك ...
- بعدما وضعتها تايلور سويفت في كوتشيلا.. شاهد الإقبال الكبير ع ...
- طائرتان كادتا تصطدمان في حادث وشيك أثناء الإقلاع.. شاهد رد ف ...
- بعد استخدامها -الفيتو-.. محمود عباس: سنعيد النظر في العلاقات ...
- لبنان.. القبض على رجل قتل زوجته وقطع جسدها بمنشار كهربائي ود ...
- هل ستجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حرب مدمرة في الشرق الأو ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن قتل 10 فلسطنيين في مخيم نور شمس شمالي ...
- الصين.. عودة كاسحتي الجليد إلى شنغهاي بعد انتهاء بعثة استكشا ...
- احباط عملية تهريب مخدرات بقيمة 8.5 مليون دولار متوجهة من إير ...
- -كتائب القسام- تعرض مشاهد من استهدافها جرافة عسكرية إسرائيلي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سامي عبد العال - الموت كفعلٍّ سياسيٍّ