جعفر المهاجر.
الحوار المتمدن-العدد: 5081 - 2016 / 2 / 21 - 13:15
المحور:
المجتمع المدني
حديث الجراح.-1
جعفر المهاجر.
في عام 1950م كانت معظم أحياء مدينة (الحي) القابعة على نهر الغراف عبارة عن بيوت طينية متلاصقة مع بعضها وغالبية سكانها هم من العمال والكسبة والحرفيين وبائعي الخضروات تجمعهم رابطة حميمية مشتركة، ويزور بعضهم بعضا في حالات الفرح كالزواج والمولد النبوي والأعياد وعمليات ختان الأولاد وفي الأحزان كالوفيات وأحياء ذكرى عاشوراء وغيرها. كنت حينها طفلا على مشارف السادسة من عمري، وقد ألفت تلك الوجوه التي ألتقيها يوميا وصارت معتادة بالنسبة لي. وغاغلبا ماألقي عليهم التحية فيردوها بأحسن منها.وكان والدي يعمل قس بيع الأدوات النحاسية وتصليحها التي كانت رائجة في تلك الأيام. وقسم كثير منها يستورد من الهند وعليها مختلف النقوش والزخارف وتمثل صفحة من فن الطرق التي كان الهنود يبرعون في نقشها على مختلف الأواني النحاسية. وكنا نحتفظ ببعضها في البيت ومن ضمنها قدرين كبيرين من النحاس مخصصان لعمل ( الهريسة) في العاشر من ال من كل عام بمناسبة إستشهاد الإمام الحسين. وكانت التحضيرات تتم على قدم وساق قبل حلول هذا الموعد بأيام حيث يتم جلب عجل كبير الحجم وتحضر الحنطة الخاصة بالهريسة. وفي ليلة العاشر من محرم يتقاطر الجيران من محلتنا ومن المحلات الأخرى إلى بيتنا حيث يتعاون مجموعة من الشباب الأقوياء أصحاب العضلات المفتولة للقيام بعملية (درغ) الهريسة بعد ذبح العجل وتقطيعه تحت حث وتشجيع كبار السن من الرجال الذين كانوا يشرفون على العملية طال الليل حتى بزوغ الفجر. ومن الوجوه التي أتذكرها الحاج خضير علي والحاج عريبي الزامل (مدير مدرسة أبن جبير) والسيد جابر والأستاذ عبد حمود معلم وحميد الحداد وطهماز الصفار. وجميع هؤلاء منهم عرب ومنهم أكراد يجمعهم حب الحسين ع ويحب بعضهم بعضا وكأنهم أخوة لايفرق بينهم مفرق. ورب أخ لم تلده أمك كما يقول المثل. ورغم الطابع الحزين لتلك الليلة كانت الأحاديث الودية هي القاسم المشترك بين الحاضرين حتى الصباح حيث يأتي الأطفال والكبار والنساء في أول خيط للفجر ليملأوا قدورهم تحت أصوات الصلاة على محمد وآل محمد والتي كانت تنطلق من تلك الحناجر القوية. وكانت هناك أحاديث أخرى يتداولها المجتمعون في تلك الليلة ومن جملة ماكنت أسمعه كلمة (شهادة الجنسيه) تتردد على شفاههم. ولم أكن أعلم مغزى تلك الكلمنين. ولم نكن نعرف طعم النوم في تلك الليلة أبدا. وبعد الإنتهاء من تلك العملية ذهبت إلى المدرسة التي كان مديرها المرحوم عريبي الزامل صديقا لوالدي حيث جاء في أحد الأيام ألى الصف الذي أجلس فيه وقال لي بالحرف الواحد ( اليوم من ترجع للبيت كله يسلم عليك المدير ويطلب منك أن يسعى للحصول على شهادة الجنسية لك.) فقلت له نعم أستاذ. ورسخت تلك الكلمتين في ذهني . ودفعني حب الإستطلاع لمعرفة ماذا تعني (شهادة الجنسية) ورجعت ألى البيت بعد انتهاء الدوام لأخبر والدي بالكلام الذي سمعته من مدير المدرسة. وكنت الأبن الوحيد لوالدي ويحبني كثيرا ولم أجد والدي في البيت فذهبت ألى السوق لأعلمه بالخبر وعندما نقلت له الكلام حرفيا تنهد وسكت فعدت عليه الكلام مرة ثانيه فأجابني (إبني سمعت كلامك كلش زين آني مو أطرش راح اطلعها من يجي وكتها)
فسألته مرة أخرى ( بابا عود شني هيه شهادة الجنسيه )؟ فأجابني بعد أن تنهد تنهيدة عميقة أشد من الأولى ( إبني راح تعرفها بعدين هسه أنته ليش مستعجل على الطركاعه)؟ وبقيت كلمة (طركاعه )عالقة في ذهني ومرت الأيام و كان أبي يسافر خلالها إلى بغداد. وكنت أسأل والدتي عن سبب سفره لعدة أيام في الشهر فكانت تجيبني ( إبني أبوك بلش بمعاملة (الطركاعه ) راح نموت من الجوع من وراها وأبوك راح يبقى على بساط الفقر حتى يطلع الطركاعه اللي مراجعتها طويله وما نعرف تطلع لو لا )وكنت أقول لها( يمه هاي الطركاعه بس موجوده ببغداد) فكانت تجيبني بنبرة غاضبة (أي يمه أي هي بس ا بغداد راح تكعدنه على بساط الفكر) وظل أبي على عادته لأشهر وكنت أسأله( بابا يمته انشوف الطركاعه؟) فكان يجيب والحزن يملأ عينيه:
( بابا هاي مصيبته مصيبه والطريق طويل يمكن راح أموت اوما أشوفها) ومرت ثلاث سنوات وهو على ذلك المنوال يذهب إلى بغداد ويقضي أياما طويلة في مديرية الجنسية العامة ثم يرجع بخفي حنين متحسرا متألما.
شعر والدي في أحدى الأيام بألم في خاصرته وفحصه الدكتور (البيرت زكو) وكان الطبيب الوحيد في المدينة. فأعطاه بعض العلاج لكن والدي قد تدهورت صحته بسرعة وبعد عدة أيام أسلم الروح وذهب معه سر (الطركاعه ). والطركاعه تعني المصيبة باللهجة العامية العراقية.
رأيت نفسي وحيدا مع أربع أخوات يصغرنني جميعا وكان ذلك في عام 1954م .وترملت والدتي وكانت تنوح وتبكي وتقول(الطركاعه هي اللي موتت أبوكم. )وكان خيال والدي لايفارقني أبدا. ومرت سنتان أثقل من ثقل الجبال علينا بعد فقدان المعيل الوحيد لنا. فاضطررت إلى العمل في عمليات البناء لكي نبقى على قيد الحياة. وعاشت مدينة الحي أحداثا جساما عام 1956م حيث انتفضت المدينة عن بكرة أبيها احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر بعد أن تعرضت لظلم كبير من الإقطاعي مهدي بلاسم الياسين وزبانيته قبل هذا التأريخ.
وقمعت الانتفاضة بكل قسوة على أيدي الشرطه التابعه لسعيد قزاز وزير داخلية نوري السعيد وتم نصب المشانق في وسط المدينة ،وأعدم المناضلان على الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس. وزج المئات من ثوار المدينة في السجون، وانتهكت الحرمات وسرقت الأموال واستبيحت المدينة تماما ونصبت المدافع الثقيلة على مشارفها حيث أطلق سعيد قزاز جملته المشهوره ( قضاء الحي مولازم) ولولا تدخل بعض الوجهاء ومنهم لحلت كارثة كبرى بالمدينة. ورغم كل تلك الأحداث الجسام لكنها لم تمح من ذهني لغز ( الطركاعة ) وكان فقد أبي يؤلمني كثيرا ولغز ( الطركاعه) يقض مضجعي وكنت أسعى لمعرفته بكل تفاصيله.
جعفر المهاجر.
21/2/2016م
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟