أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم الحيدري - النقد والحرية















المزيد.....

النقد والحرية


ابراهيم الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 5073 - 2016 / 2 / 13 - 18:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    






يعتبر النقد ظاهرة من ظواهر التاريخ والمجتمع والثقافة التي مهدت الطريق الى تطور مفهوم النقد في ابعاده الاجتماعية والثقافية والفلسفية والسياسية. فلسفيا، بدأ النقد حسب الموضوع ثم أصبح حسب الكلمة. وجاءت كلمة نقد (Kritik، Critic) لأول مرة في اللغة الاغريقية (techne)، بمعنى الاختبار او الحكم، الذي يعتبر أهم المقدرات عند الانسان التي تحفظه من الخطأ او الخديعة، وبصورة خاصة، فيما يخص الشخص ذاته، وهو ما أطلق عليه بـ “النقد الذاتي”، وفي ذات الوقت دلت كلمة “نقد” على نوع من الجدل العقلي او النشاط المتميز للعقل من اجل الوصول الى معرفة اخرى.
وتشير كلمة نقد الى تقنية Technik او فن Kunst و ” تقنية الاخلاق” أي الى نفس معنى الحكم او اصدار قرار اخلاقي، وهو المعنى الذي انتقل الى الفلسفة الاخلاقية. والحال ان الفلسفة منذ قرون هي نظام للعمل النقدي الذي ميزه بلوتارخ في نظريته: بين ما هو الجميل/ الأصيل” عن القبيح المشين، وكذلك بين ما هو العادل وغير العادل. وبإيجاز شديد: يعني ما هو القصد، وما هو المخرج؟
أهمية النقد تكمن اذن في التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي، وبين ما هو جميل وقبيح عن طريق اصدار حكم عقلي يبين ما هو الأفضل والأجمل من الظواهر عامة.
وكان من الطبيعي ان يأتي دور العقل في المرتبة الثانية بعد الايمان وبخاصة بعد توسع نفوذ الكنيسة وهيمنتها على المجتمع حيث اخذ مصطلح النقد يشير الى عملية اصدار احكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة النصوص القديمة، سواء كانت كلاسيكية او مقدسة، واستخدم كسلاح ذو حدين من قبل الاتجاهات الدينية المختلفة آنذاك. فقد استخدمه الكاثوليك كمنهج لغوي للتدليل على أهمية ودور الكنيسة مثلما استخدمه البروتستانت في دعم أولوية الاعتماد على الكتاب المقدس ذاته. وقد أكد القديس أوسطين على قاعدة أصولية مؤداها ” ان سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الانساني”. وبعد تنامي الفلسفة المدرسية، أخذت هذه النظرة تتغير بالتدريج وذلك بفعل افكار اريجين الفلسفية، الذي كان معاصرا للفيلسوف العربي ابو يوسف الكندي. كما كان اول فيلسوف أوربي ربط بين سلطة العقل وموضوع الدين، وأكد بأن أي سلطة لا تقوم على العقل تعتبر سلطة كسيحة، وأول من اعطى لنفسه الحرية في تفسير النصوص الدينية تفسيرا عقلانيا، ولذلك نظرت الكنيسة الى افكاره بعين الريبة والحذر، وأمرت بحرق كتبه وطرده من الكنيسة. كما كان القديس أنسلم، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، أحد الدعاة الى تحكيم العقل في أمور الدين.
وخلال القرن الثالث عشر ازدادت النزعة العقلية (النقدية) على إثر اتصال الاوربيين بالعرب والمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وترجمة امهات الكتب الفلسفية للمفكرين العرب الى اللغة اللاتينية وبخاصة مؤلفات الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد. ومع بدايات القرن الرابع عشر، الذي جاء محملا برياح التغيير، تزعزعت الأبنية الفكرية القديمة وتفجرت الصراعات بين الانظمة الملكية الجديدة وبين الكهانة وظهرت بدايات الفصل بين الدين والفلسفة. ويعتبر الفيلسوف اوكام (1349) أول من قام بحركة قوية لنقد الفلسفة الكهنوتية والمطالبة بالفصل بين السلطتين الدينية والمدنية.
والواقع بقي النقد في تلك الفترة لا يخرج عن كونه عملية اصدار احكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة وتفسير النصوص القديمة سواء كانت دينية او دنيوية.
المنهج النقدي
غير ان المنهج النقدي لم يحقق نوعا من الاستقلالية الا بعد ان حلت الافكار التأملية الرشيدة مكان المفاهيم والافكار التقليدية القديمة، وبخاصة تلك التي ترتبط بالحق وبالمقدس. وبالتدريج أصبحت فكرة النقد تعني ” الجدل العقلي” ثم النشاط المتميز للعقل باعتبارها أداة تحكيم عقلانية. ثم تطور مفهوم النقد ليصبح عملا من اعمال الفكر في شروط المعرفة الممكنة، اي القدرات التي تمكن الانسان من المعرفة والنظر في الامور بحرية. لان هدف النقد هو ان لا يضيع الانسان في واقع مزيف او يستسلم لحقيقة كاذبة، او يتوهم بانها ابدية ولا يمكن مسها بالنقد والتجريح. كما ان هدف النقد هو إيقاظ الوعي الانساني عن طريق القدرة على الرفض، الذي يلغي الحق في التفكير الحر، ورفع القدرة على الابداع. ومن هنا تأتي أهمية النقد باعتباره عملية رفض وتحد وليس خضوعا واستسلاما.
والنقد هو ” فن ألحكم “، أي الفصل بين الاشياء والحقائق التي يختلف حولها ووضعها موضع التساؤل. وهو بهذا أحد أهم القابليات العقلية في الاختبار والحكم التي يمتلكها الانسان والتي تجنبه الخطأ والضلال، وبخاصة ما يمس الشخص ذاته، مثلما يشير الى القدرة على استخدام النقد، أي المعرفة والاستيعاب والقابلية على التصرف بحكمة للوصول الى الهدف الأصل والقدرة على التمرن على ممارسة النقد. فالنقد يشترط وجود قدرة وامكانية لمعرفة مناحي القوة او الضعف في الموضوع المنقود او في كليهما، مثلما يشترط ان لا يكون هجوما على الشخص ولا حتى الشعور بالهجوم، لأن أي تعامل خاص مع أي موضوع أو نص أو وجهة نظر تعتبر عموما حكم مسبق يظهر خاصة بتأثير عاطفة او نزوة او مصلحة. وقابلية النقد هي جزء من قابلية الثقافة والجماعة واستعدادها على تقبل النقد.
ويشكل النقد لولب الحراك الاجتماعي الذي ينتج عمليات التغير والتغيير والتطور والتقدم الاجتماعي. ولولاه لظل التفكير الاجتماعي ثابتا وجامدا. وهو جزء من الوعي الانساني بالذات وبالآخر ومحركه، وهدفه ايقاظ الوعي الاجتماعي عن طريق القدرة على الرفض وعدم الغاء الحق في التفكير والحرية في الرأي والقدرة على الابداع. فهو عملية تحد وصمود وعدم الاستسلام او الخضوع لقمع اي فكر تسلطي.
تطور الفلسفة النقدية
النقد منذ البداية جزء من تاريخ الفكر والفلسفة، الذي انبثق عنها، لأنه قائم في سياق تاريخي واجتماعي وارتبط بالتغيرات الذاتية والموضوعية وكذلك بالمناخ الاجتماعي/الثقافي وبتاريخ الافكار والنظم والفلسفات في العصر الحديث التي اثرت بدورها على حركة النقد وانواعه واتجاهاته، وبخاصة الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية.
وتعود الارهاصات النقدية الأولى الى الفكر والفلسفة الاغريقية التي مثلت اول مغامرة فلسفية في الفكر الإنساني للبحث عن علل الأشياء وإدخال العقل الى العالم لتفسير الطبيعة والكون والحياة على أسس عقلية وإعطاء النقد بعدا فلسفيا، حيث أخذ مفهوم النقد عند افلاطون معنى فلسفيا تماما، ولكن ليس بالمعنى الشائع اليوم لكلمة “نقد” وانما بمعنى مختلف وهو ” الحكم “، اذ اعتبر افلاطون النقد كقطيعة بين الروح والجسد وربطه بأسطورة الحكمة الإلهية لليوم الآخر. فالروح حين تخرج من الجسد في اليوم الآخر يكافأ الانسان اما بالصعود الى عالم السماء او النزول الى عالم الجحيم والعذاب. وبصورة او بأخرى فالإنسان يولد من جديد. اما عند سقراط فجاءت كلمة ” نقد” أكثر تطورا حيث اعتبر النقد "التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو غير ذلك". كما عرف عن ارسطو انه أول ناقد لفلسفة افلاطون وأول مهاجم لفكر السفسطة.
كمل لعب النقد دورا هاما في الفكر والفلسفة العربية الإسلامية من خلال الجدل في القضايا الايمانية، كمشكلة خلق القرآن لدى المعتزلة وافكارهم العقلانية، الى جانب النقد الادبي والعلمي الذي تطور مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط.
وخلال عصر النهضة تطور مفهوم النقد في أوربا مع تطور العلوم والآداب والفنون وامتداد الثورة الصناعية في الدول الاوربية وانفجار حركات الإصلاح الديني التي قوضت سلطة الكنيسة وهيأت لظهور عصر التنوير، الذي يعتبر بحق عصر النقد.
وكان في مقدمة الفلاسفة الكبار الذين أرسوا دعائم الفلسفة النقدية هو فردريك هيغل الذي سار في البداية على خطى نظرية كانت ثم تجاوزها الى فضاء أرحب، الى قضايا الدولة والسياسة والمجتمع، معتبرا ان الحرية تتجسد في تحقيق الروح في التاريخ، أو تحقيق الانسان لذاته في المجتمع، وهذا لا يتحقق إلا بالجدل: الاثبات، النفي/التركيب.
وكان هيغل افتتح عام 1802 مجلة "النقد الأدبي" بمقالة عن "جوهر النقد الأدبي" ميز فيها بين نوعين من النقد، الأول، نقد يمارس في وجه القوى الوضعية المزيفة للعصر للخروج من الاشكال المتصلبة وتوليد جديد لهذه الحياة المقهورة. ويعني بالقوى الوضعية الدين والدولة. وإذا لم يكن بوسع النقد ان يبرز العمل والفعل مثلما يبرز شكل الفكرة، فعليه ان يعترف بالجهد المبذول والاهتمام العلمي وما يقوم به من تحطيم القوقعة التي تعوق التوتر الداخلي. والثاني، نقد موجه نحو المثالية الذاتية لدى كانت وفيشته، اذ يصدر عن هذه المثالية الذاتية حقيقة ان فكرة الفلسفة معروفة بوضوح، ولكن الفلسفة الذاتية بذلت جهدها لاحتواء الفلسفة بالقدر المطلوب لخلاصها، فليس على الفلسفة ان تقول للعالم كيف يجب ان يكون، لان مفاهيمها لا تعكس سوى الواقع كما هو. والنقد لا يمارس إذا ضد الواقع، وانما ضد تجريدات ظلامية تتسلل بين الوعي الذاتي والعقل وقد صار موضوعيا.
غير ان الأب المؤسس للتراث النقدي التنويري يبقى عامنوئيل كانت الذي اتخذ النقد عنده مفهوما جديدا. فالنقد من الجانب الإيجابي محاولة لتقييم حدود العقل ومدى امكانياته في نطاق التجربة الحسية. أما النقد من الجانب السلبي فيتضمن تقييماً نقدياً للعقل حينما يحاول تجاوز التجربة. وهو بهذا يعني تهافت الفلسفة الميتافيزيقية الكلاسيكية التي كانت تعتقد بإمكان معرفة ما وراء الظواهر المحسوسة، كما يعني ضرورة الانصراف الى مشاكل الحياة والمجتمع التي يمكن معرفتها بعقولنا.
ان مهمة الفلسفة هي اذن مهمة نقدية تمثل لحظة نقدية للواقع الإنساني، وان نقدها لما هو كائن يؤكد على عمق السؤال الفلسفي كونه يدخل في حوار ومساءلة مع الوجود كما هو أمامنا في الحياة والمجتمع. وبهذا يصبح النقد عند كانت هو محرك لكل خلق وابداع، لأن الفكر عنده يتطلع دوماً الى ما يجب ان يكون، وليس ما هو كائن.
هذا الإرث النقدي العظيم لكانت وهيغل انتقل الى ثلاثة فلاسفة كبار أسسوا اللحظة النقدية للفكر المعاصر هم ماركس ونيتشة وفرويد الذي يربط بينهم عامل مشترك واحد هو البعد النقدي لفلسفاتهم.
بالرغم من ان جدلية هيغل هي أساس جميع الجدليات الفلسفية في التاريخ، غير ان ماركس قلب جدلية هيغل واوقفها على رأسها وتجاوز صوفيتها بتطويره طريقة "الديالكتيك" التي تعبر عن صيرورة العالم وحركته التي تنفي كل رؤية ثبوتية للعالم والكون وفي حركة تنمو وتتطور في الأشياء ذاتها فتنتج التناقض، لأن كل شيء يحوي في احشائه عناصر متناقضة. ان مبدأ الحركة عند ماركس هو سيرورة (process) تجري وفق مخطط جدلي(dialektic)، فكل قضية(These) لها ما يناقضها(Antithese) وهذا التناقض يولد بدوره قضية جديدة يدعوها بالتركيب(Synthese).
وقد انتقل ماركس من نقد الفلسفة الى نقد المجتمع وتحول من النقد الديني الى النقد الاجتماعي متخطيا اراء فيويرباخ في نقد الدين الى نقد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، منتقدا بوجه خاص كل سلطة تستغل الانسان وترى في نفسها الحقيقة. وقد ارتبط نقد ماركس قبل كل شيء بالطبقات المستغَلة باعتبارها الصوت المعبر عن النفي حيث يتم الانتقال من الأفكار الى ممارستها في الواقع، ومن الفكر النظري الى الثورة بهدف استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية من حيث هي وسيلة لإعادة تنظيم المجتمع. ولا يكتفي ماركس بنقد سلبيات الواقع، وإنما كل اشكال الاغتراب المادي والمعنوي.
أما نيتشة فكان فيلسوفا وعالم نفس وشاعر رفيع وجه نقده الى العالم والى نفسه، مثلما انتقد الفلسفة الغربية واعتبر ان وظيفتها الحقيقية هي انقاذ الفلسفة، مركزا في الأخير على نقد قيم الحداثة التي تعيد نفسها اليوم في كتابات ما بعد الحداثة في شكل او آخر، جعلت منه أول من قدم حججاً نقدية صارمة ضدها، مركزا هجومه على فكرة الذات وعلى أفكار ومبادئ عصر التنوير في العقلانية والتقدم الاجتماعي.
وقد ظهر بوضوح نقد نيتشة للحداثة والعقلانية الغربية على لسان زرادشت الذي هزأ بهذا الصنم المسمى "العقل" مثلما هزأ الغرب بمسيحيته. كما وقف ضد عبودية الاخلاق عامة والأخلاق المسيحية خاصة وتحول الى متمرد وكافر ليعلن "موت الإله"، ويعني بذلك تحرر الإنسانية الكامل من أي سيطرة لمرجعيات عقلية.
في نقده للعقلانية يقف سيغمويند فرويد بالضد من المفاهيم الفلسفية التي تقول بطبيعة الانسان العاقلة. فهو يقدم فلسفة مغايرة تقول بان السلوك البشري ليس موجها بالعقل، وإنما بما هو أقوى من العقل ويقصد بها الدوافع أو الغرائز وهي بطبيعتها لا عقلانية ويعبر عنها بالرغبات والاحتياج والتوق. وإذا أراد البشر فهم الفعل فعليهم فهم الدوافع التي تختفي وراءها. وعادة ما تكون الدوافع واضحة حيث يشير الفعل الى حدوثها، ولكن غالبا ما تكون دوافع الفعل مبهمة وغير واعية. وارتباط الدوافع باللاوعي معناه وجود مخزون من الدوافع المكبوتة التي تفسر الأفعال وتجعل لها معنى. وقد ارجع فرويد جميع الدوافع الى غريزتين أساسيتين هما غريزة الحياة-الحب (Eros) وهي الغريزة الجنسية التي تحافظ على الذات والنوع، وغريزة الموت-الهدم (Tod) وهي غريزة العدوان والتدمير. ويرى فرويد، بان السلوك البشري هو نتيجة للصراع بين هاتين الغريزتين أو التعاون بينهما، فغريزة الحياة والتعاون تنزع الى البقاء، أما غريزة الموت والعدوان فتنزع الى الهدم والتدمير ووظيفة المجتمع هو التغلب على السلوك المدمّر وتقديم السلوك الذي يبني ويهذب.
ان ارث عصر التنوير والفلسفة النقدية بإشكالاته المتعددة انتقل في منتصف القرن الماضي الى مدرسة فرانكفورت النقدية التي سبقت غيرها في اثارة كثير من التساؤلات المعرفية التي تدعو الى الشك في الفكر الاجتماعي والفلسفي التقليدي والانتقال من نقد الفكر الى نقد المجتمع ومؤسساته في محاولة لصياغة نظرية نقدية جادة مثلما جاء به عصر التنوير للوقوف امام التيارات الفكرية التي مارست وتمارس أنواعا من السلطة والتسلط والتشديد على أهمية العقل والعقلانية والتنوير ونقدها من خلال تبني منهج بحث نقدي- جدلي يربط بين النظرية والممارسة العملية.
وقد تأثر رواد ما بعد الحداثة وخاصة في فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي بأفكار نتشه النقدية مثل دولوز وفوكو في التحليل والتفكيك والنقد ومناهضة العقل الغربي. ولم يكن "بيان ما بعد الحداثة" الذي أصدره فوكو هو الأول، وإنما كانت أفكار نيتشة ونقده لقيم الحداثة والتنوير. إذ أعلن بأن انتصار الوعي هو اغتراب الطاقة الإنسانية المنفصلة عن نفسها والتي تعادي ذاتها بتماهيها مع قوة غير إنسانية تفرض على الإنسان الخضوع لها، وهو ما قاد الى العدمية، التي تعني استنفاد الإنسان الذي انتقلت قدراته الى العالم الإلهي بواسطة المسيحية التي ليس لها من سمة تخصها سوى الضعف، ما أدى الى انحطاطها. كما ان قلب القيم يعني رفض هذا الاغتراب واستعادة الإنسان وجوده الطبيعي وطاقاته الحيوية وارادته في القوة. كما ينطلق في نقده للحداثة في تماهيها مع النفعية، ومع إخضاع الفرد لها يخضع العالم لمصلحة التنظيم الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البرجوازي.
النقد والحرية
ان الصعوبة في عملية النقد تأتي من خضوعه لاختبار حر ومفتوح، لأن العامل الاساسي الفاصل في ذلك هو تقديم الدلالات والبراهين الكافية لبيان مناطق القوة والضعف، مثلما ترتبط قابلية النقد بقابلية تقديم الحجج المقنعة. وإذا كان النقد عادلا، فيعني ذلك وجود من له قابلية على النقد واستعداده للاعتراف بنقاط الضعف في الموضوع المنقود.
وتساعد حرية النقد على تنمية التفكير وتحريكه والتخلص من عقدة الخوف والوجل والتردد من قول الحقيقة، وتوليد افكار ورؤى جديدة، ولذلك فهو عملية ضرورية للتخلص من الطاعة العمياء والخضوع والانقياد للقدر الاعمى، وعدم طرح الآراء والافكار من دون تأمل، كما يرتبط سؤال النقد بالحرية، لان نقد الفكر من الداخل غالبا ما يكون محكوما بقيم وقواعد واعراف وشروط انتاج المعرفة في المجتمع.
النقد والابداع
اعتبر افلاطون الابداع لغزا محيرا لا يمكن تفسيره إلا بالإلهام، ونسبه الى الآلهة والقوى السماوية. اما ارسطو فقد اعتبر الطبيعة مصدر الالهام والابداع وهو تفسير عقلاني يتجاوز رأي افلاطون بإرجاعه الى عوامل سحرية وما ورائية. وكان كانت أكثر وضوحا من غيره حين شدد على ان جوهر النقد هو الحرية وجوهر الابداع هو خلق وابتكار ما هو غير موجود وليس تقليدا ومحاكاة محضة لما في الطبيعة، وميز بين الخلق والابداع وعزا الخلق الى العبقرية، وقرن الابداع الحقيقي بالفن وليس بالعلم. فالإبداع عنده هو النتيجة الطبيعية للتفاعل المتبادل بين التصور والادراك. ورسالة النقد ذات ابعاد متعددة، فهو آلية من آليات الخلق والابداع، التي تفكك الخطاب وتحلله وتؤوله، بعد ان تستشرف فضاءاته وآفاقه وابعاده ودواخله وتسبر جوهره لتعيد انتاجه بخطاب جديد يقوم عليه. ولهذا أصبح النقد شرط الابداع. والابداع شرط التطور والتقدم.
ولا يكسب النقد شرعيته الا بعد ان يستكشف الناقد ما يكمن داخل الخطاب-النص، من دلائل ورموز ومعاني واشارات، بل ويكشف عما هو غامض وسري ودفين فيه.
وإذا كان النقد ابداعا، فهو يشترط ذائقة نقدية، مثلما يشترط امتلاك أدواته النقدية، وكذلك ذائقة جمالية، لان النقد خطاب جمالي ذو منطلق علمي تتحدد قيمته بمدى الحرية المفتوحة امامه، ومدى الوعي بهذه الحرية واستخدامها، وكذلك التمكن من استخدام أدواته النقدية وذائقته الجمالية ومخزونه المعرفي، الذي ينبغي ان يستجيب للتعديل والتحوير والتطوير ليكون ابداعا وابتكارا واصالة. وهكذا فالنقد منهج مفتوح على المعرفة العلمية وعلى وعي جديد يكشف عن المعلوم والمجهول في الفكر متطابقا او مخالفا معه، ليؤسس لفكر جديد.

لمزيد من الاطلاع انظر المصادر التالية:

-إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي واشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي بيروت 2003
-إبراهيم الحيدري، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، دار الساقي، بيروت 2012

-Behrens,R, Kritische Theorie,Wissen verlag,Hamburg 2002
-Habermas,J, der philosophische Diskurs der Moderne, Frankfurt,1991
-Horkheimer u. Adorno, Dialektik der Aufklaerung,Fischer Verlag,Frankfurt 1982



#ابراهيم_الحيدري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفن والثقافة الشعبية
- المحاصصة الطائفية والهوية الوطنية
- الدولة الريعية الشمولية تجعل السلطة أكثر قوة وتماسكاً
- هل العراقيون أهل شقاق ونفاق؟
- الأزمة المجتمعية وافرازاتها في العراق
- -الربيع العربي- ودولة المواطنة؟!
- تجليات جمال الغيطاني تراجيديا كربلاء
- الدولة المدنية والدولة الدينية
- علي الوردي وتحدي الحداثة
- إشكالية الركود الاجتماعي والاستبداد عند عبد الرحمن الكواكبي
- مجلس الاعمار ودوره الريادي في عملية التنمية في العراق
- هل هي دولة عشائر أم دولة مؤسسات ؟!
- الأزمة الاقتصادية العالمية من وجهة نظر مدرسة فرانكفورت
- مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية
- «الطبل الصفيح» لغونتر غراس ...والاعتراف بالخطايا والذنوب
- حملات التحريض الديني والانخراط في الحركات الجهادية المتطرفة
- سوسيولوجيا العنف والإرهاب
- الحداثة دخلت من أبوابنا الخلفية
- سيكولوجية الإرهاب: التكفير بدل التفكير
- الحداثة والبنى التقليدية في المجتمع العربي


المزيد.....




- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم الحيدري - النقد والحرية