أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مايكل ليباويتز - طريق التنمية البشرية: الرأسمالية أو الاشتراكية؟ – (الجزء الثاني)















المزيد.....


طريق التنمية البشرية: الرأسمالية أو الاشتراكية؟ – (الجزء الثاني)


مايكل ليباويتز

الحوار المتمدن-العدد: 5057 - 2016 / 1 / 27 - 08:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مالعملفريق الترجمة




الإنتاجية في ازدياد

يبحث الرأسماليون عن سبل أخرى لإنماء رأس المال، تحديدًا لكون العمال يقاومون فعلًا دفعَ الرأسماليين الأجور إلى أدنى حد ممكن وساعات العمل إلى أقصى حد ممكن. إذ يقومون بإدخال الآلات في أماكن العمل، والتي بإمكانها أن تزيد من الإنتاجية. فمع ارتفاع الإنتاجيّة يقلّ عدد الساعات اللازمة لإعادة إنتاج العمّال أنفسهم بمستوى الأجر الحقيقي نفسه. وعبر زيادة الإنتاجية نسبةً للأجر الحقيقي، يخفّض الرأسماليّون من العمالة اللازمة ويرفعون من معدل الاستغلال.

ونتيجةً لهذا الصراع بين الرأسماليين والعمّال، يندفع الرأسماليّون لإحداث ثورة في وسائل الإنتاج. لو كنّا نعيش في ظلِّ نظامٍ مختلف لكان ذلك خبرًا سارًّا للجميع: مع اندماج العلم مع منتجات «العقل الاجتماعي» (social brain) في عملية الإنتاج، سيؤدي ذلك لتضخيم إمكانيّات الإنتاج، وبالتالي نجد الاحتمالات الواضحة للقضاء على الفقر في العالم كله وإمكانيّة التقليل من عدد ساعات العمل، وتقليلها بشكل كبير لتصل لمستوىً يوفّر للفرد فرصةً للتنمية الإنسانيّة. لكنّ فلنتذكّر هنا أن هذه ليست هي أهداف الرأسمالي، وليست هي سبب إدخال الطبقة الرأسماليّة لهذه التغييرات في نمط الإنتاج. فبدلًا من التقليل من ساعات العمل، ما تريدهُ الطبقة الرأسمالية هو تخفيض «العمل الضروريّ» لإعادة إنتاج العامل؛ تطمع الطبقة المستغِلّة بزيادة فائض العمل ومعدّل الاستغلال إلى حدّهما الأقصى.

لكن، ما الذي يمنع العمّال من أن يكونوا مستفيدين من زيادة الإنتاجية؟ أي من خلال ارتفاع الأجور الحقيقية نتيجةً لهبوط تكاليف إنتاج البضائع؟ كيف تضمن الطبقة الرأسماليّة أنّها هي من سيستفيد من ذلك وليس العمال أنفسهم؟

جيش العمالة الاحتياطي

لو كان تزايد الإنتاجية يأتي من العدم، لمكّن انخفاضُ تكلفة السلع العمالَ من شراء المزيد باستخدام أجورهم النقدية الحالية؛ في هذه الحالة، يمكن للعمال أن يكونوا المستفيد الرئيسيّ من المكاسب الإنتاجية. لكن، تزايد الإنتاجية لا يأتي من العدم؛ فمن حيث أن تزايد الإنتاجية هذا قد بادرت به الطبقة الرأسمالية، فنتيجته هي زيادة درجة الانقسام بين العمال، وبالتالي إضعاف العمال أنفسهم. دعنا نأخذ مثالًا: كلّ عامل وعاملة يُطردان من عملهما جرّاء استحداث توظيف الآلات في الإنتاج تتم إضافتهما إلى صفوف «جيش العمالة الاحتياطي»، حيث يتشكل هذا «الجيش الاحتياطي» من العاطلين والعاطلات عن العمل. والعاملة العاطلة عن العمل تتنافس مع العاملة الموظفّة. كما أن وجود جيش العمّال العاطلين الاحتياطي هذا لا يقتصر فقط بالسماح لرأس المال بممارسة التأديب داخل مكان العمل، بل يساهم أيضًا في إبقاء الأجور ضمن الحدود المتسقة مع الإنتاج الرأسمالي الربحي. فالعمال المُسرَّحون، على سبيل المثال، قد يحصلون على وظائف، لكن بأجور أقل بكثير.

وينطبق الأمر نفسه عندما ينتقل رأس المال إلى بلدان ومناطق أخرى هربًا من العمال المنظَّمين – حيث يُوسّع من جيش العمالة الاحتياطي ويضمن أنه حتى أولئك العمال الذين ينظّمُون أنفسهم ويناضلون ويناضلن ضدّ رأس المال لن ينجحن في الحفاظ على مستوى ارتفاع الأجور الحقيقية بقدر مستوى ارتفاع الإنتاجية. فكما أشار ماركس، معدل الاستغلال سوف يستمر في الارتفاع، لكن حتى مع ارتفاع الأجور الحقيقية، فإنّ «الهوة بين مستوى معيشة العامل ومستوى معيشة الرأسمالي ستستمر بالاتساع طرديًا».

الاستغلال ليس المشكلة الرئيسية

لكن، على الرغم من ذلك، فإن الاعتقاد بأن المشكلة الرئيسية في الرأسمالية هي توزيع الدّخل غير العادل هو خطأ كبير – أي الاعتقاد بأنّ السبب الأساسي لسوء الرأسمالية هو حصولُ العمال على دخلٍ أقل من ذاك الذي ينتجونه. إن كانت هذه هي المشكلة الوحيدة، فسيتمثل الجواب الواضح بالتركيز على تغيير توزيع الدخل لصالح العمّال، كتعزيز النقابات العمالية، وتنظيم رأس المال من خلال تشريعات الدولة، واتباع سياسات التوظيف الكامل (مما سيقلل من تأثير جيش العمالة الاحتياطي) – جميع هذه التدابير الإصلاحية ستحول ميزان القوى لصالح العمال.

لكن ذلك لا يحدث في الواقع إلا لهُنيّة. من الضروري جدًا أن نفهم أن الطبقة الرأسمالية لا تنام أبدًا، ولا تتوقف أبدًا من محاولة تقويض مكاسب العمال التي اكتسبوها سواءً عن طريق أنشطتهم الاقتصادية المباشرة أو من خلال نشاطهم السياسي، ولا تكفُّ أبدًا عن محاولة تقسيم العمال، عن جعلهم يعادون بعضهم بعضًا، وعن تكثيف عملهم، وعن دفع أجورهم إلى الأسفل. حتى عندما يصبح لدى العمال القوة لتحقيق بعض المكاسب (كما حصل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)، فرأسُ المال لا ينظر إلى هذه المكاسب إلا كحواجز مؤقتة يجب تجاوزها، فهو يستخدم قوته وسلطته الجوهرية لتقرير كيفية الاستثمار ومكانه من أجل استعادة موقع الهجوم (كما حصل فيما يسمى بـ«العصر الذهبي» للرأسمالية). تلك السلطة المتأصلة في رأس المال وضعت حدًا لـ«دول الرفاهية» ونماذج «التصنيع لاستبدال الواردات» التي استُحدثت في العديد من البلدان كأساسٍ للتنمية الاقتصادية.

المشكلة ليست في كون المكاسب المُحقّقة في التقليل من عدم المساواة والاستغلال مؤقتة فقط. سواءً كانت أجور العمال منخفضة أو مرتفعة ليست هي القضية – شأنها في ذلك شأن ما إذا كانت مؤنُ العبيد منخفضة أو مرتفعة. بدلًا من ذلك، نحن بحاجة للنظر في عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها لمعرفة طبيعة العمّال الذين تنتجهم الرأسمالية.

كيف يَمسخ الإنتاج الرأسمالي العمّال

فلنفكّر في وضع العمّال تحت ظل النظام الرأسمالي. كما رأينا مسبقًا، فإن أهداف وسلطة رأس المال يحكمان عملية الإنتاج. وعلاوة على ذلك، يُنتج العمال منتجات تُعتبر ملكًا للطبقة الرأسمالية، لا للعمال أنفسهم. ولكنّ العمال لا يدركون أنّ هذه المنتجات هي منتجاتٌ ناتجة من نشاطهم كعمال. بل على العكس من ذلك، تبدو الآلات والتكنولوجيا وجميع «القوى المنتِجة العامة للعقل الاجتماعي» للعمال كرأس مالٍ وكمساهمةٍ من الرأسمالي. ومن ناحية أخرى، تُشغَّل هذه المنتجات ضد العمال وتُهيمن عليهم – حيث يصبحون مصدر قوّة للطبقة الرأسمالية. كيف يحدث ذلك؟ كما أوضح ماركس، يحدث ذلك ببساطة بسبب بيع العامل للرأسمالي قدرته الخلّاقة، وتلك القدرة «تأسِّس نفسها كقوة لرأس المال، كقوة غريبة تُواجه العامِل».

إن عالم الثروة، ذلك العالم الناشئ نتيجة النشاط البشري، يواجه العامل «كعالم غريب مهيمنٍ ومتسلطٍ عليه». فبالنسبة للعمال في ظل النظام الرأسمالي، الإنتاج هي عمليةُ «تفريغ كامل»، و«اغتراب كامل»، هي «التضحية بغاية الإنسان في حد ذاته إلى غاية خارجية تمامًا». وماهي النتيجة لهذا «التفريغ»، لهذا التفقير في عملية الإنتاج؟ النتيجة هي محاولتنا لملء فراغ حياتنا بالأشياء: نحن مدفوعون للاستهلاك والاستهلاكية. ولكن كيف يمكننا فعل ذلك دون المال وهو الحاجة الحقيقية والغريبة عنّا التي تخلقها الرأسمالية؟

طرق أخرى يَمسخ فيها الإنتاج الرأسمالي الناس

لكنّ صرخة رأس المال في أذن العامل بـ«استهلك، استهلك!» ليست سوى طريقة واحدة من الطرق التي تشوه عن طريقها الرأسماليةُ الناس. ففي كتاب «رأس المال»، وصف ماركس التشويه والإفقار و«شل جسد وعقل» العامل والعاملة «المقيّدُ مدى حياته بعملية متخصصة واحدة» والتي تحدث في تقسيم العمل الذي تتميّز به عملية التصنيع الرأسمالي. هل أنقذ استحداث وتطوير الآلات العمال تحت ظل النظام الرأسمالي؟ كلا، بل قد أكد ماركس من أن ذلك يكمّل «فصل القوى الفكرية لعملية الإنتاج من العمل اليدوي»، حيث يضيف ماركس: «وفي هذه الحالة يصبح العقل واليد منفصلان ومعاديان لبعضهما البعض» وتُفقَد «كل ذرة حرية، سواءً في النشاط الجسدي أو الفكري».

لكن، لماذا يحدث ذلك؟ تذكّر أن التكنولوجيا وتقنيات الإنتاج اللاتي يُدخلها رأس المال يتم توجيهها لأمر واحد فقط، ألا وهو تحقيق الأرباح. وبما أنّ العمال لديهم أهدافهم ونضالاتهم الخاصة بهم، فإن منطق رأس المال يشير إلى اختيار التقنيات التي من شأنها أن تقسم العمال من بعضهم البعض، وتسمح بمراقبة ورصد أدائهم بشكل أسهل. والقوى المنتِجة المعينة التي يدخلها رأس المال ليست محايدة – فهي لا تمكّن العمال ولا تسمح لهم بتنمية كل قدراتهم العقلية منها واليدوية. بل على العكس من ذلك، وكما أكد ماركس عند حديثه عن الرأسمالية، فإن «كل وسائل تطوير الإنتاج تشوّه العامل وتحيله إلى مِزْقَة من بقية إنسان وتحطّ من قدره» و«تستلب منه الطاقات الذهنية الكامنة في سيرورة العمل».

لماذا الإنتاج تحت ظل النظام الرأسمالي ليس ممتعًا

وبعبارة أخرى، إنه ليس من قبيل الصدفة أنّ معظمنا يجد مكان العمل مكان بؤس وشقاء – فعملية الإنتاج الرأسمالي تشلنا كبشر. لكن، لماذا لا يمكن للعمال النضال ببساطة ضد ذلك؟ لماذا لا يمكنهم تحويل عملية الإنتاج الرأسمالي إلى مكان متفق ومتسق مع التنمية البشرية؟

تذكروا مرة أخرى أن منطق رأس المال هو: لو حققت التنمية البشرية الأرباح لرأس المال، لأدخل رأس المال التغييرات الداعمة لها، لكن، رأس المال ليس مهتمًا فيما إذا كانت تسمح التكنولوجيا المختارة للعمّال المنتِجين النمو أو العثور على متعة وارتياح في عملهم، ولا يضع رأس المال اعتبارًا للعمال المُسرّحين جراء إدخال التكنولوجيا والآلات الجديدة. فإن تم تدمير مهاراتك الخاصة بك، وإن اختفى عملك، فلا مانع من ذلك. لقد ربح رأس المال، أما أنت فخسرت. لقد كان تعليق ماركس على ذلك أنّ «جميع طرائق رفع قوة العمل الإنتاجية الاجتماعية تتحقق – في النظام الرأسمالي – على حساب العامل الفرد». إنّ منطقَ رأس المال هو عدو التنمية البشرية الشاملة بكل تأكيد.

وبالتالي، إن نجح العمال في تحقيق مكاسب هنا أو هناك من خلال نضالاتهم، فإن رأس المال سيبحث عن سبلٍ للرد وسيجدها، فلديه كل الأسلحة التي يحتاجها لفعل ذلك. ومن خلال ملكيته لوسائل الإنتاج، ومن خلال سيطرته على عمليّة الإنتاج نفسها، ومن خلال سلطته على شؤون تحديد طبيعة ووجهة الاستثمار، بإمكان رأس المال – في نهاية المطاف – القيام بكل ما يحتاج إليه لزيادة درجة استغلال العمال وتوسيع إنتاج فائض القيمة. وعلى الرغم من إمكانية مواجهته لمعارضة العمال، فإن بإمكان رأس المال الدفع إلى ما وراء الحواجز الحائلة دون نموه في مجال الإنتاج. فرأس المال هو السيد والحاكم في نِطاق الإنتاج.

منطق التداول الرأسمالي

ووفقًا لذلك، من الممكن إنتاج بضائع تحتوي على المزيد والمزيد من فائض القيمة. لكن حتى مع ذلك، هناك تناقض متأصل في الرأسمالية: الرأسماليون لا يرغبون بهذه البضائع المحتوية على فائض القيمة، فهدفهم ليس استهلاكها. ما يريدون فعله هو بيع تلك البضائع وتحويل فائض القيمة الكامنة فيها إلى حقيقة ملموسة: هم يريدون المال (النقد).

حاجة الرأسماليين لسوق متوسّع باستمرار

لكن، المشكلة هي أن السوق لا يحتوي على هاوية سحيقة. ففي مجال التداول، يواجه الرأسماليون عائقًا أمام نموهم – أي حجم السوق. وبالتالي، فإن الطريقة نفسها التي يدفع رأس المال بها الرأسماليين لزيادة فائض القيمة في مجال الإنتاج، يجبرهم باستخدامها أيضًا على زيادة حجم السوق لإدراك فائض القيمة ذاك. وإذا ما كنت قادرًا على تحويل فائض القيمة إلى حقيقة ملموسة، فما المغزى من إنتاج تلك البضائع؟ بمجرد فهمك لطبيعة الرأسمالية، فإن بإمكانك أن تفهم السبب وراء دافع رأس المال الحتمي لتوسيع نطاق التداول.

عولمة الاحتياجات

مهما كان حجم السوق، فإن الرأسماليين يسعون باستمرار لتوسعته. حتى في مواجهة الحدود في مجال التداول الحالي، يدفع رأس المال باستمرار لتوسعة هذا المجال. كيف؟ إحدى الطرق هي توسعته مكانيًا – أي عن طريق نشر الاحتياجات الحالية في دائرة أوسع. فكما علق ماركس على ذلك بقوله: «إن النزعة لإنشاء السوق العالمية هي نزعةٌ مرتبطة مباشرة بمفهوم رأس المال نفسه، فكل حدّ يبدو له كحاجز يتعين تخطيه». وبالتالي، يسعى رأس المال «لهدم كل حاجز مكاني» من أجل تبادل «وغزو العالم كله من أجل سوقِه».

وفي هذه العملية، تلعب وسائل الإعلام دورًا مركزيًا. لا تعني الخصائص المعينة للثقافات والتواريخ الوطنية أيّ شيء لرأس المال – فمن خلال وسائل الإعلام، ينزع منطق رأس المال لغزو العالم من خلال مجانسة المعايير والاحتياجات في كل مكان. ففي كل مكان يتم بث الإعلانات التجارية نفسها وتباع البضائع نفسها وتنشر الثقافة نفسها – وذلك لأن الثقافات والتواريخ الفريدة من نوعها تشكل عوائقا لرأس المال في مجال التداول.

خلق احتياجات جديدة لاستهلاكها

هناك طريقة أخرى يوسع رأس المال فيها السوق – وذلك عن طريق «إنتاج احتياجات جديدة». فكما أشار ماركس، يعمل الرأسمالي كل ما بوسعه لإقناع الناس بزيادة استهلاكهم «لإعطاء بضاعته سحرًا جديدًا، لإلهامهم باحتياجاتٍ جديدة عن طريق ثرثرته المستمرة وما إلى ذلك». ليس ذلك بالشيء الجديد – فقد كتب ماركس ذلك في منتصف القرن التاسع عشر حينما كان الإنتاج الرأسمالي لا يزال غير متقدم نسبيًا. على الرغم من أنّ نمو نمط الإنتاج الرأسمالي على وجه الخصوص في القرن العشرين جعل من جهود المبيعات أمرًا ضروريًا؛ لكن، لم يكن الإنتاج المتزايد العنصر الوحيد الذي أسهم في خلق المشكلة – فنجاح رأس المال في رفع معدل الاستغلال يجعل من تحقيق فائض القيمة مشكلة مركزية له.

وبالتالي، فإن قدرة رأس المال على الانتقال إلى بلدان ذات أجور منخفضة لتصنيع البضائع، التي بدورها تُصدّر بعد ذلك إلى العالم الأكثر تقدمًا، يُنمّي بشكل كبير الفجوة بين الإنتاجية والأجور الحقيقية – أي أنها تزيد من معدل الاستغلال في العالم. وهو يعني أيضًا وجوب تكثيف جهود المبيعات لنقل البضائع من خلال مجال التداول. لا يوجد دليلٌ أعظم يشير لانتصارات رأس المال في مجال الإنتاج مِنْ كونه مستعدًا للإنفاق لخلق احتياجات جديدة من أجل بيعها.

انظر إلى الرواتب المعروضة على الرياضيين المحترفين. لماذا هذه الرواتب – بالإضافة إلى رسوم إعلان المنتج (product endorsement fees) – ضخمة إلى هذا الحد؟ يتعلق كل ما في الأمر حول الإعلان – أي أنه يتعلق حول إدراك فائض القيمة بشكل ملموس. (كلما ارتفع عدد الأشخاص المشاهدين للألعاب الرياضية على التلفاز، كلما ارتفعت معدلات الرسوم التي باستطاعة رأسماليي الإعلام تكلفتها على الرأسماليين المضّطرين للإعلان). وفي هذا السياق، هناك ما هو أكثر من مجرد تباين فاحش بين الأجور المتدنية للنساء المنتِجات – لأحذية «نايك» (Nike) على سبيل المثال – وبين رسوم الإعلان العالية التي تدفعها شركة «نايك» للرياضيين؛ هناك، في الواقع، ارتباطٌ عضوي بين الإثنين نتيجةً لدرجة الاستغلال العالية.

الاستغلال في مجال التداول

لكن، لا يحدث الاستغلال فقط في مجال الإنتاج. فمن أجل تحويل البضائع المحتوية على فائض القيمة إلى نقد، لا يتعيّن على الرأسماليين تحفيز الاحتياجات فحسب، بل يحتاجون أيضًا إلى توظيف أشخاصٍ للعمل على بيع تلك البضائع. وهم يريدون بطبيعة الحال صرف أقل قدر ممكن من الأموال على تكاليف تداولها؛ وبالتالي، فإن منطق رأس المال يملي وجوب استغلال أولئك العاملين ببيع هذه البضائع إلى أقصى حد ممكن. وكلما ازداد استغلال هؤلاء العمال (وبعبارة أخرى، كلما ازدادت الفجوة بين ساعات عملهم وبين ساعات عملهم الداخلة ضمن أجورهم)، كلما قلت تكاليف رأس المال المبيعية وارتفعت أرباحه بعد البيع.

إن أفضل طريقة لاستغلال العمال العاملين في مجال المبيعات هي من خلال استخدام العمالة غير المثبتّة/المرسّمة أو العمالة بدوام جزئي ومن غير ضمانات وظيفية. هؤلاء العمال من السهل تفرقتهم وتقسيمهم عن بعضهم البعض؛ يواجه هؤلاء العمال صعوبةً في الاتحاد والالتحام ضد رأس المال، وهم بذلك يتنافسون ضد بعضهم البعض. بإمكان هذه المنافسة أن تحتد عند وجود نسبة بطالة عالية جدًا؛ ليس بإمكان رأس المال دفع أجور هذا القطاع إلى الأسفل فحسب، بل بإمكانه أيضًا نقل مخاطر البيع للعمال أنفسهم.

العمال غير الرسميين

وبعبارة أخرى، يُمَكّن وجود جيش احتياطي كبير من العاطلين عن العمل رأسَ المال من استخدام «القطاع غير الرسمي» لاستكمال حلقة رأس المال. يمثل هؤلاء العمال جزءًا من حلقة الإنتاج والتداول الرأسماليَّين (لأن البضائع التي يبيعها «الباعة المتجولون» يتم إنتاجها في إطار العلاقات الرأسمالية)؛ غير أنهم يفتقرون نسبيًا لكل الفوائد والأمن الذي يملكها العمّال الموظفين تحت رئاسة الرأسمالية. يبدوا هؤلاء الباعة المتجوّلون وكأنهم عمّالٌ مستقلون (بل هم يعتقدون بكونهم كذلك – ما أكبره من انتصار لرأس المال!)، لكنهم يعتمدون على رأس المال، ورأس المال يعتمد عليهم لبيع تلك البضائع المحتوية على فائض القيمة. وككل العمال غير الرسميين الآخرين، فهم يتنافسون ضد بعضهم البعض (وضد العمال العاملين في المجال «الرسمي» للتداول أيضًا). من الذي يربح من ذلك؟ كالعادة، الرابح من تنافس العمال ضد بعضهم البعض هي الطبقة الرأسمالية.

لماذا تواجه الرأسمالية أزماتٍ باستمرار

كما نشهد، تحاول الطبقة الرأسمالية توسيع السوق باستمرار من أجل إدراك فائض القيمة بشكل ملموس، إلا أنها لا تفلح دائمًا بتحقيق ذلك. يَنزعُ رأس المال لتوسيع نطاق إنتاج فائض القيمة بشكلٍ يتجاوز قدرته على إدراكها بشكل ملموس. لماذا الأمر كذلك؟ بسبب نجاحه في مجال الإنتاج – وعلى وجه الخصوص، نجاحه في رفع معدل الاستغلال. ما يفعله رأس المال في مجال الإنتاج يعود ليطارده في مجال التداول: فعن طريق السعي «لتقليل العمل الضروري هذا نسبةً لفائض العمالة إلى الحد الأدنى» (أي عن طريق رفع درجة الاستغلال)، يخلق رأس المال في الوقت ذاته «حواجز في وجه مجال التبادل»، أي إمكانية الإدراك – إدراك القيمة الموضوعة في عملية الإنتاج بشكل ملموس. فكما علق ماركس، ينشأ فائض الإنتاج لأن استهلاك العامل «لا ينمو بنفس نمو إنتاجية العمل».

وبالتالي، فإن فائض الإنتاج هو «التناقض الجوهري لرأس المال المتقدم». فكما أشار ماركس، يجري الإنتاج الرأسمالي «دون أي اعتبار للحدود الفعلية للسوق أو الاحتياجات المدعومة من قِبَل القدرة للدفع»، وكنتيجة لذلك، فإن هناك «توتر مستمر بين الأبعاد المحدودة للاستهلاك على أساس رأسمالي، وبين الإنتاج الساعي باستمرار للتغلب على هذه الحواجز الجوهرية».

الأزمات ومجال الإنتاج

تتمثل أول دلالة على الاختلال التوازني بين القدرة على إنتاج فائض القيمة والقدرة على إدراكها بشكل ملموس باشتداد التنافس بين الرأسماليين، وذلك يدل على أن الكثير من رأس المال قد جرى تراكمه (أي استثماره) مقارنة مع حدود السوق. وفي نهاية المطاف، فإن تأثير الاختلال هذا هو الأزمة، أيّ: «حلول عنيفة مؤقتة للتناقضات القائمة، انفجارات عنيفة لإعادة تأسيس التوازن المختل في الوقت الراهن». عندئذٍ لا يمكن بيع البضائع، وبطبيعة الحال عندما لا يمكن بيع تلك البضائع فلن يتم إنتاجها تحت النظام الرأسمالي لعدم وجود ربحٍ فيها. وهكذا، يُخفّض الإنتاج وتعلن التسريحات عن العمل – على الرغم من وجود القدرة على الإنتاج وعلى الرغم من أن احتياجات الناس لا زالت موجودة. فالرأسمالية في آخر المطاف هدفها الأرباح لا التصدّق الخيري.

طبيعة الرأسمالية تطفو إلى السطح

وهذا هو بالضبط ما تمكننا الأزمات الرأسمالية رؤيته حول طبيعة الرأسمالية: أنّ الأرباح – بدلًا من احتياجات الناس كبشر نامين اجتماعيًا – هي ما تحدد طبيعة ومدى الإنتاج داخل النظام الرأسمالي. فهل يوجد نظام اقتصادي آخر بإمكانه توليد تواجدٍ متزامن لموارد غير المستخدمة من جهة، وأناسٍ عاطلين عن العمل وأناسٍ يملكون احتياجاتٍ غير مُلبّاة لأمورٍ يمكن إنتاجها؟ أيُّ نظام اقتصادي آخر يسمح بتجويع جزء كامل من العالم في حين يوفر فيضًا من الطعام في الأماكن الأخرى منه وحيث الشكوى هي أنّ «الكثير من الطعام قد جرى إنتاجه»؟

لكن لا توجد أزمة تقود الناس بالضرورة للتشكيك بجدوى النظام نفسه. يكافح الناس ضد جوانب محددة للنظام الرأسمالي – ساعات العمل الطويلة، ومستوى الأجور وظروف العمل، والبطالة الناتجة من أزمة فائض الإنتاج، وتدمير رأس المال للبيئة، وتدمير الثقافات والسيادات الوطنية وما إلى ذلك – لكن ما لم يفهم الناس ويدركوا طبيعة هذا النظام، فإنهم لا يكافحون إلا من أجل مجرد رأسماليةٍ ألطف، رأسماليةٍ بوجهٍ إنساني.

لكن، بالرغم من ذلك، لا يرغب رأس المال برأسمالية ألطف، بل هو يرغب بالأرباح. وعلى الرغم من كفاح بعض العمال من أجل الإنصاف تحت ظل النظام الرأسمالي بدلًا من محاولة إنهائه، إلّا أنّ كفاحاتهم ونضالاتهم قد تشكل تحديًا أمام الدفع من أجل تحقيق الأرباح. وفي هذه الحالة، قد يرى رأس المال ضرورية كشف جانب آخر لمنطق رأس المال.

المصدر: مونثلي رڤيو



#مايكل_ليباويتز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق التنمية البشرية: الرأسمالية أو الاشتراكية؟ – (الجزء الأ ...


المزيد.....




- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مايكل ليباويتز - طريق التنمية البشرية: الرأسمالية أو الاشتراكية؟ – (الجزء الثاني)