أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نارين عباس - فلامينكو ....رسائل الحب والحرب 13















المزيد.....


فلامينكو ....رسائل الحب والحرب 13


نارين عباس

الحوار المتمدن-العدد: 4969 - 2015 / 10 / 28 - 23:03
المحور: الادب والفن
    




كل صباح أفتح عيناي .. كل صباح أعشق الحياة أكثر وأكثر ..بعيناي أشاهد العالم مشعاً مضيئاً من حولي ..لكن ثمة شي خفي في داخلي يخنقني ربما هو الخوف من أن المس الأشياء التي أحبها فتصبح بعيدة كلما أقتربت منها .



لا حدود للأشياء الجميلة التي نعشقها ...كم أعشق الحياة وكم أرغب أن أضم الكون إلى جدائلي وأمشي ..في سهول قامشلوا حافية القدمين ولو ليوم واحد ..!!





قططي تتمد مع خيوط الشمس ...وأنا أتمدد مع أحلامي خلسة الى جانب قطتي في فسحة دارنا الصغيرة ..

بأناملي أرسم أحلامي الكثيرة بالطباشير .. أبتاعها مما أدخره لنفسي كل يوم ..وأمتنع أن أشتري بهما لوحاً من الشوكولاته اللذيذة كما يفعل الأطفال الآخرون من حولي..


سأدخرها للقلم والورق والكتب ..فهي ستبقى لدي أكثر من لوح من الشوكو الذي سأبتلعه بدقائق ..هذه الاوراق ستبقى عندي لزمن طويل....سترافقني في رحلاتي ..سترافقني في حزني وفرحي وتأملاتي ... كل الدهر ...!!




.
أعشق شراء الكتب والأوراق والدفاتر ..ألمس الأوراق أشعر بنشوة غريبة تنتابني ..حتى في أحلامي عندما أنام ..أحلم بالكثير من الكتب ..كتب كتب ....مراراً رسمت مكتبة كبيرة تحوي على كتب كثيرة...أقضي فيها كل أوقاتي باللعب مع هذه الأوراق والمجلدات ..

لكن عبثاً بقيت هذه الأمنية حلماً لم يتحقق إلا بعد سنوات طويلة طويلة جداَ وعندما تحقق الحلم كرهني من حولي بسبب غبار الكتب الذي ألتصق بأناملي وأنا أمسح عن وجه الكلمات حقيقة الكثير من الأشياء التي بقيت عالقة في أفواه المنافقين والكاذبين ...!






خطواتي تسبقني وأنا أسبقها ..بين يداي مبلغ من النقود التي أدخرتها مؤخراً بين طيات أشيائي الخاصة جداً ..في الحقيقة لا يوجد لدي أشياء خاصة ..كل شيء في بيتنا المتواضع
قابل للنهب والدمار ..للسرقة والإغتصاب ..كل شيء عام لايوجد شيء خاص لي وحدي ..لا حتى مكان صغير أضع فيه أشيائي الخاصة لذلك وبعد جهد كبير أستطعت الحصول على مكان بسيط وصغير..
أضع كتبي المدرسية فيها وأرتب أقلامي وألصق صور كثيرة على حائط الغرفة بالقرب من سقفها كي لا يراها أبي عندما يصلي ..


يأتي أبي بين الحين والآخر ..يتمتم آيات قصيرة على الصور التي علقتها على باب الخزانة ... حفظ الآيات عن ظهر قلب لإستعمالها حين اغتصاب أشيائي الصغيرة التي تستفزه ويعتبرها كفراً
في عالمي الصغير ..من البيت الكبير الذي يمتلكه ..يهز برأسه نحو اليمين واليسار ويستغفر كل ملائكة الأرض والسماء ويتعوذ بالشيطان آلاف المرات لأنه شاهد صور الممثلات الشهيات يبتسمن بحركات مغرية معلقات على حائط غرفتنا التي يمتلكها
الجميع هنا في هذا البيت الشرقي المتواضع...يجلب السلم ..و يصعد ليمزقها لتتساقط في الهواء ...يبتسم بغضب يخيفني ...يتجه إلى باب الخزانة يفعل نفس الشيء ويشهق بشراسة ..فقد مزق كل صوري في كل مكان وأبعدني عن الإغراء الذي يلهيني عن الله ..!!!

أبتعد أنا عن مكان الإغتصاب ...أراقب أبي بهدوء ...في زاوية لا يراني فيها لكني أراه .في قلبي أبكي بحرقة ..تتساقط دموعي كالعادة بدون أن يراها أحد ...شكراً لك يا أبي وشكراً لله الذي يكره كل شيء أحبه ويحتقره هو وأنت ..!!








كل الأشياء القاسية تأتي مع الشتاء وكالأغصان العارية يكون داخلي عارياً أيضاً..وكم ليلة طويلة يكون الشتاء ..عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أعيش نفس اللحظات ونفس الشتاء وأنا مازلت في منتصف الصيف .




بضع دقائق من استرحة صغيرة وأول شء يجب علي القام بهه رتيب ماعبثت به أيادي الزبائن في البوورغر كينغ ... أتصفح الجريدة وإذا بي أجد صورة الثائر الذي أيقظ الكرد في شمال تركيا من سبات عميق دام سننين طويلة ..!!

تم إلقاء القبض على عبد الله أوجلان ...لم يكن له مكان في الشرق ...ولم يستقبله الغرب ....الكل يخاف من استقباله الكل يخاف على مصالحه السياسية ...

في مكان العمل يحاول الشيف أن يزعجني بآرائه السياسية ...إنه تركي أتاتوركي ..مرارا ناقشني بشأن الكورد ...قال لي سنلقي القبض على أوجلان وكنت مصرة بأن الدولة التركية لن تستطيع ذلك لكنه استطاع أن يخترق جدران القلق في داخلي في كل مرة يحاول أن يناقشني في مكان عملي عن السياسة التي تخص كوردستان
قال لي بأنه كان في الجيش التركي يحرس الحدود والجبال التي تطل على عفرين ..قال لي بأن عفرين كانت جميلة جداً وأكثر مالفت نظره اشجار الزيتون المتناسقة في ترتيبها في تربة عفرين وأعاد الجملة ذاتها بأنهم سيقبضون على أوجلان مرة أخرى و قبل أن يصبح هذا الكلام حقيقة والغصة في داخلي أحرقتني و أغضبتني كما أغضبي أبدا كل سفيه أتاتوركي هاربا من بلاده لمطامع مادية و غايات في نفس يعقوب .
منذ ذلك الحين ..
قالها لي مراراَ وكان يكشف لي عن فك أسنانه الصغيرة المتناسقة مع عيونه الصغيرة المنغولية ...

في داخلي كنت انفجر غيضًا ...كان يسبب لي الألم كثيرا..

حياتنا مظاهرات ..نستعد لمظاهرة ونعود من أخرى ...وحتى في مكان العمل يجد الكوردي صعوبة كبيرة لإختراق جدران الحقائق التي غطها الغبار ...لكن الحقيقة المرة هي ملقاة في دروبنا وفي طرقنا التي نمشي فيها مادمت تقول في كل مكان بأنك كوردي ستجد أسباب كثيرة تعيق الحياة من حولنا



كيف حصل ذلك ؟ ومتى ؟كيف تم إلقاء القبض على ثائر الحرية ..وأنا المنهمكة في عملي ..أحاول أن لا أسقط في عتمة الغدر والجبن والخنوع ..أريد أن أشق جميع الطرق المغلقة في وجهي وأعدو في سهول الحرية ..



وكأنني سقطت من علو شاهق... ذهبت بسرعة إلى الحمام و أنا أتكلم مع غضبي ... أشياء تسقط مني ..سقطت برلين ..سقطت آمد ..سقطت كل المدن والغيوم وانكسرت البحار أمامي ..من أنا وإلى أين أذهب ..فعندما يسقط شخص مهم في حياتك تسقط أنت أيضاً بدون رغبة.
كل الآمال ..كل شيء علقته واسميته أملاً بدء يسقط مني ..تفجرت بالبكاء في حمام العمل المتعب في أزقة مدن أوربا و أنا أبحث عن شخص أتحدث له عن كل هذا الألم الكبير الذي يحيطني كغطاء كاحل سقط علي من السماء ..!!











هذا اليوم تساقط الثلج بغزارة في برلين ..فمنذ سنيين طويلة لم أشاهد الثلج بهذه الكثافة وهو يتساقط ويغطي الألوان الرمادية في المدينة

كانت خطواتي تسبق غضبي ..وغضبي يسبق جسدي وأنا أسير بكل عنفوان لأصل إلى قلب المدينة ..حيث تواعدنا أن نلتقي هناك ..بالقرب من السفارة الإسرائيلية لأنها ساهمت مع تركيا في إلقاء القبض على أوجلان ...لنعلن عن ألم يرافقنا منذ سنين وعقود طويلة
لكن هذه اليوم كان إعلان عن غضب أقوى وأكبر في داخلنا ..وأن مايجري من حولنا ليس قمة في الإبداع السياسي بل قمة في الإنحطاط الأخلاقي ..

قبل أن نصل إلى الشارع الذي يؤدي الى مقر السفارة كان البوليس كثيفا في كل مكان ..ما أن شاهدونا حتى هرولوا نحونا وفي أياديهم أشياء لتشتيت المظاهرة ..
المظاهرة كانت غير شرعية ..لذلك كنا مشتتين في الشوارع هنا وهناك ..هذه ليست المظاهرة لأولى التي أشارك فيها ..ففي أول الأيام الثلاثة التي حطت قدماي في برلين شاركت في ليال برلين والمظاهرات
سكنت في تلك الأيام في برلين في تسولوكيش غارتن ..كان أكرا العراق قد وضعا خمة لتنديد من أجل حلبجة ...وكانوا ينامون هناك في آواخر شهر آذار يتقاسمون برد برلين ..وبرد أرواحهم..

ركضت بسرعة مع الآخرين عندما سمعت البوليس يقول لنا بكل صراحة ..إذا أمسكناكم سنأخذكم إلى السجن ..


البرد كان يحيطنا من كل مكان ..لكن عبثا ..هذا الغضب أشعل كل الحرارت في أجسادنا مرة أخرى ..هذه المدينة أصبحت أمام عيناي وكأنني داخل فلم من أيام الحرب العالمية الثانية التي كنت أشاهدها في الأفلام على
شاشات التلفاز بين الحين والآخر ..أيام ما جاء الأمريكان وحرروا برلين من قبضة هتلر والدبابات كانت تسير في شوارعها ..
هكذا هي برلين هذا اليوم ..الثلج وهذه الدبابات التي أراها أول مرة في حياتي وهي تسير في هذه الشوارع ..والوجوه تنتظر كل شىء ،، ماالذي سيحدث ..وماالذي حدث ..ومتى ستينتهي ؟؟

ركضت كثيرا ..واستنشقت هواءا كثيفا ..وأخيرا توقفنا في مكان ..وحاصرنا البوليس هناك بكثافة ..
ركضت وأنا أحلم بأنني أركض مثل الكريلا على قمم الجبال ..وابتسمت لقدري من جديد ..ولقدر وطن مبعثر في قلوبنا ..كل منا يحمل هذا الوطن بطريقة ما ..بلون ما ..!!


كنا هناك في الساعات الأولى من الصباح ..وها هو الظلام يسقط على مدينة برلين سقوط الوشاح على وجه امرأة عارية ..فقط وشاح يغطي وجهها كي لاتشاهد مايعبر عيون الآخرين عنها ..

أخذتنا سيارات البوليس الألماني..وداخل تلك السيارات الزرقاء مازلنا نطلق العنان لهتافاتنا ..اطلقنا العنان لحنجراتنا المخنوقة من غضب تحديناه وتحدانا
في مقر البوليس ..أخذو كل اسمائنا وعناويننا ..وجلسنا في غرفة كبيرة ..كلنا نساء وكل واحدة تغني أغاني بالكوردية ..نصمت قليلا ثم نعيد الكرة من جديد ..كلهم من كورستان الشمال ..إلا أنا
كنت من غرب كوردستان ..بعد ذلك جاء البوليس وأخذني مع اثنين من النساء إلى غرفة صغيرة جدا ..كانت غرفة انفرادية ..لكن لأن عددنا كان كثيرا انجبرو أن يضعوننا هنا وهناك وبأعداد كبيرة

أول مرة أدخل السجن ..وأول مرة أعرف كيف هو داخل السجن ..؟؟ في آخر الليل نمت واستلقيت بجسدي على أرض الغرفة في هذا السجن ..وأنا عبثا أحاول أن أتدفئ بمعطفي الشتوي
وعبثا حاولت أن لا أفكر في هذا اليوم ..وبهذا التاريخ ..وبهذا الشعب ..ودخلت مرة أخرى حلمي الأزرق ..ذلك الحلم الذي صبغته ولونته بنفسي ..حلمي دائما يكون رائع ..البحر أزرق والسماء زرقاء ..
والنورس من حولي يعشق عيناي وأنا اعشقه ..والريح يعشق شعري ..وجسدي يعشق قطرات الماء ..والأمواج يداعب أطرافي الدافئة ..

في داخل الحلم لدي بيت كبير جدا ..يقع على شواطئء هذا البحر ...ونوافذه كبيرة جدا ..ومفتوحة على مصراعيه ..يتراقص الستار الأبيض مع الهواء ومع قدوم كل موجة نحوي ..وأنا أرتدي فستانا طويلا
أبيض اللون ..يشبه هذه الشراشف المعلقة ..ولأنني أنا أيضا معلقة مع هذا الحلم ..
في إحدى الغرف الكبيرة ...ينتظرني بيانو كبير ضخم أسود اللون ..وأنا كلما اشتقت إلى الحرية عبثا أمرر بأناملي عليه ..فيلفني صوت البيانو ..ويحيطني بصداه لبرهة ..

في ساعات الصباح الباكرة جدا ..فتح باب الحجرة الصغيرة من هذا السجن ..قادتنا نساءبوليسيات ألمانيات بأجسادهن القوية وعيونهن القوية التي تنظر الينا ..قادونا الى الخارج ..
جلسنا في السيارة ..وقذفوا بنا بطريقة محترمة خارج السيارة الى أقرب نقطة توصلنا إلى عناويننا المهاجرة بعد أن سألتني عن عنواني ..
خرجت من لسارة ..وكأنني عائدة من حرب طويلة ..حرب المائة عام وعام في برلين ..ليلة البارحة تاريخ أضيفه إلى تاريخي ..تاريخ مؤلم ولكن لأنني شاركت بجسدي و ذاكرتي في هذا التاريخ يعني أنني حففت نلمي بعض اشيء وأوقفت القليل من نزيف
الوطن في شرايني
..عبثا ..كيف تبدو برلين في هكذا صباحات ترتشف أرواحها الضوء قبل القهوة ..
أتقدم نحو الباب .. باب غرفتي الصغيرة أفتحه من جديد ..وكأنني عدت من مكان بعيد ..من رحلة الألف قدم ..من موسوعة طويلة الصفحات ..كبيرة الحجم ..

أغلقت الباب ..وتخلصت من كل ملابسي ومن رائحة الغضب .. رميت كل ملابسي التي قادتني ليلة البارحة إلى شوارع تمشي وأمشي معها ..تخلصت من رائحة هذا التخمير للبحث عن وطن في برلين ..عبثا دائما أعود
من نفس الرحلات ..منهكة القوة ..يسير البرد في جسدي كملك نبيل ..يرتجف في أزقتها ..عبثا دائما أعود من حيث أتيت ..وها أنا أعيد وضع روحي ووطني الصغير بالقرب من طاولة السرير التي افتقدتها منذ البارحة
في برلين كلما سقط المساء على جسدي..تسقط جميع الأحلام معها بالقرب مني ..وكذلك هذا الوطن المبعثر كهذا الحلم ..كلاهما واحد ..وأنا نائمة في منتصفهما.
الماء الدافئء يغمر جسدي المتعب ، يدفىء روحي قليلا ليوصلني إلى لحظة الطمأنينة و لكن عبثا ذاك الشريط النهاري يلف ذاكرتي و يوقظني من لحظاتي و انتشل نفسي لألف
جسدي بمنشفة كبيرة ..وأسقط في السرير وأغمض عيناي ..لأسقط ربما داخل الحلم الأزرق من جديد ...!!







قد يظن البعض إن مححاربين الكريلا في الجبال شرسين و أنهم فاقدي الإحساس بالإنسانية و أنهم متعودين على حالة القتل بإعتبارهم يخوضون المعارك .لكن خلال 10 سنوات لبقائي وسط الحرب لم أشعر بأنني فقدت انسانيتي
و مازلنا نرتعب لمناظر الدم ,فالكريلا المحارب أكثر الناس قرباُ من الانسانية و أشد الناس امتلاكا للعاطفة و أكثر الناس كرهاً للحرب

فالحرب لم تجعلهم يتحولون إلى وحوش بالعكس تماماُ فهم أكثر الناس تواقين إلى السلام .



كان أول درس لي أن لا أفقد مشاعري الإنسانية ضمن أجواء الحرب و أن لا أخرج عن أخلاق الحرب و قواعدها .
طبعا أشياء كثيرة تعلمناها خلال بقائي ضمن حياة الكريلا و لكن ما تعلمته بقوة و كأمراة كردية هو الخروج من الإطار التقليدي للمرأة الراضية بحالة واقعها الإجتماعي غير آبهة بأن تكون صاحبة ردة فعل اتجاه ما يأخذها إل الإنحطاط و التخلف

الفتاة في الجبل تختلف عن الأخريات لأنها تمتلك فكرة ردة الفعل اتجاه واقعها الإجتماعي أتخذت قرار النضال ضد سلب الإرادة

هذه من الناحية الفكرية ,أما من الناحية العملية فإن المرأة تتعلم بمحض التجربة التي تخوضها في ظروف حياة الكريلا بدئاً من الحياة اليومية المليئة بالأعمال و حتى خوض الحرب من اشتباكات و تمشيطات و عمليات هجومية
فأنها بذلك تتعلم أمور لم تكن توجد في حياتها العادية في المجتمع في أن يكون لديها قوة الشخصية و الإعتماد على الذات و تصبح صاحبة قرار و هذا ما يفرضه طبيعة عملها التنظيمي فهي في أجواء التنظيم تكون عضوة فعالة يتطلب
منها هذه الأمور أو هذه الصفات عكس ما تكون هي فتاة عائلة يتخذ الأب أو ولي الأمر القرار بدلا عنها أو حتى يتم التفكير بدلا عنها.ففي كل قرارتتخذه فتاة الكريلا بأي مجال كان فإن ذلك يخلق لديها الثقة بالنفس , فتاة الجبل
تكون صاحبة قرار في تعين المسار السياسي و التنظيمي و شؤون الحرب ,فتجد نفسها مسؤولة و معنية بكل شي عكس وجودها في العائلة التي تهمش دورها...!!


في الحياة العملية و خاصة اثناء الحرب و الاشتباكات تزداد فتاة الكريلا بقوة المبادرة ففي أثناء المعارك الكل يتطلب بشكل عام أن يكونوا أصحاب المبادرة لكي نستطيع اتخاذ القرار المناسب في الحرب و خاصة في الحالات الحرجة .
و نتيجة انضمامها الفعال إلى الحياة اليومية و الحربية ففتاة الكريلا استطاعت أن تكون في ذاتها قوة المبادرة مخترقة بذلك فكرة أن المرأة ناقصة عقليا و إنها تقف مكتوفة الأيدي أمام أي أمر كان و بذلك تكون قد اخترقت حالة الخمول
و الجمود أمام الأمور التي تتطلب المشاركة فيها.


في الجبال نادراً جدا ماكنا نجد وقت الفراغ ,فالحياة هناك منظمة و مبرمجة و أريد هنا أن أنوه بأن برامج الحياة كانت تختلف حسب تواجدنا بالقرب من ساحة العدو أو بعدنا عنه .فنبدأ حياتنا بالإجتماع الصباحي الباكر جداً . فتحية
صباح الخير أحيانا كانت تبدأ من الساعة 3 صباحا لنبدأ الإجتماع الصباحي و منها يتم فرزنا إلى العمل اليومي . فهناك مجموعة المراقبة أو الحراسة الأساسية و المرصد هو (المراقبة من أعلى قمة في الجبل القريب من قواتنا
و المسيطرة على حركات العدو , و التي تسمى ب tepeاي المرصد)و هي أولى الأعمال و تبدأ أحياناً قبل الإجتماع الصباحي فهي مرتبطة بظروف المنطقة التي نتواجد فيها .كما يتم فرز عدد من الرفاق للقيام بمهمة الدورية و هي
مهمة استطلاعية حول معسكرنا و تنتهي مهمتها مع بداية وضوح النهار .كما توجد مجموعة المطبخ وهي مكلفة بتحضير الطعام و الخبز للرفاق في ذلك اليوم طبعا هذه المهام تكون بالتناوب بين الشباب و البنات
و طبعا غالبا ما يكره الشباب دخول المطبخ لكن القوانين تسري على الجميع .

طبعا هذه المهام الثلاثة (المرصد الدورية و المطبخ )مهام دائمة التواجد في حياة الكريلا أينما كانوا و في أي ظروف كانت
أما نحن الباقون خارج هذه المهام فكنا بعد الإفطار نتناول الفطور و نجهز نفسنا للذهاب في الساعة 7 أو 8 الى المكتبة حيث هناك يتم إلقاء المحاضرات من قبل لجنة قامت بالتحضير للدرس مسبقاً وبعد الإنتهاء من إلقاء المحاضرة نبدأ
بطرح الأسئلة و مرحلة النقاش حولها و غالبا تكون النقاشات قوية تتخللها حوارات قوية بين الرفاق .بعدها تليها ساعتين من الإستراحة خلالها يتم تناول الغذاء الذي حضره الرفاق المناوبين على هذه المهمة و خلال هاتين الساعتين
و بعد الغذاء نقوم ببعض التحضيرات التي تحتاجها المجموعة مثلا شتاء نذهب لقطع الأشجار لجلب الحطب لأجل المدفئة أو نقوم بتنظيف الأسلحة أو القيام ببعض التصليحات العامة فلا مجال للنوم أو أي عمل شخصي و نبدء بعدها
فترة الظهيرة لنعود ثانية إلى المكتبة لإكمال المحاضرة أو النقاشات حولها (يعني هي لم تكن فترة استراحة بمعنى الكلمة بل كانت فترة استراحة فكرية لتبدأ بأعمال عملية خلال هاتين الساعتين)


وفي الفترة المسائية أحياناً كنا نقوم ب ما يسمى بين الكريلا ب (etot)وهي عبارة عن نقاشات مسائية بين أفراد المجموعة فقط و ليس المعسكر بأكمله. و كل المجموعات طبعاً تقوم بهكذا نقاشات بشكل منفرد عن المجموعة الأخرى
و طبعا كل مجموعة حرة في إختيار الموضوع الذي ترغب بالنقاش فيه فلها حرية الإختيار و تستمر أحياناً ساعة أو ساعتين لتبدء بعدها فترة التحضير للنوم و التي تتخللها ساعات من الحراسة الليلية .
طبعا etot لايوجد كل يوم لذلك في الأيام الذي لم تتواجد فيها نقاشات الاتوت كنا نستغلها بقراءة الكتب و كنا نسميها ساعة (التثقيف الذاتي ) و كل واحدة منا كنا نقرأ كتابا حسب الأختيار . و الكل كان يحترم تلك الساعة فلا يسبب أي ضجيج !!
و ماشابه لكي لا يشوش تفكير الآخر عن فترة تثقيفه الذاتي.

طبعا أريد أن أشير إلى أن نمط الحياة و طبيعة المهام اليومية كانت تختلف بإختلاف الزمان و المكان فالحياة و أعمالها اليومية في الشتاء تختلف عنها صيفا ,و كذلك المكان أيضاً كان يغير من طبيعة الأعمال اليومية .لكن يبقى الأهم
أن الحياة كانت في غاية من الإنضباط و التنظيم و البرمجة طول النهار و الليل , و أوقات الفراغ كانت نادرة جداً و أن وجدت كنا نقضيها بالنقاشات حول حياة الكريلا أو مايخص حياتنا الثورية , أو نستغلها بقراءة كتاب ما .
طبعاً كثيرون جدا رفاقي و رفيقاتي اللواتي لايمكن نسيانهم بعض منهم استشهد و البعض مازال على قيد الحياة لكن تبقى الذكرى الأجمل لمن فارقنا و نظل نستذكرهم دائماً.


أتذكر رفيقة هيقيدار الجبل و هي رفيقة من كوباني كانت جميلة الشكل و الروح وتكتب خواطر عن حياة الكريلا وتقرئ لنا كلما كتبت خاطرة .كانت فتاة هادئة جداً محبوبة من الجميع , و رغم مرضها (كانت تعاني من ألم مزمن في ظهرها )
الا إننا كنا نجدها دائماً بمعنويات عالية و في أحد الأيام جائنا الخبر بأننا سنقوم بعملية ضد أحد الأهداف العسكرية للبيشمركة .هيفيدار لم تكن من بين الرفاق الذين كانوا سيشاركون في تلك العملية نظرا لظروفها الصحية ,أتذكر
جيدا كيف أنها في ذلك اليوم فقدت هدوئها المعتاد لتصرخ في وجهنا بكل قوة بإنها تريد المشاركة في العملية و في الصفوف الأمامية لم يتمكن أحد من إيقاف إصرارها و إقناعها حتى التعليمات الصارمة لم تعطي جدوى ,فكان لها ما أرادت .

و في الوقت الذي كنا نقوم فيه بتنظيف أسلحتنا و الذخائر التي سنأخذها معنا كانت هي تردد وتقول اليوم سأكون عروسة , وكانت في غاية السعادة , طبعا لاحظنا تلك الجملة التي كانت ترددها و بدئنا نخاف عليها
لكثرة حماسها .و بعد بدأنا بالعملية حيث استطعنا السيطرة على الهدف العسكري لقوات البيشمركة بدئنا نسأل عن الرفاق إن كان هناك مصابين و شهداء فتفاجئنا بأن هيقيدار في هذه العملية بالفعل كانت العروسة . كأنها كانت تشعر بأنها
ستستشهد في ذلك اليوم ... استشهدت الرفيقة هيفيدار مع رفيقين آخرين .












أمشي بخطواتي وأتجه الى منزلي الذي لايشبه المنازل وإلى عمري الذي لايشبه الأعمار فقد ولدت كبيرة وكلما كبرت أجد نفسي صغيرة في مجتمع يقزم عقولنا وأفكارنا وأحلامنا وطموحاتنا ...طبعاً لن نكبر إلا جسديا فهناك من ينتظرنا على حافة الموت ...هناك الكثيرون
من الذين لايستطيعون أن يعيشو بدون غرس خناجر العار والتهم في أرواحنا ...



الماضي يلاحقنا في كل مكان ..مهما كانت المسافات بعيدة ..فإنه سريع يجري ويلهث ورائنا ..كي يلتصق بنا ويؤلمنا ..ويخدش في قلوبنا حفراً عميقة من الوجع والمرارة ..لذلك حينما نكون في مكان صاخب بموسيقى الفرح نتوقف فجأة لا نعرف هل نفرح أم نتابع حزننا
ونهدهده كي لا يوقظ دموعنا أمام مرئى الجميع ..!!!!


في ساحة هيرمان بلاتس جلست قليلا على البانك ...

هنا جلس عليه الكثيرين مثلي لكل واحد منهم قصة مختلفة عن الآخر ..أراقب الناس وملامحهم المستعجلة التي تدخل إلى نفق هيرمان بلاتس ويخرجون منها ..الكثير منهم ليس لديه الوقت لألقاء نظرة على من حوله
وأنا جلست الآن أراقبهم عن كثب أحاول أن أقرأ تعابير وجوههم المنهمكة في هذه الحياة الصاخبة .. لايوجد لدي أية فكرة لأكسر هذا الصمت من حولي ...هذا الصمت الذي يشبه مرآة كبيرة أمامي ..حبذا لو قذفتها بحجر كبير وأتلذذ بسماع إنكسارها أمامي ..




أريد أن أنسى الفشل ..السياسة ...الحب والوطن

الطفولة الملتهبة ...الغربة المعتمة ..أن أغير جدران المنزل وستائره..
أغلق يدي الباردتين والفارغتين ... وأمشي إلى منزلي ...
هناك أدفن فيه كل شجوني وأنزع عن جسدي برد شتائات كثيرة....!!









نارين عباس



#نارين_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلامينكو ...رسائل الحب والحرب 12
- فلامينكو ..رسائل الحب والحرب ( قصة )


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نارين عباس - فلامينكو ....رسائل الحب والحرب 13