أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - عبدالواحد حركات - دراسة في تطوير اللغة العربية















المزيد.....



دراسة في تطوير اللغة العربية


عبدالواحد حركات

الحوار المتمدن-العدد: 4954 - 2015 / 10 / 13 - 16:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    


دراسة موجزة في تطوير اللغة العربية

التعريف بالدراسة
ليس حري بنا الاستمرار بالامتثال للتقليد والانسياب في دوام التعاطي الحبري للتاريخ وتناقله وتناسخه من جيل إلي جيل دون إحداث هزات بحثية وتحليلية وتشريحية متتالية ومتعاقبة للتاريخ من جميع الأوجه لاستخلاص العبر وتحويله إلي منجم حضاري بدل الوقوع في فلكه والانصياع للماضوية دون جدوى..!
هذه الدراسة ليست تجول عابر في هيكلية اللغة أو تصادم مباشر مع محتواها أو تحليل وتشريح بنيوي لجسدها, بل إنها دراسة للغة كموجود وخريطة أزلية للوجود الإنساني المحصور فيها, دراسة تتعرض للغة ليس كوسيلة نحتويها بل تحتوينا وتحتم علينا نمط وجودنا وغايته وكذلك نوع مساراتنا الوجودية واتجاهاتها وربما غاياتها ومنتهياتها , تعرض مباشر ليس للغة كأداة نمتلكها لنصوغ بها نصوص معرفتنا للموجودات ونستخدمها كعكاز معارفي بل كفضاء يفرض علينا سطوته ويحشرنا داخله ويحتكرنا ويحتم علينا استنشاق هوائه وإدمان أثيره إلي حد الامتزاج وتوحد الكينونة معه وفيه, فضاء يحتم علينا الوجود القسري الدائم داخله ويجعلنا عاجزين عن مغادرته رغم سماحه بفتح نوافذه وإتاحته لفرص زيارة غيره من الفضاءات ومعاشرتها..!
اللغة ليست موجود نعطفه على الإنسان بقدر ما هي موجود تناله القداسة وتسكنه نعطف عليه الإنسان, موجود أزلي نجد فيه تكون الإنسان بمعناه الإنساني المرتب من مجمل العقلانيات والمثل والآيات الخلقية السامية الخفية والهادف عن وعي للصلاح, موجود نجد فيه الإنسان ونتعرف عليه به وفيه ومعه, فلا فكاك ولا تفكيك ولا تفريق بين وجود الإنسان ووجود اللغة, أو ربما تكون اللغة بشموليتها هي البعد الأساسي والوحيد للوجود, إذ لا يمكن بأي حال تعريف أو تحديد وتعيين وتقييم وجود الإنسان خارج اللغة, إننا نصطدم طائعين بحقيقة أزلية مجردة ومهيمنة وجبارة تتمثل في أن - الإنسان هو اللغة- ووجوده عدمي وافتراضي وناقص خارج اللغة..!
أحن وأشتهي وأعتنق تعريف موجز وبسيط ومباشر وعام يتمثل في أن - اللغة هيكل الروح - فقد خلقت اللغة بشموليتها في آدم كما خلق آدم في اللغة, لقد خلق في مجمع لغات عديدة -لغات اللسان والجسد والعيون والأحاسيس- ودفقات اللاوعي المتسلسلة بين الإنسان ومحيطه الوجودي, أنها حقيقة بسيطة واعتيادية وأزلية, فمذ كان أو صار الجسد كانت أو صارت معه اللغة, فلا وجود للإنسان المتجسد في إنسانيته التي أرادها له خالقه بدون اللغة, فبها وحدها وبها فقط يكون عابداً أو جاحداً, نبياً أو دجالاً, تقياً أو فاجراً , بها يكون وبدونها لا يكون شيئاً مذكوراً..!
اللغة بشموليتها وكمالها ووحدتها أفلتت منذ زمن بعيد وتفرعت وتعددت, ولا توجد لغة إنسانية واحدة يتخاطب بها البشر جميعاً عدا الموسيقى بمعناها الطبيعي وليس الصناعي, فالموسيقى وحدها دون اللغات الأخرى لازالت تستطيع عبور الحدود ومعانقة الأنفس ومغازلة الأرواح دون حاجتها إلي إبراز هوية أو إظهار انتماء ومعطوفية على زمان أو مكان, وعدا الموسيقى لازال الإنسان بالنسبة لأخيه الإنسان أبكماً نسبياً, وقد يكون أبكماً كلياً في أحوال وأحداث كثيرة..!
هنا.. في هذه الدراسة أعرض وأتعرض لوجودنا الخاص أو المخصص وننفصل بإنسانيتنا لنعبر عنها من خلال هيكلنا الخاص, وندعم حقيقة تهيكلنا في اللغة العربية, ولا أقصد عربية اللسان بل العربية التي هيكلت أرواحنا وكانت ولازالت وستبقى وجودنا الواعي أو اللاواعي, فهي الفضاء الذي تكونا فيه وتغلغلنا فيه كما تغلغل فينا منذ دهور وأزمان سحيقة, ولا يعني جهلنا بأجزائه شيئاً أمام وعي أرواحنا بما نجهله..!
أروم هنا أن أنشر ألغام فاعلة نسبياً في الوعي, وغاية نشرها ومن بعد فرقعتها وتفجيرها هي إيقاظ الوعي بشكل فجائي وحثه قسراً على تحريك كل طاقاته في لحظة الاستيقاظ ذاتها, ليتمكن من استلهام الأفعال من اللاوعي المستتر, اللاوعي المملؤ بميراث الزمن الثمين الذي فقده الوعي وأدمن فقدانه واستحسنه حد النسيان, ابتغي نشر الألغام لتدمير حواجزنا التي بنيناها داخل فضاء اللغة وألفناها وقدسناها بأسلوب بدائي مريب, الحواجز التي كانت طارئة ومستحدثة وغرضية وانغلاقية ومانعة ومقيدة ومربكة ومحبطة أكثر مما ينبغي لها, تلك الحواجز التي تعملقت بنا وفينا إلي حد جعلها أفق وحدود ومصدات لكل تطلع وكل انفراج وكل ابتكار وكل تجديد..!
أروم هنا دعوة الجميع للكفر بتلك الحواجز والقفز على نحو اللغة وقواعدها وجميع إكسسواراتها التي أضحت حقيقتها الظاهرية بالتقادم, أروم دعوة الجميع للكفر بالتاريخ المصاغ على مقاسنا الظاهري, أو بالأصح الكفر بلحظات التاريخ الهزيلة والمرقعة التي صارت بأعيننا تاريخ لا ينتقذ ولا يمتحن ولا يصوب أو يراجع أو يتغير , لحظات تاريخ اعادتنا للصنمية وأجبرتنا على تناقلها بوجل وحرص وتبجيل, لحظات تاريخ يملؤها اللغط ويشوبها الخطأ ويتمدد فيها الزيف ولا يهجرها الغثيان أو يبارحها, لحظات تاريخ قيدتنا وهشمتنا ونشرت التآكل فينا, وألقت بأرواحنا وهيكلها المتمثل في اللغة في ظلمات موحشة ومقفرة محشوة بالشراسة والافتراس بغية إفنائنا وإلحاقنا بالنسيان والانقراض دون أن تفرق بين أرواحنا وهيكلها, فالفناء والانقراض لن يتجزأ ولن يأخذ الروح دون هيكلها أو يأخذ الهيكل دون الروح التي يحتويها..!
الدراسة هذه ليست موضوعة في اللغة تحديداً, بل عن اللغة كرفيق وجودي لأرواحنا أو كمتلازمة دائمة لها, إنها -اقصد الدراسة- موضوعة لرصد وجودنا بثنائية الروح واللغة, موضوعة لرصد حالات التقمص المتكررة والمتعددة والمتجايلة بين أرواحنا وهياكلها, موضوعة لفحص وبيان حالات تناقل وتنقل القصور بألوانه والتشوه بأنواعه والعجز بأسبابه بين أرواحنا وهياكلها..!
تعرفون أن التطور حدث ولم نعد كآدم جدنا أو مبتدأ وجودنا, ولكنه حدث بتوازي استثنائي بين الأرواح وهياكلها, حدث الصدأ لكليهما بأزمان الصدأ وحدث اللمعان لكليهما أيضاً بأزمان اللمعان, والدراسة بموضوعتها تعرض الصدأ بملوحته وتعرض اللمعان بجرأته وتعرض أسبابهما ومخلفاتهما وعواقبهما..!
أكرر بجلاء وصراحة ووضوح ومسئولية.. هنا وبهذه الدراسة عن اللغة أنشر الألغام عن سبق إصرار وبترصد واع ومسئول في فضاء اللغة, أي في هياكل أرواحنا وعلى حوافها وعند تخومها ووسطها, ولا أروم تحديداً أو أدفع بألوية تهديد أو تهديم سياج اللغة المتمثل في نحوها وبلاغتها وصرفها وكافة علومها, وكذلك لا أروم ولا أدفع بألوية تقديس هذا السياج وزخرفته ورفعه وإعلائه, لأن ما أرومه هو اللغة وحقيقتها وليس صورة وجودها الآنية التي جاءت بزمن ولأسباب وضمن ظروف, فاللغة التي أرومها هنا هي هيكل الروح الأول, قبل أن يطلى ويزخرف ويتبهرج ويتحول إلي سجن معشوق..!
الدراسة هذه تمثل بمجملها دعوة واجبة وعامة لرحلة طويلة وضرورية ولازمة وحتمية علينا ولأجلنا, ويفترض أن نتهيأ لها بزاد يتمثل في الطهر حد البراءة والشك لأجل اكتشاف الحقيقة والتجرد والروحانية لمؤانسة الروح ومنحها حق هيمنة أصيل, رحلة مجالها يمتد من سحيق الماضي الغائم الملبد والغارق في الضباب والظلمات إلي سحيق المستقبل الأكثر غائمية وتلبداً وغرقاً في ضباب اللايقين وظلمات اللاتوقع..!
الأجدر أن تكون الدعوة للرحلة مشروطة بالثقة في أصالة الروح ونقائها وانتمائها, وتكون مشروطة برغبة البقاء والعطاء والنماء, ومشروطة أيضاً بالانفتاح والحيادية وتعليق المسلمات وتنقيح الأصول وامتحان المرجعيات, وأكثر شروطها أهمية هو البقاء روحاً داخل اللغة ومعها..!
أخيراً .. الرحلة ديدنها النقد والنقض والفحص لهياكلنا دون اغترار أو تكبر أو تضاعف ودون تقديس العلل عدا المقدس بداهة وتلقائية من قبل الأرواح وهياكلها,كونوا أبرياء تحديداً من أفكاركم المأطرة, وتجهزوا بالحرية المطلقة من القيود الوجودية ودعوا الأرواح طليقة وكذلك اللغة..!.
أدخلوها...!.

تنويه وإشارة
اتخذت هذه الدراسة سبيل تلقائي وانسيابي كدفق فكري متراص, لا يدعي عدم وجود اطلاع ودراسات على ذات الموضوع لدى مفكرين ومبدعين خاضوا فيه بطريقة ما, ولا يدعي الجدة أو التجديد, بل يدعي الرغبة في رفع مستوى الحوار وتطبيق التحرر للإفادة والاستنفاع, لذا كان السعي مقصوداً لإهمال الاستدلالات وإرجاع الرؤى والآراء إلي مرجعيات معينة, وكان الابتعاد عن النسخ والتعريف بجهته سبيل لضمان التحرر من الظلال والإيهامات النسبية, وكذا سبيل لإيصال الغاية وما فيها من خصوصية تجبرنا على أخذ المعرفة وتفحصها وتشريحها’ وتداولها دون الإصرار على هندسة تأريخها وحشرها في زمان أو مكان أو فرد لطرد أي تأثر قد يضر بموضوعة الدراسة وغايتها.
قد كان التحرر والحرية من أي قيد طريقة اتبعتها قبل أن أدعو إليها لغايات بحثية تسمو عن مجرد تناقل المعلومات ورصفها في دهاليز العقل, فالتحرر من القيود والتجرد من التأثير وسيلتنا لإعادة البناء, لذا أغفلت عامداً متعمداً ذكر أسماء مؤرخين أو فلاسفة لهم أقوال وآراء في موضوعنا رغم التوافق معهم أو مناقضتهم, وكذلك أغفلت عامداً متعمداً أيضاً ذكر المراجع والمصادر والمؤلفات التي كان لي اطلاع ودراسة لها ولرؤية مؤلفها حول موضوعنا, وهذا السبيل انتهجته لأمنح الدراسة روحاً فلسفية ولو نسبياً, أقصد للبحث في موجودنا اللغة من اللاموجود, وأعني التجرد من الظلال والآراء السابقة والتجريب لإنشاء معرفة خاصة ومستقلة بنا, لاعتقادي التام أن أزمتنا الفكرية هي تلقفنا للمعارف كمعلومات ونسياننا المفجع أن للمعرفة أرواح وأنفس وأنها يجب أن تصاغ ضمن بيئتنا من الأساس, وأن كشوفات المستشرقين انتزعت منها الأرواح وظلت جامدة وباردة إلي أقصى حد, أؤمن أن هنالك أشياء أكثر وأكبر من مجرد الوجود المادي والمعرفة المادية , إن هنالك معرفة روحية دفيئة وسامية, أننا نعرف رمالنا وأشجار العوسج والسدر بطريقتنا وبأرواحنا لا كما تصوغها العلوم وتشرحها..!












ماهية الإنسان
الحقيقة إن الإنسان هو اللغة, ليس عاقلاً ولا ناطقاً ولا مفكراً ولا موحداً ولا عابداً ولا مدركاً بدون اللغة, أي ببساطة وتلقائية وحتمية ومباشرة دون زيف ماهية الإنسان وإنسانيته هي اللغة, لا يمكن بأي حال من الأحوال ولا في أي فلسفة من الفلسفات العديدة أن يكون هنالك للإنسان تعريف منطقي بمعزل عن اللغة, والحق أقول في تعريف الإنسان أنه اللغة أي - الإنسان هو اللغة - بها كان وفيها يكون وبدونها لم يكن ومن بعدها لن يكون..!
أن التخبط الأهوج الذي يمارسه الإنسان منذ قرون عديدة بحثاً عن الحقائق, يشكل معضلة أساسية بالنسبة للإنسان ذاته, فما فعله خلال البدايات جعله متورطاً في اقتناء حقائق ملوثة, ونشر في روحه ثقوب وفجوات أضرت بها وأسلمتها للعبث والدوار , فالتهالك المريب على التساكن مع صور مشوهة للحقائق, واستلهام حلول ملفقة ومزيفة لمعضلات كبيرة للنجاة من التيه الذي صار حقيقة ظاهرية لوجود الإنسان أمر مفجع , ودأب الإنسان على الاقتناع والتسليم لصور مصاغة تناسب وعيه الآني وتواكب قدراته ومعارفه المنتقاة من محيطه المحسوس أساساً وغير المحسوس على استحياء ضرر وعاهة, ولعل العناء الأكبر الذي ألم بالإنسان هو المنطلقات والقناعات السيئة التي انتهجها وأقتنع وأيقن بها حد التقديس..!
الإنسان وجد في رفقة اللغة سلوان, ولكنه لم يكن وفياً لها ولم يحافظ على قدسيتها, بل أنغمس في ممارسات مريبة أدت به لتجديد تيهه باستمرار, وألقى بعناءات قصوره على اللغة فانغمس في ترميزها وهندستها حتى فقد ودها وتحول إلي ضحية لها بطريقة ما, وظن بسوئه وعنجهيته أن سكنه للغة كان خياراً من خياراته, ولم يعي حقيقة تساكنه الأزلي مع اللغة وتكونه فيها وتكونها فيه..!
الإنسان كون بأكمله, منظومة عجيبة وتشابك وتمازج استثنائي بين مختلفات ومتناقضات كثيرة ومتنوعة, وقمة وقيمة اعجازية رهيبة مليئة بالخفايا والأسرار اللامتوقعة, لذا يحمل التساؤل عن ماهيته دعوة إلزامية للتجزئة والتبسيط,فلا يمكن وضع الإنسان في قابل أو عطفه على صنف أو هيئة أو مجموعة, فهو لازال السر الأكبر والأسطورة الأعنف على هذه البسيطة..!
الإنسان كائن حي ينتمي إلي الثدييات الرئيسية من شعبة الفقاريات, يلتقي مع الكثير من الثدييات في خواص وخصائص بيولوجية وفسيولوجية كثيرة, وهو كما الارض نسبة الماء فيه تصل إلي 70% منه, ويعاني من المد والجزر مثلها, ومادياً يخضع ببعض خصائصه للمواد الصلبة و ببعضها الآخر للسائلة ولديه شيئاً من خواص الغازات, ويعتبر موصلاً جيداً للتيار الكهربائي, ويصنف كمادة بارامغناطيسية تظهر مغناطيسيته بوجود مجال مغناطيسي خارجي وتزول بزواله, وله خصائص عديدة غير مكتشفة تجعله لغزاً مستمر ومستغلق لا تفضحه إلا الصدف ..!
الإنسان مجموعة متراكبة ومتداخلة للموجودات, كون معجز وحقيقة استثنائية عصية, تجاور أزلي لمتضادات ومتناقضات وتساكن وألفة جريئة لمختلفات, الإنسان حقيقة ليست في المتناول وكلمة اعجازية بعيدة عن الإدراك خفية الجوهر..!

ماهية اللغة
اللغة روح .. أحجية مقدسة اقترنت بالإنسان المخلوق وتداخلت فيه حد التوحد, وأمسى عصياً فهم ماهيتها أو تحديد وجودها الأساس وجوهرها الأول لصعوبة فصلها أو تفصيلها, واستحالة تجسدها كموضوع مستقل متاح للفحص والتشريح والتعيين, فتمثيل اللغة وتصورها يحتاج إلي لغة للتفكير فيه وانجازه, والوقوف على ماهية اللغة يحتاج إلي لغة ليس بالضرورة أن تكون مصورة أو منطوقة بل يكفي أن تكون مهيأة كأداة للفكر ووسيلة للتفكير..!
اللغة لا تتجسد, ولا تحصر أو تنحصر, ولا تدعن للحواس والوعي بمثالها وحقيقتها, بل تظل تراود الوجود بصورها وتنساب دفقاً من اللاوعي واللامدرك لتتصور وتخضع كأداة للاستخدام وفق وعي محاط بأطر الوجود, فمثال اللغة وحقيقتها يفوق التصور لأنه يخضع لوجودها المهيأ للإنسان والتابع لوعيه وفكره..!
إن استعصاء حالة اللاتفكير أو ما قبل الفكر على متخيل الإنسان وعلى قدرته يجعل من بلوغ حقيقة اللغة وتفسير ماهيتها يستحيل على الإنسان, ويزج به في حالة اقتناء الصور أو التجسدات الجزئية كحقيقة أو جوهر أو ماهية, ويتورط في معاملة اللغة كموضوع وجودي مدرك ومحدود ومحاط بالفكر وطيع للتفكير, فيأخذ بتجسدها وتصورها المتاح لحواسه ويسقط عليه معارفه ورؤاه ويشبعه درساً وتمحيصاً ليصنع تاريخ للغة وسيرة, ويعجز عن التعامل مع اللغة بتجرد كامل ويتفطن لأنماط وجودها غير المدرك بالحواس والبعيد عن العقل الواعي...!
إن الإنسان منذ القديم- مذ كان - اغفل اللغة كروح وتعامل معها كتجسد ومحسوس خاضع لإدراكه وسيطرته, فباتت اللغة كمية من الرموز والعلامات المنطوقة أو المكتوبة, وقد إنكب الإنسان العاقل المدرك للموجودات على خصخصة الوجود وربطه بقيمته, وأنتج منظومة معارفية وتعريفية منطلقة من وجوده أو مصاغة من قبله ولأجله, وكذا كانت اللغة صناعة إنسانية أي موجود عايشه الإنسان وهيأه ونمقه لإثراء وجوده الخاص وتطويره, فأمست اللغة مجموعة أو منظومة الألفاظ والأصوات التي يستخدمها الإنسان للتعبير عن وجوده أو محيطه الوجودي..!
انطلقت اللغة من عوالم الأصوات وتأسست كوسيلة ناجعة لتحقيق وجود الإنسان وتنظيمه إلي حد احتكاره وتضمنه, فانتقال اللغة وتوجهها من التمثيل إلي التجريد أبعدها عن حقيقتها الأولى, وأحدث الانسلاخ بين ماهيتها الأولى والأصيلة وبين ماهية الإنسان بطريقة أحدثت بها الانقسامات والتفرعات إلي حد كبير, فاللغة لم تعد تحتفظ بمواصفاتها الأولى كما كانت في القدم, بل اكتسبت مواصفات وخصائص جديدة مواكبة للتطور وممتزجة مع التغيرات التي أنتجها الإنسان عبر مراحل وجوده المتتالية..!
القول بأن اللغة هبة إلهية وذات سيرورة وتكون وبدء عميق وعتيق ومزامن للإنسان ومتصل به, اكتسب التأييد ودعمته رؤى وآراء لكثير من المتدينين وبحاث وفقهاء الأديان الإبراهيمية, وناله بطريقة ما تفنيد واعتراض من قبل الكثير من البحاث والفلاسفة الأنثروبولوجيين , الذين أيدوا ابتداع اللغة ونشوءها وصياغتها من قبل الإنسان خلال مراحل حياته الأولى, وذهبوا إلي إرجاع الظهور الأول للغة لزمن إنسان الغابة, ذلك السلف القديم الذي اعتمد الصراخ وتنويع الأصوات بالهيجان والترقيق والهمس للتعبير عن معاني وانفعالات معينة, فالنشوء الأول للغة احتضنه الصوت وعمل على دعم تطورها عبر تنقلات الإنسان وتطوراته من عصر الغابة إلي عصر الزراعة ثم عصر الرعي, فخرجت اللغة من هذه العصور الثلاثة مجهزة بخصائص الهيجان و التمثيل والإيماء ثم الإيحاء لتختتم بالتجريد بعد تحولها الكامل إلي وسيلة تعبيرية عن عالم الإنسان وحياته وموجوداتها بمختلف تنوعاتها ومستوياتها.
هنا نبتعد عن حصر اللغة في تعريف محدد أو وضعها في إطار فكري ضيق, ونذهب إلي التسليم بأن اللغة كون وموجود يفوق أدوات التفكير ويتجاوز الذهن الراغب في امتلاكه أو في تحديده وتقييده, فالأزمة التي تواجه الإنسان في تعريف اللغة تتمثل في استحالة استخدامه لعقله أو أحاسيسه بمعزل عن اللغة, فاللغة تكون الإنسان وتحتويه وتحيطه وتسكنه, ولعلها البدء الذي كان, فالإنسان كلمة أي جزء من اللغة أو تمثل فيها وبها..!
لا يمكن الفصل بين ماهية الإنسان وماهية اللغة بأجرائها- الحرف المنطوق ,الرمز ,الكلمة- لذا نعف عن هذا الفصل ونذهب إلي ما ورائه من غايات نستلهمها ونحاول توضيحها ووصفها.

العرب والعروبة
الاشتباكات محتدة والمعارك ضارية إلي أقصى وأقسى مستوى بين المؤرخين وغيرهم في سيرة العرب وأصولهم ونشأتهم وأنسابهم وثقافاتهم وحضاراتهم, وتعدد الآراء والأطروحات وتنوعها وتضادها يوحي ويؤكد على وجود نزعات ونزاعات ذات علل وأسس فكرية أو مبحثية أو انتمائية أو شخصية تجدب عارضيها إلي اتجاه معين وتدفعهم إلي الاستطراد نحو غاية أو هدف مسبق لتحقيق فوائد أو خدمة مصالح معينة, فلم تلقى الأبحاث والدراسات بشأن العرب وتاريخهم الحياد الصريح والنزيه أو تتصف به, ولم تخلو من شوائب التحيز مع أو ضد بشكل سلب حيادها وشوه قيمتها العلمية والمعارفية..!
العرب يعربيون ينتسبون إلي يعرب بن قحطان الذي تفصله عن نوح "عليه السلام" خمسة أجيال, وقد تسلسلوا وتناسلوا عنه لزمن طويل وتداخلت معهم هجرات من بلاد الرافدين ومن الشام واستعربت, هذا رأي دعمه أهله ومعتنقيه بأدلة وحجج واستنباطات لتأكيده وترسيخه في التاريخ, ولكن سواهم يرون ويرتئون ويؤكدون أن عروبة العرب استمدت من الصحراء, فالعرب بدو سكان صحراء جمعهم الجفاف وأغلقت عليهم البيئة بمتاريس فعزلتهم عن سواهم, فكان هجير الصحراء واستحالة قطعها أو التنقل فيها ضمان لوجودهم وانعزالهم عن باقي الشعوب والدول المتمركزة على ضفاف الأنهر وسواحل البحار, فظلوا غير معروفين ولم يذكروا حتى زمن الآشوريين, حينما حدثت الاحتكاك ونشبت الصراعات وعم التقاتل واحتدم الصراع..!
يرى آخرون أن يسموا العرب بغير هذا الاسم فيدعونهم بالساراسی-;-ن ( Saraceni) أو ساراكينوس Saracenus) ) ويعللونه أو يحملونه على معنى مركب من مقطعين الأول اسم سارة ( Sara) زوجة إبراهيم الخليل "عليه السلام ", والثاني مقطع قين (Ceni) بمعنى عبد , أي يصبح المعنى الكلي المقصود باللفظ هو " عبيد سارة" باعتبارهم أبناء إسماعيل ابن إبراهيم الخيل من هاجر أمة سارة التي زوجتها لإبراهيم قبل أن تحمل بإسحق, وشمل هذا المعنى العرب سكان شبه الجزيرة في مبدئه, واتسع مع الزمن ليعم جميع المسلمين ويصبح مرادف لمعنى المحمديين, وهم بهذا اسماعيليين أو اشماعيليين وهم هاجريين نسبة إلي هاجر ..!
رؤى جمع الحضارات القديمة من أطراف فارس حتى شواطئ الأطلسي في بوتقة العرب وتعريبها تخامر البعض ويسعون إليها, ويسعى مناقضو هذه الرؤى ومعارضوها إلي فصل هذه الحضارات عن العرب, وتقييدهم بصحراء شبه الجزيرة وما نشأ فيها من تاريخ وأحداث وحضارة, ويؤكدون أن العرب شعب منفصل عن تلك الشعوب وأن العلاقة كانت مكانية لا أكثر, ويذهب كل فريق برؤاه مستنطقاً الأماكن مستفهماً أو متسولاً لما يرضيه ويوافق رأيه, فاتسعت الهوة وانتشرت الفوضى في استنطاق الآثار واللُقى واختلفت التفسيرات بشكل جعل من التاريخ خصي أجدب تتناقله الأيدي وتعبت بتفاصيله وتطوعه لخدمة رؤى وحقائق مشوهة وملوثة مشبعة بنزعات وجودية سيئة...!.
التوراة لازالت تؤطر التاريخ الاجتماعي للبشرية, فلازالت منطلقاته توراتية بامتياز رهيب, وأن كانت جرأة العلم وقوة براهينه ومكتشفاته قد خفضت من سطوة التوراة وجعلتها محل نقض وشك, ولكن التاريخ لم يفلت بكليته من التوراة ويتخلى عن التسليم بما جاء فيها من أسماء وأحداث ووقائع, بل أتاح لتاريخها ونصوصها أن تملأ ثغراته باعتبارها الحقيقة القديمة المتاحة ذات المصداقية ما لم يعثر على حقيقة بديلة لها أو مغايرة..!.
تشذ التوراة بتاريخانيَّتها عن الإنجيل المقدس والقرآن الكريم وتخالفهما, وتلقي بظلالها على الفكر التاريخاني وتربكه, وتحدث بنصوصها وحقائقها تشويشاً وربما توجيهاً للبحث والتقصي, وتعتبر تفصيلية التوراة أزمة وقيد لتاريخ البشرية الاجتماعي, ولعلها من الأسباب المؤثرة سلباً على توجهات الفكر عموماً واتجاهاته, ومعيق ومعوق لجهود استجلاء تاريخ المنطقة بأسرها وتاريخ العرب تحديداً..!
الركون إلي اعتبار العرب سكان إقليم متميز أو مختلف عما سواه حضارياً, وأن اختلفت أجناسهم وانتماءاتهم وتعددت أصولهم القريبة أو البعيدة , يفتح الآفاق ويتح الفرص لتعميق الدراسات التاريخية ويحولها إلي وقود حضاري للمستقبل, يجلب الفائدة ويحقق الانطلاقة ويضمن الجودة والأصالة والتجدر, ولعله يعزز فرص البناء والتطوير ويصحح معارف متناقلة ويؤكد حقائق مبعثرة أو مهيضة, ويعيد صياغة التاريخ وفق منهج موحد شمولي يتجاوز الحواجز القطرية والأممية ويدعم الوحدة المكانية والحضارية التي لم تتجزأ وتتشتت إلا مؤخراً..!

اللغات القديمة في شبه الجزيرة العربية
كانت اللغة بالأساس هبة إلهية تنمقت وصيغت وتوسعت باجتهادات إنسانية فرضتها الاحتياجات وصقلتها الممارسات والتناقل,وحينما تعرفنا على تاريخ اللغة وقعنا في مأزق فكري محرج, إذ أسقطت حقيقة اللغة وتم تجاهلها وتجاهل وجودها البكر المنتمي لفضاء الأصوات, واهتمت الدراسات والبحوث واهتم المؤرخون بالنصوص المكتوبة القديمة, وأصبحت اللغة هي الكتابة وتاريخ اللغة هو تاريخ الكتابة, وأهمل المنطوق الذي كان قبل الكتابة وبعدها.!
شبه جزيرة العرب لازال تاريخها القديم مغفل وغير معروف بدرجة كافية, ولازال إصرار البحاث والمؤرخين على فصل سكان الصحراء عن الحضارات المحيطة بهم يزيد من غائمية وضبابية تاريخ شبه الجزيرة, وتضع النصوص التوراتية وآيات القرآن الجميع في مأزق تفسيري وبحثي عميق, وتأتي اللغة المكتوبة وبقايا الرقم الأثرية لتكون ضحية الفكر المتشبث بالفصل والتمييز بين اللغات القديمة التي انتشرت بشبه الجزيرة منذ ما قبل التاريخ, والتي بدأت بالزمر التصويري والنمط الصوري لتتطور إلي التجريد عبر أحقاب وأزمان طويلة, فلم تنقطع مسيرة اللغة في الإقليم الممتدة من بلاد فارس حتى شواطئ الأطلسي حتى اكتملت وتوجها القرآن الكريم بنصوصه الإعجازية لغة وعلماً..!
سجلت منطقة شبه الجزيرة وبلاد الرافدين الظهور الأول للكتابة, فقد اعتبرت المصادر التاريخية أن السومريين هم من ابتكروا الكتابة وأصحاب أقدم نص مكتوب في التاريخ, إذ تم اكتشاف نصوص للكتابة المسمارية السومرية يرجع تاريخها إلي سنة 3000 ق.م , وهي مجموعة نقوش ذات نسق تصويري مميز استخدم للتوثيق في معظمه, وسرعان ما تلقفه الأكاديون وطوروه بإدخال تحسينات عليه واظهروا المقطع الصوتي ليمدوا الكتابة بميزة فاعلة, ويربطوها مع أصل اللغة الصوتي ويرفعوا مستوى الكتابة من مجرد صورة متاحة للبصر أساساً, ويمزجوها بالصوت المعبر عن قيمة الكتابة, وكانت هذه الإضافة الأكادية خطوة جريئة نحو التجريد..!
بعد السومرية انتشرت الكتابة في المنطقة بشكل كبير واتسع استخدامها وتطورت تقنياتها, وصار للمدائن والممالك كتابات خاصة , فاشتهرت الآشورية والبابلية والآرامية والنبطية والهيروغليفية والفينيقية والبونيقية والاوجارتية والسينائية والسبئية والحميرية والمعينية واللحيانية والثمودية..!
يعتقد بعض العلماء أن هنالك أصل واحد لكل اللغات, وأنها مع تشتت الأمم وتعددها وانفصالها في المواطن تحولت لهجات تلك اللغة الأم إلي لغات مستقلة, وأن التباعد والاختلاف ازداد مع مرور الزمن وتكاثر الأمم وتنوع بيئاتها الثقافية وتطور حضاراتها, وهذا شأن اللغة العربية التي أن شئنا تعريفها وتحديد ماهيتها نقول أنها -لهجة أهل مكة- التي تحولت مع نزول القرآن لتكون لغة مكتوبة وصارت لغة العرب جميعاً, وكان القرآن الكريم معجمها ووثيقتها الأولى.
اللغة العربية تولدت من اللغات القديمة وصيغة على منوالها ووفق نحوها وفقها, ولا يمكن بأي حال فصلها عن اللغات القريبة منها مكانياً كالحميرية والسبئية والمعينية, ولا عن اللغات البعيدة عنها زمانياً مثل الثمودية والسينائية والكنعانية والآرامية, فهنالك وحدة للغات في مناحي كثيرة, وهنالك لأغلبها منشأ صوتي واحد ولها نفس الدلالات والمعاني واني اختلف نطقها جزئياً باختلاف بيئاتها, كما أثرت في بعضها الاختلاطات المتكررة مع الأمم والشعوب الأخرى ذات اللغات البعيدة.
العربية لغة تجريدية في اغلبها وهي تتكون من تسعة وعشرون حرفاً, وقد تطورت وصارت علماً باتساعها وشموليتها وانتشارها بعد ظهور الإسلام وانتشاره في أصقاع الأرض جميعاً, واكتسبت اللغة العربية صفة مميزة عن باقي اللغات, باعتبارها اللغة الوحيدة والخاصة للتعبد عند عموم المسلمين, فلا يتلى القرآن تعبداً بغيرها ولا تصح صلاة مسلم بسواها.
بعد الإسلام أضيف للغة العربية التنقيط والعلامات ووضع لها أبو الأسود الدؤلي مبادئ فقهية, وزاد الخليل بن أحمد الفراهيدي على الدؤلي وطور اللغة بوضعه لعلم العروض, الذي يُعني بمعرفة أوزان الشعر العربي وتصحيح الأخطاء فيه, وقد كان الشعر ديوان العرب قبل الإسلام , وبه وفيه حفظ التاريخ وسمات الهوية العربية والكثير من الأنساب والمعارف , وجاء من بعد الفراهيدي تلميذه سيبويه الذي وضع النحو , وهو علم قواعد اللغة ومعرفة مواضع وأنماط الكلم فيها, وكان تمام علوم اللغة به وأن أضاف المحدثين أشياء إلي اللغة وطوروا في علومها استناداً على العروض أو النحو .
لا نسعى للخوض في علوم اللغة العربية أو التوسع في سرد تفاصيل سيرتها ومسيرتها, ولا إلي مقارنتها بغيرها من اللغات أو تشريحها ودراسة ألفاظها وجملها, بل قد عرجنا إلي ما سبق لنتيح معرفة أولية بسيطة للغة العربية وما قبلها, ولنعبر إلي محور الدراسة وغايتها بعد التجهز بشيء من المعرفة المفيدة لموضوع الدراسة.


إمكانات تطوير اللغة وتحديثها
يتحدث أبناء آدم حالياً أكثر من 6000 لغة, منها لغات مستقلة ولغات تابعة تكتب بحروف اللغات المستقلة, وهنالك العديد من اللهجات المحلية المنطوقة وغير المكتوبة, وتسيطر على العالم لغات قليلة من هذا الكم الكبير تمثل اللغات الرسمية للدول والشعوب, وذلك نتيجة استخداماتها في الأوساط الحكومية وفي الآداب,ويرافقها في الغالب لغات محلية تنال القسط الأوفر في التداول من قبل الشعب,وتتدرج أهمية اللغات العالمية حسب استخداماتها وعدد المتحدثين بها, وقد صنفت اللغات العالمية على هذا الأساس فتصدرت القائمة اللغة الصينية بجميع لهجاتها تبعتها اللغة الانجليزية, وجاءت اللغة العربية في الترتيب الخامس بعدد متحدثين يبلغ تقريباً (480) مليون نسمة, في حين أن قياس اللغة العربية كلغة رسمية ينخفض تدريجياً , إذ توجد دول أعضاء في جامعة الدول العربية لا تعتبر اللغة العربية اللغة الرسمية الأولى فيها..!
كما أن هنالك العديد من اللغات البشرية انقرضت واندثرت, وغيرها مهددة بالانقراض وتعايش مراحل موت اللغة رغم وجود ثقافات وآداب وروائع كتبت بها, واللغة العربية مهددة بالانقراض نتيجة ما لحقها من إهمال وتغلب اللهجات العامية عليها في التعامل اليومي, ولعل تحول المجتمعات العربية إلي الاقتصاد الرأسمالي وانخراطها وذوبانها في السوق العالمية قد دفع باللغة الانجليزية إلي الواجهة واعتمدها كلغة أولى في التعاملات التجارية وفي التعليم بكثير من الأحيان..!
تبدو مشكلات اللغة العربية جلية لجميع علمائها وللمثقفين والأدباء بالدرجة الأولى, ويكاد انحسارها وتحولها إلي لغة حكومية أو لغة تعبدية يضحى حقيقة اعتيادية, وتتمثل أزمة اللغة العربية في جمودها واستعصائها على التطور لأسباب كثيرة, ولعل أهمها هو قلة الإقبال على تعلمها وكذلك التخلي عن استخدامها بين العوام وفي اغلب وسائل الإعلام, فقد غلبت عليها اللهجات وتجرأت عليها لما تمتلك اللهجات من سماحية ومرونة لاحتواء مفردات جديدة أو دخيلة, بالإضافة إلي سلاسة استخدامها ومطاوعتها لثقافة العوام ومعارفهم..!
لم تعد اللغة العربية الفصحى تعبر عن أرواح المجتمعات, ولم تعد تمثل الهوية التي يعيها المواطنون دون تكلف, ولا يكاد أغلب الناطقين بها يستجيبون لأحرفها وألفاظها حسياً, فالأحاسيس انحازت للهجات وفارقت اللغة العربية الفصحى, فأضحى استعمال الفصحى يعبر عن التكلف ويتم بإدارة العقل وبمعزل عن الأحاسيس والشعور, فقد أصبحت ألفاظ الفصحى معزولة عن الإنسان الناطق بها بطريقة ما, فلم تعد تغمر الإنسان كروح وتحتويه كهيكل, بل تحولت بتجريديتها إلي مجرد وسيلة للتعبير المتخم بالعقلانية ..!
حقيقة أزمة اللغة العربية الفصحى أنها لم تعد تشكل للناطقين بالعربية - الفصحى واللهجات- الروح , وبات هجرها إلي اللهجات وهجرها إلي لغات أخرى وهجرها الثقافي, وتكون نتاج أدبي باللهجات تحت مسميات المحكية والشعبي والنبطي شريك وبديل عن نتاجها واستفحل الهجر إلي حد تهديدها بالانقراض أو الانزواء كلغة تعبدية لا أكثر , ورغم تكرر قرع نواقيس الخطر وتكرر الدعوات إلي حماية اللغة العربية وإحياؤها لم يتم وضع الخارطة الصحيحة لذلك, ولم تلقى النواقيس والدعوات آذان صاغية وعقول فاعلة , لذا نعرض لبعض النقاط والمقترحات لتطوير اللغة العربية وحمايتها من تهديدات الانقراض, ونسلسل النقاط على النحو التالي:
- تكثيف البحوث حول اللغات العروبية القديمة وتحليلها ومقارنة بنائها ببناء اللغة العربية, ووضع المعاجم الوافية لها للاستفادة منها, ووصل اللغة العربية بها واستنباط أسس وحدة تلك اللغات وروابطها باللغة العربية
- أنشاء معجم عربي موحد يجمع جميع مفردات اللغة القديمة والحديثة , ويمنح للدارسين فرصة التعرف على اللغة لتكثيف الدراسات اللغوية واستكشاف خفاياها
- تشريح اللغة صوتياً وبحث إمكاناتها في فضاء الصوت ومحاولة الوصول إلي آفاق جديدة لتطويرها ودعمها بميزة جديدة تمكنها في التغلب على الجمود
- دراسة اللهجات العربية المنبثقة من اللغة الفصحى والاعتناء بأساليب الاشتقاق والتصريف فيها وبحث إمكان مزج بعض أجزاءها وألفاظها في العربية الفصحى
- التركيز على الجوانب المهنية والعمل على تكوين لغات للمهن تكون داعمة للغة العربية, تستخدم فيها المسميات المهنية وفق انضج اللهجات وأقربها إلي النسق الصوتي للفصحى
- تهذيب الإعلام وتطويعه وحمله على خدمة اللغة الفصحى ونشرها بالاستخدام بدل إغفالها وتغليب اللهجات عليها
- تأسيس حراك فلسفي في أوساط المثقفين والأدباء والأكاديميين, وإحياء فلسفات المنطقة القديمة وتطويع مناهجها ومساراتها لما يناسب الدين الإسلامي ولا يضطهد قيمها ورؤاها
- السعي للبحث عن أساليب وقواعد لصياغة ألفاظ جديدة أو مزج الكلمات وتركيبها بطريقة توليدية تزيد اللغة الفصحى ثراءً وترفع عنها حرج العجز
- تكوين معجم عربي على أساس الأصوات يعتمد كلمات العربية حسب تركيبها وعدد حروفها, ويؤسس على رؤية صوتية موسيقية عميقة ومنهجية
الأساس في تطوير اللغة العربية يتأتى بتكوين مؤسسات تعنى بهذا الأمر, وتكوين جماعات داعمة للدارسين والبحاث والعلماء العاملين في مجالات اللغة وفي المجالات الاجتماعية والتطبيقية وفي الفنون والموسيقى , ويفترض تكوين مناشط ومهرجانات على تهتم باللغة العربية والعمل على نشرها واستمراريتها بشكل عام , واستقطاب الناطقين بالعربية في مختلف أنحاء العالم وتحفيزهم للمشاركة في دعم اللغة العربية وتطوير من واقع ثقافاتهم وانتماءاتهم..!

الخلاصة
الغاية الأساسية هي نشر الوعي بخصوص أزمة اللغة العربية, والدعوة لاعتناق سبل بحثية ممنهجة لحل جميع مشاكل اللغة, وإخراجها من طور الجمود ومرحلة الموت التي تعايشها والدفع بها إلي الواجهة, ولكن طريق التطوير لا يفترض أن يظل محصوراً بقواعد اللغة وعلومها, بل يجب أن يمتلك الجرأة على القفز على كل الحواجز إذا كان القفز سيلبي حاجة التطوير ويحقق الغاية منه.
شملت الدراسة عرض موجز لماهية اللغة عموماً, والجدير أن نؤسس لهذه المعرفة الفلسفية ونتداولها باعتبار الفلسفة أساس المعارف ومنشأها, وتعميق المعرفة لا يتأتى إلا بالفلسفة ونتيجة لبحثها, ولعل العربية وآدابها تفتقر إلي البحث الفلسفي الغير مستعار, وموضوع الماهية مهم للمسلمين لضرورة توافقه مع آيات القرآن الكريم وانسجامه معها من حيث المنطلقات أو النتائج, وهذه ضرورة أغفلت لقرون وحان أوان الإضلاع بها وتلبيتها.
كانت الإشارة إلي اللغات القديمة مقتضبة لما حازته من دراسات من قبل المستشرقين أساساً, ومن قبل المؤرخين العرب مؤخراً مما وفر معرفة جلية عنها وعن آثارها, ولكن الإشارة كانت لغرض التخلي عن مسلك المستشرقين واعتمادهم على الفصل بين الحضارات والشعوب والتركيز على مراحل الصراع والتنازع والقطيعة وإغفال مراحل السلم والوصل والاندماج, وهو سبيل أضحى سائداً في الدراسات التاريخية بشكل أساء وألحق الضرر لتاريخ منطقة الشرق الأدنى وحوض البحر المتوسط بأسره, وحان الوقت لهجره والبحث ضمن حقائق الوحدة المكانية والبيئية أكثر من التركيز على البنى الاجتماعية والانساب.
أخيراً .. اختتمت الدراسة باللغة العربية وإمكانات تطويرها, ولغزارة الدراسات اللغوية واتساع آفاقها وكثرة آدابها وعلومها تم الإيجاز, وباعتبار التطوير لا يمكن أن يكون مجرد دراسة أو مؤلف بل ينبغي أن يتحول إلي عمل ومنهج تطبيقي اعتمدت تسلسل النقاط , وتم عرض النقاط بإيجاز وبأسلوب مباشر ومفتوح لإتاحة الحرية للفكر التطبيقي, الذي سيكون وحده سبيل الخروج من أزمات اللغة وإعادة حيويتها.
هذه الدراسة ليست معمقة أو معدة لتشريح اللغة أو الغوص في علومها, بل هي مجرد ناقوس آثرت قرعه لإيقاظ شعور المسئولية لدى جميع الناطقين بالعربية, والدعوة للدخول في مرحلة العمل لحماية اللغة العربية من الموت والانقراض وإبعادها عن السجن في أطر ضيقة وتحويلها إلي لغة مهنة أو لغة تعبد , فالإنهمام باللغة العربية لا ينبغي أن يكون حكراً على العرب, ولكن العرب وحدهم يجب أن يتولوا مسئولية دعم مشروعات تطوير العربية وتحريرها من حالة الجمود.

والله ولي التوفيق

الباحث - عبد الواحد حركات



#عبدالواحد_حركات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجيل الداعشلوجي الثالث .. والاخير
- داعشلوجيا محاكم التفتيس الاسبانية
- داعشلوجيو اليهود حاكموا المسيح .. باسم الشريعة وبمباركة روما ...
- جذور الداعشلوجيا
- فايروس الزير
- هويات سقيفة - طورابورا -


المزيد.....




- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...
- بسبب متلازمة صحية.. تبرئة بلجيكي من تهمة القيادة ثملا
- 400 جثة وألفا مفقود ومقابر جماعية.. شهادات من داخل خانيونس
- رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي
- الشيوخ الأميركي يقر -مساعدات مليارية- لإسرائيل وأوكرانيا
- رسالة شكر من إسرائيل.. ماذا قال كاتس لـ-الشيوخ الأميركي-؟


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - عبدالواحد حركات - دراسة في تطوير اللغة العربية