أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد المصطفي موسي - الثورة المهدية في السودان .. باقلام شعراء وأدباء الامبراطورية البريطانية















المزيد.....



الثورة المهدية في السودان .. باقلام شعراء وأدباء الامبراطورية البريطانية


محمد المصطفي موسي

الحوار المتمدن-العدد: 4930 - 2015 / 9 / 19 - 17:59
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




الثورات نبض الشعوب وشريانها الدافق الذي يمنحها عبق الوجود وإكسير البقاء .. والثورات التي تترك بصماتها علي خارطة احداث التاريخ .. هي تلك التي ينسكب علي اثرها مداد حركة الثقافة والمبدعين دونما اعتبار لحواجز الجغرافيا واللغة . ان التحالف المذهل بين لغة الثورات وحركة الثقافة والأدب .. يبقي ظاهرة كونية عصية علي التفسير منذ ازل التاريخ . فالتغيير الذي توثقه قوافي الشعر وفن القصة والكتابة .. قبل دفاتر المؤرخين .. يبقي - وان اختلف الناس حول تقييم احداثه - خالدا في الضمير الإنساني الحي .. تماماً كما الأثر تحدثه القدم فلا يزول .
من هذا الباب يسهل الولوج لدراسة الادبيات الهائلة التي خلفتها الثورة المهدية السودانية في حركة الادب والشعر البريطاني .. وهي ادبيات وان تباينت بين المدرسة الفكرية " الكولونيالية " المتحجرة التي لا تري في شعوب ما وراء البحار سوي قوميات متخلفة خُلقت لتحكم وتستعمر .. الي المدرسة " المناحية" و التي أجادت استخدام ريشتها لرسم لوحة قاتمة من البكائيات علي كبرياء الامبراطورية الجريحة.. حينما تفاجأت بان لتلك الشعوب عزيمة مثلها مثلهم تماماً ولها المقدرة علي الانتصار لإرادتها القومية ووجدانها الجمعي .. وبين هذه وتلك تجد مدرسة إنسانية صرفة تتعاطف تعاطفا فطريا مع الميل الطبعي للحرية والانعتاق من عسف الاستعمار الكامن في إنسانية بعض بني الانسان .


في 17 يناير 1885 دارت معركة "ابوطليح " التاريخية بصحراء شمال السودان بين قوات الثورة المهدية بقيادة الامير موسي ود حلو والامير علي ود سعد والجيش البريطاني الغازي بقيادة اللورد ولزلي . شهدت "ابوطليح" .. تمازجا قبليا واثنياً رائعا .. فتدافعت جموع قبائل كنانة و دغيم والحسنات والشانخاب من وسط السودان وبني جرّار و الحمر والجمع من كردفان جنبا الي جنب مع فرسان قبيلة البرقد من أقاصي دارفور .. كما تنادت قبائل بني سليم من أقاصي النيل الأزرق .. التأم والتحم كل هؤلاء مع قوات قبائل الجعليين في معقلهم وتحت ضيافتهم بشمال السودان .. تلبية لنداء الامام محمد احمد المهدي لصد قوات الغزو البريطاني . لذلك تعتبر "ابوطليح" اول معركة في القرن التاسع عشر .. تتحد فيها كل هذه الاشتات القبلية السودانية وتنصهر لمواجهة قوات غازية في منطقة شمال السودان تحديدا .. حيث جرت العادة منذ قدوم حملة اسماعيل باشا الغازية للسودان في 1820 .. علي ان تقوم كل قبيلة بمقاومة المحتل بمفردها مما سهل مهمة القوات الغازية .
شهدت ملحمة " ابوطليح" اختراق المربع الانجليزي للمرة الثانية علي التوالي ( قام بالاختراق الاول الامير عثمان دقنة قائد قوات المهدية في شرق السودان بمعركة طماي 1884 ). قام السودانيون في " ابوطليح" بغرس راياتهم في منتصف المربع وسط ذهول اعدائهم الذين لم يصدقوا ما كان يحدث امام اعينهم .. وفي تلك المعركة جري اشتباك دام بالرماح والسيوف مما قلل من فعالية النيران الانجليزية ونتيجة لذلك خّر الكولونيل البريطاني "برنيبي " صريعا برمح الامير البشير عجب الفيا مع 17 من خيرة ضباط الحملة وقُتل ما يقارب ال 368 من الجنود البريطانيين وسقط 1069 جريحا منهم .. وفي الجانب الاخر استشهد من قوات المهدية عدد مقدر وكان أبرزهم الامير الشجاع موسي ود حلو والذي ابر بوعده للامام المهدي بغرس راية الثورة المهدية الخضراء في قلب المربع الانجليزي ! واستشهد أيضاً الفارس الباسل محمد بن الامير علي ود سعد والذي لم يبلغ العشرين بعد ! بينما جرح والده الامير علي ود سعد في كتفه .
وبعيدا عن عن صحراء " ابوطليح " .. وبالتحديد قريبا من شواطئ بريطانيا المطلة علي بحر الشمال البارد .. حلت أنباء المعركة علي البريطانيين تماماً ككارثية ثلوج شتاء يناير المتساقطة بكثافة آنذاك .. لقد كان ثبات السودانيين في "ابوطليح" ملهما للشاعر البريطاني السير هنري نيوبولت.. Sir Henry Newbolt .. فنظم قصيدته الشهيرة بعنوان Vitai Lampada ..التي ترثي ابياتها الحزينة قتلي الجيش البريطاني وفي مقدمتهم الكولونيل برنيبي .. وجاء فيها:
ها هي رمال الصحراء قد تخضبت باللون الأحمر ..
حمراء هي .. بلون حطام المربع الانجليزي المنكسر !
لقد صمت المدفع .. و قُتِلَ الكولونيل !
قُتل الكولونيل !
وهاهو فيلقنا .. تحجب ابصاره..
سحائب الغبار والدخان
ونهر الموت قد فاض حتي ..غمر ضفتيه..
( السير هنري نيوبولت: Admirals All, الناشر : Biblolife publisher , ساوث كارولينا ، الولايات المتحدة،2009).

وفي تلك القصيدة يستخدم نيوبولت الشعر الرمزي ايضا لاستنهاض كبرياء بريطانيا الجريحة .. حينما يخاطب من خلال بعض ابياتها مباراة افتراضية للكريكيت بين طلاب مدارس بريطانيا .. يحثهم علي الثبات عند صعاب اللعبة ومواصلة المشوار .. ووتتنقل أبيات القصيدة بين ملعب الكريكت الي " ابوطليح " . ومن ثم الي ملعب الكريكت مرة اخري .. في توظيف إبداعي رائع لما يعرف بالمدرسة الاستدعائية في كلاسيكيات الشعر الانجليزي .. ويردد الشاعر في ختام قصيدته وصيته للصبية الصغار .. بان يمضوا في الحياة متوهجين كما المصباح المشتعل .. و Vitai Lampada نفسها عبارة لاتينية ترجمتها هي " شعلة الحياة" .. ولعل الشاعر استدعي هذا العنوان لقصيدته ليٌذكر بان كسر أسطورة المربع الانجليزي بأرض " ابوطليح" لهو امر يستدعي التصميم والعزيمة للثأر لهؤلاء القتلي وان هؤلاء الصبية البريطانيين لابد ان يتقنوا الجلد والصبر علي الشدائد ليأخذوا بالثأر مستقبلا لبريطانيا من هؤلاء السودانيين.. ويبقوا علي شعلة كبريائها متقدة ومفعمة بالحياة ..

وعلي اثر تناقل الأوساط الأدبية في بريطانيا لقصيدة Vitai Lampada .. توترت الأجواء السياسية هناك واقترن ذلك بمراسلات خشنة بين الملكة فكتوريا وقائد حملة إنقاذ غردون العسكرية البريطانية .. اللورد ولزلي .. ابدت من خلال تلك المراسلات .. قلقها علي مصير جيش انفقت عليه خزانة حكومتها ما يقارب السبعة ملايين من الجنيهات الاسترلينية .. كانت قد عقدت عليه الامال لسحق الثورة المهدية بالسودان وانقاذ الجنرال تشارلز غردون من بأس تلك القبضة. وعلي اثر ذلك كتب ولزلي لزوجته الليدي لويز ولزلي قائلا " انني اشعر بغاية الحنق والضيق من خطاب جلالة الملكة ( والذي أرفقه لك في هذه الرسالة) .. فمن النادر جدا ان تكتب الملكة خطابا مؤذيا كهذا لقائد عسكري مثلي في الميدان. لقد كانت كلماتها تعبر عن منتهي الفظاظة وعدم التقدير ! ولكن بما انها ملكة بريطانيا فإنني لا أستطيع ان اجادل جلالتها لذلك قررت ان أتوقف عن الكتابة والرد عليها " .. ( نيكول : أوراق اللورد ولسلي ، خطاب بتاريخ يناير 1885، مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة 2004 ، ص 290 ) .

اما علي مستوي الشعر الشعبي البريطاني الذي تناول تلك الملاحم السودانية .. فقد راجت تلك الاغنية الشعبية الحزينة عن مقتل غردون وهزيمة القوات البريطانية علي يد قوات الثورة المهدية بعنوان Too late to save him ..فصارت لحنا شعبيا معروفا يعزف في حانات لندن القرن التاسع عشر بأمسيات الانس أواخر الأسبوع ..

هناك في السودان غاب عنا ..غاب عنا
هناك .. طأطأت إنجلترا رأسها .. وانكسرت
من هناك .. من هناك ..
تفشي نبأ ارتعشت له قلوب كل البريطانيين ..
قُتِلَ بطلنا العظيم .. قُتِلَ بطلنا العظيم .
( من ارشيف الأغاني الشعبية البريطانية، National Library of Scotland،ادنبرة، نسخة الكترونية 2012).

وبينما كانت حانات لندن تضج بصخب الساخطين والمحبطين .. كانت جيوش الغزو البريطاني المنهزم تعاني من
ملاحقات قوات المهدية التي تعقبت فلولها في صحراء الشمال .. ونفذ الأمراء حمدان ابوعنجة وعبدالرحمن النجومي والنور عنقرة سلسلة من الاشتباكات الخاطفة مع تلك الفلول المنهزمة فسقط الجنرال البريطاني وليم أيرل صريعا في موقعة كربكان .. و دفعت تلك الأجواء المحبطة ولزلي للكتابة بمرارة لزوجته مجددا في فبراير 1885 قائلا : " لقد انتصر المهدي .. وها نحن نبدو جميعاً.. كالاغبياء !" .. ( The Mahdi has won , and we all look very foolish) .. ( نيكول: مصدر سابق ، ص 224 و225) .

لقد كان تتابع انتصارات الثورة السودانية علي قوات الغزو البريطاني مدعاة لمناحة وطنية كبيرة داخل بريطانيا .. فمع رجوع طلائع الحملة البريطانية وهي تجرجر اذيال خيبتها الي شواطئ بريطانيا في ربيع 1885 .. اصدر الشاعر البريطاني الشهير وليام واتسون ديوان شعر حزين بعنوان " Gloomy Spring " او "الربيع القاتم" .. وعلق في مقدمة ذات المجموعة القصائدية علي انتصارات المهدية في السودان ومقتل غردون قائلا : ( لقد تحولت الامجاد البريطانية الي ما يشابه العار التاريخي) .. كما سلق وزراء حكومة جلالة الملكة بالسنة حداد حينما وصفهم بالقادة المتبلدي الذهن . لم يخف واتسون اعجابه بشجاعة السودانيين في التصدي لقوات الغزو البريطاني بل وخصص لذلك قصيدة رئيسية في إصدارته بعنوان " The Sudanese" .. وقد نظمت تلك القصيدة علي نسق عرف في ادبيات الشعر الانجليزي آنذاك باسم "Sonnet" وهي قصيدة مكونة من أربعة عشر بيتا شعريا .. وجاء في مطلعها :
السودانيون..
لم يخطئوا بحقنا .. لم يقاتلونا لأجر ولا مال يترجونه من احد
في تلك المعركة المريرة ..
باسم ربهم .. ارتفعت حناجرهم بالهتاف
طلبا لعونه .. سعوا لتحقيق العدالة الغائبة
في الجنة سيرقدون.. ان تم نفيهم من الارض بلا انتصار

ثم يمضي في بقية الأبيات ليصف ضراوة الاشتباكات المحتدمة بين قوات الثورة المهدية والجيش البريطاني في المعارك المختلفة .. ويوجه قدرا هائلا من التمجيد لشجاعة البريطانيين وبلائهم ايضا.. تمجيدا لم يكن كافيا لجعل صاحبه بمأمن من انتقادات مؤرخين معاصرين كفيرجس نيكول والذي وصف مقدمة قصيدته وابياتها التي تمجد الشعب السوداني وعدالة قضيته في مواجهة الاحتلال البريطاني .. بانها تلسع قارئها كما السم الزعاف ! لقد سبق واتسون فيما ذهب اليه من قبل رئيس وزراء بريطانيا جلادستون حينما ارتجل في مارس 1884 خطبة عصماء في مجلس العموم البريطاني ملخصا الوضع في السودان كما يراه هو .. " ان هذا الشعب يناضل من اجل حريته .. ومن حق هؤلاء ان يناضلوا من اجل حريتهم ! " ..( فيرغس نيكول :جلادستون و غوردون وحروب السودان ، Publisher Pen and Sword, نسخة الكترونية 2013 ، ص 342-343 )

ومع تصاعد انتصارات الثورة المهدية في السودان علي جنرالات بريطانيا بدءا ب" وليام هكس " ومرورا بفالنتاين بيكر في شرق السودان وانتهاءا بغردون في الخرطوم .. حدثت هزه عنيفة في الأواسط النخبوية البريطانية ..مما دعا المؤرخ والصحفي البريطاني فيرغس نيكول لوصف فترة تورط بريطانيا في حروب السودان بانها " من ابرز اللحظات التي التقي فيها أدب بريطانيا بسياستها".. Where Art met politics .. ويتجلى ذلك بوضوح تام من خلال كتابات الروائي البريطاني الأشهر آنذاك " روبرت لويس ستيفنسون " .. صاحب الرواية الأكثر رواجا من بين الاعمال الروائية البريطانية في القرنين الاخيرين بعنوان " جزيرة الكنز " او "Treasure Island ". فعلي الرغم من صحته المعتلة والتي جعلته علي مشارف الموت آنذاك الا ان ذلك لم يمنع ستيفنسون من متابعة احداث الثورة السودانية عن قرب فكتب لصديقه جون سايمندز في أعقاب تحرير الخرطوم علي يد قوات المهدية قائلا : " ان هذه ايام سوداء مليئة بالخزي لكرامة بريطانيا " .. ويبدو ان مرارة الهزيمة البريطانية بمقتل غردون قد دفعته للمضي ابعد من ذلك فجنح قلمه لرسم لوحة قاتمة لها بكلمات بليغة وهو الأديب المتمكن قائلا " ان الامبراطورية البريطانية تقف امام العالم الأن و الدماء تقطر منها وقد غمرها الْخِزْي والعار ".. ( نيكول : مصدر سابق ، ص 341-342 ).

ومن المدهش حقا ان احداث الثورة المهدية في السودان قد حملت بعض أدباء بريطانيا علي الاصطفاف الصريح في جانب الثورة .. ونذكر منهم علي سبيل المثال الشاعر والروائي الانجليزي وليام موريس والذي اكتسب شهرة واسعة بسبب أعماله الأدبية الخالدة كروايتييه .. "The House of Wolfings" و " The Well at the World s End" . كان موريس قياديا بارزا بتنظيم الاتحاد الاشتراكي البريطاني او " Socialist League" والذي عرف اختصارا ب SL .. وقد عرف الSL بعدائه للإمبريالية ومناصرته لكفاح الشعوب من اجل الحرية . لقد كان موريس مجاهرا منذ البداية بمعارضته لارسال جيش بريطاني للسودان لإنقاذ غردون وعرف عنه حماسته لحق السودانيين في تقرير مصيرهم بأنفسهم وعندما حررت قوات الثورة المهدية عاصمة البلاد .. كتب موريس لابنته ماي موريس بتاريخ 20 فبراير 1885 قائلا : "لقد سقطت الخرطوم في أيدي شعبها الذي تنتمي اليه " .. " Khartoum has fallen into the hands of the people it belongs to ".. وهو ذات الموقف الذي تبناه الاتحاد الاشتراكي . وفي اول تعليق رسمي له علي انتصارات الثورة المهدية قال موريس : " ان النصر الذي حققه السودانيون علي بريطانيا هو في المقام الاول نصر للحق علي الباطل ( A triumph of right over wrong) وهو انتصار مستحق انتزعه شعب يقاتل من اجل حريته " .. اما عن غردون فقد لخص موريس رأيه الصريح فيه في كلمات قصار موجزات : " لقد استعمل غردون قدراته الإدارية والعسكرية ليجلب الشعب السوداني تحت وطأة نظام استعماري مستبد ومنحط .. ان محاولة البعض لصناعة بطل من رجل كهذا .. تعد بمثابة الاساءة للقيم الاخلاقية للشعب البريطاني ".. اما عن حملة الانقاذ بقيادة ولزلي فيقول موريس : " انهم مجموعة من اللصوص الذين يسعون لنشر حضارتهم الزائفة.. Shoddy civilisation " ( نيكول : مصدر سابق ،ص 345-346).

اما علي صعيد شعراء الامبراطورية ذوي الميول الاشتراكية .. فقد ألهمت احداث الثورة المهدية في مواجهة الغزو البريطاني .. شاعرا استراليا مجيدا بقامة " بانجو باتريسون" والذي اشتهر بانه صاحب كلمات الأهزوجة الشعبية الأسترالية الأكثر رواجا منذ القرن التاسع عشر وحتي اليوم الا وهي قصيدة " Waltzing Matilda" .. قصيدة عدها الاستراليون بمثابة النشيد الوطني الموازي لاستراليا لكلماتها الاقرب لوجدانهم الشعبي . حينما قررت حكومة الملكة فكتوريا استجلاب قوات استرالية الي ميناء سواكن لتعزيز قوات الجنرال جرهام ومحاصرة تقدم الامير عثمان دقنة عليه في تلال البحر الأحمر . عندها لم يستنكف باتريسون من ان يظهر تعاطفه الصارخ مع الثورة المهدية بل تنبأ بانتصار الثورة علي الغزاة البريطانيين ..لأن الحرية حتما ستنتصر - علي حد كلماته- وهنا بعض أبيات قصيدته بعنوان "El Mahdi to the Australian troops "

يا رجال استرليا ماذا اتي بكم الي هنا ؟
لماذا يا ابناء استراليا العادلة .. الحرة ؟
لماذا ترفعون سلاحكم ..
في وجه رجال يحاربون من اجل حريتهم؟
تتحالفون مع الام ( بريطانيا) .. لتهزموا الحق !
لماذا استراليا تترك كنوزها للمخاطر فيما وراء البحر ؟
لماذا تغادر ارضها الحرة ..
لتغرس سيفها في حرب غير مقدسة !
كفي .. كفي ..
ان الرب لن يبارك هذه المغامرات البائسة..
جنرالات إنجلترا الفاسدون .. حتما سيندمون
ضحوا به لم تسعفه شجاعةٌ ..غردون
قريبا .. سيشهدون ..
فتية صحراء السودان ..
بالالاف ضدهم سينتفضون
يجعلونهم كحبات الرمل تذروها رياح المنون ،
باسم الرب والرسول ..
للحرية سينتصرون ..
باسم الرب والرسول..
للحرية سينتصرون ..
( بانجو باتريسون : قصيدة بعنوان : El Mahdi to the Australian troops ، نشرت بصحيفة The Bulletin الأسترالية ، بتاريخ 28 فبراير 1885).

وبالرجوع قليلا الي الوراء .. وتحديدا عندما وطأت قدما غردون ارض مدينة الخرطوم في 18 فبراير 1884 .. لابد ان " كبلينج " شاعر الامبراطورية البريطانية .. لم يكن يعرف عن السودان اكثر من انه بلد خامل الصيت يقبع في الحديقة الخلفية لبلد يسمي مصر ! لعله قد سمع بتمرد يقوده مجموعة من العصاة المحليين ولكن لابد ان نفسه حدثته بان هؤلاء لن يقدروا علي الصمود امام بطل الامبراطورية البريطانية وخبير قمع ثورات الشعوب " The Ever Victorious Gordon" .كما كان يحلو للإنجليز ان يلقبونه ..فالامر لا يعدو ان يكون نزهة في واحدة من تلك الدرر التي ترصع التاج البريطاني !
وبينما كان كبلينج في خواطره العابرة تلك .. كانت توجيهات الامام المهدي قد سبقت للامير عثمان دقنة في شرق السودان بالإسراع في عملية تحرير مدن الشرق وقطع الطريق امام اي تعزيزات بريطانية عن طريق البحر الأحمر .. ووجه المهدي من خلال منشوراته الامير عبدالله حامد بسرعة توحيد قواته مع عثمان دقنة لتحقيق هذا الغرض..لقد حقق عثمان دقنة انتصارات باهرة علي قوات الجنرال البريطاني فالنتاين بيكر وجراهام وتم تحرير طوكر وسنكات في زمن قياسي .. وحطم الامير دقنة أسطورة المربع الانجليزي الذي لا يقهر تماماً.. فاخترقه فرسان البجا البواسل من قبائل الهدندوة والامرأر والبني عامر والحباب لمرات عدة .. مما حمل الدوائر الاستخبارتية الانجليزية علي وصف الامير عثمان دقنة في أدبياتها ب " ثعبان الماء الزلق" ! لقد كانت تعليمات المهدي المشددة لعثمان دقنة واضحة تماماً .. وهي البقاء في شرق السودان لمنع اي قوات بريطانية من التقدم ريثما يتم تحرير الخرطوم .. وفي تلك الأثناء طارت أصداء انتصارات الثورة المهدية علي القوات البريطانية .. في شرق السودان.. لاصقاع أوربا البعيدة فالهبت خيال " كبلينج " .. والذي سطر اروع قصائده عن ملاحم المهدية مع القوات البريطانية في شرق السودان .. بعنوان Fuzzy Wuzzy ..

في ما وراء البحار جالدنا أقواماً شتى
بعضهم كان باسلاً.. وبعضهم لم يكن
باتان، وزولو، وبورميين
لكن الأشعث كان أعجبهم
لم يمنحنا معشار فرصة
بل لبد راصداً في الحرش.. ثم عقر خيلنا!
مزق أرصادنا في سواكن
ولاعبنا لعبة القطة والفأر
يا أيها الأشعث الثائر في وطنك السودان
يا لك من فارس لعين ومقاتل من النخب الأول
ولو شئت أعطيناك بذلك شهادة إقرار
ولو شئت أتيناك لنحتفل سويا بالإقرار..

وتمضي كلمات كبلينج لتصف خوارق الشجاعة التي أبداها السودانيون في مقاومة البريطانيين .. ليختم قصيدته بتلك الأبيات الأروع :
أخيراً إليك يا أشعث في وطنك السودان
أيها الفارس اللعين والمقاتل المصطفى
إليك يا ذا الشعر الثائر..
تهانينا يا أحمق يا مغوار فقد كسرت المربع البريطاني !
( كبلينج : Barrack room ballads by Rudyard kipling ، جامعة اكسفورد، المملكة المتحدة - نسخة الكترونية 2012 ، ص 14 ، ترجم النص للعربية الدكتور غازي صلاح الدين ).

وفي أواخر ابريل 1885 .. رست السفن الانجليزية قبالة شواطئ سواكن لتقل فلول الجنرال الانجليزي جراهام المثخنة بالجراح في رحلة الاوبة الي إنجلترا .. وعندها أسرع الامير المنتصر عثمان دقنة برفع تقريره للامام المهدي قائلا : " لقد قذف الله الرعب في قلوب أعداء الله الانجليز بفضل ثبات الانصار فولّوا الأدبار هاربين ".. وتبعا لذلك سال مداد القصيد الموشح بالحزن والانكسار الكولونيالي البريطاني ..و قام حينها الشاعر الإسكتلندي الشهير "جورج ابيل ".. George Abel .. باصدر روائعه في كتاب بعنوان " غردون وقصائد اخري " .. تضمنت تلك المجموعة الشعرية اجود قصائده التي قال في بعض ابياتها :

ثم اتي "هكس " ليقضي نحبه عطشا في السودان..
في ساحة القتال ضد المهدي..

خّر صريعا .. عاجزا ..

رباه .. كيف عجزت بريطانيا عن عونه ؟

و "بيكر" في اثره .. سقط في الجب المميت

قاد جيشا ممن لا شجاعة لهم ..

فسقطوا ..

اصطادونا أعراب السودان بسهامهم

تعزيزاتنا طال انتظارها .. تأخرنا كثيرا

رجالنا النبلاء في سواكن لقوا حتفهم لآخر رجل فيهم

ثم أرسلنا الحملة البريطانية ..

فضاعت .. هباءا منثورا في الصحراء

رباه .. وقعوا جميعا في قبضة رجال عثمان دقنة السمر !

( جورج ابيل : غردون وقصائد اخري ، Gordon and other poems، أعادت نشره ، Nabu Press، ساوث كارولينا ، الولايات المتحدة ، 2010).

وفي عام 1942 زار السودان .. وتحديدا .. مدينة سواكن الشاعر الانجليزي الشاب "جلنكارين بالفور بول" .. والذي سيُصبِح فيما بعد دبلوماسيا بارزا وسفيرا للمملكة المتحدة في بقاع شتي من أنحاء العالم .. مبهورا بشجاعة المهدويين ..كتب بالفور بول أبياته التي قدم لها بانجليزية مبسطة:

" A reference to the bravery of the Mahdist Osman Digna and his followers who fought the British here in 1891 " ..

وترجمتها : " بالاشارة لشجاعة القائد المهدوي عثمان دقنة وانصاره الذين قاتلوا البريطانيين هنا في 1891 " .

وتقول بعض أبيات القصيدة التي نظمها الشاعر والدبلوماسي البريطاني :

بينما النوارس تحط رحلها علي الصخر ..

تراقب امواج الشاطئ المتلاطمة

تنشد رحلة الخلاص للساحل

ها أنا ذا اجلس قبالة تلك الصخور ..

حيث يرقد الرجال السودانيون البواسل ..

الذين لا تهاب رماحهم .. رصاصنا المنهمر !

( بالفور بول : Bigpipes in Babylon، الناشر: I. B. Tauris ، لندن- المملكة المتحدة ، ،2006، ص 91) .



لقد ظلت تلك الملاحم السودانية الخالدة حية في ضمير شعراء بريطانيا جيلا بعد جيل .. ففي 1982 نظم الشاعر والمعلم البريطاني بيتر افيرنجتون (Peter Everington ) .. قصيدة بعنوان Aba Island او " جزيرة ابا " .. يسرد فيها بدايات الثورة المهدية وكيف انها وحدت الشعب السوداني من اجل التحرر من الاستعمار .. وهي من قلائل القصائد في الادب البريطاني التي تعرضت لسنوات المهدي المبكرة في الجزيرة ابا نقطة اندلاع الثورة المهدية الاولي .. وبيتر افيرنجتون لمن لا يعرفونه ..شاعر بريطاني مجيد .. عمل معلما في وزارة التربية والتعليم بالسودان بين 1958-1966 .. فأحب تلك البلاد وعشق شعبها وتاريخها وزار كل بقاعها.. وتقول بعض كلمات قصيدته :
It is the Mahdi who is in Aba cave.
For years has pondered, disciplined and remained calm.
How best he inspired the weak , united the brave.
The dawn of later years and Island shows,
Where all the tribes live prosperous and free --;--
O may this Sudanese generation in their age ,
Reaping the fruits of freedom from his grave ,
Read their land s success from history s page,
Remember that it all started in this cave !
Remember that it all started in this cave !
وترجمتها :

انه المهدي .. في كهفه بجزيرة ابا !
لسنوات .. قضي وقته متأملا .. هادئا .. يهذب ذاته
كيف الهم الضعفاء.. ووحد الشجعان ..
بفجر السنوات القادمات والجزيرة تلك .. تري
كيف عاشت تللك القبائل .. اجواء الحرية
فلتعلم اجيال السودان اليوم ..
ولتقطف ثمار الحرية من ضريح المهدي..
ولتقرأ نجاحات الوطن من أوراق التاريخ ..
ولتذكر دوما ان كل شئ بدأ من هنا .. من هذا الكهف !
ولتذكر دوما ان كل شئ بدأ من هنا .. من هذا الكهف !

صفوة القول ان بريطانيا القرن التاسع عشر كانت قد خاضت حروبا لا هوادة فيها لتوسيع أراضي إمبراطوريتها التي زعمت ان شمسا لن تغرب عنها قط! لقد جالد الانجليز "فيما وراء البحار أقواما شتي" .. كما قال كبلينج شاعرهم الاول .. وَمِمَّا لا شك فيه ان هؤلاء قد جوبهوا ببسالة منقطعة النظير حينما تصدي لهم السودانيون تحت رايات الثورة المهدية .. بسالة وإباء .. خلدت فصول ملاحمها روائع وعيون شعر الأعداء قبل الأصدقاء. ان الانجليز بطبعهم قوم جُبلوا علي الاعتزاز بأنفسهم الي حدٍ دعا البعض لوصفهم بالشعوب المتعجرفة .. ومن هذا الباب يحق ان ينظر الناظر الي ذلك الارث المرتبط بالثورة المهدية في دفاتر شعراء وأدباء بريطانيا .. علي انه امر مدهش حقا .. يستدعي ذلك حتما ان نجدد نحن السودانيون مصادرنا لقراءة تاريخنا لنعيد اكتشاف تلك الأصداء العظيمة التي دونها أعداء الامس في تلك الاصقاع الباردة . علي العموم اتمني ان تفتح تلك الدراسة المتواضعة الباب امام المزيد من الدراسات التي تتناول آثرنا كسودانيين في ادبيات وارث الشعوب الأخري .



#محمد_المصطفي_موسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكري معركة كرري .. شهادات منقولة عن مراسلي صحف عالمية شهي ...
- في الذكري 130 لوفاة الامام محمد احمد المهدي .. قائد الثورة ا ...
- الذكري ال 130 لوفاة الامام محمد احمد المهدي .. قائد الثورة ا ...
- ملامح من روايات الادب الشعبي في كردفان .. - وصفحات مطوية - م ...
- مشاهد من سيرة رائد التعليم الاهلي بمنطقة النيل الابيض بالسود ...
- في ذكري رحيل شاعر الشعب السوداني الأولي .. محجوب شريف الذي ع ...
- في ذكري 26 يناير 1885 .. ذكري تحرير الخرطوم وعيد استقلال الس ...
- الجمعية التشريعية : المؤسسة المفتاحية في طريق استقلال السودا ...
- امتدادات الثورة المهدية في قلب الامبراطورية البريطانية ..! ك ...


المزيد.....




- رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك بـ -الملياردير المتغطر ...
- إسبانيا تستأنف التحقيق في التجسس على ساستها ببرنامج إسرائيلي ...
- مصر ترد على تقرير أمريكي عن مناقشتها مع إسرائيل خططا عن اجتي ...
- بعد 200 يوم من الحرب على غزة.. كيف كسرت حماس هيبة الجيش الإس ...
- مقتل 4 أشخاص في هجوم أوكراني على مقاطعة زابوروجيه الروسية
- السفارة الروسية لدى لندن: المساعدات العسكرية البريطانية الجد ...
- الرئيس التونسي يستضيف نظيره الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي ال ...
- إطلاق صافرات الإنذار في 5 مقاطعات أوكرانية
- ليبرمان منتقدا المسؤولين الإسرائيليين: إنه ليس عيد الحرية إن ...
- أمير قطر يصل إلى نيبال


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد المصطفي موسي - الثورة المهدية في السودان .. باقلام شعراء وأدباء الامبراطورية البريطانية