أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - خالد سليمان - الموت في سيارات طويلة بلا نوافذ















المزيد.....

الموت في سيارات طويلة بلا نوافذ


خالد سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 1349 - 2005 / 10 / 16 - 10:19
المحور: حقوق الانسان
    


لماذا الكتابة عن الأنفال مرة أُخرى، أهو قدر الكاتب ان يسجن ذاته داخل مأساة مضت ولن تمضي آثارها الكارثية. ما هي الأنفال أساساً، هل لدى القارئ العربي فكرة ما عنها وعن أبعادها التي اتسمت بالوحشية > في القتل المجاني؟ ما الأسباب التي أدت إلى حدوث مأساة كبيرة يفوق عدد ضحاياها آلافاً من النساء والأطفال والشباب والشيوخ خلال فترة قصيرة ووفق خطة سياسية اقتضت > للمشكلة الكردية في العراق؟. للإجابة عن هذه الأسئلة يحتاج المرء إلى صورة أو صور عن الأنفال، إلى حكايات وروايات بقيت من زمن مستقطع، تحملها ذاكرة متخمة بالحزن والويلات. فبدون هذه الأشياء التي تتضمن في سياقها العام أبعادا ذاتية غالبا، ذلك ان فيها رواية ذاتية فعلا، لا يمكننا الولوج في حيثيات الأنفال وآثارها الكارثية المتمثلة في تجريد البشر من إنسانيتهم وقتلهم عشوائيا.
في سياق عمليات الأنفال الثالثة التي شملت منطقة كرميان في جنوب كردستان بداية شهر نيسان عام 1988، دخلت قوات من الجيش العراقي النظامي بمساندة قوات غير نظامية مكونة من المخابرات العسكرية والقوات الخاصة والمرتزقة الكردية، إلى قرية <<قادر كرم>> وأنفلت ما كان فيها من الناس. وحسب خطة مدروسة، نقلت تلك القوات اهالي القرية إلى مدينة <<جمجمال>> الواقعة بين السليمانية وكركوك. ظن الناس في البداية ان العملية عبارة عن إجراء عسكري روتيني وأنه سوف يُطلَق سراحهم بعد وصولهم الى جمجمال أقرب المدن إليهم. لكنهم نقلوا بعد يومين من تاريخ القبض عليهم إلى مجمع <<طوبزاوا>> العسكري وبدأت عمليات فرز البشر بعضهم عن بعض. مَن يصلح للموت أولاً؟.
حكاية خلات أحمد
كانت <<خلات أحمد>> أصغر بنات عائلة مكونة من 22 شخصا، واحدة من تلك المجموعة البشرية التي أنفلتها القوات العراقية بقيادة اللواء العسكري <<بارق عبد الله الحاج حنطة>>. تتذكر <<خلات>> الآن تفاصيل تلك الرحلة الجهنمية وتروي لحظات استُحضر فيها طعم الموت. (لقد سبقت عمليات جرد الأسماء وتحديد الأعمار وفصل الرجال عن النساء، الشباب عن الشيوخ أي شيء آخر، وفصلوا عن عائلتي اثنين من أعمامي كانا يتجاوزان 60 من العمر، وظهر في ما بعد انهما كانا قد نقلا إلى سجن نقرة سلمان في الجنوب). هذا ما تبدأ به خلات روايتها، لأن الأيام الأخرى التي سبقت طوبزاوا بالنسبة لها كانت تحمل أمل النجاة ولا تركز عليها بالتالي، وكأن النسيان أدركها ووضع مقدمات رحلتها الأليمة محل طعم أمل افترضته عفوية الثقافة السياسية لدى الناس. بعد تلك الأرشفة لأسماء وأعمار المؤنفلين، التي أنجزتها القوات المكلفة لها بسرعة قياسية، نقل الكثير منهم إلى سجن دوبز العسكري في كركوك وكانت <<خلات>> وأفراد من عائلتها من ضمنهم.
بعد نقلهم إلى سجن دوبز، تعرّفت الإستخبارات العسكرية على نشاط العائلة السياسي من خلال أسمائهم وألقابهم ونقلتهم بالتالي إلى سجن دائرة <<الأمن السياسي>> في مدينة كركوك للتحقيق.
تقول خلات التي تعيش الآن في مدينة كلار مع زوجها وأولادها: <<أخذوني أنا ووالدتي وثلاثة من إخوتي الصغار الذين كانوا أصغر مني كانت خلات تبلغ من العمر 14 عاماً وقتئذ حققوا معنا لمدة أحد عشرة يوماً في ذلك السجن وأرادوا معرفة انتمائنا السياسي والاعتراف بنشاطات سياسية قام بها أفراد من العائلة في القرية قبل الأنفال. لكنهم لم يحصلوا على شيء وعادوا بنا إلى دوبز>>.
كانت الحياة في ذلك السجن عبارة عن ألم دائم، لا خبز ولا دواء ولا رعاية صحية، مات أطفال كثر بسبب قلة الغذاء والدواء. الخبز العسكري القاسي <<الصمون>>، كان وجبتنا الرئيسية ولا شيء آخر. يروي سجناء آخرون عادوا من سجن نقرة سلمان الجنوبي، أنهم كانوا ينقعون الخبز العسكري ذاته ويعجنونه، ثم يخبزونه ثانية. ذلك لأنه كان قاسيا، تفوح منه رائحة النفط.
خلال الفترة ذاتها، رأت <<خلات>> المأساة الأولى في ذلك المكان وعاشت ساعات صعبة تلاها موت واحد من صغار السجن: <<كانت هناك امرأة اسمها <<نجمة>> فصلوها عن زوجها مثل جميع النساء. مرض ولدها الصغير وبقي لأيام عديدة على الفراش دون أية رعاية صحية وطبية، ونحن لم نملك وسيلة للمساعدة غير الالتفاف حوله مع والدته دون فائدة، مات الولد بعد أيام من مرضه، دون ان نتمكن من الحصول حتى على صورة لوالده طالما أحن له قبل موته>>.
بقيت خلات وعائلتها في السجن لمدة خمسة أشهر وعشرة ايام كما تتذكر، ثم نقلت في شهر آب 1988 إلى مدينة تكريت، وتروي خلات كيف بدأت السيارات العسكرية تنقل المؤنفلين بدءاً من بداية شهر تموز، تقول:
<<لما جاءوا بسيارات كبيرة وبدأوا بنقل المؤنفلين، كنت أتمنى أن أكون الأول بينهم واستعجلت في داخلي أن يأخذوني في تلك السيارات ويخرجوني من ذلك الجحيم، لم اعرف أنهم يأخذون كل تلك المجاميع أمام أعيننا إلى المقابر>>. لكن صدفة التغطية على الجرائم أنقذت حياتها كما تقول وعادت كي تروي كيف انها رأت شكل الموت في سيارات مجهزة بكل أدواته.
<<بقينا في تكريت مدة يومين. جاؤوا في اليوم الثالث بسيارات طويلة تشبه سيارات الإسعاف، وقد كانت بلا نوافذ، ثم زجونا فيها لساعات طويلة تحت شمس آب دون أن تتحرك. قبل وضعنا في تلك السيارات جرّدونا من جميع ممتلكاتنا الشخصية مثل النقود والذهب والإكسسوارات بالإضافة إلى الأوراق الثبوتية. ساعتئذ، عرفنا أننا ذاهبون إلى الموت ولا امل ينقذ حياتنا>>.
سيارات طويلة
نلاحظ هنا تطابقا كاملا بين وصف السيدة خلات أحمد وبين وصف الحفّار <<عبد الحسن موحان>> الذي شارك كحفّار في دفن المؤنفلين في كركوك ودوز خورماتو وتكريت للسيارات التي كانت تقل المؤنفلين لحقول الموت. وإذا عدنا للشهادات الأخرى التي وثقتها منظمة <<ميدل إيست ووج>> في كتابها <<الجينوسايد في العراق وحملة الأنفال ضد الكرد>> عن الأشخاص الذين نجوا من الموت نرى ان جميع الأوصاف لسيارات نقل المؤنفلين إلى المقابر الجماعية تركز على شكل واحد وهو: سيارات طويلة مغلقة، تشبه سيارات الإسعاف بلا نوافذ.
<<كان أخي الأصغر مريضاً ومصاباً بحمى قوية، ارتفعت درجة حرارته وكاد أن يختنق داخل السيارة. لم يكن أمامنا وسيلة سوى رفع الصغير على أيدينا إلى الأعلى كي يستنشق الهواء من منفذ صغير في سقف السيارة. لقد تأخرت قافلتنا بسبب خطأ حدث في تسجيل الاسم الثاني لامرأة كان اسمها <<بروين>>، كتب اسم والدها حسن بدل حسين أو العكس. وطال التدقيق في ذلك الخطأ ساعات، ونحن الذين كنا خمسة وستين شخصاً من النساء والأطفال داخل تلك السيارة الجهنمية، نفد صبرنا من الحر ووقوفها السيارة على تلك الحال. كنا ننتظر أية حركة منها، كي نتخلص من ذلك <<الجحيم>>، لكن الخطأ ذاته أنقذ حياتنا، ذلك انه صادف قرار عفو عام أصدرته الحكومة في ذلك اليوم أو في تلك الساعة تحديدا. فلو لم يحدث ذلك، لسلكت القافلة نصف مسافة الطريق أو وصلنا الى المكان الذي كانوا يهدفون إليه>>.
تروي <<خلات>> نقلاً عن <<بروين>> التي كانت تنتظر تصحيح اسم عائلتها خارج السيارات في تلك اللحظات: <<كان الضابط الذي يحمل لائحة أسمائنا بيده متحمساً لتصحيح الخطأ، عندما أخبره ضابط آخر بأن هناك عفوا عاما. لقد رأيت بعيني كيف ان الخبر صعقه وكادت تقع من يديه لائحة الأسماء. ونحن لم نعرف سبب وقف قرار قتلنا إلاّ في اليوم الثاني الذي جاء فيه واحد من عناصر الأمن وقال لنا: <<أعطوني <<بشارة>> ان قرار عفو عام قد صدر وسوف يطلقون سراحكم>>>>.
لا ترى خلات احمد أن قرار العفو العام هو الذي أنقذها مع افراد عائلتها، بل كان المنقذ هو خطأ بين بروين حسن أو بروين حسين وتقول: <<لو بلغ قرار العفو ذاك، أولئك الجلادين وهم في نصف الطريق، فهل كانوا يتراجعون عن قرار القتل ويعودون بنا من حيث اتينا، كلا، أو كيف كان يصلهم القرار أساساً. على الأغلب كانوا سيقولون: لقد سلكنا نصف الطريق ولا يمكننا العودة بهم ثانية>>.



#خالد_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن المفكر الراحل هادي العلوي - بورتريه تختلف لرجل استعاد لذا ...
- القومية ...تقاسيم على ذاكرة مشتعلة
- ثقافتنا وجثث العراق
- تعليق كُردي على نقاش عربي - الفيدرالية توقظ العروبة من سباته ...
- لكن لماذا لا يكون - عراق جديد- في كُردستان
- الأخطاء ، عندما ترتكب باسم القومية
- صَهيَنَةُ الكُرد ...لماذا؟
- لماذا لا يصدّق المثقفون العرب ماساة الجارالكردي؟
- ليلة دفنوا الأكراد...إعترافات حفّار
- مقبرة الفوانيس لشيركو بيكه س : عندما تشترط المأساة على اللغة ...
- بورتريه خلفي لمدينة مونتريال...العالم الثالث الكندي الذي لاي ...
- فرهاد شاكلي :خرج من كردستان غاضباً من المؤتلف الشعري واسترد ...
- أي أدب يُصور الكارثة ...آسيا بطلاً جغرافياً لحزن مطلق
- التقليم المُراد في الثقافة - الاخوانية - ومبدأ تخوين الشيعة
- المثقف الكردي ... الموقف من الذات أولاً
- الهروب من الحرية
- الأنفال …مصيرالانسان في يوميات القتل البعثي وإحتفالات الكتما ...
- بورتريه تركي في حرب الكوة الصغيرة في العراق
- أدب كردي جديد يظهر في العراق


المزيد.....




- إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب ...
- إسرائيل: 276 شاحنة محملة بإمدادات الإغاثة وصلت إلى قطاع غزة ...
- مفوضية اللاجئين تطالب قبرص بالالتزام بالقانون في تعاملها مع ...
- لإغاثة السكان.. الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لخان يونس
- سفارة روسيا لدى برلين تكشف سبب عدم دعوتها لحضور ذكرى تحرير م ...
- حادثة اصفهان بين خيبة الأمل الاسرائيلية وتضخيم الاعلام الغرب ...
- ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ...
- اليونيسف تعلن استشهاد أكثر من 14 ألف طفل فلسطيني في العدوان ...
- اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط ...
- الأمم المتحدة تستنكر -تعمد- تحطيم الأجهزة الطبية المعقدة بمس ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - خالد سليمان - الموت في سيارات طويلة بلا نوافذ