طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 4861 - 2015 / 7 / 9 - 04:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول رائد علم النفس السلطوي او الاستبدادي سكينر:
"يا له من شيء رائع ان نحكم السيطرة الكاملة على الكائنات الحية!"
في كتابه الأكثر مبيعا (1) Beyond Freedom and Dignity, يزعم عالم النفس الشهير سكينر أن الحرية والكرامة هي أوهام تعيق علم التعديل السلوكي, الضروري, حسب رأيه,، الى خلق مجتمع أكثر تنظيما وأكثر سعادة.
في ذروة شهرته في 1970s، كان من الواضح لمعادي الاستبدادية مثل نعوم تشومسكي (2) وغيره أن نظرية سكينر -الدعوة الى مجتمع يحكمه ديكتاتوريون طيبون-كانت متناقضة مع الديمقراطية. في رواية سكينر (3) Walden Two, 1948، يقول بطله السلطوي "نحن لا نأخذ التاريخ على محمل الجد"، فرد عليه لويس مومفورد، "لا عجب في ذلك اذا كان الشخص لم يعرف التاريخ, فإن اتباع سكينر سيحكمون العالم، كما اقترح سكنر نفسه, بتواضع, في طوباويته السلوكية الفاضلة!".
كمتدرب في الطب النفسي خلال حقبة لاتزال لم تشهد نهايتها, أتذكر شعوري بالحرج من صمت معظم اطباء وعلماء النفس حول التداعيات السياسية لسكينر ونظريته في تعديل السلوك والتحكم فيه. وقد شهدت وقتها اول حالة من التقنيات الأساسية في تعديل السلوك و "الاقتصاد الرمزي" الذي يعني مكافأة السلوك المرغوب فيه ومعاقبة السلوك المخالف. فقد كان احد المرضى (الذي اسميه "آدم" هنا) مصابا بالاكتئاب الشديد, وكان سلوكه يتسم بمعاداة الاستبدادية وبرفضه التحدث إلى المسؤولين عن معالجته. ولكنه لسبب ما، اختار العكس معي. رصد مُُدَربي تفاعلي مع آدم, فقال لي أنه يُحَتم علي أن اقدم له, كثواب, سيجارة لأجل اجراء التعديل "السلوكي الاجتماعي الإيجابي!" فيه. قاومت ذلك بمحاولتي شرح أن الفرق الكبير في العمر بين آدم وبيني كان سيجعل تلك المكافأة بمثابة اهانة (فآدم يكبرني على الاقل عشرون عاما, والمكافأة قد تكون شيئا آخرا غير السيجارة, مثل السماح للمريض بمشاهدة التلفزيون او زيارة عائلته). ولكن مدربي هدد بركلي من العمل. فقررت ان اسأل آدم ما الذي يجب أن أقوم به.
آدم, جاهدا لمحاربة تأثير أدويته، ابتسم ابتسامة عريضة وقال: "نحن سوف نفوز. اسمح لي بالسيجارة!". وفي مرأى ومسمع من العاملين، اخذ آدم السيجارة ثم وضعها في جيب قميص مريض آخر، ثم نظر إلى العاملين وهز رأسه في ازدراء.
على عكس سكينر، لم يكن آدم خارج نطاق "الحرية والكرامة." فمقاومة شخص, مثل آدم, للاستبدادية تجعله لا يأخذ على محمل الجد مكافآت وعقوبات الإيديولوجيات الاستبدادية, مثل تعديل السلوك لتحقيق الهيمنة الكاملة.
ربما قد سمع العديد منا ب"الإشراط الكلاسيكي" لعالم الفسلجة العصبية السوفيتي الشهير إيفان بافلوف وتعديل السلوكيات ل سكينر المشتق منه.
مثال على الإشراط الكلاسيكي لبافلوف: كلب يسمع الجرس في الوقت نفسه الذي يٌقدم له الغذاء. ثم ان قرع الجرس دون اطعام يستمر في ان يثير لعاب الكلب. مثال آخر هو تزاوج صورة امرأة جذابة شبه عارية مع صورة سيارة للتحفيزعلى شرائها. فصناعة الإعلانات تستخدم الاشراط الكلاسيكي بفعالية كبيرة لسنوات عديدة.
اما التكييف او التعديل السلوكي لسكينر فيعتمد على المكافآت، مثل المال، ك "تعزيزات ايجابية" وعدم منح المكافآت ك"تعزيزات سلبية ". ان تكييف السلوك ل سيكنر اجراء شائع التطبيق جدا في الفصول الدراسية، أماكن العمل، علاج الأمراض النفسية, وكذلك في المجال السياسي (وهذا بالضبط مايفعله الساسة عادة, في منطقتنا وخارجها, بمنح المكافآت او الترقيات لمن يسلك طريقهم وحرمان المخالف. ولا ننسى هنا ان صعود هتلر الى السلطة قد ساهم فيه وعده بتوفير العمل للشعب الالماني الذي عانى من تفشي البطالة عقب الكساد الاقتصادي الكبير في 1929).
لقد تأثر سكينر بشكل كبير بكتاب (4) جون واطسون Behaviorism . حقق واطسون بعض الشهرة في وقت مبكر في 1900s من خلال الدعوة لميكانيكية جامدة وخالية من المشاعر في تربية الأطفال. أكد واطسون بثقة أنه يستطيع السيطرة الكاملة على الطفل الرضيع وتدريبه لاحقا على احتراف أية مهنة. عندما كان واطسون في أوائل 40S، قال انه ترك الحياة الجامعية وبدأ مهنة جديدة في مجال الإعلان في J. والتر طومبسون.
المدرسة السلوكية والاستهلاكية، كاثنتان من الأيديولوجيات التي حققت سطوة هائلة في القرن 20، هما وجهان لعملة واحدة. فكلا الايدولوجيتان تعتبران المُتِسوق، الطالب, العامل, او المُنتخِب عنصرا سلبيا وقابلا للتكييف.
ان الذين يرتفعون إلى السلطة في الدولة الاستبدادية corporatocracy مهووسون بالسطوة ومدمنون على شرب نخب السلطة على غيرهم من البشر حتى الثمالة، ولذا فمن الطبيعي لهؤلاء أن يكونوا متحمسين لتكييف السلوك البشري.
الفى كوهن (5)، في كتابه Punished by Rewards، يعتمد على وثائق غزيرة في بحثه في الكيفية الافضل لاجراء تعديل او تحوير السلوك. فهو يفعل فعله بشكل افضل بكثير في الاشخاص الذين يتصفون بالاعتماد على الغير، التعاجز، الطفولية, والملل، و بمَن روضتهم مؤسسة السلطة. وحتى بالنسبة للسلطات التي تحقق متعتها بالسيطرة على الآخرين، فان هذا يعني حافزا مرعبا لبناء مجتمع يخلق اناسا يتصفون بالكسل والعجز والطفولية والملل وتأليه المؤسسة.
وقد شملت العديد من التطبيقات الأكثر نجاحا في تعديل السلوك حيوانات المختبر، الأطفال، والبالغين القاطنين في مستشفيات الامراض النفسية لفترات طويلة, او نزلاء السجون, مما يحول دون عيشهم خارجها. وفقا لمُنَظِري إدارة الاعمال ريتشارد هاكمان وجريج أولدهام (6), في كتابهما Work Redesigned، ان الأفراد في كل من هذه المجموعات يعتمدون بالضرورة على الآخرين الاكثر قوة منهم للحصول على الكثير من الأشياء التي يريدونها او يحتاجونها، ويُمكن عادة تكييف او تحوير سلوكهم بسهولة نسبية.
وبالمثل، فان تقارير اخرى تؤكد أنه ما يحمل الاشخاص على التصرف بطريقة معينة هو رغبتهم السلوكية العارمة باثارة الانتباه بحيث ان المكافآت تعزز السلوك المطلوب.
بل انه من الأسهل تكييف سلوك الناس الذين لا يحبون ما يفعلون. فالمكافآت تعمل بشكل أفضل لأولئك الذين ينفرون من اعمالهم او المغتربين عن عملهم. وتكون المكافآت هي الأقل فعالية عندما يفعل الناس شيئا غير مملا بالنسبة لهم.
في مراجعة ما كُتب حول الآثار الضارة للمكافآت، خلص الباحث كينيث ماكجرو (7) الى أن المكافآت يكون لها تأثير ضار على الأداء بشرطين: أولا، عندما تكون المهمة مثيرة للاهتمام بما فيه الكفاية بحيث ان الحوافز زائدة عن الحاجة كمحفز. ثانيا، عندما تكون الخطوات التي تؤدي إلى تحقيق المهمة ليست واضحة على الفور.
هنالك العديد من الدراسات التي تدلل على ان المحفزات والمكافآت تعمل بشكل أفضل في المهام البسيطة والقابلة للتنبؤ بنتائجها.
تتجلى الطبيعة المعادية للديموقراطية لمدرسة تكييف السلوك بكونها آلية تهدف الى تحقيق السيطرة وضمان السطوة, والتي بحكم طبيعتها معادية للديموقراطية، الحوار النقدي، والتبادل الحر للأفكار بين المشاركين على قدم المساواة.
بالنسبة لسكينر، فالسلوك يتم التحكم به من الخارج بشكل كامل، وليس لدينا حق الحرية والاختيار. علماء النفس السلوكي يرون الحرية وحرية الاختيار والدوافع ذاتية امورا وهمية، أو ما يسميه سكينر ب"الأشباح."
في 1970s، انتقد نعوم تشومسكي بشدة لا علمية سكينر في فهمه للعلم، على وجه التحديد نظرا لان سكينر يعتقد أن العلم ينبغي أن يحظر فحص الدوافع الداخلية والقوى المتأصلة في النفس الانسانية.
ففي المجتمع الديموقراطي، يكون الناس احرارا في التفكير بأنفسهم والاستكشاف بدوافع قوى حقيقية وليست وهمية، بما فيها الفضول والرغبة في العدالة والتكاتف والتضامن الاجتماعي.
تعديل السلوك أيضا يشكل تدميرا للرغبة الذاتية بالتعاطف والتكاتف والتضامن وضرورتها كلها لمجتمع ديموقراطي. تبين العديد من الدراسات ان الأطفال الذين آباءهم يؤمنون باستخدام المكافآت لتحفيزهم هم (الاطفال) الأقل تعاونا وسخاء من أقرانهم. كما ان أطفال الأمهات اللواتي يعتمدن التحفيز بواسطة المكافآت المادية هم أقل ميلا من غيرهم من الأطفال على الاهتمام بالآخرين او المشاركة في اداء الاعمال المنزلية.
في مجتمع ديمقراطي يكون الاطفال في حاجة الى تاريخ سلوكي من الاهتمام بهم ورعايتهم وان يُؤخذوا على مِحمل الجد ويتم احترامهم، وهو السلوك الذي يقتدون به كنموذج في المستقبل ويتبادلونه مع الآخرين, وهي كلها امور مفقودة على نحو فظيع في منطقتنا المكبلة بالعنف النفسي والجسمي ضد الكل, وبضمنهم الشريحة الاكثر ضعفا, شريحة الاطفال. وهذا يشكل بحد ذاته عائقا هائلا امام بناء مجتمع معافى وديموقراطي يحترم حقوق البشر, بما فيهم بالطبع, الاطفال.
المصادر
1. http://www.amazon.com/Beyond-Freedom-Dignity-Hackett-Classics/dp/0872206270
2. http://www.chomsky.info/articles/19711230.htm
3. http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2778813/
4. http://www.iep.utm.edu/behavior/
5. http://www.alfiekohn.org/article/punished-rewards-article/
6. http://www.jstor.org/stable/257655?seq=1#page_scan_tab_contents
7. http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/j.1467-6494.1982.tb00745.x/abstract
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟