أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - عشتاري العراقية -4-














المزيد.....

عشتاري العراقية -4-


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 4834 - 2015 / 6 / 11 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


عشتاري العراقية -4-

المرأة بحرٌ هادر
والرجل قشة

أفرزني الصمت وليل المصيف الجبلي وطولها الغافي والخمر إلى وحشةٍ بريةٍ لذيذةٍ طافحةٍ بالحيرةِ. حيرةٌ غير تلك التي لازمتني في طفولتي الشقية حينما أجد نفسي في باطنها مخذولاً مهاناً بعد صفعة من كف أبي، عمي، أو في قبو الزنزانة متسائلاً:
ـ لم يحدث لي ذلك؟.. وما الذنب الذي جنيته؟!.
هذه حيرة مختلفة تهجم عليّ من وقع أنفاسها، من تقاطعيها، من أمكنة البهجة المندثرة في أعماقي، من لذة مجاورة عشتار المتسللة من بطون الحجر.. بطون الكتب.. من غور ليل النافذة المحتلة طول الجدار المطل على الوادي. تلفتُ في حيرتي:
ـ ماذا أصنع؟!.
نهضتُ من بروكي جوارها، خطوتُ نحو الصالة، وجلبتُ كرسياً، وطاولةً صغيرةً وقنينةَ ويسكي وكأساً وصحناً ملأته بقطعِ الثلج.
ـ فمن لي سواك بحضور عشتاريَّ الغافية؟!.
رحت أرتشف الكأس تلو الكأس متأملاً غفوتها الساكنة، أدوات زينتها المنثورة على الطاولة الناصية، أحمر الشفاه، صبغ الأظافر، مسحوق الخدود، كريمات البشرة المختلفة، قنينة العطر التي رفضتُ بشدة أن تتعطر بها، فلجسدها رائحة هي مزيج من الجوري والخباز وأعشاب البر التي كنتُ أجمعها من حواف سواقي الحقول المحيطة بالمدينة، وأعصرها بقبضتّي، ثم أستنشق بعمق ضوعها الذي كان يوحدني في لحظة تنسيني كل ما يحيطني من بشرٍ، ذلك المزيج شممته من جسدها في أول عناق على سطح دار أهلي، رأيت ملامحي الظليلة في مرآة الزينة المقابلة، رجعت إليها، إلى بعثرة فستانها وقسمه الأسفل الفضفاض المكوم بين ساقيها، إلى حذائها الأسود الصغير الذي لم أنزعه. كان شكله ساحراً على قدميها المنفرجتين على الفراش الأبيض:
ـ وماذا بعد؟!.
قلتُ لنفسي وأنا أمعن بسكرين.. سكر الجسد المسفوح المحرض على الصحو.. وسكر الخمر المحرض على الحلم. لن أنسى أبداً تلك الليلة الفريدة أبداً. قمت من جلستي.. متى؟ لا أدري.. كنتُ خارج الليل والنهار والفصول. فتحتُ الحقيبة الكبيرة المركونة في زاوية الغرفة. استخرجتُ أعواد بخور وحفنة "حرمل" وأصابع شمع أصّرتْ على حملها معنا للتبرك وتكملة الطقس كما قالت ضاحكة. أشعلتُ أعواد البخور ووزعتها في الصالة. فرقعتُ بذور "الحرمل" في إناء نحاسي صغير على نار الطباخ الغازي، ورتبتُ أصابع الشمع في أركان غرفة النوم، على الأرضية وطاولة الزينة وجوار قنينة الويسكي والكأس، ثم أطفأت الأنوار، فغرق طولها في بحرٍ مرتجفٍ من النيران المتراقصة، المتموجة على بياض السرير، تراب فستانها، مهبط النهدين الحبيسين، انعكاس وجهي المذهول في مرآة الزينة. طفت سابحاً بمزيج الروائح المسكرة، رائحة البخور الهاجمة من الباب المفتوح على الصالة، رائحة الحرمل المفرقع في المطبخ منفجراً حبة.. حبة، رائحتها البرية الفائحة، عبير أنفاسها المنتشرة في نواحي روحي.. غير المصدقة بهذا الهبوط الرباني المتجسد على مسافة مترين من سهري. تعمقتْ حيرتي.. توحشت.. هاجمتني الهواجس من خلف البخور والحرمل وعطرها وأنفاسها والعتمة وأصابع الشمع والمرآة. هاجمتني مباغتة دعة حلمي السكران، فخفتُ منذُ ثاني ليلة ننام فيها كزوجيين من فقدانها.. كان المجهول في انتظارنا، والجبهة مع إيران مشتعلةً منذُ عام ولا أدري متى أُستدعى لخدمة الاحتياط. هواجس هجمت علي تلك الليلة ومشاهد أصدقائي القتلى وهم يُغسلون على دكة المغسل الأسمنتية الباردة في مقبرة النجف، عراة مشوهي الأجساد، ثم مشهد زوجاتهم الفتيات اللواتي يصرخن جوار حفرة القبر لاطمات نادبات لحظة إنزال الجسد المكفن. صراخ وحشي ظل يرنّ بمناحي نفسي لحظات شرودها. كنت أقول مع نفسي بصمت:
ـ يا إلهي.. ارحمني من هذا المصير.
أقول ذلك وأنا أتخيلها تبكي موتي. كنتُ أقول كي أطرد تلك الهواجس.. عش لحظتك يا مجنون.. عشها بكل عنفوان المرة الواحدة. وظللتُ أقبل عليها في اليوم والسرير وكأنها المرة الأخيرة في ذلك المخاض الشرس الذي عبرناه معاً. كان هاجس الفقد معي مثل ظلي، لازمني في كل الأمكنة.
كنتُ أتلظى في لهيب الحب والمخيلة والكتب والتاريخ والجسد وفكرة العدالة والمساواة واحترام الكائن البشري دون حدود، أعمقَ حالمٍ والهواجس تهجم عليّ في جلستي الحائرة، وسط الشموع وأشياء الغرفة وجسدها السادر في غفوته على سرير الفندق.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عشتاري العراقية -3-
- عشتاري العراقية -2-
- عن رحيل صديقي الروائي والكاتب المصري فؤاد قنديل
- عشتاري العراقية -1-
- ليس ثمة عدالة في العالم
- أصدقاء ورفاق التجربة 2- المستشار السياسي -ياسرالمندلاوي-
- أنت ميت يا إلهي
- درويش المحبة*
- طرف من مشهد الإعدام -رؤيا الغائب *
- نماذج مدعي الثقافة والمعارضة زمن سلطة الطوائف -الفأر -
- كوابيس التخفي زمن الدكتاتور
- الإنسان الحقيقي لا يخشى من الصدق وعرض تجاربه
- مشاهدات من زيارتي الأولى إلى العراق 2004 2- المثقف العراقي ا ...
- مشاهد من زيارتي الأولى للعراق 2004 1- المثقف العراقي الجديد
- السرد العراقي وتطوره التاريخي 2- الرواية
- السرد العراقي وتطوره التاريخي: 1- القصة القصيرة
- 2- ضد الحرب وحتى العادلة
- الطيران الأخير
- 1-ضد الحرب حتى العادلة (مشهد الزوجة العراقية عند مقتل زوجها)
- أصدقائي الأدباء 1- شاكرالأنباري


المزيد.....




- من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية -لا بريد إلى غزة- ...
- حين تتحول البراءة إلى كابوس.. الأطفال كمصدر للرعب النفسي في ...
- مصر.. الكشف عن آثار غارقة بأعماق البحر المتوسط
- كتاب -ما وراء الأغلفة- لإبراهيم زولي.. أطلس مصغر لروح القرن ...
- مصر.. إحالة بدرية طلبة إلى -مجلس تأديب- بقرار من نقابة المهن ...
- رسالة مفتوحة إلى الرئيس محمود عباس: الأزمة والمخرج!
- فيلم -صائدو شياطين الكيبوب- يحقق نجاحًا باهرًا.. ما سرّه؟
- موسيقى -تشيمورينغا-.. أنغام الثورة في زيمبابوي
- قائد الثورة الإسلامية يعزي برحيل الفنان محمود فرشجيان
- -عندما يثور البسطاء-: قراءة أنثروبولوجية تكسر احتكار السياسة ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - عشتاري العراقية -4-