أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود محمد ياسين - محمود محمد طه والماركسية















المزيد.....


محمود محمد طه والماركسية


محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)


الحوار المتمدن-العدد: 4819 - 2015 / 5 / 27 - 23:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


النقد اللانقدى
يتجه البعض عند تناول موقف الاستاذ محمود محمد طه من الماركسية الى وصمه بأنه لم يفهم الماركسية وعَزْو السبب إلى إعتماده على مؤلف ستالين ” المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية“ كونه، على حسب إعتقادهم، مُؤَلَّفاً تبسيطياً وخاطئا فى تفسير مادته. وهذا الرأى يعمد الى إغفال التناول النقدى العلمى للآثارالفكرية لمن تُناقش افكارهم (خاصة من هم فى مقام المفكرين وذوى المعارف العالية). وهكذا نحن أمام حالة تندرج فى إطار ”النقد اللانقدى“ الذى يكتفى بتفسير المظاهر السطحية للظواهر على أساس المنفعة البراقماتية ”pragmatic expediency“؛ وفى أبسط وأحط صوره، لايحمل هذا النقد موضوعاً أو فكرة ويتخذ شكل النقد من أجل النقد وإثارة المعارك في غير معترك. وهكذا فإن عدم التفكُّر والإكتفاء بتقرير أن جهل طه بالماركسية هو ما قاده لهذه أو تلك الفكرة ياتى تعبيراً لنزعة النقد اللانقدى التى تعجز عن كشف طبيعة ومحتوى افكاره؛ وحتى عندما يقرر النقاد أن فكره لا يحمل جديداً، لا يبينون حقيقة ماهية هذا الفكر الذى نفوا عنه صفة الأصلية ”originality“.

شماعة الستالينية
إذا إبتعدنا عن مصطلح "الستالينية" (الذى صاغته مراكز الفكر الغربية ”“think tanks فى ستينات القرن العشرين) وإستخدامه الازدرائى ”pejorative“ للنيل من الماركسية، نجد أن كتاب ستالين المشار اليه أعلاه عبارة عن تلخيص واضح وصحيح لأسس المادية الجدلية والمادية التاريخية كما وردت فى المؤلفات الماركسية الكلاسيكية الفلسفية وعلى وجه خاص” المادية والنقد التجريبي“ للينين؛ هذا بالإضافة لتضمُّن الكتاب لشرح ضاف للعلاقة الجدلية بين مفاهيم نمط الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج من وجهة نظر التصور المادي للتاريخ (وربما افضل شرح مبسط، لأول مرة فى ذلك الوقت، لهذه المفاهيم الثلاثة التى وردت فى مؤلفات ماركس وانجلز وخاصة ” بؤس الفلسفة“ و” لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية“ و”آنتى دوهرينج“). ومُؤَلَّف ستالين كان وما زال تقديماً مقروءاً لمحتوياته تلك، وهكذا وجده ملايين الناس فى كل قارات العالم الذين قرأوه فى ترجمات مختلفة منذ صدوره فى ثلاثينيات القرن المنصرم. كما كان الكتاب دفاعاً عن المادية الديالكتيكية التى حاولت مدرسة دوبرين الفلسفية فى روسيا فى ذلك الوقت إنكار قانونها الاساسى الاول، قانون التناقض (وحدة وصراع الضدين)، كقانون كلى ”universal“ وعوضاً عنه التحدث عن مجرد خلافات فى الظواهر وإرجاع أساس حركة الاشياء ليس بفعل صراع تناقضاتها الداخلية كعامل حاسم، بل لعوامل خارجية.

الامانة فى عرض الماركسية
إن طه لم يخطئ، بشكل عام، فى عرض المقولات الاساسية للماركسية أو يجنح لتحويرها ”misrepresentation“. فبعد أن عرض طه المقولات الاساسية للماركسية (الماركسية في الميزان، 1968)، شرع فى نقدها بطريقة ما أسماه ” حسنات وسيئات ماركس“. والمفارقة أن نقاد طه المزعومين هم من يحور الماركسية ويمارس التلبيس بقياس فهمه (طه) للماركسية بمقياس من مقولات فجة مضمنة فى كتابات لا علاقة لها بالماركسية يتغلب عليها غياب المضمون. وليس واضحاً ما هو هدف اؤلئك النقاد من إثارة مسألة إحاطة طه بالماركسية من عدمها، بمعنى كيف يكون الموقف من أفكاره حتى إذا لم يكن قد تطرق للماركسية أصلاً؛ ومهما يكن الدافع فإن إقتصار النقد على الخلل المزعوم فى معرفة طه بالماركسية يعنى الهروب من تناول طبيعة فكره من وجهة النظر الماركسية.

ما بين الدين والفلسفة
يجئ تقويم طه للماركسية بعد ان عرض مقولاتها الرئيسية من منطلق دينى كما هو معروف، فهو لم ينطلق من رؤى فلسفية (الدين ليس فلسفة). ومحور الرؤية الدينية التى نظر طه من خلالها لأفكار ماركس هى أن كل عناصر الوجود من أشياء وأفكار حدثت بإرادة إلهية، فمن وجهة نظر الحق لا يوجد غير الحق ولكن من وجهة نظر الناس فإن الباطل يكون باطل حكم وشرع؛ ولهذا فإن ماركس جاء بافكار أوحاها له الله. ومن هذا المنطلق فإن طه يرى أن أمثلة التاريخ تؤكد عمل القوانين الرئيسة التى إكتشفها ماركس بأن الحركة هى أسلوب وجود المادة وعليه فإن الوجود فى حركة مستمرة وان المجتمع فى تطور من تشكيلات إجتماعية فى مستوى ادنى الى مستوى اعلى، والنظم السياسية والثقافية هى انعكاس للواقع المادى والصراع الطبقى هو محرك التاريخ والدولة أداة للسيطرة الطبقية. ولكن سيئات ماركس،على حسب طه، نشأت من توظيفه للفلسفة فى رسم أفكاره على الصعيدين السياسى والإجتماعى لأن الفلسفة ينتجها العقل الذى مهما تعاظمت قوته التفكيرية يظل عاجزاً عن أن يأتي بشئ أكبر من العقل. فبالنسبة لطه فإن المادة سابقة للعقل البشرى فى حدود تطور الحياة ولكن كل الوجود لاحق للعقل الإلهى: فمفهوم أسبقية المادة على العقل ضرورى فى مرحلة من مراحل تطور التاريخ. وهكذا فإن ماركس يرتكب سيئة إعتبار أن مفهوم أسبقية المادة على العقل ينسحب على المستقبل الذى يتحكم فيه عقل مستعلٍ على العقل البشرى؛ ويجئ هذا الخطأ نتيجة لإستناد ماركس، فيما يخص المستقبل، على (المادية الجدلية والتاريخية) فى صياغة نظرية دكتاتورية البروليتاريا كحجر الاساس فى الإشتراكة العلمية لأن المادية تعنى أن المادة أكرم من العقل وأكرم ما فى الوجود وهذا التفضيل يجعل الجماعة أهم من الفرد وهو ما يضر بالحرية الفردية. والشكل الذى يتخذه التغول على الحرية الفردية، ديكتاتورية البروليتاريا، التى يعتبر طه إن وصف ماركس لها بديمقراطية العمال وشكل الحكم فى الإشتراكية، فيه تزييف للديمقراطية.

محور خلاصة رأى طه فى الماركسية أن ماركس إرتكز على الفلسفة مما جعله يفشل فى إدراك ما هو أسمى مقدرة من عقلانيتها فى تفسير الحياة، أى دَحْض الماركسية على أنها فلسفة محض. هنا يبرز السؤال وماذا عن الفلسفة الهيجلية التى يرمز فيها هيجل لما أسماه ب” الفكرة المطلقة“ بأنها الله. فكان هيجل يعتقد فى وجود قوة غيبية مطلقة موجودة خارج الكون منذ الازل وهى مصدر الطبيعة والمحدد لمسار التاريخ البشرى؛ فالحقب التاريخية المختلفة للإنسانية هى شكل تَكشُّف العقل فى تطور ديالكتكى متدرج الى ان يصل إلى أعلى مراحل تطوره ووعيه الذاتى بضرورة إتحاده مع الدولة والعيش فى وجود روحى مطلق. لكن السؤال لم يغب عن ذهن طه الذى أجاب عليه بأن إعتقاد هيجل فى أن الوجود هو الله (الفكرة المطلقة) هو نفس خطأ ماركس الذى أغفل أن الله أرفع من الوجود كله وبأن معرفة هيجل لله معرفة منطقية (فلسفية) وليست عن طريق العِرفان لإدراك الحقائق الدينية.

الإشتراكية العلمية نظرية تعكس الواقع (الصراع الإجتماعى)
تجنب طه تقويم مبادئ الماركسية فى إطار تعارضها مع الفلسفة التاملية. فحقيقة الماركسية هى أنها مختلفة تماما ”far cry“ عن الفلسفة التأملية؛ فماركس اخضع الفلسفة للنقد كنشاط تأملى، وقام بإكتشاف قوانين تطور المجتمع التى مكنته من صياغة الديالكتيك المادى الذى تشكل دراسة التناقضات فى الاشياء والظاهرات الإجتماعية صميم موضوعه. والديالكتيك المادى ليس إختراعاً؛ فقوانين الديالكتيك تعمل منذ الازل فى الطبيعة والمجتمع (بإستقلال عن الإنسان)، وهى، بإختصار، قوانين حركة وتطور الطبيعة والمجتمع والفكر(*). وكان إكتشاف الديالكتيك المادى الإنتصار الحاسم على الفلسفة المثالية (وخاصة فى جانبها الديالكتيكى) والمادية الآلية.

وهكذا، خلافا للمنهج التجريبى لعلم الإجتماع الذاتى وكتابة التاريخ ”historiography“ فإن الديالكتك المادى إكتشف أن تطور المجتمع البشرى يخضع لقوانين دقيقة تعمل بصورة منتظمة. وهذا الإكتشاف فتح الباب واسعاً أمام دراسة الميول المتناقضة للقوى الإجتماعية المكونة للنظم الإجتماعية-الإقتصادية فى المجتمعات البشرية: فى نشوئها وتطورها وزوالها (الزوال الدال على تبدلها لشكل أعلى). وإستقراء ومعرفة قوانين تطور المجتمع هو ما يمنح المقدرة على استكشاف إتجاهات تطورها؛ فالإكتشاف الجديد لا يرمى لإستقراء المستقبل عن طريق التنجيم والخط على الرمل. ولهذا فإن ماركس لم يتوصل الى أن الرأسمالية ستعقبها الإشتراكية بإعتبار ان ”المادة أكرم من العقل وأن هذا التفضيل يجعل االجماعة أهم من الفرد“، بل بإكتشافه أن الإشتراكية تمثل الحل للتناقض الرئيسى للراسمالية: التناقض بين رأس المال وبين العمل المأجور؛ فالرأسمالية (نظام الإنتاج السلعى) خلقت وضعاً متناقضاً بحيث أصبح الإنتاج يكتسب طبيعة إجتماعية فى مقابل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. والإشتراكية الحديثة التى ظهرت لأول مرة فى فرنسا كانت فى ”شكلها العملى والسياسى“ إنعكاساً للصراع الإجتماعى الناشئ عن التناقض المذكور، بينما كانت آنئذ فى ”شكلها النظرى“ إمتداداً للفلسفة المادية الآلية الفرنسية للقرن الثامن عشر مما جعلها تنتهى الى موقف مثالى ولجأت الى صياغة تصورات خيالية للإشتراكية؛ ولم يكن هذا التنظير التاملى إلا انعكاساً للوضع الراسمالى الذى كان فى بداياته التى لم تُمَّكِن الإشتراكية الوليدة من كشف تناقضاته ومعرفة طبيعتها.

وهكذا، فإن مبادئ الإشتراكية العلمية لماركس لم تكن صياغة علاقات متمناه لشخص حالم، بل تعبيراً نظرياً لواقع موضوعى يوجد خارج دماغ الإنسان وهو الصراع الإجتماعى فى الراسمالية، فالإشتراكية العلمية لا تدعو الى طوباوية مجتمعية تجعل ”الجماعة أهم من الفرد“ كما يعتقد طه، وقد عبر ماركس عن هذا بقوله أنه لا يبشر بتأسيس ”أورشليم الجديدة“. الإشتراكية العلمية تعنى حصريأً إزالة علاقات الانتاج الراسمالية وإبدالها بعلاقات جديدة تعبر عن الطبيعة الإجتماعية للإنتاج؛ وهذا لن تحققه الا سلطة العمال التى تستمد ضرورتها وجدواها التاريخية من أن الطبقة العاملة، التى أتاح لها تطوير القوى المنتجة الهائل الذى أحدثته الراسمالية إكتساب الوعى وجَوْدَة التنظيم خلافاً للمُستغَلين فى الحقب التاريخية السابقة (الإقطاعية، العبودية)، هى الأقدر على إلغاء علاقات الملكية الراسمالية (التعبير الحقوقى لعلاقات الانتاج الراسمالية) وهذا لأنها على حسب ماركس:

طبقة ” ذات صفة كلية لأن الآلام التى تعانيها كلية، دائرة لا تطالب باى حق خاص لان الأذى الذى تعانيه ليس خاصاً بل عاماً؛ دائرة لا تطالب بأى مركز تاريخى.....دائرة لا يمكنها ان تحرر نفسها الا اذا تحررت من دوائر المجتمع الاخرى، وبالتالى تحرير تلك الدوائر فى نفس الوقت؛ وبكلمة واحدة، طبقة يتجسد فيها الضياع الكامل للانسان وبالتالى لا تستطيع تخليص نفسها الا بالاستعادة التامة للإنسان“


العقلانية بين فلسفتين متعارضتين
لم يات طه باى تفسير لماذا تكون الماركسية ضرورية فى مرحلة من مراحل تطور التاريخ ولها مدة صلاحية (shelf life ) محددة، وما هو الأفق الزمنى لهذه المرحلة قبل تارخ الإنتهاء (expiry date)؛ وبما أن الغرض هنا ليس إثارة الجدل حول المسألة العقدية، بل التعليق على الجانب المنهجى فى تقويم طه للماركسية، نراه فى هذا الخصوص يدير ظهره للمنطق الذى وضعه بنفسه إذ إنتهى مبدأ ” السكون نسبى والحركة مطلقة“ مخنوقاً على يده. فهو قد أجهض مفهوم التطور المرتكز على قاعدة أسبقية المادة على العقل بالحكم عليه بأنه تحفة تاريخية بالية ”period piece“ وإتجه الى فصل معرفة أسرار الواقع (ماهيته، تطوره) عن طريق التجربة العملية الملموسة وحصرها على العرفان ”العلم بأسرار الحقائق الدينية“ الذى يعلو على الواقع المحسوس: أى مادية لفترة زمنية ما، ثم الإنتقال الى مستوى آخر حيث تخضع سيرورة المادة (الواقع) لمشيئة الرؤية العرفانية. ومنهج طه المعرفى يؤكد على أسبقية الفكر فهو القائل ” إن إكسير الحياة ـ هو الفكر.. الفكر الحر.. الفكر القوي، الدقيق، الذي يملك القدرة على أن يفلق الشعرة، ويملك القدرة على أن يميز بين فلقتيها.. وهذا الفكر إنما هو ثمرة العقل المسدد، المروض، المؤدب بأدب الحق، وأدب الحقيقة..“، والعقل يعطى قوة فكرية ” بها يقع التمييز بين الحلال والحرام.. وفيها أيضاً تبدأ الحاجة إلى قوة في الإرادة ....بها تقوم القدرة على فعل ما هو به مأمور، وترك ما هو عنه منهي.. وتصبح التقوى، ههنا، علماً وعملاً بمقتضى العلم.. أو قل، تصبح قوة على التمييز، ومقدرة على التنفيذ، حسب ما يمليه التمييز...“

ولكن النزول والنظر إلى أن حقائق الحياة (الشيء الذى لا يستطيع أحد أن يتجنبه!) تحدد مسارها الأفكار هو التجريد العقلانى (القديم) المستقل عن الواقع؛ وهذا التجريد المثالى حلت محله المادية التى توصلت الى أن المعرفة هى إدراك عقلى، عن طريق الممارسة العملية، لحركة المادة المنعكسة على الدماغ الإنسانى.

والإجابة على سؤال مرحلية الماركسية لا يمكن أن تتم بالتفكير النظري؛ فالديالكتيك الذى يمثل فى الماركسية المنطق ونظرية المعرفة يعتبر أن التطور التاريخى سيستمر (بشكل مطلق) على أساس صراع التناقضات داخل الاشياء والظاهرات الأجتماعية بينما العوامل المادية المحيطة بها تمثل الحاضنة التى توفر الظروف المناسبة للتطور. وحتى بعد زوال الطبقات، حيث ينتفى دور الصراع الطبقى كمحرك للتاريخ، فإن المجتمع سيخضع لتغييرات نوعية يحدد محتواها الصراع بين الإنسان والطبيعة، القديم والجديد،الصواب والخطأ، العام والخاص ،الخ. وهكذا فإن التغيير التطورى لا يأتى من خارج الواقع المادى، وأنه خلافاً للفلاسفة الذين إكتفوا بتفسير العالم ربط ماركس تغيير العالم بالمعرفة التى تتحقق بالعمل الذى يكشف حقيقة مكنونات الواقع المادى وإتجاهات تطورها وهذا ما عبر عنه بقوله إن:

” الإنسان لا يعرف العالم الا كموضوع لخبرته وإن السؤال ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية تعزى للتفكير الإنسانى ليست مسالة نظرية، بل هى قضية عملية؛ ففي النشاط العملى ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملى إنما هو قضية كلامية بحتة “

العنف مولدة التاريخ
ذكر طه أن من أخطاء ماركس هو إستخلاصه للعنف، كوسيلة تصاحب التغيير الأساسي في المجتمع، من الماضى وبالتالى لم يكن لديه خيال عن المستقبل، والمراد هنا أن وسيلة العنف تخاطب الماضي ولا تصلح للمستقبل؛ ولكن لم يقدم طه أى دليل على صحة هذا التصور غير إستشهاده ببعض الأحداث التاريخية من ضمنها ثورة أكتوبر (1964) فى السودان ضد الحكم العسكرى القائم آنذاك. والذى يجدر ذكره أنه منذ أن ذلك الوقت، الذى ورد فيه هذا الراى قبل حوالى خمسة عقود ، تفاقم العنف فى العالم حيث شهدت البشرية فى تلك الفترة تدمير دول باكملها فى منطقتنا (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، الصومال) وتشريد شعوب باسرها بإقتلاعها من أراضيها (الروهينقا، اليزيديون)، بالإضافة لمجازر الانظمة المستبدة بحق شعوبها.

أخرج ماركس موضوع العنف من مضمار التصورات الذاتية وقدمه فى إطار مفاهيمى يضعه كجزء من النشاط السياسى. .....إنطلق ماركس من أن المضامين التى تنطوى عليها الحقب التاريخية لا يصنعها العنف إذ أن المُحدد لتطور الأنظمة الإجتماعية/الإقتصادية هو قوى الإنتاج (وسائل الإنتاج، التكنولوجيا، القوى العاملة،الخ.)؛ فصعود المجتمعات من حدود دنيا لمستويات أعلى لا تحدده علاقات الإنتاج ولا عوامل ذاتية وثقافية ترجع لرغبات الناس أو مهاراتهم وخبراتهم الإدارية أو معتقداتهم الشخصية. كل هذه العناصر وغيرها لها تاثير ما على عملية التطور ولكن قوى الإنتاج لها اليد الطولى فى هذا الخصوص ( طاحونة الهواء أعطت الإقطاعية.....الطاحونة البخارية أعطت الراسمالية). ومِثل العوامل السابق ذكرها فإن العنف لا يُحدِث التطور؛ العنف لم يخلق علاقات الإنتاج الإقطاعية والملكية الخاصة الرأسمالية، فالملكية الخاصة لم تتحقق بالعنف؛ فمثلاً قوى الإنتاج الراسمالية تاريخياً نشات فى أوربا داخل النظام الإقطاعى آخذة إنطلاقها من راس المال التجارى الذى ساعد التعامل مع الاراضى الجديدة المكتشفة فى القرن الخامس عشر وإتساع معاملات الربا على نموئه بمعدلات كبيرة (لم يكن نشوء الراسمالية يعزى للأخلاق البروتستانتية كما زعم السوسيولوجى الشهيرماكس فيبر)؛ ولكن ظلت الدوائر الراسمالية الوليدة غير قادرة على التطور نتيجة للحاجز الذى فرضته عليها علاقات الإنتاج الإقطاعية البالية. ولكى تنفك قوى الإنتاج الراسمالية من قيدها وينفتح الطريق أمام صعودها، كان لابد من القضاء على النظام الإقطاعى بشكل عنيف لانه لم يكن متوقعاً تخلى النبلاء الإقطاعيين عن ملكياتهم طوعاً. وعليه فإن العنف هو القابلة ” لأى مجتمع قديم يحمل في احشائه وضعاً جديداً“، وهذا يعنى إنه عندما يكتمل نموء الجنين ويحدث الطلق لا بد من القابلة التى تجرى الولادة. ويجب التشديد هنا على أن عملية تحرير القوى المنتجة لا ينظر لها من منظور إقتصادوى لأنها فى الاساس ثورة إجتماعية سياسية هدفها إستبدال علاقات الإنتاج القديمة بأخرى جديدة؛ فالسياسة هى التعبير المُرَكَّز عن الإقتصاد، وفقط فى لحظة ولادة النظام الجديد تصبح علاقات الإنتاج هى العامل الحاسم فى عملية التطور.

وبعد، هل يعقل أن تكون مرجعية إنتفاء العنف فى مسار التطور السياسى للعالم هى الإنتفاضة المحلية التى حدثت فى السودان فى أكتوبر (1964)؛ إن محاولة إستنتاج فكرة سلمية التغيير من هذه التجربة لا تدعمه الحقائق؛ فالثورة هى التغيير الجذرى المتمثل فى إحلال جهاز الدولة القديم بجديد وهذا ما لم يحدث فى هذه الحالة. فالوصف العلمى لما جرى فى أكتوبر فى السودان هو أنها إنتفاضة عفوية أجبر زخمها القوى الإجتماعية التقليدية إعادة ترتيب أوضاع السلطة السياسية بحيث لا تخرج من قبضتهم. والرسالة التى وجهها النظام القديم للمتظاهرين، بخصوص عزمه التشبث بالسلطة، كانت بالرصاص الحى فى الاسبوع الأول من الإنتفاضة فى حادثة ساحة القصر التى شهدت مصرع عدد كبير من بين الستين ألف متظاهر الذين زحفوا فى الخرطوم نحو مقر راس الحكم لإسقاط نظامه العسكرى؛ وهُزمت الإنتفاضة تماماً عندما واجهت الاحزاب الطائفية، بالعداء الصارخ، تحركات الشعب المتسمة بالاصرار على المضى قدماً حتى التصفية الكاملة للنظام القديم وتحقيق مطالبها فى الديمقراطية السياسية والعدالة الإقتصادية.

إن دروس التاريخ السياسى للعالم تشهد على أن الهزات العنيفة كانت العامل الأساسى فى حسم الصراعات السياسية التى تقف وراءها تناقضات مجتمعية حادة والسمة التى صاحبت التغييرات الجذرية فى مجال الإنتقال النوعى من تشكيلة إجتماعية/إقتصادية لأخرى مثلما حدث فى الثورة الفرنسية أوالمنعطفات الهامة فى التاريخ (crucial turning-points) كالحرب الاهلية الأمريكية للحفاظ على الإتحاد الامريكى وإلغاء العبودية والتمييز ضد السود. وقد لخص المنظر العسكرى كارل فون كلوزويتز مفهوم الحرب فى مقولته المشهورة : الحرب استمرار للسياسة بوسائل اخري.

ليس هناك دليل على أن التعارض بين العنف (الهجومى) كتوجه تقوم به الدول الإمبريالية لإحكام سيطرتها على العالم ومقاومة الشعوب (الدفاعية) لحماية إستقلال أوطانها قد حُسم لصالح التنافس السلمى مستقبلاً. إن العنف ( وبالطبع لا نعنى بالعنف ممارسات دعاة الحرب ” warmongering“) يكتسب أبعاداً متسعة بإستمرار تفرضها رغبة الدول الكبرى فى نقل الأزمات الإقتصادية والمالية، التى تعانى منها منذ سبعينات القرن الماضى، الى الدول الطرفية (الاقل نموء)، المُرْتَهَنة بالديون، كملاجىء (havens) لنهب ثرواتها وكسب الأرباح بطرق أسهل عن طريق إستنزاف مواردها من المنتجات الأولية، والعمالة ذات الأجور المنخفضة.
حركات الاسلام السياسى: صفات فكرية مشتركة
نختتم بالإشارة الى أن إعتقاد طه فى عدم قابلية منهج سحب قوانين تطور المجتمعات على المستقبل وأن الحل يكمن فى التحليق فوق معطيات الواقع الحسى، ما هو الا تشيد القصور على الرمال؛ ففيما يتعلق بالعمل السياسى فإنه فى حال إدعاء القائمين عليه استمداد مقوماته من خارج التوصيف العقلى العلمى للواقع سينتهى الى خلطة من البرقماتية والتجريبية فجة تبتذله وتقوده الى المواقف الخاطئة. وهكذا فإن نظرة طه السياسية تدعو لمزج التدين بثقافة الحريات السياسية والمساواة والديمقراطية الإقتصادية كمفاهيم مجردة. لكن هذه المبادئ المجردة التى لم يُنظر اليها فى سياقاتها الاجتماعية بسبب إهمال الشروط التاريخية لتحقيقها، تلتقى فى نهاية الأمر مع تيارات الاسلام السياسى المختلفة (وإن كانت لا تغطيها القشرة الصدئة لمعظم تلك التيارات) فى إفراغ التطور من أى محتوى إجتماعى ونفى التاريخية عنه وأن الحقيقة الموضوعية يدركها التامل وحل التناقضات بين القوى الإجتماعية المتضاربة مصالحها الإقتصادية بالتعايش الإختيارى للأطراف المتناقضة؛ كما هى نفس الافكار التى ترمى الى المحافظة على نظام إقتصاد رأسمالية السوق الحر ناقصاً كل مساوئه التى يمكن التغلب عليها بالموجهات الأخلاقية التى تعظ الناس بتذكيرهم أن الملكية الخاصة لا يصح أن تستخدم فى إستغلال الإنسان لاخيه الإنسان .......ولكن الملكية الخاصة فى حد ذاتها أداة للإستغلال، فهى قائمة على قانون طبيعى للرأسمالية وهو إستخلاص فائض القيمة من العمل المأجور؛ وهذا القانون يسرى كذلك فى حالة ملكية الدولة للاصول الإقتصادية فى النظام الرأسمالى (رأسمالية الدولة). وهكذا فإن الإستغلال لا يتم فى مجرى التوزيع بل عند عملية الإنتاج التى يحقق فيها العمل المأجور فائض القيمة.

هامش
(*) القوانين التى تعمل فى الطبيعة قوانين إنبثقت من طبيعة المادة وبفعل الضرورة والصدفة (المثاليون لا يؤمنون فى الصدفة!) خلال حركة أزلية؛ وهذا ينطبق على قوانين تطور المجتمع الطبيعية التى تتغير بوتيرة اسرع من قوانين الطبيعة؛ كما أن الضرورة فى الطبيعة تعمل بصورة عمياء ولكن بالنسبة للمجتمع فإن الإرادة الإنسانية قادرة على معرفة قوانين المجتمع الطبيعية وإستخدامها لمصلحة أهدافه، والضرورة المرتبطة بهذه القوانين لا تكون عمياء إلا إذا لم تفهم.



#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)       Mahmoud_Yassin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سد النهضة: غموض الإتفاق الإطاري....بؤس الدراسات (2-2)
- الدبلوماسية السودانية وعاصفة الحزم
- سد النهضة: غموض الإتفاق الإطاري....بؤس الدراسات (1-2)
- السودنة فى إطار كلى
- حسني مبارك لم يحاكم على الجرائم الكبرى
- ماذا لو رفعت داعش راياتها فوق البيت الأبيض الأمريكى؟
- ميزورى: الوجه الآخر لمظالم السود فى أمريكا
- سد النهضة الإثيوبى: الغموض وانعدام الشفافية
- مصر: المعادلة السياسية..الملاءة المالية..سيادة السودان
- يسار تحت حذاء عبد الفتاح السيسى!
- فى ذكرى أول مايو: التناقض بين رأس المال و العمل فى أمريكا
- أوكرانيا: النفاق الامريكى ومطامع القياصرة الجدد
- دولة جنوب السودان: الملهاة والمأساة
- الطرابيلي والحسينى ومغزى عبارة هيكل
- خواطر حول معوقات الديمقراطية الليبرالية فى العام السابق
- السودان دولة يحكمها دستور عرفى دائم!
- مانديلا : مكانته فى السياق التاريخى للثورة فى جنوب أفريقيا
- سد النهضة: نذير الفوضى فى التعامل مع مياه النيل
- رواية مزرعة الحيوان وحقيقة أورويل كمُخبر معاد للاشتراكية (3)
- حول الديمقراطية(4-4) مفهوم الديمقراطية الجديدة وراهنيتها


المزيد.....




- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود محمد ياسين - محمود محمد طه والماركسية