|
الثورة والكتابة وحرية التعبير*
علا شيب الدين
الحوار المتمدن-العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 16:41
المحور:
الصحافة والاعلام
النص باعتباره تظاهرة
شاءت الأقدار أن أكون في محافَظة محافِظة في غالبيتها، تخشى التجديد، ولم تثر. وعلى الرغم من أني شاركتُ وغيري في الحراك الثائر السلمي بالسويداء، الذي كان بمثابة خرْق للجمود السائد، إلا أن افتقار الحراك إلى حاضنة اجتماعية، وتقطّعه، إذ كانت تمرّ أحياناً أشهر بين التظاهرة والأخرى، وكانت تُقمَع بسرعة من قِبل الأجهزة الأمنية و"الشبيحة". ذلك كله وغيره مما ليس هنا مجال التفصيل فيه، كان عثرة تحول دون قول ما ينبغي قوله، خصوصاً بعد انحسار الحراك الثائر شيئاً فشيئاً، بسبب الانهماك في العمل الإغاثي، بعدما بدأت حركة النزوح إلى المحافظة تنشط في منتصف عام2012 نتيجة تفاقم همجية الآلة الحربية للنظام. لذا، وجدت الرغبة في التظاهر التي لم تُشبَع في الشارع، طريقاً آخر بالنسبة إليّ، يمكن أن تُشبَع من خلاله، أي طريق الكتابة. فصار التظاهر في شوارع النص - إن جاز التعبير- كأنه ترجمة للغة الجسد الثائر في الشارع الحي. حتى لحظة كتابة هذه السطور، لاتزال أصوات القصف على الجارة والشقيقة درعا تتناهى إلى الأسماع. وثمة شعور بالعجز المطلق ينهش الروح، ناجم عن التفكير، مع كل مرة تُسمَع فيها أصوات القصف، في أن طفلاً مات هنا، وامرأة ومسنِّاً هناك، وأن بيتاً احترق، ومدرسة تهدَّمت، وحقولاً صفراء باتت سوداء. يضنيك أنك غير قادر على فعل شيء، فتراك مستلاً القلم، ذاهباً إلى أقاصي الورق، متظاهراً، ساخطاً، ثائراً. سخطٌ يؤجّجه أكثر، التفكير في بشاعة الفكرة التي تقوِّض وجودك الإنساني والأخلاقي، حين تجعل منك مجرد "أقلّوي محميّ"، في قبالة أخوة لك في الوطن، يُقتلون يومياً ويُذبحون، يُسمّون "أكثرية"! فتراك تهرع مجدداً إلى الورق، لتعلن براءتك من "أقلويتك"، وانعتاقك من ضيق الطائفة والجماعة والمنطقة، وانتماءك إلى فضاءات سوريتك وإنسانيتك. **** في أحد مساءات أيلول 2011، راسلني أحدهم، راغباً في أن يطلعني على إحدى مقالاته. قرأتُها، ثم اعترضتُ حينذاك على سطر وردَ في متنها، مفاده أن الشعب يريد "الإصلاح"، فكتبتُ للكاتب الذي كنتُ أعرف أنه مع الثورة:"لكن النظام لا يريد الإصلاح، والشعب يريد إسقاط النظام"، فسوَّغ لذلك بوجوده في الداخل، واضطراره لخفض السقف. مرّت أشهر، غاب فيها ذلك الشخص وانقطعت أخباره، قبل أن أقرأ، ذات يوم محموم، في إحدى صفحات الـ"فايس بوك"، خبر وفاته رحمه الله، تحت التعذيب في أحد فروع الاستخبارات. مادمنا فقط سنموت، "حريّ بالحياة أن تكون لنا ونموت/ حريّ بها أن نكون لها وتموت". ربما يكون هذا المقطع الشِّعري من "توهّجات لمنحوتة الموت"، إحدى قصائد ديوان "خطيئة الرمّان" للشاعرة الراحلة وفاء شيب الدين، أنسب ما يمكن أن يُقال هنا. قد لا يجانب الصواب، الرأي الذي يعتبر أن النص الأهم في زمن الثورة، أي في زمن الوضوح في أبهى تجلياته، هو ذاك الذي يكون بمثابة تظاهرة شعبية، ترفع شعار الحرية، وتطالب بإسقاط نظام الاستبداد ورأسه. "إن شيئاً لا يمكن أن يصيبني أنا"، مراراً ردّدتُ في داخلي ما يشبه هذه العبارة التي قالها هانز، ممهِّد الطرق، بطل الكاتب المسرحي النمساوي إنزنغروبر. إن الإيمان بأن شيئاً لن يصيبنا، ربما يكون مفيداً، على المستوى النفسي، في أزمنة الحرب والموت، للخلاص من رعب التفكير في القمع الوحشي الذي قد يطالنا مثلما طال غيرنا، ودافعاً، من ثم، للثورة وللكتابة عنها من "داخل الوطن"، بسقف لائق بعظَمة التضحيات والأحلام. ما كنتُ لأخوض في الشخصيّ، لولا ظنّي أنه جزء خاص من كلٍّ عام. فقد تكون فاعلية التجارب الشخصية أهم مما تفعله موضوعية ملتبسة أو عابرة، وما ذُكر آنفاً، كان على ما يبدو، جانباً من الأصل النفسي الذي قد يكون مفيداً الرجوع إليه في أثناء الحديث عن الكتابة كعَود إلى الذات، أو رصدها في علاقتها الحميمة مع الفكرة، ومع ثورةٍ ربما تتقاطع معها الذات في الوحدة واليُتم. فالثورة، أعادت تنشيط الأصول، وضاعفَت غبطة الإعجاب، أو قل الانبهار. إذ عودة التظاهرات العابقة بالحياة، بعد كل مذبحة أو مجزرة، كانت دافعاً إلى تنشيط أصل الثورة في أعماق الذات، وإلى تأجيج وعي جديد، ومخيال جديد، ولغة جديدة، وهذا كله يفضي إلى ولادة نص ثوري جديد تتداخل فيه العناصر الرمزية والتأملية مع العناصر التاريخية، ومثلما كتب الثائرون تاريخاً جديداً بالدم، تُكتب "النصوص المتظاهِرة" باللغة والروح الثائرتين.
ثورة الحرية
"ثورة الحرية/ أفكار وتأملات في المعنى والمغزى" هو عنوان كتابٍ لا يزال في الأدراج حتى الآن. حاولتُ فيه مقاربة الثورة، مقاربة فكرية نقدية فلسفية تأملية، سيكولوجية. بدأتُه بتحليل لغوي لشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، تلك العبارة الخالية من الجوهريّة الميتافيزيقيّة، فهي إذ تنطلق من مفردة (الشعب) كدالّ لا ينفصل عن مَدْلولاته المفعمة بالنبض والمعنى، تؤكّد الصّيرورة كوجود وعدم في آن واحد. في الكتاب ذاته، ثمة تأمّل في مفاهيم عدة، تغيّرت مع اندلاع ثورات "الربيع العربي"، كمفهوم "الشارع" الذي كشفت الثورات ما يثوي تحته من مغالطات، إذ طويلاً أُترِعَ في أذهان الناس، بمعاني الرعاعيّة والعواميّة وازدراء الآداب العامة ومبادىء الأخلاق. غير أنّ الثورات ولّدت مفهوماً جديداً للشارع. فمنه انطلقت صيحات مطالبة بأنبل القيم الإنسانية، وعبره بدأت رحلة هدّ أصنام الاستبداد. إنّه الشارع بمفهومه الجديد إذاً، بوَّابة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحق والقانون المأمولة. أما "الجامع" في مفهومه المرتبط بالثورة، فقد بات كأنه متّصل بالجسد بمقدار اتصاله بالروح، وربما لم يعد مكاناً للتعبّد يتغرّب فيه الشخص عن حياته اليوميّة وهمومه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لصالح السماء؛ لذا، ربما هناك ما يسمح بالحديث عن "جدل الداخل والخارج"، فالدخول إلى الجامع وقد تحرَّر من "المأسسة"، بعد خرقِ السطوة الاستبداديّة/ الأمنيّة التي لوّثت جوانب الحياة الإنسانيّة كافة في سوريا، بما فيها الجانب الدينيّ، صار يعني تفتّحاً للروح، وإطلالة المرء على نفسه وعلى العالم، فتغدو مهمّة الجامع، مهمة أنطولوجيّة يصبح المرء معها ممتلئاً بإيمان حقيقيّ صادق، بعدما كان مجرَّد إطار خاوٍ، ويعاني أزمة روحيّة. إذ ثقافة الاستبداد هي ثقافة " أُطُر"، وشعارات فارغة، مثلما هي ثقافة دين مسيَّس، وإيمان مسيَّس يعتقل الروح. في داخل "الجامع الثائِر" سوف يتمّ تحضير القاع الحميم لدى الداخل إليه، ما يعني عودة المرء إلى ذاك السلام الداخليّ الذي يُحيي تواصل المؤمن مع ربِّه على أساسٍ من الحبّ ينتفي فيه الخوف، كما تنتفي فيه المصلحة والنفعيّة التي تشوّه العلاقة الإيمانيّة الروحانيّة الخالصة مع الله. لعلّ الشعار الذي ردَّده المتظاهرون السوريون مراراً "هي لله هي لله/ لا للسلطة ولا للجاه"، هو شعار تبدّت فيه تلك الروحيّة المنعتقة من النفعيّة، كونه شعاراً يُفصِح عن جانب مشبع بروح صوفيّة لديهم(1). في سياق التحليل اللغوي المشار إليه نفسه، ثمة محاولة لتفكيك العديد من شعارات الثورة السورية، مثل "سوريا لينا وما هي لبيت الأسد"، "الله سوريا حرية وبس" وغيرها من الشعارات التي أحدثت أخطر أنواع القطيعة مع السلطة، أي القطيعة اللغوية. ليبدأ، من ثم، الفرز بين الحقيقي والزائف في اللغة، كما لو أنّ الفعل الثوري الجليّ، لا يلد إبداعاً يكرِّسه المجتمع، إلا عندما ينجح في تبديد الترسُّب اللغوي لديمومةٍ ظلَّت حتى لحظة اندلاع الثورة من دون دلالة. إضافة إلى التفكّر في "الحرب اللغوية" التي شُنَّت على الثورة السورية التي ما انفكت تُرشَق منذ اندلاعها بالمصطلحات والتسميات. تارة هي "حرب أهلية"، طوراً "حرب طائفية"، أو"مؤامرة خارجية"، وحين يُعترَف بها كثورة، سرعان ما تصير "ثورة إسلامية"، ومراراً هي "صراع ونزاع"، ومراراً أخرى هي "أزمة"، وربما هي كل شيء، إلا أن تكون "ثورة شعبية"، بالنسبة إلى مَن يمقتها ويخشاها. وإذ يتم التفكر في الثورة السورية من منظور جمالي، تبدو كأنها سعي من أجل انتصار الجمال والروعة على الشرّ والابتذال والقبح. ولعل انضواء التنوّع في الثقافة، والعلم، والدين، والطائفة، والقومية، والمنطقة، والعمر، والجنس، والعمل، والطبقة الاجتماعية داخل وحدة كلية هي ثورة شعبية، كان مصدر جمال الثورة من حيث هو انسجام. فجمالية الانسجام هنا تبدّت في وحدة المتنوِّع والمتناقِض (تيمّناً برؤية هيغل للانسجام). يُضاف إلى ذلك، التناغم بين حركة الفرد/الثائر كجزء كان على مرّ عقود ساكناً راكداً، وحركة الثورة ككلّ. مع انسجام الحركة بين الجزء والكل، غدت العلاقة بين الثائر والثورة حافزاً لإقامة علاقة جمالية بين الفرد وذاته، وبين الفرد ومجتمعه، وبينه وبين مثله الأعلى. إن الجمال هنا، وقد أصبح مع الثورة "حياة"، يكاد يقترب من الجمال في "الفن"، من حيث التوافق والانسجام. إذ الجمال وليد التوافق بين ما ينبغي أن تكون عليه الأشياء ووجودها الواقعي؛ فالثورة السورية جميلة بمقدار ما أفصحت عن انسجام أحاط بالزخم الشعبي الشائك والمتنوِّع. انسجام تبدّى في وحدة الشعارات والهتافات، ووحدة الأغنيات والألحان والرقص والتصفيق في التظاهرات، ووحدة إيقاع الجسد والروح شمل أرجاء البلاد كافة . وهذا ما وجد تعبيراً عنه بين الشكل والمحتوى في الثورة.(2)
إن الكلمة الثائرة، الكاشفة، الناقدة، باعتبارها حرية، قد لا تدوم سوى لحظة، لكن هذه اللحظة من أكثر لحظات التاريخ جلاء، خصوصاً أنها قد تحرّض على التفكّر في بعض المفاهيم، وتعيد بعضها إلى نصابه، وتساهم في نحت بعضها الآخر. وعليه، فإن تجربة الكتابة، ساعدت في تبديد الكثير من الأوهام. فالكتابة- سواء كانت بالدم أو بالقلم- أثبتت أن الثورة ليست موضوع برهان، بل هي تصنع البرهان، وتجعل منه التجلّي المباشر للأنا الثائرة. ويبدو أنه كلما زادت الأنا الثائرة واقعية، زادت ضرورة الاعتراف لها بصفات، وكلما زاد الاعتراف للأنا الثائرة بصفات، زادت ضرورة منحها الوجود، ووضح أكثر وهم "النخبة". لقد تهاوى الوهم الذي ظل ردحاً طويلاً من الزمن، يلازم التصورات حول "النخبة" و"الأسماء المعروفة"، كـ"نماذج" يجب أن تُحتذى، ثم تبيّن بعد اندلاع الثورة، كم كانت التصورات مغلوطة، خصوصاً بعدما عادى الحرية بعض "كبار" المنظِّرين لها، ليكشفوا بذلك عن وجه طائفي لا إنساني، إذ كانوا على المستوى السلوكي، حرّاساً للنظام المستبد الطائفي في سوريا. إن عالم القابعين في العتمة قد يكون الأكثر خصوبة وثراء من عالم "المُضائين". هذا بعض ما يمكن تعلُّمه من ثورة الحرية. سمحت التجربة الخاصة بالكتابة في زمن الثورة، بدخول الأنا، بمعنى ما، في علاقة جدلية مع الآخر الذي لم يكن معروفاً للأنا من قبل. وبشدّ الانتباه إلى إشكاليات من مثل الدولة المدنية والدولة الدينية، السلمية والعسكرة، مفهوم السلطة ومفهوم الشعب، مفهوم الحوار ومفهوم الأيديولوجية، الرأي والرأي الآخر، التفاؤل والتشاؤم، المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، إلى آخر ما هنالك من إشكاليات طفت على السطح بعد اندلاع الثورة، وبرزت معها الحاجة إلى إعادة قراءة الأشياء في ضوء مناقشتها.
حرية التعبير
كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، بمثابة " اللوغوس". أفرج عن المسجون في اللاوعي الخاص بالشعوب الثائرة. كانت الكلمة في البدء إذاً، (في البدء كان الكلمة)، وظلت، على الرغم من كل شيء، كائنة في الوسط، وأزعم أن النهاية لن تكون في منأى عن البداية. فإن كنّا لا نشكّ في أهمية ما حدث على أرض الواقع، واقع العالم العربي، فإننا لا نشكّ في أن ما حدث على أرض العقل - إن جاز التعبير- أهم. فالكلمة من حيث هي عزيمة خلق وإبداع، إذ تفصح عن إرادة شعبيّة، كمجموعة إرادات كانت مكبَّلة وعتقت نفسها بنفسها؛ تنتقل بالشعب من حيث هو شِعَاب، أو "فروع"، إلى مركز ضدّ مركز، وبنية ضدّ بنية. إنه مركز يبدّد المركز وبنية تخلخل البنية من الداخل عبر إرادة الإسقاط أولاً، ثم إرادة البناء تالياً. فالبناء الذي كان شاهقاً صار أدنى، والعلوّ المركّب الصّلب المتكتّل صار ذائباً سائلاً، والسّرّ الذي طالما انطوى عليه البناء زمناً طويلاً صار علناً، وربما يكون ذلك لحظة أولى في زمن تنوير عربي جديد مُقبِل(3). حطمت الثورة السورية، كإحدى ثورات "الربيع العربي"، القيد الذي كان مفروضاً على الكلمة، وطوَّرت أنموذجاً لغوياً خاصاً، تجلى في مفردات الثائرين وتعبيراتهم. بدءاً بالتعبيرات التي تبدَّت في لغة الشعارات ولغة الجسد في الشوارع والساحات والأزقة الثائرة، وليس انتهاء بعالم افتراضيّ محوره الكلمة. وكانت "التنسيقيات الميدانية"، وتحوُّل بعض الشباب إلى "صحافيين ميدانيين"، ينقلون للعالم ما يجري على الأرض السوريَّة، بواسطة كاميرات هواتف محمولة، توثّق الأحداث في ظل غياب الإعلام المستقل، أمثلة تشي بقدرة الإرادة الحرة على مواجهة التحديات. خصوصاً أن الكثير من الناشطين الإعلاميين، أو المصورين الميدانيين، قد استشهدوا، دافعين بذلك حيواتهم ثمناً للكلمة الحرة، ولإيصال الحقيقة للناس. وهناك مواقع التواصل الاجتماعي، إذ ضجّ الـ"فايس بوك" بصفحات الثورة كالتنسيقيات وغيرها التي أصبحت منابر يُتداوَل فيها مختلف الآراء، ناهيك بالصفحات الشخصية، فالثورة جعلت الجميع معنيّ بالشأن العام بشكل أو بآخر. يضاف إلى ذلك، العديد من الإذاعات، والمواقع الالكترونية، وعشرات الجرائد المطبوعة التي أُنشئت في ظل الثورة. لقد ساهم ذلك كله وغيره في خلخلة الاستبداد، وفي تحدّي إعلام يحتكره نظام عائلي، طائفي، عسكري، أمني، يتبنّى رأياً واحداً، ونهجاً واحداً، وموقفاً واحداً من كل شيء. بيد أن تنامي حرية التعبير، لا يعني أن مظاهر قمْع الحريات قد اختفت، إذ لايزال الإقصاء موجوداً، ولانزال نسمع عن استهداف ناشطين سلميين مثلاً، أو اعتقال أشخاص لأنهم نقدوا شيئاً ما في الثورة عبر مقال، وعن حالات مُنِع فيها التظاهر، وغير ذلك مما ينتقص من حرية التعبير في المناطق السورية المحرَّرة. ناهيك بالمهاترات التي تطال الشخوص لا النصوص، وتتعمّد التشهير بدلاً من النقد، في بعض صفحات الثورة ومواقعها. وما الصراعات التي ما انفكت تدور بين "النُّخَب" السياسية المعارضة، لعل أخطرها الصراع الأيديولوجي، والصراع على السلطة والمنصب. إضافة إلى قلة الشفافية، والانفصال عن الواقع واتساع الفجوة بين المعارضة التقليدية والثائرين على الأرض. ما ذلك كله وغيره، إلا أمثلة تنذر بمستقبل قد تكون فيه حرية التعبير والتفكير مهدَّدة، وقد يتخلّص السوريون من شكل استبداد، ليكونوا في مواجهة طراز آخر من الاستبداد. لا بدّ هنا من التنبّه إلى خطورة الحنين المَرَضي إلى الماضي الذي قد يفضي إلى ما يمكن وصفه بـ"اكتئاب ما بعد الخلاص من النظام السياسي القديم"، بدلاً من مواصلة النضال ضد الاستبداد في أشكاله كافة. عاش السوريون مرارات الاستبداد والتسلط، وكانوا صاغرين، لكن بعد اختبار الحرية في الثورة، بات من الصعوبة البالغة، القبول بما يناقضها. ولمّا كان صحيحاً أن الاستبداد عصيّاً على الاختفاء في مرحلة قصيرة من الزمن، خصوصاً أن في داخل كل فرد منّا ثمة كائناً مستبداً متخفّياً. فالصحيح أيضاً، أن الناس، في غالبيتهم، متعطشون إلى الديمقراطية، وإلى الحياة المدنية والمشاركة السياسية. إن استمرار الحراك الثائر المدني السلمي في الرقة مثلاً وعامودا وحلب وغيرها من المدن والبلدات التي تحرَّرت من نظام الأسد، ضد "القامعين الجدد للحريات"، مثال قد يدلل على التعطّش المذكور. ينسحب هذا أيضاً على الحريات الإعلامية والصحافية. إن تحدّيات المستقبل ليست "قوى مفارِقة" تقبع خارج مَن يناضل الآن من أجل حياة لائقة بالكرامة الإنسانية، فالثورة مسار..
هوامش:
* كُتِبَت هذه الورقة في حزيران2013، بناءً على دعوة وُجِّهت إليّ من أحد الزملاء الكتّاب الصحافيين السوريين المقيمين في لبنان، والعاملين في مؤسسة "سمير قصير". الدعوة نفسها وُجِّهت إلى العديد من الكتّاب والكاتبات السوريين والسوريات، من أجل إبداء آرائهم في ما يخصّ حرية الرأي والكتابة، ومن أجل الحديث عن تجاربهم الخاصة في الكتابة عن الثورة السورية. 1- حكاية جامع ثائر- صحيفة النهار اللبنانية – علا شيب الدين 30/3/2013 2- الثورة السورية والقيمة الجمالية – الصحيفة نفسها- علا شيب الدين – 16/3/2013 3- انتفاضة اللغة أم لغة الانتفاضة؟(ملف انتفاضات العالم العربي) - موقع الأوان – علا شيب الدين 5/5/2011
كاتبة سوريّة
#علا_شيب_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملفٌّ أُغلقَ ويُعاد فتحُه
-
لن نبتسم في وجه الجريمة
-
مفارَقتان
-
الثورة السورية و - المجتمع المدني -
-
النظام السوري.. من -العصابات المسلحة- إلى -القاعدة-..!
-
السلطة السورية: بين خطّين متوازيين
-
انتفاضة اللّغة..أم لغة الانتفاضة؟!
-
الأصنام..إذ يحطّمها الوعي
المزيد.....
-
أردوغان يعلن عن -اتفاق تاريخي- بين الصومال وإثيوبيا: -اتفقا
...
-
أغذية تساهم في تسريع الشيخوخة
-
كيف تؤثر مهارات القراءة على دماغنا؟
-
زائر بينجمي غامض ربما غير مدارات نظامنا الشمسي
-
إسرائيل بدأت بتقسيم سوريا
-
أوستن لنظيره الإسرائيلي: ندعم عملية انتقال سياسي سلمية وشامل
...
-
أدونيس يدعو إلى -عدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي- في سوري
...
-
الجيش الإسرائيلي يبدأ الانسحاب من جنوب لبنان ضمن اتفاق وقف إ
...
-
محاكمة علي كوشيب أمام الجنائية الدولية تدخل مرحلتها النهائية
...
-
استهداف حراس المساعدات في غزة ومجزرة بمخيم النصيرات
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|