أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علا شيب الدين - لن نبتسم في وجه الجريمة















المزيد.....

لن نبتسم في وجه الجريمة


علا شيب الدين

الحوار المتمدن-العدد: 4603 - 2014 / 10 / 14 - 13:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1


في شريط الفيديو المصوَّر في لبنان، الذي ذاع صيته خلال تموز الماضي، يا ترى في حق مَن تُقترَف الجريمة؟ خالد، الصبي الذي يُضرَب، والذي تكشف لهجته عن كونه سوريّاً؟ عبّاس، الطفل اللبناني الضارب بإيعاز من ذويه خلف الكاميرا حسبما رُجِّح؟ المشاهِد أينما كان ومهما كانت معتقداته؟ الإنسان في ذاته أو الأخلاق في ذاتها؟ أم أن الجريمة تنهال على ذلك كله؟ ثم، إلى أين نحن سائرون؟

ربما تنتمي الأسئلة هذه، التي قد يستبد فيها اليأس بالأمل والرجاء، إلى أسئلة تلحّ على الروح قبل إلحاحها على العقل المنطقي، الروح الآخذ في الانطفاء والاختفاء جرّاء المضيّ في اختزال وجود الإنسان الفرد في هذه المنطقة من العالم إلى محض شيء.
في جميع أحوال القتل والاعتداء والاستباحة، يتحول الآخر إلى شيء. في "استخدام" طفل لكي يضرب طفلاً مثله، ثمة تشييء لكليهما. فالطفل الضارب هنا، يُستعمل من جهة ذويه كـ"أداة" من شأنها إيقاع الأذى بـ"شيء" لا "آخَر" يجب الاعتراف بغيريته. هو شيء لا يتألم، لا يحس، لا يشعر، لا يفكر. أكثر من ذلك، ليس لديه كرامة أو خصوصية أو ذات فردية. تالياً، لا ضير في جرح كبريائه وتصويره وهو يُضرب ويهان، ثم "عرضه" على الملأ لكي يكون موضوعاً للتسلية أو الفرجة أو السخرية. يبدو هذا جلياً في تعمّد إظهار الطفل المضروب بوضوح أمام الكاميرا، والحرص على إخفاء وجه الطفل الضارب، عبر تصويره من الخلف، ما يعني أن الأول مباح ومتاح ومنتهك الذات والخصوصية، بينما يختلف الأمر في شأن الثاني، في بيئة اجتماعية ينخرها التحيّز والمحاباة الشخصية والثقافية والطائفية والسياسية.

ماذا جنى هذان الطفلان وغيرهما الكثير مما ندري بهم وعنهم ولا ندري، لكي يُدفَع بهم إلى العذابات؟ لا شك أن كلا الطفلين هنا عُرضة لخطر معنوي يمسّ القيمة الذاتية لا المادية فحسب، وقد يكون الضحية الأخطر، هو ذاك الذي استعملَه ذووه في خدمة أغراضهم، مثلهم في ذلك مثل الغالبية الساحقة من الآباء والأمهات في البيئات المقهورة، الذين يستخدمون أبناءهم كوسائل لا غايات، كأدوات لا ذوات، ويسخّرونهم في سبيل تحقيق أغراضهم المتنوعة، من دون اعتبار لكياناتهم الشخصية. الطفل الضارب ضحية مؤامرة على طفولته، هو الذي لا يزال في أسفل ربوة الحياة، يجري "ترجيله"، أي قسره على أن يكون رجلاً، واختزاله إلى بُعد عضلي، وفحولة هائجة تأخذ طابعاً استعراضياً. إنه طفل يتلقى درساً في العنف، يُحضَّر لكي يصبح قاتلاً – وما من فظاعة تفوق فظاعة تحويل البشر إلى قتلة- ومعبّأ نفسياً دائماً استعداداً للصراع والنزاع، مستنداً إلى إحساس دفين، بانعدام فاعلية اللغة مع الآخر، وجدوى الإخضاع والقسر والجبر والزجر والعلاقات الاضطهادية. إحساس نقله إلى أعماقه شخوص لا يخجلهم العنف الصريح الفج، ولا كونهم مجرمين.

إن الإمعان في مشهد العنف نفسه، يكشف عن الإمعان في إهانة الصبي من خلال سَوق طفل يصغره بسنين لكي يضربه بعصا. فلو أنّ "راشداً" تولّى المهمة هذه، لبدا المشهد ربما أقل قسوة. ناهيك بالطلب من الطفل الضارب تالياً إلقاء العصا والبدء باستخدام اليدين في الضرب والصفع، لتبدأ مرحلة جديدة يمهرها التماس المباشر بين جسمَي الطفلين. من شأن هذا ربما تأجيج الحقد في نفس المضروب والضارب دفعة واحدة، كون جزءاً من الحقد كان يجري تصريفه في اتجاه العصا، الأداة التي طالما كانت تفصل أو تصنع مسافة قليلة بين المعنِّف والمعنَّف. أما وقد ألغيت تلك المسافة، وصار هناك إحساس مباشر باليد المعنِّفة كلحم ودم وعظم، بالنسبة إلى المضروب، وإحساس مباشر كذلك بجسمٍ حي من لحم ودم وعظم يستثير النهش، بالنسبة إلى الضارب؛ فإن الحقد كله سوف ينصبّ على هاتين "الذاتَين". ما يعني انهيار العلاقة الإنسانية برمّتها، وخصوصاً أن الصفعة على الوجه بالتحديد، تحيل على معاني الإهانة كافة. كيف لا، وفي الوجه عينان ظاهرتان تبصران، تنظران، تتأملان، وتحيلان على تنظير وتأمل وبصيرة جوّانية! أولم يكن صفع الوجه أحد الشرارات التي أشعلت ربيعاً عربياً؟ لقد مات محمد البوعزيزي، لكن وجهه سيبقى ماثلاً حاضراً قبالة وجوه الأحرار أينما انوجدوا.
طبيعيّ أن يحرّض توجُّع جزء من الجسم على انتفاض بقية الأجزاء، كنوع من "تضامنٍ" غريزيّ مع الجزء المتوجِّع. حتى هذا "التضامن" الغريزي الطبيعي، كان يجري تقويضه في مشهد العنف إياه، وكان كلما انتفض الصبي محاولاً ردّ الضرب عن هذا الجزء من جسمه أو ذاك باستعمال يديه، يعلو صوت صارم يأمره بأن يعيد تقييد يديه خلف ظهره، إذ عليه أن يستسلم لـ"قدَر" التعذيب الأعمى، منحنياً أمام طاحونة الحياة، وممتنعاً عن الدفاع عن نفسه، ففي الدفاع عن النفس شيء من الكرامة وردّ الاعتبار والإحساس بالذات، وهذا ما لم يرده أولئك "الكبار" لذاك الصبي. هكذا تمّ سبك التجربة وصوغها.

ترى ما التصور الذي قد يبنيه الصبي المضروب عن العالم جرّاء تلك التجربة، أو ما الحكمة التي قد يخلص إليها؟ "إن لم تكن ذئباً أكلتكَ الذئاب" مثلاً؟ ربما. وربما أيضاً يكون الألم باعتباره وشاية بالحياة، حافزاً للترميم، مَن يدري؟


2

لا شك أن إحدى الثنائيات التي باتت سائدة إلى حد مميت، في الخطاب والسلوك والواقع اليومي في منطقتنا: "سنّة- شيعة".

استناداً إلى هذه الثنائية، راح البعض يفسّر الواقعة المذكورة آنفاً، ناسجاً من اسمَي الطفلين، خالد وعبّاس، دليلاً يختزل عداوة سنّية شيعيّة. بينما اعتبرها البعض الآخر نموذجاً يختزل حال المجتمعَين السوري واللبناني. لقد آثرت الغالبية تفسير الواقعة عبر ردّها إلى سبب أوحد، وهو سبب ديني طائفي. قد يكون في هذا التفسير بعض من الصواب، ولكن غابت أو ندرت التفسيرات التي تتعاطى مع شخوص الواقعة تلك، باعتبارهم أفراداً لا طائفة دينية معينة ولا مجتمع معين ولا شعب معين. كما ندرت التفسيرات التي تحاول فهم الواقعة وتحليلها من وجهات نظر عدة، سيكولوجية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، أو غير ذلك. غير أن الإمعان في مدى انحطاط التفكير العلمي والنقدي، وتدنّي قيمة العلوم الإنسانية على سبيل التخصيص، في المدرسة والجامعة والمجتمع، ربما يُبطلان الغرابة حيال مَيل الغالبية إلى الواحدية في النظرة إلى أي واقعة، باعتبار الواحدية في النظرة والتفسير جزءاً من الاختزالية أو التفكير الهرمي المستبد المستند إلى أن بعض الحقائق أقل أهمية من الأخرى أو لا تساوي شيئاً حيالها.

ليس السوريون واللبنانيون "شعباً واحداً في بلدَين" ولن يكونوا، لأن في هذا الطراز من الخطابات اختزالاً مهيناً لكلا الشعبين، من شأنه قتل النديّة الإيجابية والتكافؤ، التنوع والكثرة، التعدد والتجدد، لصالح سيادة الواحد بتسلّطه وطغيانه. ينسحب الاعتراض على هذا الاختزال، على محاولة البعض وصف الواقعة المذكورة باعتبارها اختزالاً لواقع أو حال المجتمعَين السوري واللبناني. فهناك لبنانيون كانوا لطفاء مع السوريين اللاجئين إلى بلدهم، وهناك لبنانيون بات اللاجئون السوريون بالنسبة إليهم، بمثابة عقبة وجودية في وجه المصالح الذاتية، فصار كل عدوان وكل ازدراء واستعلاء على أي لاجيء سوري مشروعاً! هنا بالذات، يغدو التذكير بأن اللبنانيين كانوا لاجئين لدى السوريين من قبلُ، وجرى احتضانهم من السوريين في مختلف أديانهم وطوائفهم وإثنياتهم وثقافاتهم وأعرافهم، بمثابة ضرورة تاريخية وواقعية لا منّة، واجباً أخلاقياً لا ذريعة.


3

على وقع الضحك كان الصبيّ يُضرَب. أراد القائمون على شريط الفيديو نفسه، تقديم مادة تكون مدعاة للتسلية والابتسام في وجه الجريمة، على حساب الكثير من الألم والقهر، وبالشكل الذي يُجهِز على الروح والعقل والعاطفة النبيلة. فلنصبّ النار الفكرية إذاً على هذا الطراز من الإضحاك، ولنبدأ بالتساؤل عن الجهد "السحري" الذي في إمكانه أن يجعل الناس أقل سخافة وأكثر نبلاً وشهامة وسخاء معرفياً وأخلاقياً وإنسانياً.

حين انتهيتُ من "مشاهدة" الفيديو، خُيِّلَ إليَّ أني لو كنتُ أمّ خالد لأضرمتُها ثورة على النُّظم التي تشكّل هذا الطراز من الناس، وعلى الناس الذين يشكّلون نُظماً مهينة للبشر. لفلّتُّ ريح الأمومة الخالصة الممسكة بأهداب الحب، على يباب الروح والأخلاق، تعصف به بلا شفقة، بلا رحمة، بلا هوادة. لشققتُ في الأمكنة أقنية، أضخّ فيها قوة حيوية مكافحة، وإرادة عاتية تحوّل هزيمة ابني انتصاراً ساحقاً ماحقاً. أفلا يكفي أني كنتُ سبباً في تحميل ابني وزر وجود! يجب أن أقف إذاً في وجه كل ما من شأنه النيل من هذا الوجود، أو تحويله وجوداً منخوراً، ممسوخاً، مهزوماً، محطَّماً، مفعوساً.


*كاتبة سورية



#علا_شيب_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفارَقتان
- الثورة السورية و - المجتمع المدني -
- النظام السوري.. من -العصابات المسلحة- إلى -القاعدة-..!
- السلطة السورية: بين خطّين متوازيين
- انتفاضة اللّغة..أم لغة الانتفاضة؟!
- الأصنام..إذ يحطّمها الوعي


المزيد.....




- تأجيل قرار محكمة نيويورك حول إدانة ترامب
- بلينكن: سنواصل حشد الدعم لكييف
- السعودية.. إحباط محاولة تهريب أكثر من 11 مليون قرص من مادة ا ...
- الخارجية الأوكرانية: كييف لا تمتلك أسلحة نووية ولا تنوي صنعه ...
- الجزائر.. المجلس الشعبي الوطني يعتمد بالأغلبية أكبر ميزانية ...
- -مستهدفا مقر وزارة الدفاع مرتين ومقر وحدة استخبارات-..-حزب ا ...
- مصر.. توضيح جديد بشأن احتمال إيقاف عمل ملايين الهواتف المحمو ...
- عاصفة شمسية تفسر غموضا أحاط بأورانوس وأقماره منذ 38 عاما
- السودان يمدد فتح معبر أدري مع تشاد لثلاثة أشهر إضافية لإيصال ...
- ترامب يعين روبيو للخارجية وغايتس مدعيا عاما ومنشقة ديمقراطية ...


المزيد.....

- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علا شيب الدين - لن نبتسم في وجه الجريمة